الفصل الخامس

«تولستوي»: الشقيق الأكبر للإله!

من بين جميع المثقفين الذين ندرسهم هنا كان «ليو تولستوي» الأكثر طموحًا. جرأته مخيفة وأحيانًا مرعبة. كان يعتقد أنه بمصادر عقله الخاص وبفضيلة القوة الروحية التي كان يشعر بها تتفجر بداخله يستطيع إحداث تغيير أخلاقي في المجتمع.

كان هدفه كما حدده «أن نجعل مِن مملكة المسيح الروحية مملكة على الأرض».1 كان يرى نفسه جزءًا من تسلسل رسولي من المثقفين يضم: «موسى»، و«عيسى»، و«كونفوشيوس»، والإغريق الأوائل و«بوذا»، و«سقراط»، نزولًا إلى «باسكال»، و«سبينوزا»، و«فيورباخ»، وكل الآخرين من المجهولين وغير المعروفين الذين كانوا يفكرون ويتحدثون بإخلاص عن معنى الحياة.
ولكن «تولستوي» لم تكن لديه النية أن يظل مجهولًا أو غير معروف. فيومياته تكشف أنه عندما كان في الخامسة والعشرين كان يدرك أن لديه قوى خاصة، وأنه منذور لمصير أخلاقي مهم. «قرأت اليوم عملًا عن التصوير الأدبي للعبقرية فأيقظ بداخلي اقتناعًا بأنني إنسان متميز من ناحية القدرة والحماس للعمل». «لم ألتقِ حتى الآن بإنسان على نفس الدرجة التي أنا عليها من حسن الخلق، لا يتذكر لحظة من حياته لم يكن فيها مندفعًا نحو فعل الخير أو على استعداد للتضحية بأي شيء في سبيله». كان يشعر في صميم روحه بعظمة «لا حد لها»، وكان يحيره عدم قدرة الآخرين على إدراك صفاته: «لماذا لا يحبني أحد؟ لست أحمق ولا مشوهًا». «لست سيئًا، لست مجهولًا، إنه أمر غير مفهوم».2

كان «تولستوي» يشعر دائمًا بنوع من العزلة عن الآخرين مهما حاول أن يتعاطف أو يتماثل معهم. وكان لديه إحساس غريب بأنه يراقبهم ويمارس عليهم سلطة أخلاقية.

وعندما أصبح روائيًّا وربما أعظم روائي في العالم، كان يغتصب لنفسه وبعفوية تلك السلطة شبه الإلهية. كان يقول له «مكسيم جوركي»: «أنا نفسي عندما أكتب أشعر بالتعاطف مع شخصية ما، فأمنحها بعض الصفات الخيرة، أو أنزع صفة خيرة عن شخصية أخرى لكيلا تبدو الأولى شديدة السواد عند مقارنتها بالآخرين.»3 وعندما أصبح مصلحًا اجتماعيًّا أصبح تماثله بالله أقوى، حيث إن برنامجه الفعلي كان ممزوجًا بالألوهية كما حدده: «الرغبة في السعادة الكونية … تلك التي نسميها ﺑ «الإله»». كان يشعر بالفعل بأنه مسكون بالألوهية؛ فقد سجَّل في يومياته: «ساعدني، تعالَ يا أبي واسكن فيَّ، أنت فعلًا تسكنني، أنت حقًّا وأنا.»4 ولكن صعوبة أن يسكن الإله «تولستوي» نفس الروح تكمن في أن «تولستوي» كان دائمًا في شك من خالقه كما يقول «جوركي»، والذي كان يذكِّره ﺑ «دبين في عرين واحد»، وقد جاء وقت على «تولستوي» كان يعتقد فيه أنه شقيق الله. وربما شقيقه الأكبر.

ولكن كيف أصبح «تولستوي» يشعر بنفسه على هذا النحو؟ ربما كان العامل الأول في إحساسه بالعظمة هو مولده.

«تولستوي» من مواليد سنة ١٨٢٨م مثل «إبسن». ولكنه كان من سلالة طبقةٍ حاكمة في بلد كبير سوف يحتفظ على مدى الثلاثين سنة التالية بنمط من العبودية يعرف ﺑ «القنانة».

وفي ظل ذلك النظام كانت أُسر الأقنان (الرجال والنساء والأطفال) مقيدة بحكم القانون بالأرض التي تفلحها، وكانت ملكيتهم تنتقل مع اللقب. وعندما أُلغي هذا النظام في سنة ١٨٦١م كانت عائلات بعض النبلاء تمتلك أكثر من مائتَي ألف قن، ولكن «آل تولستوي» لم يكونوا على هذا القدر من الثراء. كان والد «تولستوي» وجَدُّه من المبذرين، وكان الأب قد أنقذ نفسه بالزواج من ابنة الأمير «فولكونسكي» وكانت فتاة عادية إلا أن أهلها كانوا من أعلى طبقة شاركت في تأسيس المملكة وكانوا على نفس المستوى الاجتماعي لآل «درومانوف» عندما ظهرت أسرتهم في سنة ١٦١٣م، كان جد «تولستوي» لأمه كبير القادة لدى الإمبراطورة «كاترين»، كما كان مهر أمه يتضمن ضيعة «ياسنايا بوليانا»، بالقرب من «تولا»، وقد ورثها «تولستوي» عنها بما فيها من ٤٠٠٠ فدانٍ وما عليها من ٣٣٠ قنًّا.

في شبابه لم يكن «تولستوي» يفكر كثيرًا في المسئوليات التي انتقلت إليه، وباع بالفعل أجزاءً من الضيعة لتسديد ديون القمار، لكنه كان فخورًا — وفي الحقيقة مغرورًا — باللقب وبأصله الذي كان يؤهله للدخول إلى الصالونات الراقية، كما كان يروع أصدقاءه الأدباء بتكلُّفه وتنفجه. كتب «تورجنيف»: «لا أستطيع أن أفهم سر ذلك التعلق الغريب بطبقة النبلاء البائسة.» أما «نكراسول» فيقول: «كان يثير اشمئزازنا جميعًا.»5 وكانوا مستائين كلهم من الأسلوب الذي يحاول أن يحصل به على أفضل ما في العالمين؛ المجتمع الراقي والبوهيمية.
وكان «تورجنيف» يسأل بغضب: «لماذا تجيء إلى هنا بيننا؟ هذا ليس مكانك، اذهب إلى أميرتك.» وعندما تقدم به العمر تخلى عن مظاهر البهرجة الكاذبة لطبقته، ولكن بدلًا منها أصبح في حالة من الجشع للأرض والذي تعمق مستخدمًا مكاسبه الأدبية لشراء المزيد من الأراضي، وكان يكدس هكتارًا على هكتار، وعندما جاءت اللحظة ليقرر التخلي عنها لم يكن يملكها فقط وإنما يحكمها. كانت روحه سلطوية ونابعة مباشرة من لقب وراثي يملك الأرض والأرواح. كتب ابنه «إيليا» يقول: «كان العالم مقسومًا إلى جزأين، أحدهما يتكون منا والثاني من كل الآخرين. كنا نوعًا خاصًّا من البشر، والآخرون ليسوا على نفس المستوى. كان (والدي) مسئولًا إلى حد كبير عن تلك الغطرسة التي لا مبرر لها، والاحترام الزائد للنفس الذي غرسه في نفوسنا ذلك النمط من التنشئة والذي وجدت أن من الصعب تحرير نفسي منه.»6 وحتى النهاية كان «تولستوي» يؤمن بأنه وُلد ليحكم على نحوٍ أو آخر. كتب «جوركي»: «في عمره المتقدم ظل هو السيد، العقل، متوقعًا أن تطاع رغباته فورًا.»

ومع رغبته الأساسية في السيطرة لم يكن مستعدًّا لقبول أي سيطرة عليه من الآخرين، كانت إرادته صلبة وساعدت الظروف على تقويتها. مات والداه وهو صغير، أشقاؤه الثلاثة كانوا ضعفاء، سيئي الحظ منغمسين في الملذات، أما هو فقد ربته عمته «تاتيانا»، وعمة أخرى فقيرة، بذلت كل ما تستطيع لكي تعلمه الواجب وعدم الأنانية ولكن لم يكن لها أي سلطان عليه.

كتاباته عن سنواته الأولى والطفولة، ومذكراته تضلل القارئ بأمانتها الظاهرية مثل كتابات «روسو» التي تخفي أكثر مما تظهر. هكذا يصف كيف ضربه معلم قاسٍ هو «مسيو دي سان توماس»: «أحد أسباب خوفي وكرهي لكل صور العنف طوال حياتي.»7 وفي الحقيقة فإنه كانت هناك بما في ذلك طبيعته الخاصة العنيفة التي لم تسبب له أي إزعاج حتى سنٍّ متأخرة. وبالنسبة ﻟ «سان توماس» فقد أخذ «تولستوي» أفضل ما فيه عندما كان في التاسعة، أما بعد ذلك فقد كانت حياته غير منتظمة كما اختار لها. في المدرسة كان يقرأ ما يريد ويعمل عندما يحب (وبجد غالبًا)، في الثانية عشرة كان يكتب الشعر، في السادسة عشرة ذهب إلى جامعة «كازان» على «الفولجا» ودرس اللغات الشرقية لبعض الوقت. كان ينوي العمل بالسلك الدبلوماسي، بعد ذلك درس القانون، في التاسعة عشرة ترك الجامعة وعاد إلى «ياسنايا بوليانا» ليدرس بمفرده. كان يقرأ الأعمال الروائية الجديدة: «دوكوك»، «دوماس»، «إيوجين سو»، وقرأ «ديكارت»، وقبل ذلك كله «روسو»، وفي نواحٍ كثيرة مهمة كان تلميذًا ﻟ «روسو» بعد وفاته، وفي نهاية حياته كان يقول إن «روسو» كان له أكبر الأثر عليه، وأكثر من أي شخص آخر باستثناء مسيح العهد الجديد. كان يرى في «روسو» روحًا صديقة وذاتًا ضخمة أخرى واعية بخيرٍ غير محدود، شغوفة بنقله إلى الآخرين، ومثل «روسو» علَّم «تولستوي» نفسه بنفسه، وبكل الكبرياء والقلق وحساسية الذهن لدى العصاميين، مثل «روسو» أيضًا جرب أشياء كثيرة قبل أن يستقر على العمل ككاتب. جرب العمل الدبلوماسي، القانون، الإصلاح التربوي، الزراعة، الجندية، الموسيقى.
وجد «تولستوي» مهنته بالصدفة عندما كان يعمل ضابطًا متدربًا في الجيش في عام ١٨٥١م وكان في الثانية والعشرين. ذهب إلى القوقاز حيث كان شقيقه «نيكولاي» في الخدمة العاملة، ولم يكن من سبب لذهابه إلى هناك سوى أن يجد شيئًا يشغل به وقته ويحصل على بعض الميداليات التي تفيده عندما يظهر بها في الصالونات. قضى في الجيش حوالي خمس سنوات … أعمال قتالية في الجبال الحدودية ثم في القرم ضد البريطانيين والفرنسيين والأتراك. كانت لديه ميول وعجرفة إمبريالي روسي، وعند قبوله في الجيش وتعيينه في بطارية مدفعية كتب إلى شقيقه «سيرجي»: «سوف أساعد بكل قوتي وكل مدافعي على تدمير اللصوص والمتمردين الآسيويين.»8

وفي الواقع فإنه لم ينكر إمبرياليته الروسية ولا الروح الشوفينية ولا الاقتناع بأن الروس كانوا جنسًا خاصًّا ذا سمات أخلاقية فريدة (متمثلة في الفلاح) ودور إلهي يؤدونه في الحياة.

كانت تلك المعتقدات البسيطة الكامنة في نفوس رفاقه الضباط، وكان «تولستوي» يعبر عنها، ولكنه كان يشعر بأنه مختلف في أشياء أخرى. كتب في يومياته: «مرة واحدة وإلى الأبد، لا بد من تعويد النفس على فكرة أنني استثناء، إما لأنني سابق زمني أو لأن لي طبيعة متنافرة لا يمكن أن تتأقلم أو تهدأ.»9 أما رأي الجيش فيه فكان مختلفًا كان البعض يرونه متواضعًا والبعض الآخر يرى فيه «شعورًا بالأهمية والرضا الذاتي لا يمكن فهمه».10
وكان الجميع يلاحظ نظراته المتوحشة العنيدة وعينيه الممتلئتَين بالرعب أحيانًا، لدرجة أنه كان يمكن أن يحدق في وجه أي شخص فيصيبه بالإذعان! لا أحد ينازعه شجاعته سواء في العمل أو خارجه، وكانت تلك سمات إرادته القوية. عندما كان طفلًا أجبر نفسه على ركوب الخيل وتغلب على خجله، علَّم نفسه الصيد بما في ذلك صيد الدببة الخطر، ونتيجة للامبالاته وغطرسته كاد أن يفقد حياته في أول رحلة صيد للدببة. في الجيش كان شجاعًا تحت النيران ورُقِّي بسبب ذلك إلى ملازم أول، ولكن كل جهوده للحصول على ميدالية أو نوط باءت بالفشل رغم أنه رُشح لذلك ثلاث مرات؛ لأن السعي للحصول على مثل تلك الأوسمة غير مقبول في الجيوش وسرعان ما يُكتشف. والحقيقة أن «تولستوي» لم يكن ضابطًا جيدًا أو مقبولًا. كان يفتقر إلى التواضع والرغبة في الطاعة أو التعلم وكذلك إلى التضامن مع زملائه. كان يميل إلى الانفراد بنفسه وكان من الممكن أن يترك الجبهة دون إذن ودون أن يخبر أحدًا عندما لا يكون هناك شيء يمكن أن يستفيد منه، كتب قائده: ««تولستوي» يحب رائحة البارود ولكن بشكلٍ متقطع.» كان يميل إلى تجنب المتاعب والمصاعب العرضية للحرب، يسافر إلى مناطق مختلفة مثل سائح، ولكن بمجرَّد أن يسمع صوت إطلاق النار يظهر على أرض المعركة فجأة، ثم يختفي عندما تنتهي، باختياره وعندما يريد.11

في تلك الفترة ودائمًا كان «تولستوي» يحب الدراما، كان على استعداد أن يضحي بالراحة والمتعة، حتى بالحياة، بشرط أن يتم ذلك كحركة مسرحية يلاحظها الجميع. عندما كان طالبًا صنع لنفسه كيسًا للنوم يشبه العباءة لكي يؤكد شجاعته الروسية، وكانت تلك حركة مسرحية أثارت التعليقات، وفي الجيش كان على استعداد أن «يؤدِّي» بدل أن «يخدم». المتاعب والمصاعب الروتينية وكل جوانب الحياة العسكرية التي لم يكن لها قيمة في تحقيق شهرة أو لفت الأنظار لم تكن تثير اهتمامه. ولذلك كانت: بطولته، فضيلته، قداسته، كلها كانت أمورًا للمسرح العام وليست من أجل الحياة اليومية الروتينية التي لا يلحظها أحد أو يهتم بها.

في جانبٍ واحد فقط كان عمله في الجيش بطوليًّا. أثناء الخدمة جعل من نفسه كاتبًا قويًّا، وواضح من تأمل الأحداث أنه وُلد كاتبًا. وواضح أيضًا من كتاباته الوصفية بعد ذلك أنه كان ملاحِظًا جيدًا للطبيعة والبشر، ومنذ وقتٍ باكر، وبدقة تفصيلية لم يتفوق عليها أحد. ولكن الكتَّاب بالفطرة لا يصبحون كتَّابًا بالضرورة. أما النقطة التي التقت عندها موهبتا «تولستوي» المتميزتان فكانت مشاهدته لجبال القوقاز وهو في طريقه للالتحاق بالجيش. إن روعة المشهد لم تُثر فيه فقط شهيته الذهنية، وإنما أيقظت فيه خاصيته الثالثة المتميزة وهي الإحساس بعظمة الله ورغبته في أن يتحد معها على نحوٍ ما.

بعد وقت قصير كان يكتب «الطفولة»، ثم قصصًا واسكتشات عن الحياة في الجيش: «الغارة»، «القوزاق»، «قطع الأخشاب»، وثلاثة من «اسكتشات سيباستابول»، «الصبا» جزء من الشباب، «صباح صاحب الأرض»، «ليلة الكريسماس».

أرسل «الطفولة» في يوليو ١٨٥٢م وحققت نجاحًا كبيرًا عندما نُشرت، بعد عشر سنوات لم يكن قد انتهى من «القوزاق»، «ليلة الكريسماس» لم يكملها، ومواد أخرى مثل الحملة ضد الزعيم الشيشاني «شامل»، احتفظ بها «تولستوي» لقصته الأخيرة الممتازة «الحاج مراد» التي كتبها في سنٍّ متأخرة. ولكن المدهش أن ذلك الكم الكبير من الأعمال كان يقدم على فترات متقاربة أثناء حياته في الجندية حتى في الجبهة، وفي نفس الوقت الذي كان يطارد فيه نساء القوقاز ويلعب القمار ويسكر؛ على حد تعبيره هو. ولا بد أن الدافع للكتابة كان قويًّا كما كانت الإرادة والصنعة. إلا أن ذلك الدافع القوي كان متقطعًا، وهنا تكمن مأساة «تولستوي». كان أحيانًا يكتب بابتهاج وشعور بالزهو بقدرته على ذلك. كتب في أكتوبر ١٨٥٨م: «سوف أقدم نسيجًا لا يعرف أحدٌ أوله من آخره.» وفي بداية ١٨٦٠م كتب: «أكتب الآن شيئًا يأتيني طواعية كما لو كنت أتنفس، وأعترف بكل كبرياء أنه سوف يجعلني أنظر باحتقار إلى ما تصنعونه جميعًا.»12
ولكن هذا لا يعني أن الكتابة كانت عملية سهلة بالنسبة له، فقد كان يضع مقاييس عالية لنفسه وكان العمل صارمًا وشاقًّا، والجزء الأعظم من «الحرب والسلام» كتبه على الأقل سبع مرات. كما قام بالمراجعة وإعادة الكتابة أكثر من ذلك في «آنا كارينينا»، وكانت التغييرات ذات أهمية أساسية. وفي تلك المراجعات المتتالية نرى تحولات «آنا» من محظيةٍ كريهة في البلاط إلى البطلة التراجيدية التي نعرفها.13 ومن المعاناة الضخمة التي كان يتحملها «تولستوي» أثناء عمله يتضح أنه كان يعي ويسمع نداء الفنان بداخله. وهل كان من الممكن أن يكون غير ذلك؟ إنه يكتب أحيانًا أفضل من أي كاتب آخر في الوجود، ومن المؤكد أن أحدًا لا يستطيع أن يصور الطبيعة بمثل ذلك الصدق والشمول.
«العاصفة الثلجية» التي كتبها في سنة ١٨٥٦م، والتي تسجل موته الوشيك وسط عاصفة في طريق عودته من «القوقاز» إلى «ياسنايا» دليلٌ مبكر على أسلوبه القوي والمتمكن، الأمر الذي يتحقق مباشرة باختيار التفاصيل ودقتها المتناهية. إنه لا يلجأ إلى معان إضافية أو باطنة لا شعرًا ولا إيحاء. وهو كما يصفه «إدوارد كرانكشو» مثل الرسام الذي يحتقر الظلال وتقاطع الأضواء مستخدمًا الوضوح التام وجلاء الرؤية.14
كما يصفه ناقد آخر بمصوري عصر ما قبل «رافائيل»: أشكال، أنسجة، أصوات، ألوان، رائحة أحاسيس … كلها منقولة بشفافية ومباشرة.15 هنا مثالان، والنصان وصل إليهما «تولستوي» بعد مراجعات كثيرة، الأول «فرونسكي»، تلك الشخصية المنبسطة:

«جميل! رائع! قال لنفسه وهو يضع ساقًا على ساق ممسكًا بإحدى رجليه في يده. تحسس العضلة النابضة في ربلة الساق التي كدمها بالأمس عندما وقع.

استلذ الوجع الخفيف في ساقه القوية، استلذ الإحساس العضلي للحركة في صدره وهو يتنفس، اليوم البارد الصافي من أيام أغسطس الذي جعل «آنا» تشعر باليأس بدا بالنسبة له منعشًا.

كان كل ما يراه من نافذة العربة يبدو طازجًا ومبهجًا ومفعمًا مثله بالحياة، أسطح المنازل وهي تلمع تحت أشعة الشمس الغاربة، حواف الأسوار الحادة وزوايا المباني … حتى حقول البطاطا … كان كل شيء مثل منظر طبيعي جميل خرج للتو من تحت فرشاة فنان.»

وهذا «ليفن» وهو يطارد طائر «البكاسين» مع كلبه «لاسكا»:

«كان القمر قد فقد كل بريقه وبدا مثل سحابة بيضاء في السماء، لم تكن هناك نجمة واحدة، والبردي التي كانت فضية قبل ذلك تلمع الآن مثل الذهب، البرك الراكدة كلها مثل الكهرمان، زرقة الحشائش أصبحَت خضرة صفراء، استيقظ صقر واستقر فوق كومة من العشب الجاف وراح ينقل رأسه من جانب إلى آخر وهو ينظر باستياء نحو المستنقع. كانت الغربان تحلق فوق الحقل، وطفل عاري القدمين يقود الخيل نحو رجل عجوز خرج من تحت معطفه وراح يمشط شعره، وكان دخان البندقية الأبيض نهرًا من الحليب فوق خضرة العشب …»16
واضح أن طاقة الكتابة عند «تولستوي» كانت تنبع مباشرة من تبجيله للطبيعة، وأنه ظل محتفظًا بكلٍّ من الطاقة والدهشة — وإن كان بشكلٍ متقطع — حتى النهاية. في يومياته (١٩ يوليو ١٨٩٦م) يسجل مشاهدته لبقعة صغيرة من نبات الأرقطيون الشائك، كانت قد ظلت حية في أرض محروثة: «سوداء بفعل التراب ولكنها حية وحمراء في المنتصف، تحثني على الكتابة. إنها تؤكد الحياة إلى النهاية، وحدها في وسط الحقل بأكمله تؤكد ذلك على نحوٍ أو آخر».17 عندما كان «تولستوي» يرى الطبيعة بعينه الباردة المرعبة، وينقلها إلى كلمات بقلمه الدقيق ذي العيار الثقيل، كان أقرب ما يكون إلى السعادة أو السلام الروحي وبالقدر الذي كانت تسمح به شخصيته. ولكن للأسف لم تُشبع الكتابة وحدها رغباته. كانت لديه رغبة — بل شهوة — شديدة للسلطة، والسلطة التي كان يمارسها على شخصياته لم تكن كافية. وأحد الأسباب أنه لم يشعر بأنه جزء منهم، كانوا جنسًا آخر، نوعًا آخر. في بعض الأحيان فقط وفي شخصية «آنا» أكثر من غيرها كان يفرض نفسه بجهد عبقري في عقل الشخص الذي يصفه. وكونه يفعل ذلك بنجاح في مثل تلك الحالة يذكرنا بخطورة التعميم عن ذلك الرجل غير العادي. ولكنه — كقاعدة — يرى من الخارج، عن بعد، وفوق كل ذلك من أعلى. أقنانه، جنوده، فلاحوه، كلهم حيوانات مرسومة بذكاء. يصف الخيول — وكان لديه معرفة جيدة بها — بنفس الطريقة وبنفس الروح. إنه يرى من أجلنا وهو يأخذنا عبر مساء معركة كبيرة كما لو كان يراقبها من كوكب آخر. هو لا يشعر من أجلنا وإنما نحن الذين نشعر نتيجة نظرته الانتقائية وبالتالي يتحكم في مشاعرنا، فنحن في قبضة روائي عظيم ولكنه هو نفسه لا يشعر، يظل خالي البال، بعيدًا، بمعزل، كأنه معتصم بجبل الأولب.

مقارنةً بمعاصره الأكبر سنًّا «ديكنز» ومعاصره القريب «فلوبير»، وكلاهما كان يتحرك على كوكب الخلق العالي؛ فإن «تولستوي» لم يستثمر سوى القليل نسبيًّا من رأس ماله العاطفي في أعماله الروائية. كان لديه — أو لعله كان يظن أن لديه — أشياء أخرى أفضل يستغله فيها. نحن نفكر ﺑ «تولستوي» كروائي محترف، وبالطبع فإن ذلك صحيح على نحوٍ ما. في كلٍّ من عملَيه الرئيسيين، مارس ما لا يمكن أن يُسمَّى إلا ﺑ «العبقرية»؛ تنظيم الكثير من التفاصيل وتوظفيها في نسق موضوعات كبرى بحيث يصل إلى غايتها.

ولأنه كان فنانًا حقيقيًّا لم يكرر نفسه. «الحرب والسلام» تغطي مجتمعًا بكامله. «آنا كارنينا» تركز على جماعة من الناس عن كثب. والكتابان جعلا منه بطلًا قوميًّا، وحققا له شهرة عالمية وثروة وسمعة طيبة عن الحكمة الأخلاقية، ربما لم تتحقق لروائي آخر. ولكنه في معظم حياته لم يكن يكتب أعمالًا روائية بالمرة. كانت هناك ثلاث فترات خلاقة: القصص المبكرة في خمسينيات القرن (التاسع عشر)، السنوات الست التي قضاها في كتابة «الحرب والسلام» في ستينيات القرن (التاسع عشر)، ثم إبداع «آنا كارنينا» في السبعينيات من نفس القرن … وبقية حياته الطويلة كان يصنع أشياء أخرى لها في نظره الأولوية الأخلاقية. في ظل النظام القديم كان الأرستقراطيون يجدون صعوبة في التخلص من فكرة أن الكتابة كانت من أجل مَن هم أقل منهم شأنًا.

«بايرون» مثلًا لم يكن يعتبر الشعر أبدًا أهم أعماله، رغم أنه كان من أجل مساعدة شعوب أوروبا لتحصل على استقلالها. كان يشعر بأنه هناك لكي يقود؛ كما يناسب طبقته ويليق بها، وهكذا كان «تولستوي» أيضًا. كان يشعر بأنه عليه أن يفعل ما هو أكثر من القيادة … النبوءة … وأحيانًا أن يقوم بدور المسيح. ماذا كان يفعل إذن عندما كان يقضي وقته في الكتابة؟ لقد أخبر مرةً الشاعر «فت»: «أن كتابة القصص أمر سخيف ومخجل» … لاحظ الصفة الثانية … «مخجل»! كانت تلك نغمة متقطعة، أن الفن سوء استخدام شنيع للمواهب التي منحها الله للبشر، زعق بها «تولستوي» بطريقةٍ أوضح عندما انتابته حالة هجوم على المؤسسات التقليدية. ولذلك فإنه من وقت لآخر وعلى نحوٍ كان يتزايد مع تقدم العمر كان يجنح إلى اعتزال الفن ويمارس قيادة روحية وأخلاقية. «تولستوي» الذي كان يفكر في نفسه أكثر من أي إنسان آخر حتى «روسو» الذي كتب عن نفسه كثيرًا، والذي يتمحور معظم أدبه حول ذاته على نحوٍ أو آخر كان ينقصه — وإلى درجةٍ كبيرة — معرفته بذاته.

ككاتب كان «تولستوي» مؤهَّلًا بامتياز، وعندما كان يكتب كان يصبح أقل خطورة بالنسبة لمَن حوله وللمجتمع ككل. ولكنه لم يكن يرغب في أن يكون كاتبًا، وبالأحرى عن أمور دنيوية أو أرضية. كان بدلًا من ذلك يريد أن يتنبأ … أن يؤسس دينًا وأن يغير العالم … وكلها مهام لم يكن مؤهلًا لها … لا أخلاقيًّا ولا فكريًّا. ولذلك ظلت هناك روايات عظيمة لم يكتبها، ولكنه قاد أسرته — أو لعله جر نفسه وجرها — إلى بَرِّية مرتبكة مربكة.

كان هناك سبب أبعد يجعل «تولستوي» يشعر بأنه منذور لمهام أخلاقية كبرى. كان مثل «بيرون» يعرف أنه آثم، ولكنه على خلاف «بيرون» كان يشعر بالذنب لذلك. ذنب «تولستوي» كان أداة انتقائية وغير دقيقة، فبعض سقطاته، حتى جرائمه الناتجة عن ذاته المتعجرفة لم يكن يراها خطايا بالمرة … ولكنها كانت قوية، وللتأكيد فقد كان في شبابه الكثير الذي يُشعره بالذنب. يبدو أنه كان قد تعلم لعب القمار مبكرًا وبإسراف شديد في «موسكو»، «وسان بطرسبورج»، في ١٨٤٩م، كتب إلى شقيقه «سيرجي» في ١ مايو: «جئت إلى «سان بطرسبورج» دون سبب مهم، ولم أفعل هنا شيئًا مهمًّا، كل ما حدث أنني بددت مالًا كثيرًا ووقعت في الدين.» وطلب من «سيرجي» أن يبيع جزءًا من الضيعة فورًا: «أنا في حاجة ماسة الآن إلى ٣٥٠٠ روبل إلى أن يصلني ثمن الأرض، إنك تستطيع أن ترتكب هذا النوع من الحماقة مرة واحدة في الحياة … وها أنا ذا قد دفعت الثمن.»18 والحقيقة أنه استمر في لعب القمار من وقت لآخر وأحيانًا كان ينغمس في ذلك بشدة انغماسًا يؤدِّي إلى كوارث. حدث ذلك في السنوات العشر التالية وكان يبيع معظم أراضيه وتكدس عليه الديون للأقارب والأصدقاء والتجار. ومعظم تلك الديون لم يسدَّد.

كان يلعب القمار وهو في الجيش. في مرحلةٍ ما فكر في إصدار جريدةٍ باسم «الجريدة العسكرية»، وباع الجزء الرئيسي من «ياسنايا بوليانا» لتمويل مشروعه، وعندما وصله الثمن (٥٠٠٠ روبل) خسره في القمار على الفور.

وبعد أن ترك الجيش وسافر إلى أوروبا عاد إلى القمار … وإلى نفس النتيجة … الخسارة! كتب الشاعر «بولونسكي» الذي شاهده في «شتوتجارد» في يوليو ١٨٥٧م: «ولسوء الحظ جذبته لعبة الروليت بشدة … كان يميل دائمًا إلى اللعب، رأيته يودع ثلاثة آلاف فرانك ويغادر المكان بعد أن خسر كل شيء.» «تولستوي» نفسه كتب في يومياته: «روليت حتى السادسة، خسرت كل شيء، واقترضت من «تورجنيف»، وخسرت.»19

بعد ذلك بسنوات كانت زوجته تقول إنه بالرغم من شعوره بالذنب للعب القمار على ذلك النحو — وكان قد أقلع عن ذلك — إلا أنه لم يشعر بأي ندم أو تأنيب ضمير لعدم تسوية الديون التي تراكمت عليه في تلك الفترة، وكان بعضها لأشخاص فقراء.

كان «تولستوي» يشعر بالذنب، وبشدة، بسبب رغباته الجنسية وإشباعها؛ رغم أن تأنيبه للنفس هنا أيضًا كان انتقائيًّا، وكان متسامحًا مع نفسه. كان يعتقد أن غريزته الجنسية جامحة. من يومياته: «لا بد من امرأة، الرغبة الحسية لا تترك لي لحظة سلام.» (٤ مايو ١٨٥٣م).

«شهوة رهيبة لدرجة المرض الجسماني.» (٦ مايو ١٨٥٦م).20 في نهاية حياته أخبر كاتب سيرته «آيلرمود» أن رغبته كانت قوية لدرجة أنه لم يكن قادرًا على الاستغناء عن الجنس حتى ما بعد الثمانين. في شبابه كان شديد الخجل مع النساء ولذلك كان يلجأ إلى بيوت الدعارة، الأمر الذي كان يثير اشمئزازه وأدى إلى النتائج المعروفة.
في مارس ١٨٤٧م سجل في مفكرته أنه كان يعالَج من مرض «السيلان الذي حمله من المصدر المعتادة»، وفي رسالة إلى شقيقه «نيكولاي» في ١٨٥٢م يكتب عن إصابة أخرى: «المرض التناسلي زال، ولكن آثار العلاج بالزئبق تسبب لي آلامًا مبرحة.» ولكنه ظل على علاقة بالداعرات اللائي كن يتنوعن بين الغجر والقوزاق وبنات الفلاحين كلما تيسر ذلك. النغمة المتكررة التي يكتب بها عنهن في يومياته مقززة وممزوجة بالكراهية: «شيء ما قرنفلي اللون … فتحت الباب الخلفي، جاءت، لا أستطيع الآن أن أنظر إليها. منفرة … قذرة … كريهة … تجعلني أخالف القواعد التي أسير عليها.» (١٨ مايو ١٨٥٣م)، وفي اليوم التالي يتخذ قرارًا جيدًا، ولكن «البغايا تمنعنني» (٢٦ يونيو ١٨٥٣م)، وبعد زيارة لأحد بيوت الدعارة يسجل في أبريل ١٨٥٦م: «شيء مروع ولكنها المرة الأخيرة بكل تأكيد.» ومرة أخرى يكتب «شيء مقزز … بنات … موسيقى سخيفة … بنات … حرارة. دخان سجائر … بنات … بنات … بنات …» «تورجنيف»، الذي كان «تولستوي» يستخدم منزله آنذاك كفندق، يعلق على ذلك في سنة ١٨٥٦م: «نوبات شرب، غجر، لعب ورق طوال الليل … ثم ينام كالموتى حتى الثانية بعد الظهر.»21
عندما كان «تولستوي» يقيم في الريف خاصة في ضيعته كان يختار من بين بنات الأقنان مَن يُثرن فيه أكثر من مجرَّد الشهوة. كتب فيما بعدُ عن بنات «ياسنايا بوليانا»: «أتذكر الليالي التي قضيتها هناك، أتذكر جمال وشباب «دنيا شاه»، أتذكر جسدها القوي الممشوق.»22

أحد دوافعه للسفر إلى أوروبا في سنة ١٨٥٦م كان الهرب من إغراء واحدة من بنات الأقنان. كان يعرف أن والده كانت له علاقة بها وأنها ولدت ابنًا كان يعامل كأحد أقنان الضيعة ويعمل في الإسطبل وأصبح حوذيًّا فيما بعد.

ولكن «تولستوي» بعد عودته لم يستطع أن يكف يده عن النساء، خاصة عن واحدة متزوجة كان اسمها «أكسينيا»، في مايو ١٨٠٨م يسجل في يومياته: «اليوم، في الغابة الكبيرة القديمة … أنا أحمق … وحش … جسدها البرونزي وعيناها، أحب كما لم أحب من قبل، لا أفكر في أي شيء آخر.»23

وكانت البنت «نظيفة … مقبولة الشكل … عيناها واسعتان سوداوان، صوتها عميق، رائحتها طازجة، صدرها عامر وقوي ويرفع صدرية المريلة»، ومن المحتمل أن تكون «أكسينيا» قد ولدت ابنًا سمي «تيموفي بازيكن». أحضرها «تولستوي» لتعمل خادمة بالمنزل وكان يسمح للطفل باللعب تحت قدميها لبعض الوقت، ولكنه كان مثل «ماركس» و«إبسن»، ووالده لم يعترف بأن الطفل كان ابنه أو يعره أي اهتمام، الملاحظ أيضًا أنه في الوقت الذي كان يتكلم فيه عن أهمية وضرورة تعليم الفلاحين، وفي الوقت الذي أدار فيه المدارس لتعليم أطفالهم في ضيعته، لم يبذل أي جهد لكي يضمن لابنه غير الشرعي تعلم القراءة والكتابة، ربما يكون قد خشي من الدعاوى فيما بعد، ويبدو أنه كان قاسيًا في عدم الاعتراف بحقوق الأبناء غير الشرعيين حتى لا يكشف سلوكه.

أما «تورجنيف» فقد اعترف بابنته غير الشرعية وتحمل مسئولية تربيتها بطريقةٍ لائقة.

وفي مناسبةٍ ما، أهان «تولستوي» البنت المسكينة ملمحًا إلى مولدها مما أدى إلى شجارٍ حاد بينه وبين «تورجنيف» كاد أن ينتهي بمبارزة.24 وهكذا تُرك «تيموفي» ابن «تولستوي» ليعمل في الإسطبل، ثم بعد ذلك خفض إلى مرتبة عامل في الغابة بسبب سوء سلوكه. ولا توجد أي معلومات عنه بعد عام ١٩٠٠م عندما كان في الثالثة والأربعين، ولكننا نعرف أنه كان صديقًا ﻟ «ألكس» بن «تولستوي» الذي جعله حوذيَّه (سائق مركبته).
كان «تولستوي» يعرف أنه يمارس سلوكًا خاطئًا بلجوئه إلى العاهرات وإغوائه لبنات الفلاحين، وكان يؤنب نفسه لتلك المخالفات، ولكنه كان يميل إلى لوم النساء أكثر مما يلوم نفسه. كن جميعًا بالنسبة له حواء المغوية، وقد لا يكون من المبالغة أن نقول إنه رغم احتياجه الجسدي للنساء طوال حياته — وربما بسبب ذلك — كان لا يثق بهن وربما يكرههن. أحيانًا كان يرى أن إبداء الواحدة منهن لرغبتها الجنسية أو لمؤهلاتها الجنسية شيء مقززٌ، كتب في آخر العمر يقول: «منظر امرأة وصدرها عارٍ كان دائمًا شيئًا مقززًا بالنسبة لي حتى في شبابي.»25
كان «تولستوي» بطبيعته يميل إلى النقد العنيف، وربما كان متطهرًا. فإذا كانت رغبته وميوله الجنسية تزعجه فإن ظهورها في الآخرين كان يثير استياءه الشديد. كتب سنة ١٨٧٥م وهو في «باريس»، وكان في ذلك الوقت شديد الانهماك في علاقاته النسائية: «في الشقة المفروشة التي كنت أسكنها، كان هناك ٦٣ خادمة، ١٩ منهن كن غير منتظمات … كان ذلك شيئًا مقززًا للغاية.»26 كانت الخطيئة الجنسية شرًّا مستطيرًا … ومصدرها النساء، كتب في ١٦ يونيو ١٨٤٧م وكان في التاسعة عشرة: «الآن سوف أضع لنفسي القاعدة التالية: سوف أعتبر صحبة النساء شرًّا اجتماعيًّا لا بد منه وأحاول الابتعاد عنهن قدر الإمكان. مَن في الحقيقة سبب الميل الحسي والانغماس والعبث وكل الخطايا الأخرى بداخلنا إن لم يكن النساء؟ ومن الملوم لفقداننا صفاتنا الطبيعية من الشجاعة والإخلاص والتعقل والإنصاف إن لم يكن النساء؟»
وفي الحقيقة فإن الشيء المؤسف في «تولستوي» أنه ظل محتفظًا بهذه النظرة الطفولية — الشرقية في جزء منها — إلى المرأة حتى آخر العمر. وعلى عكس جهوده لتصوير «آنا كارنينا»، يبدو أنه لم يبذل أي محاولة جادة لفهم عقل المرأة. في الحقيقة لن يعترف بأن المرأة يمكن أن تكون جادة وناضجة وكائنًا أخلاقيًّا. في سنة ١٨٧٨م كتب، وكان في السبعين: «المرأة بوجهٍ عام غبية، ولكن الشيطان يعيرها عقلًا عندما تعمل في خدمته وحينئذ تحقق معجزات في التفكير وبُعد النظر والجلد لتصنع شيئًا مؤذيًّا.» أو عندما يكتب: «من المستحيل أن نطلب من المرأة أن تقيم مشاعرها في الحب على أساس أخلاقي، إنها لا تستطيع أن تفعل ذلك لأنها لا تمتلك شعورًا أخلاقيًّا حقيقيًّا يعلو كل المشاعر الأخرى.»27
وكان يعارض بشدةٍ آراء تحرير المرأة التي جاءت في كتاب «جون ستيوارت مل»: «تبعية النساء»، ويقول إنه: «حتى المرأة غير المتزوجة يجب أن تُمنع من ممارسة مهنة.» وكان يعتبر الدعارة واحدة من المهن القليلة «الشريفة» المناسبة للنساء. والجزء الذي فيه الدعارة جدير بالاقتباس: «هل نسمح بالاتصال الجنسي غير الشرعي كما يريد كثير من الليبراليين؟ مستحيل! في ذلك سيكون خراب الحياة الأسرية. ولمواجهة هذه الصعوبة فإن قانون التطور قد صنع جسرًا ذهبيًّا، هو «المومس»، تخيل «لندن» دون ما فيها ٧٠٠٠٠ مومس! ماذا يمكن أن يحدث للأخلاق والاحترام، كيف يمكن أن نحافظ على حياة الأسرة بدونهم؟ كم امرأة أو فتاة ستظل عفيفة؟ بالعكس، أنا أعتقد أن المومس ضرورية من أجل الحفاظ على كيان الأسرة.»28

المشكلة مع «تولستوي» أنه بينما كان يؤمن بالأسرة فإنه لم يؤمن حقيقة بالزواج، ولا بالزواج المسيحي — مهما كانت الظروف — بين كبارٍ متساوين في الحقوق والواجبات. كان أكثر الناس تنافرًا مع مؤسسة من هذا النوع. فتاة يتيمة من المنطقة كان عمرها عشرين عامًا واسمها «فاليريا أرسينيف» هربت من ذلك المصير، في نهاية العشرينيات من عمره يتصور علاقة بها واعتبر نفسه خطيبها، كان يحب الجوانب الطفولية في شخصيتها، ولكن جانب الأنوثة فيها كان يصده. والحكاية واضحة في يومياته ورسائله «للأسف لم يكن بها عظم ولا حرارة، كانت كتلة من البودنج»، ولكن «ابتسامتها فيها خنوع لدرجةٍ مؤلمة»، كانت «رديئة التعليم، جاهلة وغبية بالفعل … بدأت أخذها بالإبرة بقسوةٍ ولكنها كانت تبتسم والدموع في عينيها»، وبعد ثمانية شهور من المعاملة القاسية استفزها فأرسلت إليه خطابًا غاضبًا اتخذه ذريعة للانفصال. «نحن مختلفان وبعيدان جدًّا عن بعضنا، ولن يجلب لنا الحب والزواج سوى البؤس.»

كتب إلى عمته: «لقد تصرفت بطريقةٍ سيئة وأدعو الله أن يغفر لي، ولكن الخطأ إصلاحه مستحيل.»29

ثم وقع اختياره أخيرًا وهو في الرابعة والثلاثين على فتاة في الثامنة عشرة هي «سونيا بهرز»، ابنة أحد الأطباء.

لم يكن «تولستوي» صيدًا ثمينًا، لم يكن غنيًّا، كان مقامرًا معروفًا ودائمًا في مشاكل مع السلطات لإهانته للقاضي المحلي. قبل سنوات كان قد وصف نفسه بأن له «أقبح وأقسى ملامح، عينان رماديتان صغيرتان، غباء أكثر من الذكاء، وجه فلاح، يدان وقدمان كبيران»، والأكثر من ذلك أنه كان يكره أطباء الأسنان ولا يحب زيارتهم أبدًا، وكان قد فقد كل أسنانه تقريبًا في سنة ١٨٦٢م. كانت «سونيا» فتاة عادية، غير ناضجة، طولها خمسة أقدام لا أكثر، وبعد منافسة أختيها استطاعت أن تحصل عليه، تقدم رسميًّا عن طريق رسالة، ويبدو أنه كان في شك من قبوله حتى آخر دقيقة.

كان الزفاف نذيرًا بكارثة محققة. في الصباح اندفع إلى شقتها: «جئت لأقول ما زال لدينا الكثير من الوقت … كل شيء يمكن أن يؤجل.» وانفجرت باكية. جاء متأخرًا عن حفل الزفاف وكان قد حزم ملابسه. وبكت ثانية. بعد تناول العشاء وبعد أن غيرت ملابسها استقلا عربة «دورمييز» تجرها ستة جياد. وبكت مرة أخرى. لم يفهم «تولستوي»؛ مع أنه كان يتيمًا، وراح يصرخ: «إن كان فراقك لأسرتك يعني كل هذا الحزن بالنسبة لك فمعناه أنك لن تحبيني كثيرًا.» كان يحاول أن يمسك بيدها وكانت تصده، استأجر جناحًا في فندق «بيروليفو»، كانت يداها ترتعشان وهي تصب له الشاي من الساموفار، حاول مرة أخرى أن يمسك بيدها وكانت تصده أيضًا، مفكرته تقول: «كثيرة البكاء، في العربة، تعرف كل شيء وأن الحكاية سهلة، ولكنها خائفة.» كان يظنها «حالة مرضية»، بعد أن مارس معها الجنس أخيرًا وبعد أن استجابت (كما تصور)، أضاف في يومياته: «سعادة لا توصف، لا أتصور أن ذلك يمكن أن يدوم إلى ما لا نهاية.»30 وبالطبع لم يدم! حتى أكثر الزوجات خنوعًا كان لا بد أن يجدن الزواج من إنسان مثله مفرط في حب ذاته أمرًا صعب الاحتمال. كان لدى «سونيا» من العقل والروح ما يكفي لمقاومة تلك الإرادة الساحقة، على الأقل من وقت لآخر، ولذلك كان زواجهما من أسوأ الزيجات التي عرفها الجنس البشري (ومن أفضلها تسجيلًا). بدأ «تولستوي» زواجه بخطأ في التقدير كان مدمرًا. من سمات المثقف الاعتقاد بأن الأسرار، خاصة في الأمور الجنسية تعتبر ضارة، وأن كل شيء يجب أن يكون على المكشوف، لا بد أن يكشف الغطاء عن كل ما في الصندوق! والزوج والزوجة يجب أن يقولا لبعضهما كل شيء، وهنا يكمن البؤس غير الضروري. بدأ «تولستوي» سياسته في المصارحة بإصراره على أن تقرأ زوجته يومياته التي كان يدونها منذ ١٥ سنة، وفزعت عندما وجدتها — وكانت حينذاك في شكلها الأصلي دون أي حذف — تحتوي على تفاصيل عن حياته الجنسية بما في ذلك زياراته لبيوت الدعارة والمواخير وممارسة الجنس مع المومسات والغجر وبنات الأقنان، وحتى مع صديقات أمها. كان أول رد فعل لها: «أبعد هذه السجلات المخيفة عني، لماذا تعطيها لي؟» بعد ذلك قالت له: «نعم! سامحتك. ولكنها مرعبة.» وهذه العبارة منقولة من يومياتها التي كانت تدونها منذ أن كانت في الحادية عشرة. كان من سياسة «تولستوي» المفتوحة أن يدون كلٌّ منهما يومياته وأن يكون له حق الاطلاع على ما يكتبه الآخر، وهي صيغة أكيدة للشك المتبادل … وللبؤس أيضًا.

الجانب الجسدي في زواج «تولستوي» ربما لم يشفِ «سونيا» من صدمتها الأولى عندما عرفت أن زوجها (وكما رأت) كان وحشًا جنسيًّا. بالإضافة إلى ذلك فإنها قرأت مذكراته بأساليب لم يتوقعها. فقد لاحظت السقطات التي حرص على إخفائها (كما كان يظن)، اكتشفت «سونيا» مثلًا أنه لم يسدد ديونه التي اقترضها بسبب القمار. لاحظت أنه لم يخبر النساء اللائي مارس معهن الجنس بمرضه الجنسي والذي كان ما يزال مصابًا به. إن الأنانية والحب المفرط للذات اللذين تكشف عنهما اليوميات لا تخفى على القارئ قوي الملاحظة (ومن أقوى من الزوجة ملاحظة؟!) وكانت أكثر وضوحًا لها عن نفس المؤلف. علاوة على ذلك فإن حياة «تولستوي» الجنسية التي وصفها بدقة في يومياته أصبحَت الآن ممزوجة في ذهنها برعب الاستسلام لرغباته وعواقبها النهائية المتمثلة في مرات الحمل المؤلمة والمتكررة، حملت «سونيا» ١٢ مرة في ظرف ٢٢ سنة. وفي تتابع سريع فقدت طفلها «بيتيا» بينما كانت حاملًا في «نيكولاي» الذي مات بدوره في نفس العام الذي وُلد فيه.

«فافارا» وُلدت قبل موعدها وماتت على الفور. «تولستوي» نفسه لم يقدم أي عون للتخفيف من مشاكل الحمل، لم يبدِ أي اهتمام ولو دون إحساس. أصر أن يحضر عملية ولادة ابنه «سيرجي» (استخدم ذلك فيما بعد من أجل مشهد في «آنا كارنينا») وانفجر غاضبًا عندما كانت «سونيا» لا تستطيع أن ترضعه رضاعة طبيعية، ومع استمرار عمليات الحمل والإجهاض أصبح استياء زوجته من مطالبة الجنسية واضحًا. كتب إلى صديق له: «لا شيء أصعب على رجل في صحة جيدة من زوجة مريضة.» بعد الزواج بوقت قصير توقف حبه لها ولكن مأساتها أن بقايا حبها له استمرَّت. في ذلك الوقت فضفضت في يومياتها: «لا شيء بداخلي سوى ذلك الحب المهين والنفسية السيئة وهذان الشيئان أصبحا سبب كل شقائي؛ لأن حالتي النفسية تتداخل مع حبي دائمًا. لا أريد سوى حبه وحنانه ولكنه لا يعطيهما. لقد تمرغ كل كبريائي في الوحل، ولست سوى دودة بائسة مسحوقة لا أحد يريدها … لا أحد يحبها، إنسانة عديمة القيمة. مرض يومي … وبطن كبيرة.»31
ومن الصعب أن نعتقد بقدر ما هو متوفر من دليل، أن ذلك الزواج كان محتملًا ذات يوم، خلال فترة هادئة نسبيًّا من عام ١٩٠٠م، وكان قد مر على زواجهما ٣٨ عامًا، كتبَت «سونيا» إليه: «أود أن أعبر لك شكري على السعادة الماضية التي منحتها لي، وعن أسفي لعدم استمرارها بنفس القوة والامتلاء والهدوء على مدى حياتنا كلها.» ولكن تلك كانت بادرة تهدئة. من البداية كانت «سونيا» تحاول أن تجعل الزواج يستمر. جعلت من نفسها مديرة لشئونه، وبطريقةٍ استحواذية أحيانًا، بتقديم خدمات له لا يستغني عنها، بأن تكون عبده الحرون، تحملت عبء كتابة النسخ النظيفة من رواياته نقلًا عن خطه الرديء،32 كان ذلك عملًا شاقًّا ولكنها على نحوٍ ما كانت تستمتع به، فقد أدركت من وقت باكر أنه يكون أقل عنفًا وتدميرًا ويمكن تحمله عندما يمارس صنعته الحقيقية.

وكما كتبَت لشقيقتها «تاتيانا» أنهما كانا سعداء جدًّا عندما كان يكتب رواياته. من ناحيةٍ فإن ذلك كان يحقق دخلًا بينما أنشطته الأخرى تبدد النقود. ولكن ليست هي النقود بالمعنى الحرفي، أهم شيء «أنني أحب أعماله الأدبية. تعجبني، تهزني». وقد تعلمت من خلال التجربة المريرة أنه بمجرَّد أن يتوقف عن الكتابة الروائية كان يملأ فراغ حياته بحماقاتٍ تضر بالأسرة التي كانت تحاول هي أن تبقي عليها متماسكة.

أما «تولستوي» فكان يرى الأمور بطريقةٍ مختلفة تمامًا، تكوين أسرة والحفاظ عليها يتطلب نقودًا، ورواياته تحقق نقودًا، أصبح يربط بين الكتابة الروائية وكسب المال … ومن ثم كره الاثنين. وفي ذهنه كانت الرواية والزواج متصلَين، وأكد هذه الصلة ضغط «سونيا» عليه لكي يكتب. والآن أدرك أن كلًّا من الزواج والروايات كانا يمنعانه من مواصلة عمله الحقيقي في النبوءة، وكما كتب في اعترافاته: «إن الظروف الجديدة للحياة العائلية السعيدة قد حولتني تمامًا عن البحث عن المعنى الحقيقي للحياة. في ذلك الوقت كان وجودي كله مركزًا على أسرتي وزوجتي وأطفالي وبالتالي على الاهتمام بزيادة مصادر دخلنا. إن نضالي من أجل كمال الذات والذي حل محله النضال من أجل الكمال عمومًا، تحول إلى مجرَّد جهد لتوفير أفضل الظروف للأسرة.»33
وهكذا أصبح «تولستوي» يرى أن الزواج ليس مصدرًا لشقاء كبير فقط، وإنما عقبة في طريق التقدم الأخلاقي. وقد عمم كارثته الخاصة لتصبح هجومًا على المؤسسة الزوجية وعلى الحب الأسري ذاته. في سنة ١٨٩٧م وفي انفجارة مثل انفجارات «الملك لير» قال لابنته «تانيا»: «أستطيع أن أفهم لماذا قد يجد رجل منحرف خلاصًا في الزواج، ولكني لا أستطيع أن أفهم كيف تريد فتاة نقية أن تتورط في أمر كهذا. ولو أنني فتاة لما تزوجت مهما كان الثمن. أما إذا وقع الإنسان في الحب — رجلًا كان أو امرأة — بما أنني أعرف معنى ذلك وكيف أنها عاطفة حقيرة فضلًا عن كونها غير صحية، وليست جميلة ولا نبيلة ولا شاعرية على الإطلاق؛ لما فتحت بابي لها، ولكنت قد اتخذت من الاحتياطات ما يكفي لتجنب التلوث بذلك المرض كما أفعل لحماية نفسي من عدوى أقل خطرًا مثل الدفتريا أو التيفوس أو الحمى القرمزية.»34

ويوحي هذا الجزء كما توحي أجزاء أخرى أن «تولستوي» لم يكن قد فكر جديًّا في الزواج. خذ مثلًا العبارة المشهورة التالية «آنا كارينينا»: «جميع الأسر السعيدة سواء، ولكن أي أسرة تعسة، فهي تعسة على طريقتها الخاصة.» وبمجرد أن يبدأ المرء في تأمل تجربته الخاصة، يصبح من الواضح أن كلًّا من جزأي العبارة السابقة قابل للجدل وأن العكس هو الأقرب إلى الصواب. هناك أنماط واضحة ومتكررة للأسرة غير السعيدة، كأن يكون الزوج سكيرًا أو مقامرًا مثلًا، أو أن تكون الزوجة مقصرة أو زانية. وعليه فإن علامات الشقاء الأسري معروفة ومتواترة.

وفي الجانب الآخر هناك أسر سعيدة على كل نوع، ولكن «تولستوي» لم يفكر في الأمر بجدية أو أمانة لأنه لم يكن يستطيع أن يجبر نفسه على التفكير بجدية أو أمانة بخصوص النساء: لقد هرب من الموضوع خائفًا غاضبًا مشمئزًّا، إن الفشل الأخلاقي لزواج «تولستوي» وفشله الفكري في أن يكون منصفًا بالنسبة لنصف الجنس البشري كانا وثيقي الصلة. ورغم ذلك — حتى وإن كان زواج «تولستوي» كان محكومًا عليه بالفشل من البداية على نحوٍ ما — إلا أنه كان من الممكن أن يكون حظه أفضل لولا تلك المشكلة الإضافية، مشكلة ميراثه للضيعة. فبعد القمار والجنس كانت الضيعة هي المصدر الثالث لآثام «تولستوي» وأهمها. هي التي سيطرت على وجوده المستقر ودمَّرته في النهاية. كانت مصدر فخره ونفوذه … وقلقه الروحي أيضًا؛ لأن الأرض ومن عليها من فلاحين كانوا ربطة واحدة، وفي «روسيا» كان لا يمكن أن تمتلك أحدهما دون الآخر. أنت تمتلك الأرض وما عليها ومن عليها. وقد ورث «تولستوي» الضيعة عن أمه عندما كان صبيًّا، وهكذا بدأ يفكر في السؤال الكبير من البداية؛ أحيانًا بشرف وأحيانًا مطلقًا العنان لأهوائه: «ماذا أفعل بفلاحيَّ؟» ولو كان رجلًا عاقلًا لأدرك أن إدارة ضيعة لم يكن من شأنه ولَفهم أن موهبته وواجبه هما الكتابة، ولَباع الضيعة وخلص نفسه من المشكلة الأخلاقية ليمارس القيادة من خلال كتبه، ولكنه لم يتخلَّ عن تلك المشكلة ولم يحلها جذريًّا، بل ظل مترددًا متأرجحًا قرابة نصف القرن شاغلًا نفسه بها دون حسم.

بدأ «تولستوي» أول إصلاحه من أجل الفلاحين عندما ورث الضيعة في أواخر أربعينيات القرن التاسع عشر، وزعم فيما بعدُ أن: «فكرة تحرير أقنان الأرض لم يكن أحد قد سمع عنها شيئًا في دائرتنا في الأربعينيات»،35 وهذا كذب. كانت الفكرة تتردد في كل مكان وعلى مدى جيلٍ كامل، وكانت موضوع جميع أندية الفلسفة، ولولا ذلك لما وصلت إلى «تولستوي»، صاحب إصلاحها تحسينات أخرى بما في ذلك ماكينة درس تعمل بالبخار قام بتصميمها بنفسه ولكن لا شيء من هذه الجهود أثمر عن شيء.

وسرعان ما استسلم أمام الصعوبات المعقدة و«شراهة» الفلاحين «على حد تعبيره». كانت النتيجة الوحيدة هي شخصية «نيكليدوف» في «صباح إقطاعي»، الذي يتكلم نيابة عن «تولستوي» الشاب المتحرر من الوهم: «لا أرى شيئًا سوى روتينٍ جاهل، رذيلة، شك، يأس، أنا أضيع أفضل سنوات عمري.» وبعد ثمانية عشر شهرًا ترك «تولستوي» الضيعة، وتفرغ لأمور أخرى: الجنس، القمار، الجيش، الأدب … الشيء الوحيد الذي واصله هو أنه ترك الفلاحين أو بمعنًى آخر فكرة الفلاحين تطن في عقله، ولكنه لم ينظر إليهم أبدًا ككائنات حية مفردة. ظل شعوره نحوهم متعارضًا متناقضًا. في سنة ١٨٥٢م سجل في يومياته: «قضيت المساء كله أتحدث مع «شوبين» عن العبودية عندنا في «روسيا»، صحيح أن العبودية شر، ولكنه شر جميل جدًّا.»

في سنة ١٨٥٦م كانت محاولته الثانية من أجل «الإصلاح»، أعلن أنه سوف يعتق أقنانه في مقابل دفع إيجار ثلاثين سنة، وفعل ذلك على نحوٍ متميز دون استشارة أي من معارفه من أصحاب الخبرة في تحرير الأقنان، وحدث أن الأقنان صدقوا الشائعات التي كانت تتردد عن أن الملك الجديد «ألكساندر الثاني»، كان ينوي أن يعتقهم دون شروط. كانوا متوجسين، لم يكتشفوا تباهي الكونت «تولستوي» ولكنهم كانوا يخشون فطنته التجارية (التي لم يكن لها وجود) فرفضوا ما عرضه عليهم فاتهمهم — غاضبًا — بالجهل وبأنهم همج لا أمل فيهم، وكان بالفعل يعبر عن توتر عاطفي بسبب ذلك الموضوع، فكتب خطابًا هيستيريًّا إلى الكونت «ديمتري بلودوف»: «إذا لم يحرر الأقنان في خلال ستة أشهر فنحن مقبلون على مذبحةٍ جماعية.»36
وبدأ «تولستوي» في إظهار عدائه المخيف لأفراد عائلته الذين كانوا يعتبرون مشروعاته حمقاء وهوجاء، مثل عمته «تاتيانا»: «لقد بدأت أشعر بكراهية صامتة نحو عمتي رغم كل عطفها عليَّ.» والآن، يتحول إلى التربية كحل وحيد ونهائي لمشكلة الفلاحين! إنه وهم المثقفين الغريب منذ «روسو» عندما يتصورون أن باستطاعتهم حل الصعاب المزمنة في تربية البشر بخبطة واحدة وبإقامة نظام جديد، بدأ يعلم أطفال الفلاحين بنفسه. كتب إلى الكونتيسة «ألكساندرا تولستوي»: «عندما أدخل هذه المدرسة وأرى هذا الجمع من الأطفال المهزولين التعساء بملابسهم البالية وعيونهم التي يشع منها الذكاء وملامحهم الملائكية، تنتابني حالة من الفزع كأني أشاهد قومًا مقبلين على الغرق. أنا أريد تعليمًا للشعب فقط لكي أنقذ أكثر من «بوشكين»، وأكثر من «فيلاريتوف» وأكثر من «أوستروجراد» أراهم يغرقون هنا.»37
استمتع «تولستوي» بالتدريس لهم لفترةٍ قصيرة، بعد ذلك أخبر كاتب سيرته الذاتية الرسمي «ب. أ. بريكوف» أن تلك كانت أفضل فترات حياته: «أنا مدين بأفضل مرحلة في حياتي ليس لحب النساء وإنما لحب الناس، حب الأطفال. كانت مرحلة رائعة.»38 ولا نعرف إلى أي مدًى كانت جهوده ناجحة. لم تكن هناك قواعد، لم يكن هناك واجب منزلي، وكما كتب: «كان كل المطلوب منهم هو أن يجيئوا، تكفي طبيعتهم المتفتحة وثقة في أن اليوم سيكون جميلًا في المدرسة كما كان الأمس.» بعد ذلك أنشأ شبكة من المدارس التي بلغ عددها في وقتٍ ما سبعين مدرسة. ولكن جهوده الشخصية في التدريس لم تستمر، أصابه الملل وذهب في جولة إلى ألمانيا بزعم الاطلاع على عملية الإصلاح التعليمي هناك، ولكن «يوليوس فروبل» الشهير خذله؛ وبدلًا من الاستماع إلى «تولستوي» كان يتكلم طوال الوقت، وعلى أية حال «لم يكن أكثر من يهودي».

كان ذلك هو الوضع عندما أصدر «ألكساندر الثاني» مرسومًا إمبراطوريًّا بتحرير الأقنان فجأة في ١٨٦١م، وهاجم «تولستوي» المرسوم غاضبًا لأنه جاء كعمل من الدولة التي كان قد بدأ يعترض عليها. وفي العام التالي تزوج وأخذت الضيعة أهمية من نوعٍ آخر؛ كمنزل لأسرته التي كان عددها يتزايد، وكمصدر للدخل إلى جانب الروايات، وكانت تلك أفضل سنوات حياته إنتاجًا، سنوات «الحرب والسلام»، و«آنا كارنينا». ومع زيادة دخله من الكتب كان «تولستوي» يشتري ويستثمر في الضيعة. وفي وقتٍ ما كان لديه أربعمائة حصان في المزرعة.

كان هناك خمس مربيات ومعلمات في المنزل إلى جانب ١١ خادمًا، ولكن الرغبة في «الإصلاح» لم تتركه، إصلاح الفلاحين ونفسه وأسرته والعالم بأسره، كانت تهجع تحت السطح الخارجي لعقله توشك أن تنفجر في نشاط بالغ في أي لحظة. الإصلاح السياسي والاجتماعي والرغبة في تأسيس حركة دينية جديدة، كلها كانت أمور مترابطة في ذهن «تولستوي». فمنذ عام ١٨٥٥م كان قد كتب أنه ينشئ عقيدة يؤسسها على «ديانة المسيح ولكنها خالية من الجمود واللاعقلانية، لا تعد بجنة مستقبلية وإنما تصنع جنة على الأرض»، وقد كانت تلك هي الفكرة الشائعة والعملة اليومية المتداولة بين عدد لا يحصى من المصلحين الدينيين البسطاء عبر القرون. لم يكن «تولستوي» أبدًا لاهوتيًّا إلى درجةٍ كبيرة. كتب دراستَين طويلتَين: «اختبار اللاهوت المتعصب»، و«وحدة وترجمة الأناجيل الأربعة»، ولكنهما لا يساعدان على اعتباره مفكرًا منهجيًّا، كما أن الكثير من كتاباته الدينية لا قيمة كبيرة له إلا من ناحية دعوته إلى وحدة الوجود بطريقةٍ غامضة. بمعنى: «أن تعرف الله وأن تحيا، فذلك شيء واحد. الله هو الحياة. عندما يكون الله مطلبك فلن تجد نفسك دونه» (١٨٧٨-١٨٧٩م).

ولكن المفاهيم الدينية التي كانت تتدافع داخل رأس «تولستوي» كانت تنطوي على خطر لأنها في صلتها بالنزوات السياسية كونت مادة قابلة للاشتعال يمكن أن تنفجر دون سابق إنذار. وبانتهائه من كتابة ونشر «آنا كارنينا» التي دعمت سمعته أصبح قلقًا، غير مكتف بالكتابة ومستعدًّا للإثارة العامة؛ شخصية عالمية، روائي، رجل تتطلع إليه أعداد كبيرة من المعجبين والقراء يلتمسون لديه الحكمة والهداية.

وجاء الانفجار الأول في ديسمبر ١٨٨١م، عندما كان هو وأسرته في «موسكو» فذهب إلى سوق خيتروف في أحد الأحياء الفقيرة بالمدينة وراح يوزع النقود على المتسولين ويستمع إليهم وهم يحكون عن حياتهم. وعندما تزاحم عليه الناس اضطر للاحتماء بلوكاندة حقيرة مجاورة، حيث رأى المزيد من المشاهد التي ضاعفت من حزنه. وبعد أن عاد إلى المنزل وخلع معطف الفراء جلس ليتناول عشاء مكونًا من خمسة أصناف يقدمه له خدم وحشم يرتدون زيًّا خاصًّا وقفازات بيضاء وربطات عنق أنيقة، ولكنه بدأ يصرخ: «لا يمكن أن يعيش المرء هكذا … لا يمكن أن يعيش المرء هكذا …» فأصاب «سونيا» بالرعب وهو يلوح بذراعه مهددًا بالتنازل عن جميع ممتلكاتهم.

وعلى الفور، بدأ في وضع نظام للإحسان إلى الفقراء مستخدمًا تعداد السكان الذي كان قد أُجري مؤخرًا كأساس إحصائي. ثم أسرع إلى الريف ليتشاور مع مرشده «ف. ب. سوتاييف» الذي كان يُسمَّى ﺑ «الروائي الفلاحي» بشأن المزيد من الإصلاحات، وترك «سونيا» وحيدة في «موسكو» مع ابنهما الوحيد «ألكس»، الذي كان في شهره الرابع.

وهذا التخلي كما كانت تعتبره، كان سبب كتابتها لخطاب ضرب وترًا جديدًا من المرارة في علاقتهما، يلخص متاعبها مع «تولستوي» إلى جانب الغضب الذي قد يشعر به معظم الناس العاديين في مجاراتهم لمثقفٍ إنساني عظيم: «صغيري ما زال في صحة سيئة وأنا أشعر نحوه بالعطف والشفقة، ربما تكون أنت و«سوتاييف» لا تحبان أطفالكما، لكننا والبسطاء من البشر الفانين مثلنا لا نستطيع ولا نود أن نشوه مشاعرنا أو نبرر عدم حبنا «لشخص» بإعلان بعض الحب أو ما شابه ذلك لكل العالم.»39 كانت «سونيا» تثير سؤالًا نتيجة ملاحظتها لسلوك «تولستوي» على مدى سنواتٍ طويلة، وليس فقط بالنسبة لأفراد أسرته؛ إذا ما كان فعلًا قد أحب أي كائن حي كفرد، مقابل حبه للإنسانية كفكرة.

كان شقيقه البائس «ديمتري» مثلًا يستحق الشفقة بكل تأكيد؛ لقد تردى في البؤس، وتزوج من مومس، ومات صغيرًا بالسل في ١٨٥٦م، كل ما استطاع أن يفعله «تولستوي» هو أن يقتطع من وقته ساعة ليقضيها بجوار فراشه وهو يحتضر، ورفض تمامًا أن يحضر الجنازة — فضَّل أن يذهب إلى إحدى الحفلات — رغم أنه استخدم الحدثَين — فراش الموت، ورفض حضور الجنازة — فيما بعدُ في أعماله الروائية.

شقيقه الآخر «نيكولاي» والذي كان يموت بالسل أيضًا، كان يستحق العطف، ولكن «تولستوي» رفض أن يزوره فجاء هو لكي يموت بين يديه. لم يفعل شيئًا يذكر لكي يساعد شقيقه الثالث «سيرجي» عندما فقد كل ثروته في القمار. كانوا كلهم كائنات ضعيفة ولكن أحد مبادئ «تولستوي» كان أن: «القوي يجب أن يهرع لمساعدة الضعيف»!40
سِجِل علاقاته بالأصدقاء يكشف عن الكثير. حالة واحدة فقط هي التي لم يكن فيها أنانيًّا ولا خنوعًا، مع «ميتيا دياكوف»، زميل الدراسة في جامعة «كازان» وكان أكبر منه سنًّا، ولكن ذلك أيضًا تلاشى كقاعدة. كان «تولستوي» يأخذ، وأصدقاؤه يعطون. كتبَت «سونيا» عندما كانت تنقل يومياته الباكرة: «إعجابه بنفسه يظهر في كلٍّ منهم، من المدهش أن الناس كانوا موجودين بالنسبة له فقط بقدر تأثيرهم عليه شخصيًّا.»41 والأكثر مدعاة للدهشة هو استعداد الذين كانوا يعرفونه — وليس المعوزين والطفيليين والمنافقين فقط بل وشخصيات مستقلة — أن يتحملوا أنانيته ويوقروه رغم كل ذلك. كانوا يجبنون أمام عينيه المرعبتين. وينحنون أمام إرادته الطاغية … وبالطبع يتعبدون في محراب عبقريته.

«أنطون تشيكوف»، وهو الإنسان الرقيق شديد الحساسية، والذي كان على علم بكثير من عيوب «تولستوي» كتب: «أخشى موت «تولستوي»، لو مات لحدث فراغ كبير في حياتي … لم أحب شخصًا كما أحببته، طالما هناك «تولستوي» في الأدب فمن السهل عليَّ ومن اللائق أن أكون كاتبًا، لن يكون حتى مخيفًا أن يدرك المرء منا أنه لم يفعل شيئًا ولن يفعل شيئًا طالما أن «تولستوي» سوف يفعل ما يكفي بالنسبة للجميع.»

«تورجنيف» كان لديه أسباب أخرى كثيرة ليعرف أنانية «تولستوي» وقسوته حيث خبِرهما عن كثب. كان كريمًا وذكيًّا في مساعدته للكاتب الناشئ، وفي المقابل لم يكن نصيبه سوى البرود والجحود، وعادة «تولستوي» البشعة في إهانة واحتقار الأفكار التي كان يعرف أن أصدقاءه ينشدونها، وكان غالبًا ما يفعل ذلك بذكاء.

«تورجنيف» كان عملاقًا، رقيق القلب، معتدلًا. وكان بمقدروه أن يتعامل مع «تولستوي» بنفس العملة، ولكنه اعترف بنفسه ساخطًا على سلوك «تولستوي» أنه لم يعرف من قبلُ «شيئًا أكثر فظاعة من تلك النظرة الخارقة المصحوبة بملاحظات حاقدة والتي يمكن أن تدفع المرء إلى الجنون».42 أعطاه «تورجنيف» روايته «آباء وأبناء» التي أجهد نفسه فيها لكي يقرأها، نام عليها ووجده «تورجنيف» يشخر، وبينما اعتذر «تورجنيف» برقة بعد الشجار بسبب ابنته والتهديد بمبارزة، كشر «تولستوي» عن أنيابه حسب رواية «سونيا»: «أنت خائف مني، أنا أحتقرك ولا أريد أن أتعامل معك بعد الآن.» كما قال بعد ذلك للشاعر «فت» الذي كان يحاول أن يصلح بينهما: «إن «تورجنيف» نذل ويستحق الجلد، أرجو أن تنقل إليه ذلك حرفيًّا، كما تنقل إليَّ تعليقاته الجميلة.»43 كما سجل «تولستوي» أشياء كثيرة سيئة — وغير صحيحة غالبًا — عن «تورجنيف» في يومياته، وكذلك تعكس مراسلاتهما اختلافًا بيِّنًا بينهما في درجة الصداقة. عندما شعر «تورجنيف» بدنو أجله كتب آخر رسائله إلى «تولستوي» في ١٨٨٣م: «صديقي، كاتب الأرض الروسية العظيم، استمع إلى ندائي، دعني أعرف أنك قد تسلمت هذه الكتابة المتعجلة واسمح لي أن أعانقك مرة أخرى … وبقوة، أنت وزوجتك وكل أسرتك. لا أستطيع أن أواصل … أنا متعب.» ورغم أن «تورجنيف» ظل على قيد الحياة بعد ذلك لمدة شهرين، إلا أن «تولستوي» لم يرد على ذلك الرجاء الحزين. ولذلك لا يتعاطف المرء مع رد فعل «تولستوي» عندما تلقى خبر وفاة «تورجنيف»: «أنا أفكر في «تورجنيف» باستمرار وأحبه كثيرًا وأرثي له وأقرأ له وأعيش معه.» كانت كلمات تحمل رنة ممثل يؤدِّي الدور العام المتوقع منه. وكما كتبَت «سونيا» فإن «تولستوي»: لم يكن قادرًا على الخصوصية والحميمية الضرورية للحب المتبادل أو الصداقة الحقيقية. بدلًا من ذلك كان يعانق الإنسانية لأن ذلك يمكن أن يتم بصوتٍ عال وبطريقةٍ درامية مثيرة على المسرح العام.

ولكن، إذا كان ممثلًا فإنه كان من الممثلين الذين يغيرون دورهم باستمرار، أو يقوم بالتنويع على الموضوع الرئيسي الكبير … خدمة البشرية.

كان أقوى دوافعه هو إلقاء المواعظ على الآخرين، وبمجرَّد أن يجد موضوعًا جذابًا يريد أن يكتب كتابًا عنه أو يبدأ سلسلة من الإصلاحات الثورية، وعادة كان لا يحاول أن يتقن ذلك الدور أو يستشير العارفين به. في خلال شهور قليلة من ممارسته للزراعة بدأ في تصميم وصناعة الآلات الزراعية. تعلم العزف على البيانو وعلى الفور بدأ يكتب «أسس الموسيقى وقواعد دراستها»، بمجرَّد أن فتح مدرسة راح يقلب النظرية التربوية رأسًا على عقب، كان يعتقد طوال حياته أنه يستطيع أن يتقن أي شيء، أن يعرف عيوبه، ثم يشرع في كتابة قواعده وأسسه. وكانت له على الأقل ثلاث محاولات في الإصلاح التربوي كما فعل بالنسبة للإصلاح الزراعي، في آخرها كان يكتب الكتب المدرسية بنفسه والتي كان على «سونيا» — مضطرة — أن تنسخها وهي مشمئزة شاكية: «أحتقر كتاب القراءة هذا، وكتاب الحساب والقواعد، ولا أستطيع أن أتظاهر بأنها ممتعة بالنسبة لي.»44

كان حرص «تولستوي» على أن يعمل بنفس درجة حرصه على أن يقوم بالتدريس، ومثل جميع المثقفين جاء وقت في حياته كان يشعر فيه بالحاجة إلى أن يتماثل مع العمال، أو أن يقترب منهم. ظهرت تلك الرغبة على مراحل متقطعة في ستينيات وسبعينيات القرن (التاسع عشر)، ثم بدأت في وضوح في سنة ١٨٨٤م، تخلى عن لقبه — وليس عن أسلوبه السلطوي — وأصر على أن يُدعى باسمه المجرَّد «لينيكولايافيتش»، وقد تصادفت هذه الحالة مع واحدة من اللمحات الخاصة بالملبس والتي يحبها المثقفون: ارتداء لباس الفلاحين، وقد تلاءم ذلك مع حب «تولستوي» للدراما، كما لاءمه من الناحية الجسمية حيث كانت له بنية وملامح فلاح. حذاؤه، ثوبه الفضفاض، لحيته، غطاء الرأس. أصبح ذلك هو زي «تولستوي» الجديد … روائي العالم. كان ذلك جزءًا بارزًا من تلك الموهبة الغريزية في العلاقات العامة التي يبدو أن معظم المثقفين العلمانيين يمتلكونها. كان الصحفيون يقطعون آلاف الأميال للقائه، كان التصوير قد أصبح شائعًا، أما الشرائط الإخبارية فكانت في بدايتها وهو في سنه المتقدمة. كان لباسه الفلاحي يناسب تمامًا ظهوره كأول نبي إعلامي!

كان يتم تصويره أيضًا وهو يقوم بأعمال يدوية راح يعلن منذ الثمانينيات أنها ضرورة ملحة. كتبَت «سونيا» (١ نوفمبر ١٨٨٠م): «يستيقظ في السابعة والجو ظلام، يضخ الماء لكل المنزل ويسحبه بمشقة في وعاء كبير على زلاقة. ينشر كتل الخشب الطويلة ويقطعها من أجل الوقود، لا يأكل الخبز الأبيض ولا يخرج إلى أي مكان.»45

أما يومياته فتقول لنا إنه كان يقوم بتنظيف المنزل مع أطفاله: «كنت خجلًا أن أقوم بما يجب القيام به … أن أفرغ مبولة غرفة النوم.» ثم بعد أيام قليلة استطاع أن يتغلب على اشمئزازه وفعلها. تعلم من صانع أحذية في كوخه وكتب عنه: «إنه مثل الضوء والخلق الرائع … يجلس في ركنه القذر المظلم.» وبعد ذلك التدريب السريع على حرفة صعبة بدأ «تولستوي» يصنع أحذية للأسرة وأحذية ذات رقبة لنفسه، كما صنع زوجًا للشاعر «فت»، لا نعرف إن كانت قد أعجبته أم لا، ولكننا نعرف أن أبناءه قد رفضوا الأحذية التي صنعها لهم. كان يقول مبتهجًا وهو يدق بالمطرقة: «إن ذلك يعطيني الإحساس بأنني أصبحتُ عاملًا … حيث تزهر الروح.» ولكن سرعان ما فترت الرغبة في صنع ورتق الأحذية واتجه إلى العمل الزراعي: كان ينقل السماد على عربة بعجلتين ويجر كتل الخشب الكبيرة ويحرث الأرض ويساعد في بناء الأكواخ. أحب النجارة والتقطت له الصور وهو يمارسها، ويعلق مثقابًا في حزامه الجلدي العريض ويتدلى من خصره منشار … ثم بسرعةٍ انتهت تلك المرحلة أيضًا كما بدأت.

لم يكن «تولستوي» رجل الوقفات الطويلة عند أي نشاط باستثناء الكتابة. حرفته الحقيقية. كان يعوزه الصبر والمثابرة والصمود أمام العقبات. حتى تربية الخيول التي كان يعرف عنها بعض الشيء كان يمارسها بطريقةٍ سيئة، حيث فقد اهتمامه بالمزرعة بسرعة، وكان ﻟ «سونيا» شجار غاضب معه بسبب الموضوع في ١٨ يونيو ١٨٨٤م، قالت إن الخيول كانت في حالة بالغة السوء؛ كان قد اشترى بعض الإناث من سلالة جيدة من «ساماريا»، ثم تركها لتموت من الإهمال والإرهاق في العمل. وكان نفس الشيء يحدث في كل ما يقوم به … حتى في الأعمال الخيرية: لا توجد خطة جيدة، لا اتساق، لا أحد من المدربين الذين يمكن أن توكل إليهم أعمال محددة. الفلسفة برمتها كانت تتغير من دقيقة لأخرى. خرج «تولستوي» من الغرفة مندفعًا صائحًا أنه سوف يهاجر إلى أمريكا. التشوش الذي خلقه في الضيعة لم يؤذِ سوى دائرته الشخصية. أعماله العامة ومواعظه العلنية كان ضررهما أوسع وأكبر، وبالتأكيد لم تكن كلها سيئة التوجه. بدءًا من سنة ١٨٦٥م بذل «تولستوي» جهودًا قيمة وناجحة إلى حدٍّ ما في جذب الاهتمام إلى المجاعات التي كانت تحدث من وقت لآخر في بعض أرجاء «روسيا»، وقد حققت مشروعاته للإغاثة بعض الخير، خاصة في مجاعة ١٨٩٠م الكبرى والتي كانت الحكومة تحاول أن تخفي حجمها. كان يهب أحيانًا لنجدة وإنقاذ بعض الأقليات المضطهدة في «روسيا»؛ أعلن عن أخطاء «الدوخوبرز» — النباتيين المسالمين — وكانت الحكومة تريد أن تطوقهم وتقضي عليهم، واستطاع أن يحصل لهم على تصريح بالهجرة إلى «كندا»، ولكنه من ناحية أخرى كان فظًّا بالنسبة لمجموعة أخرى من المضطهدين «اليهود» وقد أضافت آراؤه إلى مشكلاتهم. أما الأكثر خطورة من ذلك فهو نظرته السلطوية واعتقاده بأن لديه — فقط — الحل لبؤس العالم وتعاسته. وكذلك رفضه المشاركة في أي جهود للإنقاذ أو الإغاثة لم يخطط لها هو أو يشرف عليها شخصيًّا. كانت أنانيته تطغى على كل شيء … حتى إحسانه! في مراحل مختلفة من حياته كانت آراؤه بخصوص كثير من المشكلات (السياسية، الإصلاح الزراعي، الاستعمار، النظام الملكي، الدولة، الملكية … إلخ) تتغير جذريًّا وقائمة تناقضاته لا نهاية لها. ولكنه كان متسقًا مع نفسه في أمر واحد: رفض أن يشارك شخصيًّا في أي جهد منظم من أجل الإصلاح في «روسيا» — أن يتناول المشكلات من جذورها — كما شجب بعنف شديد مبدأ «التحسين» الليبرالي واعتبره وهمًا، بل شرًّا مستطيرًا. كان يكره الديمقراطية، ويحتقر البرلمانات. نواب «الدوما» كانوا في رأيه «أطفالًا يلعبون لعبة أنهم كبار».46 كان يقول إن «روسيا» دون برلمانات أكثر حرية من «إنجلترا» بكل برلماناتها، وأن الأشياء المهمة في الحياة لم تأتِ نتيجة للإصلاح البرلماني. كانت لديه كراهية خاصة للتقاليد الروسية الليبرالية، وفي «الحرب والسلام» يشهِّر بأول دعاة الإصلاح الكونت «سبيرانسكي».

جعل الأمير «أندرو» يقول عن مجلس الدولة الجديد الذي أنشأه «سبيرانسكي»: «ماذا يعني ذلك بالنسبة لي؟ هل يمكن أن يجعلني هذا أحسن أو أفضل؟» إنها حقيقة ذات مغزًى كئيب في تاريخ «روسيا» أن يدير كاتبها الأعظم وجهًا مثل الصوان لأي إصلاح منظم للنظام القيصري لمدة نصف قرن ويبذل كل جهده لاعتراض سبيل مَن يحاولون تطويره والسخرية منهم.

ولكن ماذا كان البديل عند «تولستوي»؟ إن كلامه كان يمكن أن يكون معقولًا لو أنه قال كما قال «ديكنز» و«كونراد»، وغيرهما من الروائيين الكبار، إن التحسينات في البنية كانت ذات قيمة محدودة وأن المطلوب كان التغيير في قلوب البشر. ولكن «تولستوي» بينما كان يؤكد الحاجة إلى الإصلاح الأخلاقي الفردي، لم يترك الأمور لتستقر هناك؛ كان يلمح باستمرار إلى الحاجة العاجلة لهزة أخلاقية تقلب العالم رأسًا على عقب وتؤسس مملكة سماوية، وكانت تحمل السمات المسرحية للتغيير المفاجئ والذي كان الأصل الشعري لنظرية «ماركس» عن الثورة كما رأينا.

بالإضافة إلى ذلك فإن فهْم «تولستوي» للتاريخ كان معيبًا. فهو مثل «ماركس» لم يعرف من التاريخ سوى القليل ولم تكن لديه فكرة عن كيفية وقوع الأحداث الكبرى. وكما قال «تورجنيف» فإن المحاضرات التاريخية المملة التي حشرها في «الحرب والسلام» كانت تحمل بصمات الواعظ الذاتي، وكانت «مضحكة» ومحض «خداع».

«فلوبير» أيضًا كتب إلى «تورجنيف»، وهو مستاء من أن «تولستوي» كان «يتفلسف»،47 أما نحن فنقرأ تلك الرواية العظيمة بالرغم من نظريتها عن التاريخ وليس بسببها. كان «تولستوي» حتميًّا، وضد الفردانية. وفكرة أن الأحداث تشكلها قرارات مدروسة من رجال أقوياء كانت بالنسبة له محض وهمٍ، وهؤلاء الذين يبدو أنهم مسئولون لا يعرفون شيئًا عما يحدث، ناهيك عن جعله يحدث.
أما النشاط اللاشعوري فقط فهو المهم. التاريخ نتاج ملايين القرارات من قِبل رجال مجهولين لا يرون ما يصنعون. وهذا على نحوٍ ما مفهوم «ماركس»، رغم أنه يصل إليه عن طريقٍ آخر، أما الذي وضع «تولستوي» على هذا الخط الفكري فغير واضح أو معروف. ربما كان فهمه الرومانسي للفلاح الروسي كحكم أو كقوة نهائية. كان يعتقد أن هناك قوانين خفية تحكم حياتنا في جميع الأحوال، قوانين مجهولة وربما غير قابلة لأن تُعرف، وبدلًا من مواجهة هذه الحقيقة غير المناسبة، ندعي أن التاريخ يصنعه بعض الأفراد والأبطال من خلال ممارسة إرادتهم الحرة. في أعماقه كان «تولستوي» مثل «ماركس» غنوصيًّا،١ يرفض التفسير الواضح لحدوث الأشياء ويبحث عن معرفة الميكانيزم السري الكامن تحت السطح.

هذه المعرفة كان يتم إدراكها جماعيًّا وحدسيًّا بواسطة مجموعات مشتركة — بروليتاريا «ماركس»، وفلاحو «تولستوي» — وكانوا بالطبع في حاجة إلى مفسرين (مثل «ماركس») أو أنبياء (مثل «تولستوي») ولكن الأساس كان قوتهم الجماعية وشرعيتهم التي تحرك عجلة التاريخ.

ولكي يثبت نظريته عن كيفية عمل التاريخ قام «تولستوي» بتشويه السجل في «الحرب والسلام» كما تلاعب «ماركس» ﺑ «الكتاب الأزرق» ولوى مقتطفاته في «رأس المال».48 أعاد صياغة حروب «نابوليون» واستغلها تمامًا، كما عذب «ماركس» الثورة الصناعية لكي تخضع لمفهومه للحتمية التاريخية. ولذلك ليس غريبًا أن نجد «تولستوي» يتحرك نحو حل جمعي للمشكلة الاجتماعية في «روسيا». منذ ١٣ أغسطس ١٨٦٥م كتب في يومياته وكانت المجاعة في ذهنه: «إن الواجب الوطني العام ﻟ «روسيا» هو أن تقدم للعالم فكرة بناء اجتماعي دون ملكية أراضي حيث إن الملكية والسرقة سوف يظلان هناك طالما وجدت الأسرة الإنسانية … الثورة الروسية يمكن أن تتأسس على ذلك فقط.»49

بعد ثلاث وأربعين سنة أخرى رأى تلك المفكرة مصادفة ودهش لقوة بصيرته، ولكن «تولستوي» حينذاك كان قد عقد صلات مع الماركسيين وأوائل اللينينيين مثل «إس. آي. مونتيا نوف»، الذي كان يراسله من منفاه في «سيبيريا»، رافضًا دعوة «تولستوي» لنبذ العنف: «من الصعب يا «لينيكولايافيتش» أن تعيد تشكيلي. هذه الاشتراكية هي ديني وإلهي وأنت تقول نفس الشيء تقريبًا، ولكنك تستخدم تكتيك «الحب» بينما نستخدم نحن تكتيك «العنف» كما تقول.» الجدل إذن حول التكتيك وليس الاستراتيجية؛ حول الوسائل وليس الغايات. أما إذا كان «تولستوي» يتحدث عن الله، وكان يقول إنه «مسيحي»، فذلك لا يشكل فرقًا كبيرًا في اعتقادنا. لقد عزلته الكنيسة الأرثوذوكسية في فبراير ١٩٠١م ولم يكن ذلك غريبًا، لا لأنه أنكر ألوهية المسيح فقط، بل لأنه كان يؤكد أن اعتباره إلهًا أو الصلاة له بمثابة «التجديف الأكبر». والحقيقة أن «تولستوي» كان يختار من العهدين القديم والجديد ومن تعاليم المسيح والكنيسة ما يتفق معه ويرفض الباقي. لم يكن مسيحيًّا بأي معنًى من المعاني. ومن الصعب أن نقول إنه كان مؤمنًا ﺑ «الله»، حيث إن تعريفه ﻟ «الله» كان مختلفًا في أوقات مختلفة. في صميم قلبه كان «الله» هو ما يريده أن يحدث … «الإصلاح الشامل».

وهذا مفهوم علماني وليس مفهومًا دينيًّا. أما بالنسبة ﻟ «الله» التقليدي — الأب — فكان في أفضل الأحوال ليس أكثر من ندٍّ له، قابل للمراجعة والنقد … «دبٌّ آخر في نفس العرين».50
في سنٍّ متأخرة انقلب «تولستوي» ضد الوطنية والاستعمار والحرب والعنف بكل أشكاله، وهذا وحده كان كفيلًا بمنع أي تحالف مع الماركسيين.51 كما شعر بأنهم إذا وصلوا إلى السلطة بالفعل فلن يتخلوا عن «الدولة»، كما كانوا يقولون.
كتب في سنة ١٨٩٨م: «لو حلت العقيدة الماركسية بالفعل فإن الشيء الوحيد الذي سيحدث هو انتقال الاستبداد. الآن الرأسماليون يحكمون. حينذاك مديرو العمل هم الذين سيحكمون.»52 ولكن ذلك لم يكن يقلقه كثيرًا، كان يفترض دائمًا أن انتقال الملكية إلى الجماهير سوف يتم في ظل نظام سلطوي ما، ويمكن أن يكون النظام القيصري. ولكنه على أية حال لم يكن يعتبر أن الماركسيين هم العدو. كان العدو الحقيقي «الديمقراطيون من النمط الغربي»، ليبراليو البرلمانات كانوا يفسدون العالم كله خلال نشر أفكارهم. في كتاباته المتأخرة «رسالة إلى الصينيين»، و«مغزى الثورة الروسية» — كلاهما في ١٩٠٦م — ينسب نفسه و«روسيا» إلى الشرق. كتب: «كل ما تستطيع الشعوب الغربية أن تفعله ويجب أن يكون نموذجًا لما يجب أن تفعله شعوب الشرق، لا بد أن يكون بالأحرى نموذجًا لما يجب تجنبه تحت أي ظرف. إن السير في طريق الأمم الغربية هو السير في طريق الدمار.» أعظم خطر بالنسبة للعالم كان «النظام الديمقراطي» في «بريطانيا» والولايات المتحدة، المرتبط دون انفصام بقداسة الدولة والعنف المؤسسي الذي تمارسه، وعلى «روسيا» أن تدير وجهها عن الغرب، تتخلى عن الصناعة، تلغي الدولة وتتبنى عدم المقاومة.

وهذه الأفكار تبدو لنا شاذة وغريبة على ضوء الأحداث التي توالت، كما تبدو متناقضة مع ما كان يحدث بالفعل في روسيا في وقتها. في سنة ١٩٠٦م كانت «روسيا» تقوم بتصنيع نفسها وبمعدل أسرع مما كانت تقوم به أي دولة في العالم، مستخدمة نمطًا من رأسمالية الدولة ليصبح حجر السلَّم نحو دولة «ستالين» الشمولية، ولكن «تولستوي» في تلك المرحلة من حياته كان قد فقد الصلة والاهتمام بعالم الواقع. كان قد صنع عالمًا خاصًّا به في «ياسنايا بوليانا» يعيش فيه ويحكمه إلى حدٍّ ما.

أدرك أن سلطة الدولة مفسدة، ولذلك انقلب على الدولة، ولكن الذي فشل في أن يدركه رغم وضوحه — وكان واضحًا بالنسبة ﻟ «سونيا» مثلًا — هو أن فساد السلطة يأخذ أشكالًا متعددة. أحدها يمكن أن يمارسه رجل عظيم، روائي، نبي، على تابعيه وهو أيضًا يفسده تملقهم وخنوعهم ونفاقهم.

حتى في منتصف الثمانينيات — من القرن التاسع عشر — كانت «ياسنايا بوليانا»، قد أصبحَت أشبه بالمزار أو المقام يهرع إليه الناس والمريدون من كل فج عميق التماسًا للمساعدة والهداية وإعادة الطمأنينة والتماس الحكمة المعجزة أو للبوح بأمور خاصة؛ قوافل من النباتيين ومؤيدي الرضاعة الطبيعية و«هنري جورج»، ورهبان، ورجال دين، وبوذيين، ولاما، ومعارضي العنف، ومهاويس، ومجانين، ومرضى بأمراض مستعصية. وإلى جانب كل هؤلاء كانت هناك دائرة «كهنة ومريدي» وتلاميذ «تولستوي»، والتي كانت تتغير باستمرار. وكلهم على نحوٍ أو آخر كانوا يعتبرونه زعيمهم الروحي الذي يجمع بين البابا والبطريرك والمسيح.

ومثل كل الذين كانوا يحجون إلى مقبرة «روسو» في ثمانينيات القرن (الثامن عشر)، كان زوار «تولستوي» يتركون كتابات محفورة وخربشات على جدران المنزل الصيفي في حديقة «ياسنايا بوليانا» على شاكلة: «تسقط عقوبة الإعدام»، «يا عمال العالم اتحدوا وقدموا البيعة للعبقري»، «فلتمتد حياة «لينيكولايافيتش» سنواتٍ أخرى عديدة»، «الواقعيون في «تولا» يحيون الكونت «تولستوي»» … وهكذا.

وهذا الاحتفاء به «تولستوي» في أواخر العمر أصبح تقليدًا يتكرر — كما سنرى — بين كبار المثقفين الذين يستمتعون بالشهرة العالمية؛ لقد شكل نوعًا من الحكومة الوهمية، تتناول «مشاكل» من أنحاء العالم وتقدم الحلول، تراسل الملوك والرؤساء، تقدم احتجاجات، تنشر بيانات، توقع على أشياء، تقدم اسمه لدعم قضايا مقدسة أو دنسة، جيدة أو رديئة، ومنذ تسعينيات القرن (التاسع عشر)، فإن «تولستوي» كحاكم لهذا النظام الفوضوي كان لديه حتى رئيس وزراء في شخص ضابط ثري سابق هو «فلاديمير جريجور يفتش تشيرتكوف» (١٨٥٤–١٩٣٦م) والذي استطاع بالتدريج أن يضع نفسه في موقع مسيطر في البلاط، ويظهر في الصور الملتقطة ﻟ «السيد»: فم رقيق، عينان لوزيتان، تحتهما تجاعيد، لحية قصيرة، وعليه سيماء الإخلاص والصلاح الأخلاقي. وبسرعة، بدأ يمارس نفوذًا متزايدًا على تصرفات «تولستوي»، ويذكِّر الرجل المسن بنبوءاته وعهوده ويدفع به دائمًا في اتجاهات أكثر تطرفًا، وبالطبع كان قد استطاع أن يجعل من نفسه زعيمًا لجوقة المنافقين، ولكن «تولستوي» كان يستمع إلى صوته بكل رضًا.

كان الزائرون وأعضاء الدائرة الداخلية يدونون آراء «تولستوي» التي لا تترك انطباعًا كبيرًا، فهي تذكر بأقوال «نابوليون» في المنفى أو أحاديث «هتلر» على المائدة، أقوال هي تعميمات غريبة وحقائق بدهية، وعبارات متحاملة أو تافهة.

«كلما امتد بي العمر زاد اقتناعي بأن الحب هو أهم شيء.»

«يجب أن تتجاهلوا الأدب المكتوب في الستين سنة الأخيرة، إنه فوضى. اقرءوا أي شيء كُتب قبل ذلك.»

«الواحد الذي بداخل كلٍّ منا هو الذي يقربنا من بعضنا البعض.»

«كما تتلاقى جميع الخطوط عند المركز، كلنا نلتقي في ذلك الواحد.»

«أول شيء يستوقفك عن استخدام تلك الطائرات هو أن ضرائب جديدة سوف تُفرض على الناس وهذا دليل على أنه في مرحلةٍ أخلاقية معينة من المجتمع لا يمكن أن يكون أي تقدم مادي مفيدًا، بل لا بد أن يكون ضارًّا.»

ويقول عن التطعيم ضد الجدري: «لا داعي للهروب من المرض فأنت ميت ميت»، «لو أخذ الفلاحون الأرض لاختفت أحواض الزهور البلهاء»، «سوف يصبح العالم أفضل كثيرًا لو أن النساء أقل ثرثرة»، «في «شانغهاي» تسير الحياة على نحوٍ هادئ دون الشرطة»، «الأطفال ليسوا في حاجة إلى تربية من أي نوع، أنا مقتنع بأنه كلما زاد تعليم الرجل أصبح أكثر غباء»، «الفرنسيون شعب عاطفي جدًّا»، «دون الدين سيكون هناك دائمًا فسوق وتباه أحمق وفودكا»، «هكذا يجب أن يعيش المرء، يعمل من أجل الهدف العام، إنها نفس طريقة حياة الطيور وأوراق العشب»، «كلما ازداد الأمر سوءًا أصبح أفضل.» وفي وسط بلاط هذا النبي كانت أسرة «تولستوي» في فخ! وحيث إن الوالد كان قد قرر أن يعيش حياته علنًا، فقد احترقوا هم أيضًا بلهيب الشهرة. كانوا مضطرين لأن يشاركوا في الدراما التي صنعها وتحملوا آثارها. لقد اقتبسنا سابقًا كلمات ابنه «إيليا» عن مخاطر أن يصبحوا بشرًا من نوعٍ «خاص». «أندريه» ابن آخر، كان يعاني من نوبات عصبية، هجر زوجته وانضم إلى «المائة السود المعادون للسامية»، البنات شعَروا بشدة كراهية والدهم المتزايدة للجنس. مثل «ماركس» لم يكن راضيًا عنهن وكان يكره الذين اختاروهن للزواج. في سنة ١٨٩٧م وقعت ابنته «تانيا» في حب أرمل كان لديه ستة أطفال وكانت هي في الثالثة والثلاثين، كان الرجل إنسانًا لطيفًا ولكن لأنه ليبرالي ثارت ثائرة «تولستوي» فأعطى ابنته محاضرة عن شرور الزواج يقف لها شعر الرأس. ابنته الأخرى «ماشا» أحبت أيضًا وأرادت أن تتزوج ولقيَت نفس المصير. ابنته الصغرى «ألكساندرا» كانت الأقرب لكي تكون من تلاميذه، والسبب هو أن علاقتها كانت سيئة بأمها. أما «سونيا» فكان عليها أن تتحمل العبء الأكبر نتيجة تغيرات «تولستوي» الأخلاقية. على مدى ربع قرن كان يفرض عليها مطالبه الجنسية، عرَّضها لمرات حمل عديدة ومتلاحقة، فجأةً صمم على أن ينبذا الجنس معًا ويعيشا «كأخ وأخت». اعترضت على ذلك وكانت تراه إهانة لوضعها كزوجة، خاصة أنه كان يميل إلى الحديث والكتابة عن ذلك، فلم يكن قادرًا على احترام الخصوصية. لم تكن تريد أن تكون غرفة نومها موضوعًا للكلام والكتابة. طلب أن يناما في غرفتَين مستقلتَين. صممت هي على سرير مشترك كرمز على استمرار الزواج. في الوقت نفسه كان يبدي غيرته دونما سبب … كتب قصة خبيثة بعنوان «سوناتا كرويتزر» عن مقتل زوجة على يد زوجها شديد الغيرة بسبب علاقتها بعازف كمان. كانت تقوم بنسخها (كما كانت تفعل مع كل أعماله الأخرى) وهي في حالة شديدة من الاستياء والانزعاج، مدركة أن الناس سيظنون أنها قد كُتبت عنها، أوقفت الرقابة نشرها ولكن القصة انتشرت مخطوطة، وكذلك انتشرت الشائعات. بعد ذلك كانت «سونيا» هي التي تطلب من الرقابة السماح بنشرها معتقدة أن ذلك من شأنه إقناع الناس بأنها لم تكن موضوع القصة.

مع هذا الخلاف شبه العلني كانت هناك دائمًا مشاجرات أخرى شنيعة خلف الستار بسبب عدم قدرة «تولستوي» على الالتزام بعهده، وهجومه الجنسي على زوجته من وقت لآخر. سجل في يومياته في أواخر ١٨٨٨م: «داهمني الشيطان، في اليوم التالي، صباح يوم الاثنين، نمت نومًا سيئًا … كان شيئًا منفرًا … شعور ما بعد الجريمة …»، ويسجل بعد أيام قليلة: «ما زال الشيطان يتلبسني بقوة … سقطت.» وفي سنة ١٨٩٨م أخبر «إيلمر مود»: «كنت أنا نفسي زوجًا في الليلة الماضية، ولكن ذلك ليس سببًا للتخلي عن الكفاح، فليساعدني الله لألَّا أكون كذلك مرة أخرى.»53 ولأن «تولستوي» كان يمكن أن يناقش حياته الزوجية الجنسية مع أي شخص غريب، كانت «سونيا» تشعر بأن أدق أسرارها معروضة أمام أنظار العالم، وخلال هذه السنوات من التوتر المتصاعد أصبحَت حماقة «تولستوي» بسياسته في المصارحة أكثر وضوحًا.
في البداية لم تكن «سونيا» تحب أن تقرأ يومياته، وأي إنسان عادي أو عاقل لن يحب ذلك، وكان «تولستوي» مثالًا جيدًا على ذلك، ولذلك عندما انهارت علاقته ﺑ «سونيا»، وأصبح شديد النقد لها في يومياته، أصبح أقل رغبة في أن تطَّلع عليها، وهكذا بدأت تلاحظ ذلك منذ سنة ١٨٩٠م وتسجل هي في يومياتها: «بدأ يقلقه أن أنسخ له يومياته … يتمنى أن يدمر يومياته القديمة ليظهر أمام أطفاله وأمام العالم في ثيابه البطريركية. إن غروره لشديد.»54 وسرعان ما بدأ يخفي يومياته الجديدة. وهكذا انهارت سياسة المصارحة (الجلاسناست) وحل محلها مكر واحتيال من الجانبين، وبدأ يستخدم يومياته — منفردًا كما كان يظن — ليسجل مثلًا خلافاته معها من خلال «سوناتا كرويتزر».

كتبَت «سونيا»: ««ليونا» قطعت علاقتها بي … قرأتُ يومياته سرًّا … حاولتُ أن أرى ما يمكن القيام به في حياتنا ويمكن أن يوحدنا مرة أخرى، ولكن يومياته تعمق إحساسي باليأس. ويبدو أنه اكتشف أنني أقرؤها لأنه أخفاها.»

وتكتب مرة أخرى: «كان في الماضي يعطيني ما يكتبه لكي أنسخه ولكنه أصبح يعطيه لبناته (لا تقول بناتنا) ويخفيه عني جيدًا، أسلوبه المستمر لإبعادي عن حياته الشخصية يصيبني بالجنون. أمر مؤلم وفوق الاحتمال.» وفي فصل أخير عن محاولاته التخلي عن سياسة المصارحة بدأ يحتفظ بيوميات «سرية» كان يخفيها في حذاء ركوب الخيل. وعندما لم تجد شيئًا في يومياته العادية بدأت تشك في وجود أخرى. بحثت عنها وأخيرًا وجدتها … وحملتها وهي تشعر بالانتصار لكي تقرأها في السر. بعد ذلك لصقت عليها قصاصة من الورق فيها: «نسخت هذه اليوميات المؤسفة لزوجي بقلب موجوع، كثير مما قاله عني … وحتى عن زواجه غير منصف وقاسٍ ومشوه وكاذب ومختلق وليسامحني الله و«ليفوشكا».» في خلفية هذه المعركة الكابوسية لليوميات كانت قناعة «تولستوي» المتزايدة بأن زوجته تعوق تحققه الروحي بإصرارها على نمط حياة «عادية»، أصبح يجده مقيتًا من الناحية الأخلاقية.

لم تكن «سونيا» مادية فظة كما كان يتصور. ولم تنكر الصدق الروحي في كثير مما كان ينادي به، وكما كتبَت إليه: «مع الجموع أرى ضوء المصباح، أعرف أنه النور، ولكني لا أستطيع أن أمضي بسرعة أكبر، الجموع والتقاليد وما يحيط بي … كل ذلك يمسك بي ويمنعني من التقدم.»

ولكن «تولستوي» عندما تقدم به العمر، أصبح أقل صبرًا وأكثر نفورًا من ترف الحياة الذي عاشه مع «سونيا».

كتب: «نجلس في الخارج وتتناول عشرة أصناف من الطعام … آيس كريم … خدم وحشم … آنية من الفضة … وأمامنا يمر الشحاذون.» وكتب إليها: «أسلوب حياتك هو نفس أسلوب الحياة الذي نجوتُ منه نجاتي من شر مستطير، يؤدِّي بي إلى الانتحار. لا أستطيع العودة إلى الأسلوب الذي عشت به والذي وجدت فيه كل الدمار … بيننا صراع حتى الموت.»

بدأت الذروة المأسوية المؤسفة لهذا الصراع في يونيو ١٩١٠م، وعجلت بها عودة «شيرتكوف» من المنفى، وكانت «سونيا» قد تعلمت أن تكره وكان هو بدوره يعتبرها منافسته في السيطرة على «النبي»، ويوجد لذلك سجل موثوق به وموضوعي نعرف منه كل ما حدث، حيث كان «فالنتين بولجاكوف» سكرتير «تولستوي» الجديد يحتفظ بيوميات. أما الدليل على استحواذ فكرة اليوميات كهاجس في دائرة «تولستوي» فهو الأمر الذي أصدره «شيرتكوف» إلى «بولجاكوف» بأن يرسل نسخة من يومياته (يومًا بيوم) إلى سكرتيره الشخصي.

ويروي «بولجاكوف» أن «شيرتكوف» عندما عاد من المنفى: «وظهر على مسرح «ياسنايا بوليانا» أدركت كم كنت مقيدًا بذلك النوع من «الرقابة»، ولجأت إلى ذرائع متعددة لكي أتوقف عن إرسال نسخ من يومياتي إلى «شيرتكوف»، رغم طلبه لها»، ويقول إن «شيرتكوف» عاد متحاملًا على الكونتيسة منحازًا ضدها، وحذره بأنها كانت «غير متعاطفة»، إن لم تكن «عدائية»، بينما كان يراها هو «لطيفة وكريمة». «أحببت النظرة المباشرة لعينيها البنيتين المشعتين، أحببت بساطتها ودماثة خلقها وذكاءها».55 وما سجله «بولجاكوف» في يومياته يدل على أنه كان قد بدأ يلحظ ببطء أنها كانت مظلومة أكثر منها ظالمة، وأن صنمه: «تولستوي» كان قد بدأ يتداعى. وكان أول شيء يفعله «شيرتكوف» بعد عودته هو الاستحواذ على يوميات «تولستوي»، كما قام بتصويرها سرًّا دون علمه. وفي ١ يوليو أصرت «سونيا» على شطب الأجزاء التي كانت تعترض عليها حتى لا تنشر، وحدثت ثورة عارمة ثم استقلت العربة مع «بولجاكوف» وراحت تتوسل إليه أن يقنع «شيرتكوف» بإعادة اليوميات. كانت تبكي طوال الطريق وكانت في حالةٍ يرثى لها … «لم أحتمل أن أراها تبكي، امرأة تعسة لا بد أن تتعاطف معها». وعندما تحدث مع «شيرتكوف» بشأن اليوميات و«هاج وماج» واتهمه بأنه هو الذي أخبر الكونتيسة بمكان إخفائها، «… ولدهشتي البالغة، لوى قسمات وجهه بطريقةٍ بشعة وهو يخرج لي لسانه»، ويبدو أنه أخبر «تولستوي» الذي كتب رسالة إلى «سونيا» (١٤ يوليو) وهو مصمم على أن «تصرفاتك في السنوات الأخيرة أصبحَت أكثر إزعاجًا، أصبحَت استبدادية وتفتقر إلى ضبط النفس» … والآن كان لدى كل منهما «فهم مختلف تمام الاختلاف عن معنى الحياة والهدف منها»، ومن أجل حسم الخلاف أودعت اليوميات البنك تحت الشمع الأحمر.56

بعد ذلك بأسبوع (٢٢ يوليو) كتب «تولستوي» أن «الحب هو التقاء روحين فصلهما الجسد عن بعضهما»، ولكنه ذهب سرًّا في نفس اليوم إلى قرية «جرمونت» القريبة ليوقِّع وصية جديدة تعطي كافة حقوق النشر لابنته الصغرى تحت إشراف «شيرتكوف» الذي قام بترتيب كل ذلك. وجعلوا «بولجاكوف» خارج الموضوع خشية أن يخبر «سونيا»، وكان يشكو ويعلن عن شكه في أن «تولستوي» كان يعرف ما يقوم بالتوقيع عليه، وهكذا وقع ما كانت تخشاه، الأسرة التي ظلت تحمي مصالحها المادية وتسهر على حراستها أصبحَت محرومة من الحقوق الأدبية لأعمال «تولستوي» بعد وفاته، ويضيف أن ««سونيا» كانت تشعر بغريزتها أن شيئًا مرعبًا قد وقع ولا سبيل لإصلاحه.»

في ٣ أغسطس حدثت مشاهد كابوسية اتهمت «سونيا» أثناءها «شيرتكوف» بوجود علاقة جنسية شاذة بينه وبين زوجها، و«تجمد «تولستوي» من شدة الغضب».57 وفي ١٤ سبتمبر كان هناك موقف آخر أشد رعبًا؛ إذ قال «شيرتكوف» ﻟ «تولستوي» في حضورها: «لو أن لي زوجة مثل زوجتك لأطلقت النار على نفسي.» كما قال لها: «لو كنت أريد، لسحبت أسرتك إلى الوحل ولكني لم أفعل.» وبعد أسبوع اكتشف «تولستوي» أن «سونيا» وجدت يومياته السرية في حذاء ركوب الخيل وقرأتها، وفي اليوم التالي على عكس اتفاق سابق أعاد تعليق صورة «شيرتكوف» في حجرته. وبينما هو في الخارج يركب الخيل مزقت «سونيا» الصورة وألقت بها في المرحاض ليجرفها الماء وراحت تطلق النار من مسدس أطفال وهي تجري في الحديقة. هذه الحالات من الهياج والغضب كانت تنتاب الصغرى «ألكساندرا» أيضًا. كانت تأخذ وضع الملاكم وتستفز أمها وهي تقول: «هل هذه سيدة حسنة التربية أم حوذي؟» مشيرة بلا شك إلى أسرار عائلية بائسة.58

وفي ليلة ٢٧/ ٢٨ أكتوبر ضبط «تولستوي» «سونيا» وهي تقلب في أوراقه في منتصف الليل ويبدو أنها كانت تبحث عن الوصية السرية فأيقظ «ألكساندرا» من النوم وأعلن: «سأرحل فورًا … وإلى الأبد.»

وفي نفس الليلة استقل قطارًا، وفي الصباح جاءت الأخبار إلى «بولجاكوف» عن طريق «شيرتكوف» المنتصر، وكان وجهه يفيض بالفرح والبهجة. وعندما أبلغوا «سونيا» ألقت بنفسها في البركة، كما كانت هناك محاولات أخرى للانتحار.

وفي ١ نوفمبر عندما أُصيب «تولستوي» بالتهاب في الشعب الهوائية والرئتَين كان عليه أن يترك القطار ليوضع في سرير في محطة «استابوفا» على خط «ريازان-الأورال». بعد يومين ذهبت «سونيا» والأسرة بقطار خاص للحاق به. وفي يوم ٧ نوفمبر جاءت أخبار وفاة النبي. أما الذي يجعل الشهور الأخيرة من حياته مؤلمة خاصة بالنسبة لمحبي إبداعه الروائي، فهو أنها لم تتميز بأي جدل نبيل حول القضايا الكبرى، وإنما تميزت بالغيرة، والضغينة، والانتقام، والمكر، والخيانة، والمزاج السيئ، والهيستيريا، والخسة.

كان خلافًا عائليًّا من أحط الأنواع، سممه شخص غريب صاحب مصلحة وانتهى بكارثة. بعد ذلك حاول المعجبون ﺑ «تولستوي» أن يصنعوا من سرير الموت في محطة «استابوفا» مشهدًا في تراجيديا إنجيلية، ولكن الحقيقة أن حياته الطويلة العاصفة لم تنتهِ بدويٍّ مفاجئ، وإنما بأنينٍ حزين.

وحالة «تولستوي» مثال آخر لما يحدث عندما يسعى المثقف من أجل أفكار مجرَّدة على حساب الناس. ولدى المؤرخ ما يغريه بأن يراها كمقدمة نقدية — على نطاقٍ شخصي محدود — لتلك الكارثة القومية الكبرى النهائية التي سرعان ما حلت بالاتحاد السوفيتي كله.

«تولستوي» دمر أسرته وقتل نفسه بمحاولته إحداث تحول أخلاقي شامل كان يراه حتميًّا، ولكنه أيضًا كان يتوق ويتنبأ — كما شجع بكتاباته كثيرًا — بتحول ألفي سعيد ﻟ «روسيا» نفسها، لا عن طريق الإصلاحات التدريجية الاجتهادية من النوع الذي كان يحتقره، وإنما عن طريق زلزال بركاني واحد جاء أخيرًا في سنة ١٩١٧م، ونتيجة أحداث لم يكن يتوقعها، وبوسائل لو تصورها لارتجف.

لقد أثبت أن كل ما كتبه عن تجديد روح المجتمع هراء. «روسيا» المقدسة التي كان يحبها دُمرت، ويبدو أنها قد دُمرت إلى الأبد. ومن سخريات القدر أن يكون الضحايا الرئيسيون لأورشليم الجديدة هم فلاحوه المحبوبون الذين تم اقتياد عشرين مليونًا منهم نحو مجزرة جماعية قربانًا على مذبح الأفكار.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤