الفصل الرابع

«هنريك إبسن» بالعكس!

الكتابة على اختلاف أنواعها صعبة، والكتابة الإبداعية تحديدًا عمل ذهني شاق. فالإبداع الخلاق خاصة إذا كان على نطاقٍ واسع، يتطلب طاقة استثنائية ودرجة عالية من التركيز. وأن يقضي إنسانٌ ما حياته العملية كلها وهو يواصل تطوير وتوسيع حدود فنه، فإن ذلك يدل على مستوًى رفيع من الانضباط النفسي وقوة الذهن، الأمر الذي لا يتوفر إلا لقلة من الكتاب.

كان ذلك بالضبط هو أسلوب عمل «إبسن»، حيث من الصعب أن نتذكر كاتبًا آخر في أي مجال ولا في أي عصر نجح في حرصه على ذلك مثله، إنه لم يخترع الدراما الحديثة فقط، وإنما كتب مجموعة من المسرحيات تشكل إلى الآن جزءًا مهمًّا من ريبرتوار المسرح. وجد «إبسن» المسرح الغربي خاليًا ومجدبًا، فحوله إلى شكل فني غني وقوي، وليس في بلده فقط وإنما في العالم كله. إنه لم يحدث ثورة في فنه فحسب، بل غير التفكير الاجتماعي لجيله كله وللجيل الذي جاء بعده، وحقق للقرن التاسع عشر ما كان «روسو» قد حققه لنهايات القرن الثامن عشر. فإذا كان «روسو» قد أقنع الناس بالعودة إلى الطبيعة فعجل بثورةٍ اجتماعية، فإن «إبسن» بشَّر بثورة الفرد على محظورات وتحيزات النظام القديم التي تحكم سيطرتها في كل مدينة وعلى كل أسرة. لقد علم الناس والنساء خاصة أن ضميرهم ومفاهيمهم الشخصية عن الحرية لا بد أن تكون لها الأولوية على متطلبات المجتمع، وبذلك عجل بثورة في الاتجاهات والسلوك كانت قد بدأت في زمنه ثم واصلت منذ ذلك بقفزات ووثبات مفاجئة، وقبل «فرويد» بوقت طويل، وضع «إبسن» أسس المجتمع المتساهل.

ولم يكن «روسو» ولا «ماركس» بالتأكيد أقوى منه أثرًا على أسلوب الناس في معارضتهم للحكومات.

إن «إبسن» وأعماله من الدعائم الأساسية في قوس الحداثة. ويتبدى تميز إنجازه عندما نأخذ بالاعتبار الغموض المضاعف لخلفيته، أما كونه مضاعفًا فلأن «إبسن» كان فقيرًا على المستوى الشخصي وأتى من بلد صغير فقير لا يملك أي تراث ثقافي رسمي، في العصور الوسطى الأولى (٩٠٠–١١٠٠م)، كانت النرويج قوية وجسورة، ثم جاء الانهيار، خاصة بعد موت آخر ملوكها النرويجيين «أولاف الرابع» في سنة ١٣٧٨م، وفي سنة ١٥٣٦م كانت ولاية من ولايات الدنمارك، وبقيت كذلك ثلاثة قرون تقريبًا. وقد تغير اسم العاصمة «أوسلو» إلى «كريستيانيا» إحياء لذكرى حاكم دنماركي، وكانت كل الثقافة الراقية دنماركية: الشعر والرواية والمسرحية.

وفي مؤتمر «فيينا» في ١٨١٤-١٨١٥م حصلت النرويج على ما يُسمَّى ﺑ «دستور إيدسفول»1 الذي ضمن لها الحكم الذاتي تحت التاج السويدي، ولكن البلاد لم تعرف الحكم المستقل إلا في سنة ١٩٠٥م، وحتى القرن التاسع عشر كانت النرويجية لهجة محلية ريفية أكثر منها لغة وطنية مكتوبة والجامعة الأولى يرجع تاريخها إلى سنة ١٨١٣م، ولم يشيد أول مسرح نرويجي إلا في سنة ١٩٥٠م في «بيرجن».2 في شباب «إبسن» ورجولته المبكرة كانت الثقافة في معظمها دنماركية، وأن تكتب بالنرويجية كان معناه أنك تعزل نفسك عن بقية إسكندنافيا، ناهيك عن العالم بمجمله … وظلت الدنماركية لغة الأدب.

البلد نفسه كان بائسًا وفقيرًا، والعاصمة مدينة إقليمية صغيرة بالمقاييس الأوروبية، لا يزيد عدد سكانها عن مائتَي ألف، وكانت مكانًا متربًا لا يحتوي على أي جمال.

كانت «سكين» التي وُلد بها «إبسن» في ٢٠ مارس ١٨٢٨م تقع على الساحل على مسافة مائة ميل جنوبًا، منطقة مقفرة تنتشر فيها الذئاب ومرض الجذام … قبل ذلك بسنوات قليلة كان قد شب في المكان حريق هائل بسبب إهمال إحدى الخادمات وأعدمت بسبب ذلك.

يصف «إبسن» المكان في جزء من سيرته الذاتية بأنه كان شيئًا خرافيًّا مخيفًا وموحشًا يملؤه نباح الكلاب وأنين المناشير … «عندما قرأت بعد ذلك عن المقصلة كنت أتذكر دائمًا نصال تلك المناشير»، وفي قاعة المدينة كانت توجد المشهرة (آلة التعذيب والتشهير): «عمود لونه بني محمر بطول رجل تقريبًا، وعلى قمته زر كبير مستدير كان لونه أسود في الأصل. من مقدمة العمود تتدلى سلسلة من الحديد في نهايتها شكال (قيد) مفتوح، كان يبدو لي مثل ذراعين صغيرين جاهزين ومستعدين للامتداد للإمساك بي من رقبتي … وتحت قاعة المدينة زنازين، نوافذها الصغيرة مغطاة بقضبان، تطل على السوق … وراء تلك القبضان رأيت كثيرًا من الوجوه الحزينة الكئيبة.»3

كان «إبسن» الابن الأكبر بين خمسة أطفال (أربعة ذكور وبنت واحدة) لأب تاجر «كنود إبسن» وكان أسلافه من البحارة. أمه كانت من عائلة تعمل بالشحن.

وعندما بلغ «إبسن» السادسة أفلس والده وأصبح إنسانًا مكسورًا طفيليًّا مشاكسًا نكد المزاج (شخصية إكدال العجوز في البطة البرية)، وأمه التي كانت جميلة ذات يوم وممثلة فاشلة اكتأبت وانغلقت على نفسها وكانت تختفي في غرفتها وتلعب بدمى الأطفال. كانت الأسرة غارقة في الديون دائمًا وتعيش على البطاطس. «إبسن» نفسه كان ضئيل الحجم وقبيحًا، نشأ في ظل شائعة تقول إنه طفل غير شرعي لرجل مجهول، وكان يصدق ذلك أحيانًا ويردده وهو في حالة سكر، وإن كان لا يوجد دليل على صحة ذلك.

وبعد طفولة مهينة، أُرسل إلى ميناء «جريمشتاد» الكئيب ليعمل مساعدًا لأحد الصيادلة، وهنا أيضًا سيحالفه سوء الحظ … فقد أفلس الصيدلي.4

يعتبر خروج «إبسن» من هذه الهاوية ملحمة عن العصامية والتعليم الذاتي. في سنة ١٨٥٠م شق طريقه نحو الجامعة، ولعدَّة سنواتٍ كانت معاناته شديدة. كان يكتب الشعر والمسرحية والنقد والتعليق السياسي. مسرحيته الأولى الساخرة «نورما» لم تقدم على المسرح، أول أعماله التي قدمت كانت «كاتالين» وهي مأساة شعرية كذلك … وفشلت. لم يكن حظه أفضل مع ثاني مسرحية تُقدم على المسرح «ليلة سان جون». مسرحيته الثالثة «جبل المحارب» سقطت في «بيرجن»، الرابعة «السيدة إنجار» وهي نثرية، قُدمت باسم مجهول وفشلت أيضًا. العمل الأول الذي جذب الانتباه: «حفل في سولهاج» كانت في نظره شيئًا تقليديًّا تافهًا. ولو أنه اتبع ميوله الطبيعية كما فعل في الدراما الشعرية «كوميديا الحب»، فإنها كانت تصنف على أنها «غير أخلاقية»، ما كانت لتقدم على المسرح بالمرة. إلا أنه اكتسب خبرة مسرحية كبيرة بالتدريج، فقد اختاره الموسيقار «أول بول» مؤسس أول مسرح لغوي في «بيرجن» ليكون مؤلفًا له نظير خمسة جنيهات في الشهر، ولمدة ست سنواتٍ كان يعمل في المناظر والملابس وشباك التذاكر ويساعد في الإخراج (رغم أنه لم يمثِّل أبدًا وكانت نقطة ضعفه عدم ثقته في قدرته على توجيه الممثلين).

كانت الظروف بدائية، فالإضاءة بالغاز التي كانت متوفرة في «لندن» و«باريس» منذ سنة ١٨١٠م تقريبًا لم تكن معروفة هناك إلى أن ترك ذلك المكان في ١٨٥٦م، بعد ذلك قضى خمس سنواتٍ أخرى في مسرح «كريستيانيا» الجديد، وبقدرة استثنائية على العمل الجاد شق طريقه نحو الإجادة في الفن المسرحي، ثم بدأ يجرب، ولكن المسرح الجديد أفلس في سنة ١٨٦٢م فاستغنوا عنه. في تلك الأثناء كان متزوجًا وغارقًا في الديون ومطاردًا من أصحابها، مكتئبًا ويشرب بإفراط. وكان الطلاب يشاهدونه واقعًا فاقد الوعي في قنوات المجاري وأنشئوا صندوقًا للتبرعات بغرض «مساعدة الشاعر السكير للسفر إلى الخارج».5

هو نفسه كان يكتب الطلبات لذلك باستمرار ويقدمها للعرش والبرلمان من أجل منحةٍ تمكنه من السفر إلى الجنوب. وفي النهاية استطاع أن يحصل على واحدة ليعيش على مدى الربع التالي من القرن في المنفي … «روما» … «درسدن» … «ميونخ» …

أما أول بادرة للنجاح فجاءت في سنة ١٨٦٤م عندما دخلت مسرحيته الشعرية «الأدعياء» ريبرتوار مسرح «كريستيانيا» الذي كان قد تم إحياؤه. كان من عادة «إبسن» أن ينشر مسرحياته في كُتب أولًا؛ كما كان يفعل معظم شعراء القرن التاسع عشر من «بيرون» إلى «شلي» وبعدهما.

وكقاعدةٍ، لم تكن تلك المسرحيات تظهر على المسرح إلا بعد سنوات … وأحيانًا سنواتٍ طويلة، ولكن عدد النسخ المطبوعة والمباعة كان يتزايد تدريجيًّا من خمسة آلاف ليصل أحيانًا إلى خمسة عشر ألفًا.

ظهرت أولًا: مسرحياته الشعرية الكبيرة «براند» و«بيرجنت» في ١٨٦٦-١٨٦٧م، في نفس الوقت الذي كان «ماركس» ينشر فيه «رأس المال». كانت «براند» هجومًا على المادية التقليدية ودعوة إلى اتباع الضمير الفردي في مواجهة نظم المجتمع، وربما يكون ذلك هو الموضوع الرئيسي لكل أعماله. وقد أثارت المسرحية جدلًا كبيرًا عندما نشرت (١٨٦٦م)، وبدأ النظر إلى «إبسن» كقائد للتمرد على المعتقدات التقليدية، ليس في النرويج فقط وإنما في إسكندنافيا كلها، فقد خرج من البقعة النرويجية الضيقة.

وجاءت الموجة الثانية في سبعينيات القرن، فمع مسرحية «براند» أصبح ملتزمًا بمسرحيات الأفكار الثورية، ولكنه وصل إلى نتيجة منطقية وهي أن تلك المسرحيات سوف يكون تأثيرها أقوى عندما تقدم على المسرح أكثر من قراءتها في المكتبة. وهذا ما قاده إلى ترك الشعر وتبني النثر ومعه نوع جديد من الواقعية المسرحية، وكما كتب: «الشعر للرؤية … النثر للأفكار»،6 ولكي تتحقق هذه النقلة فإنها أخذت سنواتٍ مثل كل مراحل تطوره. فقد كان أحيانًا يبدو كسولًا ويفكر أكثر مما يكتب.

إن الكاتب المسرحي مقارنة بالروائي لا يقضي وقتًا طويلًا في الكتابة، وعدد الكلمات حتى في المسرحية الطويلة صغير لدرجةٍ ملفتة. في حالة «إبسن» كانت مرحلة ما قبل الكتابة قاسية جدًّا لأنه كان يفعل شيئًا جديدًا تمامًا. ومثل كل الفنانين العظام لم يكن يتحمل أن يكرر نفسه، وكان كل عمل من أعماله مختلفًا ودائمًا خطوة جديدة نحو المجهول، ولكن بمجرَّد ما أن يقرر ما يريد أن يحدث على المسرح كان يكتب بسرعة … وجيدًا. وقد تصادفت الثمار الأولى المهمة لتلك السياسة الجديدة وهي مسرحيات «أعمدة المجتمع» (١٨٧٧م)، و«بيت الدمية» (١٨٧٩م)، و«الأشباح» (١٨١١م) مع انهيار مرحلة الازدهار في منتصف العصر الفيكتوري وحالة جديدة من القلق والتململ في المجتمع. لقد طرح «إبسن» أسئلة مقلقة عن سلطة المال، ظلم المرأة، حتى موضوع المرض الجنسي الذي كان من المحرمات. لقد وضع القضايا السياسية والاجتماعية فوق خشبة المسرح بأمانة، وبلُغة الحياة اليومية البسيطة وبشكلٍ يستطيع الجميع أن يدركه، لقد أثار الاهتمام في دوائر واسعة من إسكندنافيا، كانت «الأعمدة» بمثابة الاختراق إلى الجماهير في أوروبا الوسطى، و«بيت الدمية» إلى العالم الأنجلوساكسوني، هما أول مسرحيات حديثة وهما اللتان بدأتا عملية تحويل «إبسن» إلى شخصية عالمية.

ولكن لأنه «إبسن» فقد وجد من الصعب عليه أن يكتفي بدور كاتب المسرح الاجتماعي، حتى ولو وضعه ذلك في دور الريادة العالمية. المرحلة الثالثة من تطوره والتي حدثت أيضًا بسرعةٍ مضطردة بعد سنوات من العمل البطيء، شهدت تحوله من القضايا السياسية نحو مشكلة التحرر الشخصي والتي يبدو أنها كانت تشغل باله أكثر من أي جانب آخر في الوجود الإنساني، كتب في مذكراته: «يتمثل التحرر في ضمان حق الأفراد في ذلك، كلٌّ حسب احتياجه الخاص.» وكان دائمًا يقول إن الحريات السياسية الشكلية عديمة الجدوى إلا إذا كان ذلك الحق في التحرر مضمونًا من السلوك الفعلي للناس، ولذلك فإنه في المرحلة الثالثة قدم ضمن مسرحيات أخرى «البطة البرية» (١٨٤٤م) و«بيت روزميرز» (١٨٨٦م) و«جون جابريل بوركمان» (١٨٩٦م) وهي مسرحيات قد يجدها كثيرون محيرة أو ربما غير مفهومة في ذلك الوقت ولكنها أصبحَت أكثر أعماله تقديرًا؛ مسرحيات تستكشف النفس الإنسانية في بحثها عن الحرية، العقل الباطن، وذلك الموضوع المرعب وهو سيطرة إنسانٍ ما على آخر. وكان من مميزات «إبسن» أنه لا يقدم فقط شيئًا جديدًا وأصيلًا في فنه باستمرار، ولكنه كان أيضًا شديد الحساسية بالنسبة لمفاهيم غير مكتملة في عقول الآخرين، أو لم تكتشف بعد.

وكما يقول الناقد الدنماركي «جورج براندز» الذي كان صديقًا له في وقتٍ ما: «… وفي حالة توافق غريب مع الأفكار التي كانت تتخمر، وفي طور التكوين في تلك الأيام، كانت لديه أذن تصغي لتلك الدمدمة الخفيضة التي تنبئ بأفكار تتفاعل تحت الأرض.»7 بالإضافة إلى ذلك فإن تلك الأفكار كان لها رواج عالمي. كان رواد المسرح في جميع أنحاء العالم يرون أنفسهم أو جيرانهم في شخصيات الضحايا والمستغلين المعذبين في مسرحياته، هجومه على القيم القديمة، برنامجه للتحرر الشخصي، دعوته لكل البشر فرصة لتحقيق الذات … كل ذلك كان يلقي ترحيبًا في كل مكان، ومنذ أوائل تسعينيات القرن التاسع عشر، وعندما عاد من «كريستيانيا» منتصرًا، كانت مسرحياته تُقدَّم ويتزايد الإقبال عليها في العالم كله.
وعلى مدى العقد الأخير من حياته (مات سنة ١٩٠٦م) كان مساعد الصيدلي السابق قد أصبح أشهر رجل في إسكندنافيا، وفي الحقيقة فإنه إلى جانب «تولستوي» في «روسيا» كان يعتبر أعظم كاتب وروائي حي في العالم، وقد ذاعت شهرته على أيدي كتَّاب مثل «وليم آرشر» و«جورج برنارد شو»، وكان الصحفيون يقطعون آلاف الأميال لإجراء حوارات معه في شقته الكئيبة في «فيكتوريا تراس»، كما كان ظهوره اليومي في مقهى «جراند أوتيل» فرجة لسكان العاصمة. كان يجلس وحيدًا يقرأ الجريدة أو يشرب البيرة والكونياك. وعندما كان يدخل المقهى في نفس التوقيت المعتاد كان جميع الجالسين في القاعة يقفون ويرفعون قبعاتهم … ولم يكن أحدهم ليجرؤ على الجلوس قبل ذلك الرجل العظيم. الكاتب الإنجليزي «ريتشارد لي جالين»، الذي كان يذهب إلى النرويج — مثل آخرين — لكي يشاهد ذلك المنظر، وكما كان يفعل آخرون يذهبون إلى «ياسنايا بوليانا» لمشاهدة «تولستوي»، يصف دخول «إبسن» بقوله: «حضور بغيض، مزموم الشفتين، مبجل بأسلوبٍ رسمي، منتصب مثل مدك البندقية، لا توجد لمحة تعاطف إنسانية واحدة في بشرته الورقية أو عينيه القاسيتين مثل عيني حيوان الغرير. كان يبدو مثل اسكتلندي عجوز يدخل إلى الكنيسة.»8

وكما ألمح «لي جالين» فإن ذلك الرجل المحنط في الاحترام الشعبي والتبجيل العلمي في حياته كان في شخصيته شيء ما خطأ. المحرر العظيم، الرجل الذي درس الجنس البشري وغاص إلى أغواره وبكى من أجله، وعلمه بأعماله كيف يحرر نفسه من قيود الماضي والتحامل والإجحاف … لماذا يبدو هكذا وكأنه ينفر من الأفراد؟

لماذا كان يرفض اقترابهم وودهم مفضلًا أن يقرأ عنهم فقط في أعمدة جريدته؟ ولماذا كان وحيدًا دائمًا؟ ومن أين كل تلك العزلة المفروضة؟

كلما نظرنا إلى ذلك الرجل العظيم عن كثب بدا لنا أكثر غرابة. فالرجل الذي داس على التقاليد وكان يستحث حريات الحياة البوهيمية أصبح الآن شخصية تقليدية وأحيانًا إلى درجةٍ كاريكاتورية. الأميرة «ماري لويز»، حفيدة الملكة «فيكتوريا»، لاحظت أنه كان يحمل مرآة صغيرة مثبتة داخل قبعته ويستخدمها وهو يمشط شعره. كان أول شيء يلاحظه الناس عنه غروره الشديد والذي عبَّر عنه جيدًا «ماكس بيربوم» في رسومه الكاريكاتورية. ولكنه لم يكن هكذا دائمًا. «ماجدالين ثورسون» زوجة أب زوجته كتبَت تقول إنها عندما رأت «إبسن» الصغير لأول مرة في «بيرجن»: «كان يبدو مثل حيوان المرموط الصغير الخجول … لم يكن قد تعلَّم بعد كيف يحتقر البشر، ولذلك كان يفتقر إلى الثقة بالنفس.» أصبح «إبسن» شديد العناية بملبسه لدرجة المبالغة والتنميق لأول مرة في سنة ١٨٥٦م بعد نجاح «سولهاج» وضع أهداب الشعر الطويلة على أكمام سترته مثل الشعراء، وأصبح يرتدي قفازًا أصفر ويمسك عصًا. وفي منتصف السبعينيات (القرن التاسع عشر) زاد اهتمامه بالملبس ولكن بأسلوبٍ أكثر كآبة يتناسب مع الواجهة المغلقة التي كان يقدمها للعالم.9
يصفه الكاتب الشاب «جون بولسن» في جبال الألب النمسوية في عام ١٨٧٦م على هذا النحو: «فراك أسود، وأشرطة الأوسمة، قميص أبيض لامع من الكتان، ربطة عنق أنيقة، قبعة سوداء من الحرير اللامع، نظارة ذهبية … فم صغير مزموم دقيق مثل نصل سكين … كنت أقف أمام حائط جبلي مصمت … لغزٌ عصيٌّ على الفهم.»10 كان يحمل عصًا من خشب الجوز لها قبضة من الذهب. في العام التالي حصل على أول دكتوراه فخرية من جامعة «أوبسالا»، ولم يحرص على أن ينادى بلقب «دكتور» فقط، ولكنه أيضًا كان يرتدي سترة فراك طويلة سوداء ورسمية جدًّا لدرجة أن بنات الريف في الألب كن يعتقدن أنه قسيس وينحنين لتقبيل يده أثناء تجواله.11

كان اهتمامه بالملبس تفصيليًّا وبدرجةٍ غير عادية، في خطاباته تعليمات حرفية عن كيفية تعليق ملابسه في الخزائن ووضع جواربه وملابسه الداخلية في الأدراج، كان يلمع أحذيته بنفسه ويخيط أزرار قمصانه بنفسه ولكنه كان يسمح لخادمته أن تلضم الإبرة!

عندما زاره كاتب سيرته الشخصية «هنريك جيكر» سنة ١٨٨٧م كان يقضي ساعةً كاملة كل صباح في ارتداء ملابسه، ولكن جميع محاولاته للتأنق فشلت. كان يبدو لمعظم الناس مثل العاملين على السفن وكان له وجه أسلافه الأحمر الغريب خاصة بعد أن يشرب.12
كان الصحفي «جوتفريد ويستن» يعتقد أن أسلوب «إبسن» في الكلام عن الأشياء البدهية والعادية بتأكيد شديد يجعله يبدو مثل «بروفيسور ألماني صغير» يريد أن ينقش على ذاكرتنا معلومات من قبيل: «غدًا سوف أستقل القطار إلى ميونخ».13

جانب واحد من غرور «إبسن» كان يقترب من السخف لغرابته، حتى المعجبون به فشلوا في الدفاع عنه، وهو أنه كان مولعًا بالميداليات والأوسمة والأنواط، وكان يتمادى في استجدائها ويفعل أي شيء في سبيلها.

«إبسن» كان ماهرًا في الرسم، وأول ما رسم وسام نجمة الشرف. كان يرسم مثلًا وسام بيت «إبسن» ويقدمه لزوجته.14 ولكن الذي كان يريده هو أن يحصل على الأوسمة لنفسه. حصل على أول وسام سنة ١٨٦٩م عندما عُقد في «ستوكهولم» مؤتمر لمناقشة اللغة، وكانت تلك أول مرة يُحتفى به فيها؛ قضى مساء كاملًا يشرب الشمبانيا في القصر الملكي مع الملك «كارل الخامس عشر» الذي أنعم عليه بوسام «فازا»، بعد ذلك فوجئ «جورج براندز» به عند أول لقاء لهما (وكانا قد تراسلا طويلًا) يلبسه في المنزل، وربما كان قد بقي على دهشته عندما وجده في العام التالي يطلب المزيد. كتب إلى أحد المحامين الهولنديين من الذين يتناولون تلك الأمور يطلب منه أن يساعده في الحصول على وسام «دانبورج»: «لا يمكن أن تتصور أثر شيء كهذا في النرويج، وسام هولندي لا شك سوف يدعم موقفي هنا، والأمر مهم جدًّا بالنسبة لي.» بعد شهرين من ذلك كتب إلى سمسار أرمني يعمل في «ستوكهولم» وله علاقة بالبلاط الملكي المصري ليساعده في الحصول على ميدالية مصرية ستكون ذات قيمة كبيرة في تقوية وضعي في النرويج،15 وفي النهاية حصل على تكريم من تركيا ﺑ «الوسام المجيدي»، الذي كان يصفه بأنه «شيء أنيق». أما حصيلته من التكريم في سنة ١٨٧٣م فكانت جيدة: حصل على وسام «جونج» النمسوي، ووسام «سان أولاف» النرويجي، ومع ذلك لم يتوقف سعيه من أجل المزيد. صرح لأحد أصدقائه أنه ليس لديه أي ميلٍ شخصي لتلك الأشياء. ولكن عندما تأتي تلك الأوسمة إليَّ لا يمكن أن أرفضها، وتشهد خطاباته أنه كان يكذب؛ إذ يُروى عنه أيضًا أنه في السبعينيات من القرن التاسع عشر، وفي حمي سعيه من أجل الميداليات والأوسمة كان يخلع قبعته كلما مرت مركبة تحمل علامة أو شعارًا ملكيًّا، حتى وإن لم يكن بداخلها أحد.16 وقد تكون تلك القصة اختراعًا شريرًا ولكن هناك أدلة كثيرة عن حبه لذلك، حيث كان يصر على عرض مجموعة نجومه اللامعة في كل مناسبة ممكنة. ويقال إنه كان يلبسها كلها منذ سنة ١٨٧٨م بما فيها وسام مثل طوق الكلب كان يضعه حول رقبته أثناء حفل عشاء في أحد الأندية. وقد التقاه الرسام السويدي «جورج بولي» وهو يسير في أحد شوارع روما بكل ميدالياته ونياشينه وأوسمته، وأحيانًا كان يرتديها كلها في ذلك بقوله: في وجود «الأصدقاء الصغار» فإن ذلك «ينبهني لأن أبقى دائمًا داخل حدود معينة»،17 ولكن كل مَن كانوا يدعونه للعشاء كان يسعدهم ويريحهم أن يأتي دونها لأنها لا شك كانت تبعث على الضحك وأحيانًا بصوتٍ عال أثناء توزيع النبيذ. وأحيانًا كان يضعها على صدره وحول رقبته نهارًا … فعندما كان عائدًا إلى النرويج بالباخرة ارتدى ملابس رسمية ورصعها بكل نياشينه قبل أن يصعد إلى سطح السفينة قبل رسوها في «بيرجن»، وأصابه الرعب عندما وجد أربعة من أصدقاء الشراب السابقين (نجاران وموظف في كنيسة وسمسار) في استقباله يحيونه صائحين: «مرحبًا «هنريك» العجوز، فما كان منه إلا أن عاد إلى قمرته حتى انصرفوا.»18 وفي أواخر سنوات العمر كان يطلب النياشين، في سنة ١٨٩٨م كان شغوفًا للحصول على «صليب دانبورج العظيم»، ومن فرط توقه لذلك اشترى واحدًا من أحد الجواهرجية قبل أن يتسلمه رسميًّا، وأرسل إليه ملك الدنمارك واحدًا آخر غير ذلك الذي قُدم إليه … في النهاية كان لديه ثلاثة وكان عليه أن يعيد اثنين منها إلى جواهرجي البلاط.19

ومع ذلك كله كانت الشهرة العالمية ولمعان الأوسمة والنياشين تعطي انطباعًا، لا عن غروره أو غبائه وإنما عن قوة الضغينة والسخط المكبوت، ورغم ضآلة جسمه كان يبدو كأنه يشع بالقوة بسبب رأسه الضخم ورقبته الغليظة.

كان «براندز» يقول: «كأنك في حاجة إلى عكاز لكي تتغلب عليه.» ثم كانت هناك عيناه المرعبتان، ويبدو أن الفترة المتأخرة من العصر الفيكتوري كانت فترة العيون المتوحشة. كانت عينا «جلادستون» تجعلان عضو البرلمان ينسى ما يريد أن يقوله عندما ينظر إليه. «تولستوي» كان يستخدم نظراته المهلكة لكي يُخرس نقاده. نظرة «إبسن» المحدقة كانت تذكِّر الناس بقاضي الإعدام، كان يزرع الرعب. يقول «براندز»: «أربعة وعشرون عامًا من المرارة والكراهية كانت مختزنة عميقًا بداخله.» وأي شخص يعرفه جيدًا كان على علم — وبدون ارتياح — ببركان الغضب الهادر تحت السطح.

كان من الممكن أن يُبطل الشراب مفعول الانفجار، ولكن «إبسن» لم يكن مدمنًا ولا حتى سكيرًا باستثناء فترات قليلة. كان لا يشرب أبدًا عندما يكتب. يجلس إلى مكتبه صباحًا وهو صاحٍ تمامًا، مرتديًا الفراك النظيف المكوي. ولكنه كان يشرب كنوع من المشاركة الاجتماعية ولكي يتغلب على صمته وخجله الشديد، وبينما كانت المشروبات تفك عقدة لسانه كانت تشعل غضبه. ثورات غضبه في النادي الإسكندنافي في روما كانت مشهورة، وتخيف الناس منه، وكانت متوقعة دائمًا في الاحتفالات واللقاءات التي كانت من تقاليد القرن التاسع عشر في أوروبا وأمريكا الشمالية، ومحبوبة في إسكندنافيا على نحوٍ خاص. ويبدو أن «إبسن» حضر المئات منها، وأغلبها انتهى نهايات فاجعة. يحكي «فردريك كنودزون» الذي تعرَّف عليه في إيطاليا عن حفل عشاء هاجم فيه «إبسن» الرسام الشاب «أوجست لورانج» الذي كان يعاني من مرض السل (أحد أسباب وجود كثير من الإسكندنافيين في الجنوب)، قال له «إبسن» إنه كان رسامًا رديئًا: «إنك لا تستحق أن تسير على قدمين، أنت جدير بأن تزحف على أربع.» ويضيف «كنودزون»: «خيم الصمت علينا جميعًا لذلك الهجوم على إنسان لا حول له ولا قوة، لديه ما يكفيه من الآلام ولم يكن في حاجة لأن يلطمه «إبسن» بتلك الإهانة.»

وعندما نهض الجميع بعد العشاء لم يكن «إبسن» يستطيع الوقوف واضطروا إلى حمله للمنزل.20
ولسوء الحظ فإن الشراب الذي كان يزلزل رجليه من تحته لم يستطع أن يوقف لسانه السليط، وبينما كان «جورج بولي» والرسام النرويجي «كريستيان روس» يحملانه مرة أخرى إلى منزله مرتديًا كل أوسمته بعد عشاء آخر في روما، كان «يعبر عن امتنانه بالتعبير عن رأيه صراحة في تفاهتنا»، قال عني: إنني «مجرَّد جرو صغير مزعج»، و«روس»: «شخصية قبيحة جدًّا»،21 وعندما أقام «براندز» حفل عشاء على شرفه في فندق «جراند أوتيل» في «كريستيانيا» سنة ١٨٩١م «تسبب «إبسن» في خلق جو من التوتر والغضب»، وكان يهز رأسه بعنف أثناء إلقاء «براندز» لكلمته مع أنه كان يمدحه، ورفض أن يرد عليها. كل ما قاله هو أن «المرء يستطيع أن يقول الكثير عن تلك الكلمة»، وفي النهاية أهان مضيفه بقوله إنه «لا يعرف شيئًا عن الأدب النرويجي». وفي حفلات استقبال أخرى كان يدير ظهره للجميع رغم كونه الضيف الرئيسي. وأحيانًا كان يبلغ به السكر مداه فيظل يردد: ماذا؟ ماذا؟ ماذا؟ والحقيقة أن «إبسن» بدوره كان أحيانًا ضحية سُكْر القراصنة الإسكندنافيين؛ حيث يستطيع المرء أن يكتب كتابًا كاملًا في وصف الحفلات الإسكندنافية الفاشلة أو المؤسفة أثناء تلك الفترة. في حفل أقيم على شرفه في «كوبنهاجن» سنة ١٨٩٨م كان المتحدث الرئيسي هو البروفيسور «سوفوس سكاندروف»، وكان في حالة من السكر لدرجة أن الشخصين اللذين كانا يجلسان بجواره وهما قسيس وكونت كانا يسندانه، وعندما ضحك أحد الضيوف صرخ فيه: «اقفل فمك اﻟ… وأنا أتكلم»، وفي نفس المناسبة عانق رسام سكران «إبسن» وكان من المعجبين به فصاح غاضبًا: «احملوا هذا الرجل بعيدًا عني.» وعندما أفاق لم يعتذر عن سلوكه. كان عيابًا مغرمًا بالنقد القاسي. عندما دخلت فتاة النادي الإسكندنافي في روما متنكرة في زي رجل، أصر على فصل المسئول عن ذلك. كان غضبه ينفجر إزاء أي سلوك من الآخرين. كان متخصصًا في الغضب وكان الغضب فنًّا بالنسبة له ويحب أن يراه حتى في الطبيعة. قال إنه عندما كان يكتب مسرحيته القوية «بران»: «كنت أضع أمامي على الطاولة عقربًا في كوب البيرة الفارغة، من وقت لآخر كانت العقرب تتوعك، حنيذاك كنت ألقي إليها بقطعة من الفاكهة الطازجة فتتمدد نحوها في غضب ثم تحقن فيها سمها … ثم يعود الأمر عاديًّا مرة أخرى.»22

هل كان يرى في العقرب صدى لرغبته الشخصية في التخلص من الغضب؟ وهل كانت مسرحياته التي كان يفور فيها الغضب أحيانًا ويغلي أحيانًا أخرى تدريبًا أو ممارسة للعلاج الطبيعي؟

إن أحدًا لم يعرف «إبسن» جيدًا ولا عن قرب، ولكن عددًا كبيرًا من معارفه يدركون أن حياته الباكرة وكفاحه الأول قد أثرا عليه وتركا على كاهله حملًا ثقيلًا من الغيظ الذي لا يهدأ. وفي ذلك كان مثل «روسو»؛ حملت ذاته الكدمات طوال حياته، وبالتالي كان وحشًا في تمركزه حولها. كان يعتبر أباه وأمه مسئولَين عن شبابه التعس، وأقاربه كلهم مذنبين في حقه بالتبعية. ولكنه ليس على حق في هذا الاتهام. بمجرَّد أن غادر «سكين» لم يحاول أن يتصل بأسرته، بل على العكس، ففي آخر زيارة لها في ١٨٥٨م لكي يقترض نقودًا من عمه الغني «كريستيان باوس» تعمد ألَّا يزور والديه. كانت له صلات محدودة بشقيقته «هيدفج» ربما بسبب دَين لها عليه لم يسدده. في خطاب مرعب كتبه إلى كاتب صديق اسمه «بجورنسون» في سنة ١٨٦٧م يقول «إبسن»: «الغضب يزيدني قوة، وإن كان لا بد أن تقوم حرب فلتقم، لن أبقي على الطفل حيًّا في رحم أمه ولا على أي شعور أو إحساس يجعل أي إنسان يتصرف فيستحق شرف أن يكون فريسة لي … هل تعلم أني قد أدرت ظهري لوالدي … ولأسرتي طوال حياتي؛ لأني لم أتحمل أن أستمر في علاقة قائمة على فهم قاصر؟»23

وعندما مات والده في سنة ١٨٧٧م كان «إبسن» قد قطع علاقته به منذ أربعين سنة. وكتب إلى عمه يدافع عن نفسه بأن السبب ظروف مستحيلة منذ مرحلة باكرة جدًّا، وكان يقصد بذلك أن والدَيه كانا يهبطان بينما نجمه في صعود، وكان لا يريدهما أن يتعلقا برقبته ليرفعهما معه. كان يخجل منهما ويخشى مطالبهما المالية، وكلما كان وضعه المالي يتحسن يتزايد ميله نحو قطع الصلة بهما.

لم يبذل أية محاولة لمساعدة شقيقه الأصغر منه «نيكولاي ألكساندر» وكان مصابًا بالشلل، وذهب في النهاية إلى الولايات المتحدة ليموت هناك في سنة ١٨٨٨م وعمره ٥٣ عامًا، ونقشوا على قبره: «كرَّمه الغرباء، وحزن عليه الغرباء.» كما تجاهل أصغر أشقائه «أولي باوس»، الذي عمل بحارًا وبائعًا في محل وعامل فنارة. كان «أولي» يعاني من الفقر بشكلٍ دائم ولكنه كان الوحيد الذي يساعد والدهم المسكين. أرسل إليه «إبسن» ذات مرة شهادة تزكية تساعده في الحصول على وظيفة ولكنه لم يعطه بنسًا واحدًا في حياته ولا ترك له شيئًا في وصيته، إلى أن مات في أحد بيوت المسنين بائسًا في سنة ١٩١٧م.24
وبعيدًا عن الأسرة الرسمية كانت هناك حكاية مؤلمة تم إخفاؤها بعناية وربما تكون قد جاءت من إحدى مسرحيات «إبسن» — كل حياة «إبسن» في الحقيقة عبارة عن دراما إبسنية ماكرة — في سنة ١٨٤٦م وعندما كان في الثامنة عشرة ويعيش فوق محل الصيدلي، كان على علاقة بالخادمة التي كانت تعمل هناك واسمها «إلسي صوفي جنسداتر» وكانت تكبره بعشر سنوات. حملت منه وولدت له ابنًا في ٩ أكتوبر سنة ١٨٤٦م وأسمته «هانز جاكوب هنريكسن»، كانت الفتاة من أسرة فلاحية محترمة تملك أرضًا. وكان جدها «كريستيان لوفتسي» الذي قاد تمردًا فلاحيًّا ضد الحكم الدنماركي ومات مسلسلًا في صخرة في قلعة «أكيرشس»، أي أنها لم تكن فلاحة أمية مثل «لينشن» عند «ماركس»، ولكنها تصرفت مثلها بتعقل شديد وذهبت إلى والديها لتضع طفلها عندهما ولم تحاول أن تطلب شيئًا من والده، ولكن بموجب القانون النرويجي وبحكم من المجلس المحلي كان على «إبسن» أن يدفع لها نفقة حتى يبلغ «جاكوب» الرابعة عشرة.25
ولأن «إبسن» كان فقيرًا بالفعل في ذلك الوقت فإنه كان يرفض بشدة ذلك النزف من راتبه الهزيل، ولم يغفر ذلك أبدًا للطفل ولا لأمه. وكما فعل «روسو» و«ماركس»، من قبل، لم يعترف «إبسن» بالطفل «هانز جاكوب»، ولم يهتم به أو يقدم له أي مساعدة بسيطة سواء مادية أو غيرها. عمل الولد حدادًا فيما بعدُ وعاش مع أمه حتى سن التاسعة والعشرين وأُصيب بالعمى. وعندما أخذ منهما منزل والديها ذهبت لتعيش في كوخ حيث كتب الابن على الحجر ما معناه: «تل الجوع»، ثم ماتت هي الأخرى في فقر مدقع في ٥ يونيو ١٨٩٢م وكانت في الرابعة والسبعين، ويحتمل ألا يكون «إبسن» قد سمع بموتها.26
كان «هانز جاكوب» إنسانًا فظًّا وقارئًا جيدًا لكتب التاريخ والرحلات وصانعًا ماهرًا للكمنجات ولكنه كان سكيرًا وكسولًا. وكان يأتي أحيانًا إلى «كريستيانيا»، حيث كان مَن يعرفون سره يدهشهم الشبه الواضح بينه وبين أبيه المشهور. حاول بعضهم أن يجعله يرتدي ملابس مماثلة لما كان يرتديه أبوه ويجلس مبكرًا على نفس الطاولة في «جراند أوتيل»، حتى إذا جاء «إبسن» لتناول البيرة في الصباح رأى أمامه الدليل الحي على خطيئته، ولكن الشجاعة خذلت أصحاب الفكرة. ويقول «فرانسيس بول»، وهو أحد المراجع المهمة عن «إبسن»، إن «هانز جاكوب» التقى والده مرة واحدة وكان ذلك في عام ١٨٩٢م عندما أفلس وذهب إليه يطلب نقودًا، فتح «إبسن» الباب وعندما رآه أمامه — لأول مرة — وكان في السادسة والأربعين، لم ينكر علاقتهما ولكنه أعطاه خمس كورونات وهو يقول: «هذا ما كنت أعطيه لأمك ولا بد أنه يكفيك.» ثم أغلق الباب في وجهه.27 ولم يلتقِ الأب والابن بعد ذلك، ولم يحصل «جاكوب» على أي نصيب في وصية والده ومات معدمًا في ٢٠ أكتوبر ١٩١٦م. كان أحد أسباب رفضه لأسرته الشرعية أو غير الشرعية خوفه من مطالبهم المادية، فقد جعله فقر حياته الباكرة يبحث دائمًا عن الأمان الذي لا يتحقق إلا باستمرار الكسب وتكديس الأموال وكان ذلك أحد القوى الدافعة لوجوده.
كان بخيلًا وكان كل شيء آخر وعلى نطاقٍ واسع. كان على استعداد أن يكذب من أجل المال؛ ومع الوضع في الاعتبار أنه كان ملحدًا ويكره العرش في السر، فإن الطلب الذي قدمه إلى «كارل الخامس عشر» يستجدي فيه معاشًا قدره مائة جنيه في الشهر يُعتبر ذا دلالة: «أنا لا أصارع من أجل وظيفة أو منصب وإنما من أجل الدعوة التي أومن بها وأعرف أن الله قد اختصني بها … ويبقى الأمر بيد سموك أن أظل صامتًا وأنحني أمام الحرمان القاسي الذي يجرح روح الإنسان، ذلك الحرمان الذي يجعل المرء يتخلى عن دعوته في الحياة، وأن أستسلم بينما أعرف أنني قد أعطيتُ الدرع الروحاني لكي أقاتل.»28 في ذلك الوقت سنة ١٨٦٦م كان قد حصل على بعض المال من مسرحية «براند» وبدأ الادخار. كانت البداية ببعض العملات الفضية في فردة جورب، ثم تطور الأمر إلى شراء سندات حكومية. في «إيطاليا» كان زملاؤه من المنفيين يلاحظون أنه يسجل أدق تفاصيل مصروفاته ومشترياته في نوتة صغيرة. ومن سنة ١٨٧٠م وحتى أول خبطة له في سنة ١٩٠٠م كان يحتفظ بدفترين صغيرين يسجل في أحدهما دخله وفي الثاني استثماراته، وكانت كلها في أوراق حكومية. حتى آخر عشرين سنة في حياته لم تكن مدخراته كبيرة بالمقاييس الأنجلوساكسونية، حيث كانت مسرحياته بطيئة في تقديمها في عروض عالمية ولم تكن تتمتع بحقوق الملكية والنشر. ولكن في سنة ١٨٨٠م بدأ يكسب — لأول مرة — أكثر من ألف جنيه، وهو دخل كبير بالنسبة للمستويات الدنماركية التي كانت سائدة آنذاك. وبدأ إجمالي دخله يتزايد باضطراد وكذلك استثماراته. ومن المحتمل ألا يكون مؤلف آخر قد استثمر نسبة كبيرة من دخله مثله — بين النصف والثلثين — خلال ربع القرن الأخير من حياته. ولكن من أجل ماذا كان ذلك كله؟
عندما سأله ابنه — الشرعي — «سيجورد» عن سبب عيشهم في تقتير على ذلك النحو أجابه قائلًا: «من الأفضل أن تنام جيدًا وألا تأكل جيدًا، بدل أن تأكل جيدًا ولا تنام جيدًا.» ورغم ثروته المتنامية واصل الحياة مع أسرته في منازل رثة الأثاث. كان يقول إنه يحسد «بجورنسون» لأنه كان يملك بيتًا وأرضًا، ولكنه لم يحاول أبدًا أن يشتري لنفسه ولأسرته أي شيء. الشقق الأخيرة التي عاش فيها في «فيكتوريا تراس» و«آربينز ستريت» كانت مثل السابقة؛ جرداء لا يوجد بها شيء. كل الشقق التي عاش بها كانت تتميز بصفةٍ غير عادية؛ مقسومة إلى النصفين، كل من الزوج والزوجة يجهز لنفسه قلعة للعمليات الدفاعية والهجومية ضد الآخر. وعلى نحوٍ ما، يمكن أن يكون ذلك وفاءً بعهد كان قد قطعه على نفسه منذ أيام الشباب عندما قال لأحد أصدقائه «كريستوفر ديو»: «إن زوجته — لو حدث أنه تزوج — سوف تقيم في دورٍ منفصل، وأنهما لن يرى أحدهما الآخر إلا عند تناول الطعام.»29
تزوج «إبسن» من «سوزانا ثورسن» ابنة عمدة «بيرجن» سنة ١٨٥٨م بعد فترة خطوبة باردة استمرَّت عامين. كانت قارئة نهمة، عنيدة، شقراء، بيضاء الشعر، وكانت زوجة أبيها المثقفة تقول عن «إبسن» باحتقار: إنها لم تعرف بعد «سورن كيركجارد» شخصًا يضطر للانفراد بنفسه أكثر منه، كان الزواج وظيفيًّا أكثر منه دافئًا. وبمعنًى ما كان حاسمًا بالنسبة لإنجاز «إبسن»، ففي فترة القنوط في حياته عندما كانت تتعرض مسرحياته للرفض أو الفشل وكان يفكر في تطوير موهبته الأخرى في الرسم؛ كانت زوجته تمنعه من ذلك وتجبره على الكتابة كل يوم. وكما قال «سيجورد» فيما بعد: «إن العالم يستطيع أن يشكر أمي لأنها احتفظت بالحد الأدنى من الرسام السيئ وحصلت على كاتب عظيم بدلًا منه.»30 كان «سيجورد» المولود في سنة ١٨٥٩م يصور أمه على أنها القوة الدافعة وراء أبيه: «كان هو العبقرية وهي الشخصية … شخصيته. وكان يعرف ذلك رغم أنه لم يكن على استعداد لأن يعترف به حتى النهاية.» ومن الطبيعي أن «سيجورد» كان يصور الزواج كشراكة عمل بينما كان آخرون في نفس الوقت يرونه ويرون صاحبه بطريقةٍ مختلفة. هناك صورة مخيفة عن أسرة «إبسن» أثناء السنوات الإيطالية في مذكرات شاب دنماركي اسمه «مارتن سكنيكلوث» يقول: «إن «إبسن» كان يرى نفسه «حالة ميئوس منها» بعد أن وجد نفسه متزوجًا من امرأة لم يكن يحبها، مع عدم وجود إمكانية «لأي توافق» معها. كانت تعتبره شخصية مسيطرة، أنانية، عنيدة، مع ذكورية جامحة ومزيج من الجبن الشخصي. كان يدَّعي المثالية رغم عدم حرصه على التعبير عن تلك المثالية في حياته اليومية.»

أما هي فكانت امرأة لا حيلة لها ولكنها شخصية قوية تجمع بين الذكاء والغباء، لديها مشاعر ولكنها تفتقر إلى المودة والحب الأنثوي. كانا يشنان الحرب على بعضهما بضراوة وأحيانًا ببرود. ومع ذلك كانت تحبه ولو من خلال ابنهما المسكين صاحب أسوأ مصير يمكن أن يواجه طفلًا، ويضيف: «إبسن» نفسه كان مهووسًا بعمله لدرجة أنه كان يعكس الحكمة التي تقول: الإنسانية أولًا، والفن ثانيًا.

وأعتقد أن حبه لزوجته كان قد اختفى من زمن بعيد، وأصبحَت جريمته هي عدم القدرة على تصحيح الموقف بينهما، ولكنه كان يؤكد باستمرار طبيعته المتقلبة المستبدة، وسوء معاملته لها ولطفلهما المرتعد كسير الروح.31
سوزانا لم يكن لها حول ولا قوة إزاء أنانية «إبسن» الشديدة، وتقول زوجة «بجورنسون» إنها بعد أن ولدت ابنها «سيجورت» قررت ألا تحمل مرة أخرى، وهذا يعني أنها قررت ألا تمارس الجنس معه (وإن كانت شهادة زوجة «بجورنسون» مشكوك فيها)، ومن وقت لآخر كانت هناك أقوال عن الانفصال بينهما. كان «إبسن» بالطبع يكره هذا النوع من الزواج، وكتب سنة ١٨٨٣م إن زواجًا كهذا «يجعل من كل الناس عبيدًا»، ولكن حصافته وحرصه على الأمان جعلاه يُبقي عليه. وهناك خطاب منه أرسله إلى زوجته بتاريخ ٧ مايو ١٨٩٥م ينفي لها فيه الشائعات التي كانت تقول بأنه سوف يتركها من أجل «هيلدر أندرسون»، ويقول إن زوجة أبيها «ماجدالين ثورسن» — التي كان يكرهها — هي التي كانت وراءها.32
كان «إبسن» دائمًا فظًّا غليظ القلب وعنيفًا مع زوجته، ولكنها كانت تعرف كيف تحمي ظهرها. يثور فتضحك في وجهه ببساطة وهي واثقة من جبنه وخوفه من العنف. كانت في الواقع تلعب على أوتار مخاوفه وتمشط الصحف بحثًا عن الأخبار المرعبة والكوارث اليومية التي تنقلها إليه،33 لم يكونا زوجين يمكن رؤيتهما معًا في انسجام. وبالتوازي مع ذلك كان ﻟ «إبسن» علاقات باردة وأحيانًا عاصفة مع أصدقائه، وقد يكون من الخطأ أن نصفهم ﺑ «الأصدقاء». مراسلاته مع زميله الكاتب «بجورنسون»، الذي كان يعرفه كالآخرين ولمدة أطول، تحتوي على أشياء مؤلمة. كان «إبسن» يعتبره خصمًا منافسًا له وكان يغار من نجاحه الباكر وطبيعته المنبسطة وأسلوبه المرح في التعامل وقدرته الواضحة على الاستمتاع بالحياة. وقد فعل «بجورنسون» كل ما في وسعه ليجعل «إبسن» يقبل على الحياة، ولكن جحوده يدعو للرثاء. كانت العلاقة بينهما تشبه علاقة «روسو» ﺑ «ديدرو». ومثل «روسو» كان «إبسن» هو الذي يأخذ، بينما «بجورنسون» هو الذي يعطي. إلا أنه لم يحدث بينهما شجار أو خلاف كبير. كان تبادل العلاقة على نفس المستوى صعبًا بالنسبة ﻟ «إبسن» رغم كل ما كان يفعله «بجورنسون» من أجله. أرسل «إبسن» إليه برقية تهنئة بمناسبة عيد ميلاده الستين يقول فيها: ««هنريك إبسن» يرسل بأطيب تمنياته القلبية بمناسبة عيد ميلادك.» ومع ذلك ينتظر من «بجورنسون» أكثر من ذلك.
عندما نشر الناقد «كليمنت بيترسن» نقدًا معاديًا لمسرحية «بيرجنت» كتب «إبسن» خطابًا شهيرًا إلى «بجورنسون» الذي لم يكن له علاقة بما نشر: «لماذا لم يصرع بيترسن؟ كان يمكن أن أصرعه ليسقط فاقدًا للوعي قبل أن أسمح له بارتكاب هذه الحماقة ضد العقل والعدل.» وفي اليوم التالي ذيَّله بملحوظة تقول: «لقد نمت على تلك الكلمات وقرأتها بكل برود … وسوف أرسلها.» ثم أجهد نفسه بعد ذلك ليضيف: «أنا ألومك لسلبيتك، ما كان يجب أن تسمح بذلك، لم تفعل شيئًا ضد مؤامرة تمت في غيابي لوضع سمعتي تحت مطرقة صاحب المزاد.»34 وبينما كان «إبسن» ينتظر منه أن يحارب له معاركه، كان يعتبره مادة للسخرية والازدراء، فقد صوره في شخصية «ستنسجارد» الكريهة في مسرحيته «رابطة الشباب» التي تعتبر هجومًا عنيفًا على الحركة التقدمية. كان ناكرًا للجميل مع كل الذين ساعدوه بالمال والذين وقعوا طلب منحة الدولة له. كان يرى أي واحد من المشاهير هدفًا مشروعًا لهجومه، وكان يرفض بشدةٍ أي إشارات نحو عيوبه. عندما نشر «جون بولسن» رواية عن أب مسيطر يهوى جمع الأوسمة والنياشين أمسك «إبسن» ببطاقة زيارة من بطاقاته وكتب على ظهرها كلمة واحدة: «نذل»، وأرسلها مفتوحة إليه. نفس الأسلوب الذي سوف يتبعه «ماركيز كوينزبري» مع «أوسكار وايلد» في العقد التالي. كل علاقات «إبسن» بغيره من الكُتاب انتهت بمعارك، وعندما لم يكن هناك عراك كانت العلاقات تموت لأسباب تافهة. لم يستطع أن يتبع نصيحة دكتور «جونسون»: «الصداقة يجب أن تحظى دائمًا برعاية مستمرة»، كان يغذيها بتوتر مستمر تتخلله فترات صمت، وكان على الطرف الآخر أن يبذل الجهد الأكبر لكي تستمر العلاقة.
لقد اقترب من وضع فلسفة ضد الصداقة. عندما كان «برانديز» يعيش مع زوجة رجل آخر ونبذوه في «كوبنهاجن» كتب إلى «إبسن» يشكو أنه كان بلا أصدقاء، خذله صاحبه قائلًا إنه سبق أن مر بظروف صعبة كتلك وكان عليه أن ينتظر سنواتٍ طويلة قبل أن ينجح في أن يكون كما هو الآن.35

رسالة «إبسن» تلك تكشف — وكما هي الحال مع كل المثقفين الذين عرضنا لهم — العلاقة بين المبدأ المعلَن والضعف الشخصي.

كان «إبسن» يقول للناس: «كونوا أنفسكم.» بينما في خطابه إلى «برانديز» يعترف بأنه لكي تكون نفسك لا بد أن تضحي بالآخرين. التحرر الشخصي كان في صميمه متمحورًا حول الذات … وبلا قلب، وفي حالته كان من المستحيل أن يصبح كاتبًا مسرحيًّا مؤثرًا دون تجاهل أو إهمال — عند الضرورة — وسحق الآخرين تحت قدميه. مبادئ الأنانية الخلاقة كانت كامنة في صميم أسلوب تناوله لفنه. كتب إلى «ماجدالين ثورسن» يقول: «معظم النقد يمكن اختصاره في لوم الكاتب لأنه يحاول أن يكون نفسه … الشيء المهم هو حماية النفس الضرورية، الجوهرية، وأن تحتفظ بها نقية متحررة من كافة العوامل الدخيلة الأخرى.»

أنانية «إبسن» الخلاقة كانت محاولة لتحويل ضعفه الشخصي إلى مصدر قوة. وهو صبي كان يحب العزلة لدرجةٍ مخيفة. كان مدرسه يصفه بأنه «وجه رجل عجوز»، «شخص يتجه بصره نحو الداخل»، يدلي أحد الذين أضروه بشهادة يقول فيها: «ونحن صغار كنا لا نحبه لأنه كان دائمًا نكدًا وبغيضًا.» مرة واحدة سمعوه يضحك «مثل بقية البشر» وعندما كبر فرض عليه الفقر عزلة أشد قسوة؛ كان يخرج ليتمشى طويلًا بمفرده لكي يظن الآخرون أنه قد خرج لتناول العشاء (وللأسف إن بخله جعل ابنه فيما بعدُ يلجأ إلى حيل مماثلة، كان عندما لا يستطيع أن يدعو أصدقاءه إلى منزلهم الكئيب يقول لهم إن أمه امرأة زنجية وطويلة كالمارد وتضع شقيقه الأصغر في صندوق … لم يكن له أشقاء).

جولات «إبسن» الطويلة منفردًا أصبحَت عادة. كتب: «تجولت في معظم الولايات البابوية في أوقات مختلفة على قدمي، حاملًا على ظهري كيسًا من الخيش.» كان «إبسن» منفيًّا بطبعه، ويرى المجتمع المحيط غريبًا في أحسن الأحوال، ولكنه كان عدائيًّا وبشكلٍ دائم. كتب في شبابه: «اكتشفت نفسي في حالة حرب مع المجتمع الصغير الذي أنا سجين فيه.»36 ولذلك ليس من الغريب أن نجده يختار المنفى الفعلي في أطول فترات حياته وأكثرها إنتاجًا. وكما حدث مع «ماركس» قوَّى ذلك من إحساس الاغتراب لديه وحبسه في إطار جماعة ضيقة من المغتربين بكل شجاراتهم وعداواتهم.

بدأ «إبسن» بالتعرف على عيوب عزلته. في خطاب من عام ١٨٥٨م وصف نفسه: «محاطًا بجدران من البرود تجعل اقتراب أي صداقةٍ أمرًا صعبًا … صدِّقني، ليس من دواعي السرور أن ترى كل شيء من وجهة نظر أكتوبرية.» إلا أنه بعد ست سنواتٍ يروض نفسه على العزلة ويقبل بعجزه عن القدرة للوصول إلى الآخرين. في سنة ١٨٦٤م كتب إلى «بجورنسون»: «لا أستطيع أن أعقد صلة وثيقة بأناس يطلبون أن يعطيهم المرء نفسه بحرية ودون تحفظ … أنا أفضِّل أن أحبس نفسي (الحقيقية) بداخلي.»

أصبحَت عزلته عزلة خلاقة، وهذه في حد ذاتها حكاية، وهي الموضوع الرئيسي لشِعره منذ قصيدته الباكرة «الاستسلام» التي كتبها سنة ١٨٤٧م إلى أن توقف عن كتابة الشعر في ١٨٧٠-١٨٧١م، وكما قال «برانديز»: «إنه شعر الوحدة الذي يصور احتياج العزلة، كفاح العزلة، احتجاج العزلة.»37 كل كتاباته التي تعبِّر عن عزلته أصبحَت ملجأً ودفاعًا وسلاحًا في وجه العالم الغريب. وكما قال «سكنيكلوث» عن حياته في إيطاليا بأنه «كرَّس عقله كله وعاطفته كلها للسعي المحموم من أجل الشهرة الأدبية»، وبالتدريج أصبح يرى عزلته الأنانية وإخفاء نفسه سياسة ضرورية وربما فضيلة. كان يقول ﻟ «برانديز»: «إن الوجود الإنساني كله حطام سفينة.» وبالتالي فإن «التوجه العاقل الوحيد هو أن ينقذ المرء نفسه»، وفي سنواته المتقدمة كان ينصح أحد الشبان بقوله: «لا ينبغي أن تقول للناس كل شيء … وأثمن ما في الحياة هو أن تحتفظ لنفسك بأشياء.»38
ومن الطبيعي أن نفترض أن تلك السياسة كان من الصعب السيطرة عليها دائمًا، فقد أصبحَت عداء عامًّا ضد البشرية، وكان «برانديز» مضطرًّا إلى الوصول إلى نتيجة، هي أن «احتقاره للجنس البشري كان بلا حدود». إن الأضواء الكشافة لكراهيته كانت تتحرك بنظام على كل جوانب المجتمعات الإنسانية، وتتوقف من وقت لآخر عند فكرة أو مؤسسة معينة تثير اشمئزازه الخاص. كان يكره المحافظين، وربما كان أول كاتب يقنع دولة محافظة بدعم حياة أدبية مكرسة للهجوم على كل ما هو عزيز لديها. (عندما عاد ليطلب دعمًا ماليًّا آخر قال أحد أعضاء لجنة المنح إن «إبسن» يستحق الجَلْد وليس منحة أخرى)، كما أصبح يكره الليبراليين وبدرجةٍ أكبر. كانوا «مادة فقيرة من أجل سد الحواجز» ومعظمهم «منافق وكذاب ومخرِّب ولئيم»، ومثل معاصره «تولستوي» كان يُكن كراهية شديدة للنظام البرلماني الذي كان يراه منبعًا للفساد والدجل، وأحد أسباب حبه ﻟ «روسيا» أنها لم يكن لديها واحدٌ، كان يكره الديمقراطية. ملاحظاته العابرة المسجلة في مفكرة «كريستوفر جانسون» تقدِّم لنا صورة صارمة:39 «ما الأغلبية؟ إنها الجماهير الجاهلة. الذكاء دائمًا من نصيب الأقلية»، كان يقول: «ليس من حق معظم الناس أن يكون لهم أي رأي.» أخبر «برانديز»: «تحت أي ظرف لن أرتبط بأي حزب يحشد الأغلبية خلفها.» كان يرى نفسه فوضويًّا، يعتقد عن حمق أن الاشتراكية والشيوعية والفوضوية سواء.

كان يقول ﻟ «برانديز» الذي كان يحب أن يجمع أقواله إن «الدولة لا بد أن تمحى»، «هناك الآن ثورة سوف أقدم لها كل دعمي وبكل سرور، ألغوا مفهوم الدولة وأقيموا مبدأ الإرادة الحرة.»

كان «إبسن» دون شك يعتقد أن لديه فلسفة متكاملة للحياة، كان قوله المفضل الذي وضعه على لسان شخصية دكتور «ستوكمان»: «الأقلية دائمًا على حق.» وكان يشرح ما يقصده بالأقلية ﻟ «برانديز» «الأقلية التي تتقدم في أرض لم تطأها الأغلبية بعد.» وإلى حدٍّ ما كان مثل «د. ستوكمان» عندما قال ﻟ «برانديز»: «إن الرائد المثقف لا يمكن أن يجمع أغلبية حوله، ففي مدى عشر سنواتٍ قد تصل الأغلبية إلى النقطة التي وقف عندها «د. ستوكمان» عندما كان الناس يعقدون اجتماعاتهم، ولكن خلال تلك السنوات العشر لم يكن «ستوكمان» قد بقي ثابتًا في نفس المكان … إنه يسبقهم على الأقل بعشر سنواتٍ أخرى. الأغلبية، الدهماء، الجماهير لن تلحق به وهو لن يستطيع أن يحثهم على شيء أو يجمع شملهم وهم وراءه، أنا نفسي أشعر باضطرار مماثل لا يهدأ، بأن أظل ماضيًا إلى الأمام. هناك جموع تقف الآن حيث كنت أقف عندما كتبت كتبي الأولى، ولكن أنا نفسي لم أعد هناك. أنا في مكان آخر، أمامهم بمسافة طويلة، أو لعل ذلك ما أتمناه.»40

وصعوبة هذه الرؤية التي كانت فيكتورية في طبيعتها، هي أنها تفترض أن الإنسانية سوف تتقدم دائمًا في الاتجاه المرغوب فيه بقيادة الأقلية المستنيرة، ولم يخطر ببال «إبسن» أن تلك الأقلية التي كان «لينين» يُسمِّيها فيما بعدُ ﺑ «النخبة الطليعية»، و«هتلر» ﺑ «حمَلة الراية» سوف تقود العالم إلى الهاوية.

ولو أن «إبسن» عاش ليرى القرن العشرين الذي شارك بالكثير في صياغة فكره لأصابته الدهشة والرعب لما فيه من تطرف. وسبب القصور في تصور «إبسن» للمستقبل، ذلك المستقبل الذي كان يزعم أنه يتنبأ به، يرجع إلى الضعف الكامن في شخصيته وعدم قدرته على التعاطف مع الناس بدلًا من الأفكار. عندما كانت الأفراد أو المجموعات مجرَّد أفراد مجسدة كما في مسرحياته، كان يتناولهم بفهم جيد وبتعاطف شديد. ومن لحظة دخولهم حياته كان يهرب أو يتصرف معهم بعداء.

آخر مجموعة من مسرحياته بقبضها القوي على النفس الإنسانية تصادفت مع نوبات الغضب والعراك والثورة في حياته الخاصة والتدهور المستمر في علاقاته الشخصية القليلة. التناقض الواضح بين الفكرة والواقع منعكس في مواقفه العامة. في ٢٠ مارس ١٨٨٨م أرسل برقية إلى اتحاد عمال «كريستيانيا»: «الطبقة العاملة، من بين جميع الطبقات في بلدي هي الأقرب إلى قلبي.»41 وكان ذلك محض هراء. لم يكن أقرب إلى قلبه من حافظة نقوده. لم يُعر العمال أي اهتمام في حياته ولم يكن يحمل لأفكارهم سوى كل احتقار، ولا يوجد أي دليل على أنه فعل شيئًا لمساعدة حركة العمال. بعد ذلك أيضًا وجد من الحصافة أن يقترب من الطلبة ويفوز برضائهم، وبدورهم أحبوا أن يكرموه بمواكبهم ومسيراتهم. ولكن تعاملهم الفعلي معه انتهى بعراك عنيف يعبر عنه خطاب طفولي طويل أرسله إلى اتحاد طلاب «النرويج» في ٢٣ أكتوبر١٨٨٥م يستنكر فيه «كثرة العناصر الرجعية بين صفوفهم».42

نفس القصة في علاقته بالمرأة. نظريًّا كان إلى جانب المرأة، ويمكن القول إنه فعل الكثير على المدى الطويل لتحسين أوضاعها أكثر مما فعل أي مثقف آخر في القرن التاسع عشر. فمسرحيته «بيت الدمية» برسالتها الواضحة — الزواج ليس مقدسًا، إمكانية تحدي سلطة الزوج، أهمية اكتشاف الذات عن أي شيءٍ آخر — هي التي بدأت بالفعل حركة المرأة. لم يتفوق عليه أحد في التعبير عن قضيتها، وكما أظهرت مسرحية «هيدا جابلر» أن قلة من الكتاب هي التي بلغت مستواه في تصوير مشاعرها. ولكي نكون منصفين لا بد أن نقول إنه كان يحاول أن يساعد المرأة أحيانًا كفكرة مجسدة في الحياة العملية كذلك. أحد أحاديثه وهو سكران — في حفلٍ ما — كان دفاعًا عن حق النساء في دخول النادي الإسكندنافي في «روما»: كان حديثًا غاضبًا، وربما لم يكن في صالح القضية، فقد أغمي على إحدى الكونتيسات من الرعب.

لم يكن له صبر مع النساء المشاركات في تلك القضية، خاصة إذا كن كاتبات أيضًا. في حفل العشاء المؤسف الذي أقامه له «برانديز» في «جراند أوتيل» في ١٨٩١م ثار «إبسن» عندما وجد أنهم يُجلسونه إلى جوار الرسامة والمثقفة «كيتي كيلاند» وكانت في منتصف العمر.

عندما حاولت أن تنتقد شخصية «السيدة ألفستيد» في مسرحيته «هيدا جابلر» كشر عن أنيابه وانفجر: «أكتب لِكي أصور الناس ولا يهمني أبدًا ماذا يحب أو يكره المثقفون المتعجرفون.»43
كان الجحيم بالنسبة له هو أن يحضر حفلًا ويجلس فيه إلى جوار امرأة عجوز من المناديات بحقوق المرأة، أو كاتبة كبيرة في السن. وكان هناك عدد كبير منهن في العواصم الإسكندنافية في تسعينيات القرن (التاسع عشر). حاول جهده أن يترك حفل عشاء رسمي أقيم على شرفه في «كريستيانيا» في ٢٦ مايو ١٨٩٨م بتنظيم من الرابطة النرويجية لحقوق المرأة، وعندما لم يتمكن أَلقى كلمة غاضبة كالعادة.44 كان عصبي المزاج أيضًا أثناء حفل عشاء أقامته له جمعيتان نسائيتان في «ستوكهولم»، ولكن أمكن تجنب حدوث كارثة بتقديم بنات يرقصن رقصًا شعبيًّا، وكان «إبسن» كما هو معروف مغرمًا بالبنات الصغار.45 إحدى الراقصات كانت «روزا فيتنجوف» ابنة كاتبة قصص للأطفال، وكانت الأخيرة في سلسلة طويلة من البنات اللائي دخل معهن «إبسن» في علاقات معقدة وأحيانًا مدوخة. كان يميل إلى الشباب الذي كان يربط بينه وبين ما لا يمكن تحقيقه. عندما وقع في حبٍّ عنيف لأول مرة وهو يعمل في مسرح «بيرجن» كان ذلك مع فتاة في الخامسة عشرة من عمرها اسمها «هنريك هولست». كان مفلسًا واعترض أبوها وانتهى الأمر. وعندما حقق نجاحه الأول كان يشعر بأنه عجوز وقبيح وأنه سوف يغامر ويواجَه بالصد لو أنه تقدم لفتاة تصغره بكثير. ولكنه استمر في علاقات غرامية خطرة. في ١٨٧٠م كانت «لورا بيترسن» داعية تحرر المرأة، بعد أربع سنواتٍ كانت «هيلدر سونتم» ذات العشر سنوات، حفيدة صاحبة البيت الذي يسكنه. ومع تقدم العمر لم يتغير ذوقه، بالعكس، كانت تخلبه قصة حب «جوته» ﻟ «ماريان فون ويلمر» الشهية التي جددت شباب فنه.

وأصبح معروفًا ومقبولًا أن أي ممثلة إذا كانت صغيرة السن وجميلة يمكن أن تجعل «إبسن» يفعل أي شيء تريده، خاصة إذا جلبت له أخريات صغيرات.

عندما كان يزور العواصم الإسكندنافية كانت البنات تتزاحمن حول الفندق، وأحيانًا كان يوافق أن يتحدث معهن، وأن يقبلهن ويعطيهن صوره. كان يهوى البنات الصغيرات بشكلٍ عام ولكن اهتمامه يتركز على واحدة بعينها. في سنة ١٨٩١م كانت «هيلدر أندرسون»، وكانت «روزا فيتنجوف» الأخيرة.

أميز سلسلة البنات كانتا «إميلي بارداخ» و«هيلين راف»، وكان قد التقى بهما في «الألب» سنة ١٨٨٩م، كلتاهما كانت تحتفظ بمذكرات وببعض الرسائل. كانت «إميلي» فتاة نمسوية في الثامنة عشرة وكان «إبسن» أكبر منها بثلاث وأربعين سنة، سجلَت في مفكرتها: «غيرته تجعلني أشعر بالفخر، كل كلامه معي مليء بالإحساس والمشاعر القوية، يقول إنه لم يشعر في حياته أبدًا بمتعة كتلك التي يشعر بها لمعرفته بي. لم يعجب بأحد قدر إعجابه بي.» طلب منها «أن تكون صريحة معه لكي يعملا معًا»، كانت تعتقد أنها تحبه، «ولكن كلانا كان يشعر أن من الأفضل أن نبدو وكأننا غرباء».46
الخطابات التي كتبها إليها بعد أن افترقا كانت عادية، وبعد ذلك بأربعين عامًا صرحت للكاتب «إي. إي. زاكر» أنهما حتى لم يتبادلا القبلات، ولكنها قالت أيضًا: «إن «إبسن» تحدث عن إمكانية طلاقه، وحينئذ يمكن أن يتزوجها ويشاهدا العالم معًا.»47
أما «هيلين» فكانت فتاة مدنية من «ميونخ»، أكثر ثقافة وتجربة، سمحت له أن يقبلها، وواضح أن العلاقة بينهما كانت رومانسية أكثر منها جنسية، ناهيك عن أنها كانت فتاة جادة. عندما سألته ماذا فيها أجاب: «الطفولة، الشباب مجسدًا، وأنا أحتاج لذلك في كتابتي.» وهذا يوضح ما كان يقصده بقوله «لكي نعمل معًا»، وبعد أربعين عامًا كتبَت «هيلين»: «لم تكن علاقته بالبنات الصغار تنطوي على أي خداع أو غش بمعنى الكلمة، كانت كلها نابعة من احتياجات خياله.»48

كانت البنات «نماذجًا» أفكارًا من لحم ودم يستخدمهن في مسرحياته، ولسن «نساء» حقيقيات بمشاعر يتمني أن يحبها. وعليه فليس من المحتمل أن يكون «إبسن» قد فكر بجدية في أن يقيم علاقة حب بإحداهن، ناهيك عن الزواج. كانت لديه مكبوتاته عن الجنس.

يقول طبيبه الدكتور «إدفارد بول» إنه كان لا يمكن أن يكشف عن ذَكَره حتى بغرض الفحص الطبي. هل كانت هناك مشكلةٌ ما؟ أو هل كان يظن ذلك؟ يمكن أن نعتبر «إبسن» الذي كان لديه من الناحية النظرية على الأقل فهمٌ عميق لسيكولوجية المرأة معادلًا للشخص العابث. من المؤكد أنه هو الذي كان يوجه «إميلي». كانت واسعة الخيال وساذجة بلا شك، ولم يكن لديها فكرة عن أن «إبسن» يستخدمها. في فبراير ١٨٩١م توقف عن مراسلتها بعد أن كان قد حصل على ما يريد. في نفس الشهر روى الناقد «جوليوس إلياس» ما كان «إبسن» قد قاله له أثناء غداء في «برلين»: إنه قابل في «تايرول» فتاة من «فيينا» ذات شخصية متميزة، ائتمنته فورًا على أسرارها، لم تكن مهتمة بفكرة الزواج من شاب حسن التربية … كان شاغلها وما يروق لها هو خطف أزواج الأخريات. كانت بارعة في هدم البيوت. طائر فريسة، وكان من الممكن أن تضمه إلى قائمة ضحاياها.

درس شخصيتها عن كثب، ولكنها لم تنجح معه «ولم تستحوذ عليَّ ولكني استحوذت عليها لمسرحيتي».49
وباختصارٍ فإن «إبسن» استغل «إميلي»، كفكرة لواحدة من شخصياته وهي «هيلدا وانجل» في مسرحية «البنَّاء العظيم»، وأعاد تشكيلها وتحويلها الي شخصيةٍ كريهة. ولم يعرف الناس أنها كانت المقصودة بشخصية «هيلدا» من كلام الناقد «إلياس» فقط؛ وإنما كذلك من خطابات «إبسن» التي نُشرت فيما بعد.50 ولأكثر من نصف حياتها الطويلة (ظلت بلا زواج وعمرت حتى الثانية والتسعين) كانت موصومة كامرأة شريرة. وكان ذلك واضحًا، ليس فقط في الطريقة التي يقدم بها «إبسن» شخصيات حقيقة في مسرحياته، وإنما أيضًا في لامبالاته بمشاعرهم وفضحهم أمام الناس. وكانت أسوأ حالة هي حالة «لورا كيلر» الشابة النرويجية البائسة التي التقى بها «إبسن» مرات قليلة. كانت خاضعة تمامًا لنفوذ زوجها ولجأت إلى السرقة؛ متصورة أنها بذلك سوف تساعده. وعندما اكتشف أمرها كان يعاملها على أنها وصمة في حياته ووضعها في مصحة عقلية لبعض الوقت. وجدها «إبسن» نموذجًا على اضطهاد المرأة وما تلاقيه من ظلم — فكرة أخرى من لحم ودم أكثر منها إنسان — واستخدم ذلك لخلق شخصيةٍ مسرحية هي شخصية «لورا» في «بيت الدمية»، وكان من الطبيعي أن تلفت الدعاية الكبيرة والشهرة الواسعة للمسرحية الأنظار وتركز الضوء على «لورا» ولم يكن من الصعب معرفة أنها هي الأصل. أصابها حزن شديد وكرب عظيم وطلبت من «إبسن» أن يعلن أن «لورا» ليست هي. وما كان ذلك ليكلفه شيئًا. أما الخطاب الذي أعلن فيه رفضه لطلبها فهو خير تعبير عن إنسان ليس لديه أي ذرة من ضمير: «لا أستطيع أن أفهم ماذا يدور بعقل «لورا كيلر» بمحاولاتها استدراجي إلى هذه الأمور التافهة. إن إعلانًا من جانبي كالذي تقترحه ليقول إنها ليست «لورا» سيكون بلا معنى، وضربًا من العبث، حيث إنني لم أقل أبدًا إنها هي … وأعتقد أنك توافقني على أن أفضل طريقة لمساعدة صديقتنا المشتركة هي الصمت.» واستغلال «إبسن» للشخصيات بطريقةٍ قاسية شمل أولئك الأقرب إليه والأغراب على حدٍّ سواء. فالمسرحية التي دمرت حياة «إميلي» ألحقت أذًى وضررًا بزوجته كذلك، حيث تعرَّف الناس على «سوزانا» — زوجته — بسهولة في شخصية زوجة «سولنس» في مسرحية «البنَّاء العظيم» ضحية الزواج غير السعيد … شخصية «كاجا فوصلي» في نفس المسرحية أيضًا كانت عملًا من أعمال اللصوصية الإنسانية. فوجئت إحدى السيدات بتلقِّيها دعوات متكررة لتناول العشاء مع «إبسن»، وفعلت ذلك وهي في غاية السعادة. ولكنها فوجئت مرة أخرى عندما توقفت الدعوات فجأةً ثم فهمت كل شيء عندما شاهدت المسرحية ووجدت بعضًا منها في شخصية «كاجا» … لقد استخدمها «إبسن»!

كتب «إبسن» كثيرًا عن الحب، وكان الحب على أية حال هو الموضوع الرئيسي لشِعره حتى وإن كان ذلك بمعنًى سلبي للتعبير عن آلام العزلة. ولكن من المشكوك فيه أن يكون قد أحب أو استطاع أن يشعر بالحب نحو شخص بعينه أكثر من كونه فكرة أو فكرة مشخصة. الكراهية كانت هي الشعور الأكثر حقيقية بالنسبة له. ووراء الكراهية شعور أساسي وعميق … الخوف. في الأعماق السحيقة لشخصيته كان هناك خوف كامن صامت، وربما كان ذلك أهم ما فيه. خجله كان قد أخذه عن أمه التي كانت تحبس نفسها في غرفتها عند أول فرصة. «إبسن» أيضًا وهو طفل كان يحبس نفسه في الغرفة. الأطفال الآخرون كانوا يلاحظون خوفه وهو يلعب معهم أحيانًا — و«جبنه» الجسماني والمعنوي — كانت الكلمة الأكثر التصاقًا به من قِبَل مَن يعرفونه طوال حياته.

وهناك حادثٌ أسود — على نحوٍ خاص — في حياته وقع في سنة ١٨٥١م عندما كان في الثالثة والعشرين ويكتب مقالات غير موقعة للجريدة الثورية «أربجدر فورينجيرنز بلاد». في يوليو من نفس العام اقتحمت الشرطة مكاتب الجريدة وألقت القبض على اثنين من أصدقائه هما «تيودور أبلدجارد»، والزعيم العمالي «ماركوس ثرين». ولحُسن حظ «إبسن» لم تجد الشرطة في أوراق المكتب ما يشير إلى أنه كاتب المقالات. ومن فرط الرعب رقد مريضًا لعدَّة أسابيع، وحُكم على الرجلين وقضيا سبع سنوات في السجن، ولجبنه لم يقف إلى جوارهما أو يحتجَّ على ذلك العقاب القاسي.51
كان رجل كلام ولم يكن رجل فعل. كان ساخطًا عندما قامت «روسيا» بغزو «الدنمارك» في سنة ١٨٦٤م، وضمت «شلزويج هولستين»، ودان بشدةٍ جبن «النرويج» لأنها لم تهرع لنجدة «الدنمارك»، وكتب: «كان لا بد أن أبعد عن كل تلك القذارة هناك لكي أكون نظيفًا.»52 ولكنه لم يفعل شيئًا لمساعدة «الدنمارك». سأله شاب دنماركي «كريستوفر برون» تطوع ليشارك في الحرب — بعد أن سمع بآرائه الصاخبة — لماذا لم يتطوع هو الآخر؟ كانت الإجابة العرجاء: «نحن الشعراء لدينا واجبات أخرى نؤدِّيها.»53 كان «إبسن» جبانًا في الأمور الشخصية والأمور السياسية كذلك. علاقته بأول حب «هنريك هولست» انتهت ببساطة لأن «إبسن» فر مذعورًا عندما رآه والدها جالسًا معها.

بعد عدَّة سنوات وكانت قد تزوجت حدث بينهما الحوار التالي:

إبسن : أتعجب لماذا لم تسفر علاقتنا عن شيء!
هنريك : هل نسيت؟ لقد لذتَ بالفرار.
إبسن : نعم! لا أستطيع أبدًا أن أواجه أحدًا!54

كان «إبسن» طفلًا عجوزًا خائفًا تحول مع الحياة باكرًا إلى امرأة عجوز خائفة! قائمة الأشياء التي كان يخاف منها طويلة جدًّا.

يصفه «فيلهلم بيرجسو» في «إسكيا» سنة ١٨٦٧م وهو مشلول من الخوف أن تنهار الصخور، وخائفًا من الارتفاع ويصرخ: «أريد أن أخرج من هنا، أريد أن أعود إلى البيت.»

عندما كان يسير في الشوارع كانت تنتابه المخاوف من سقوط شيء على رأسه. أزعجته ثورة «غاريبالدي» لدرجةٍ كبيرة خوفًا من الدم في الشوارع. كان يقلقه توقع حدوث زلازل. كان يخاف القوارب: «لن أخرج مع أولئك القوم، لو هبَّت عاصفة سوف ينبطحون في القارب ويصلون للعذراء بدلًا من خفض الأشرعة.» خوف آخر من انتشار الكوليرا، وكان انتشار الأوبئة همًّا أساسيًّا عنده. في أغسطس ١٨٨٠م كتب إلى ابنه «سيجورد»: «أنا ضد فكرة أن تترك أمتعتك في مستشفى «آنا داي»، الأطفال الذين ترعاهم من طبقة من الناس من المتوقع أن يكون وباء الجدري متفشيًا بينهم.»55 وكان يخشى العواصف في البر والبحر، والاستحمام (يمكن أن يحدث لك تقلص عضلي) ويخاف من الخيول (معروفة بالرفس)، ومن أي شخص يحمل بندقية صيد (ابعد عن أولئك الذين يحملون مثل تلك الأسلحة)، ويخاف من حوادث المركبات. كان يضايق الأطفال عندما يطفئ شموع أشجار عيد الميلاد خشية حدوث حريق. لم تكن زوجته في حاجة إلى أن تخيفه بقراءة أخبار الكوارث في الصحف لأنه كان يمشط الصحف بنفسه (كانت مصدره الرئيسي لأفكار مسرحية)، وكان يدرس قصص الرعب سواء الطبيعية أو تلك التي من صنع البشر، خطاباته إلى «سيجورد» كلها قوائم تحذيرات: «لقد قرأت في الصحف النرويجية تقريبًا عن حوادث سببها العبث بالأسلحة النارية المحشوة بالطلقات»، وتعليمات ونصائح: «أبرق لي إن كان هناك أي حادث ولو بسيط»، «أقل إهمال يمكن أن يؤدِّي إلى عواقب وخيمة»، «كن حذرًا ويقظًا في كل شيء».56

أما الفزع الأكبر فكان من الكلاب. يحكي «بيرجسو» أنه في مناسبةٍ ما في «إيطاليا» انتابه الخوف من كلب لم يكن هناك أي احتمال لأي أذًى منه، وفجأةً جرى مسرعًا، فما كان من الكلب إلا أن طارده وعضه. صرخ «إبسن»: «هذا الكلب مسعور ولا بد من إعدامه وإلَّا أصابني السعار أنا أيضًا.» وكان «يرغي ويزبد من الغضب ولم يذهب عنه خوفه إلا بعد عدَّة أيام». ويسجل «كنودزون» حدثًا آخر أكثر إثارة وقع في «إيطاليا». كان «إبسن» وبعض الإسكندنافيين قد تناولوا الغداء في أحد المطاعم وشربوا كثيرًا من النبيذ: «توقعنا عاصفة، من البداية بدا «إبسن» وكأن في أعماق روحه دودة ضجر، كانت توجعه وتبحث عن مخرج»، عندما نهضوا ليغادروا المطعم لم يستطع «إبسن» أن يقوم من مكانه وكان لا بد أن يساعده اثنان منهم على المشي.

لفت انتباهه باب حديدي خلفه كلب ضخم كان ينبح بغضب. حينئذ: «كان «إبسن» يمسك في يده بعصا وبدأ يلوح بها نحو الكلب الذي كان يشبه أسدًا صغيرًا، اقترب الكلب فلوح «إبسن» بالعصا وضربه بها، محاولًا أن يثير جنونه ونجح في ذلك. اندفع الكلب نحو الباب فضربه «إبسن» مرة أخرى، ولولا وجود الباب الحديدي لنجح الكلب في أن يمزقنا جميعًا … ظل «إبسن» على تلك الحال لمدة ست أو ثماني دقائق تقريبًا».57

وكما يبين هذا الحادث فإن غضب «إبسن» الذي كان ملازمًا له طوال حياته، ومخاوفه الدائمة كانت كلها مرتبطة ببعضها البعض. كان يغضب لأنه كان يخاف. وكان الكحول يهدأ من الخوف ولكنه يطلق عنان الغضب. وفي داخل الرجل الغاضب كان هناك آخر جبان.

فقد «إبسن» إيمانه مبكرًا، أو كان يقول ذلك. ولكنه ظل يحمل الخوف من الخطيئة والعقاب حتى القبر. كان يكره المزاح عن الدين: «هناك أشياء لا يصح أن يسخر منها المرء.» كان يقول إن المسيحية «تخفض المعنويات وتكبت كلًّا من الرجل والمرأة»، ولكنه شخصيًّا ظل يؤمن بالخرافات. ربما كان لا يؤمن بالله ولكنه كان يخاف من الشياطين.

كتب في نسخة من «بيرجنت»: «أن تحيا، عليك أن تحارب الشياطين في القلب والروح.» كتب إليه «بجورنسون»: «توجد عفاريت كثيرة في رأسك أعتقد أنك لا بد أن تسترضيها، جيش خطير، لا تحتفظ بهم حولك لأنهم ينقلبون على أسيادهم.» كان «إبسن» يعرف ذلك جيدًا وكان يتكلم عن شيطانه الأعلى، كان يقول: «أنا أغلق الباب وأستحضره، لا بد أن هناك شيطانًا في ما أكتب.» كان يحتفظ في مكتبه بمجموعة من التماثيل المطاطية لشياطين بألسنة حمراء،58 وفي بعض الأحيان بعد عدد من كئوس الخمر وبعدما انهار نقده المبرر للمجتمع وتحول إلى ارتباك وفوضى؛ كان يبدو «إبسن» ممسوسًا بالشياطين. حتى «وليم آرشر» أبرز المدافعين عنه كان يرى أن آراءه الفلسفية والسياسية — عند فحصها عن قرب — لم تكن ثورية بقدر ما هي فوضوية. وكتب في سنة ١٨٨٧م: «لقد أصبحتُ أكثر اقتناعًا أن «إبسن» لا وجود له كمفكر متعدد الجوانب أو حتى كمفكر منهجي.» كان «آرشر» يراه ببساطة ضد أي فكرة مستقرة من ناحية المبدأ. ويسجل «أنجفالد أندست» والد الروائي «سيجريد أندست» والذي كان قد استمع إلى أحاديثه الصاخبة في «روما»: «إنه فوضوي تمامًا، يريد أن يمحو كل شيء … البشرية لا بد أن تبدأ من الأساس لبناء العالم … المجتمع وأي شيء آخر لا بد أن يزول … مهمة عصرنا الكبرى هي أن تنفخ هذا النسيج القائم في الهواء.»

ماذا يعني ذلك كله؟ يعني القليل في الحقيقة: إنه الغبار المتساقط من الخوف والكراهية من قلب لم يعرف أو لم يستطع التعبير عن الحب.

إن بارات عالم الشمال مملوءة برجال من نفس النوع. في سنواته الأخيرة التي بدأت بنوبة صرع في سنة ١٩٠٠م كانت تتكرر على نطاقٍ ضيق على فترات، واصل «إبسن» أسلوبه الذي كان يتراوح بين الغضب والقلق … تراقبه زوجته الساخرة. قلقه الرئيسي الآن هو التأمين، بينما مصدر ضيقه هو الوهن الجسماني، وكره شديد لأن يساعده أحد. الغضب الشديد والثورة هما سادة الموقف. بمجرَّد أن انتهت الممرضة المقيمة من مساعدته في الطريق أمروها بأن تختفي. وعندما لم تفعل ذلك لوح «إبسن» لها بالعصا ففرت مسرعة إلى المنزل. كان الحلاق يجيء ليحلق له ذقنه كل يوم … لم يكلمه «إبسن» كلمة واحدة. مرة وحيدة همس فجأة: «شيطان قذر».

مات في الثالث والعشرين من مايو ١٩٠٦م، بعد ذلك قالت «سوزانا» إنه قال قبل أن يموت: «زوجتي العزيزة، الغالية، كم كنت طيبة معي عطوفة عليَّ.» وهذا يبدو بعيدًا عن شخصيته تمامًا. على أية حال فإن يوميات الدكتور «بول» تقول إنه كان في غيبوبة تامة في ذلك المساء ولم يكن يستطيع أن يتكلم، وفي رواية أخرى أكثر معقولية، أن آخر كلمة لفظها كانت: «بالعكس»!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤