الفصل السادس

«إرنست هيمنجواي»: المياه العميقة!

رغم أن الولايات المتحدة قد نمت عددًا وعدَّة خلال القرن التاسع عشر؛ لتصبح أكبر وأعظم قوة صناعية في العالم مع نهاية القرن، إلا أن وقتًا طويلًا قد مر قبل أن يبدأ مجتمعها في إنتاج مثقفين من النوع الذي تناولناه حتى الآن، وقد كانت هناك أسبابٌ كثيرة لذلك.

أمريكا المستقلة لم يكن لها أبدًا ما يمكن أن يُسمَّى بالنظام القديم، مؤسسة ثرية تعتمد على ملكية مكتسبة أكثر منها على العدل الطبيعي.

لم يكن هناك نظام جائر أو لاعقلاني يجعل النسل الجديد من المثقفين العلمانيين يفكر في أن يستبدله بنماذج جديدة مؤسسة على العلم والأخلاق.

الولايات المتحدة على العكس من ذلك، كانت نتاج ثورة على ظلم النظام القديم، تأسس دستورها على مبادئ عقلانية وأخلاقية، وتم تخطيطه وكتابته وتقنينه على ضوء تجربةٍ باكرة، وتم تعديله على أيدي بشر أذكياء يتمتعون برؤيةٍ فلسفية ومكانةٍ أخلاقية. وهكذا لم يكن هناك شقاق بين الطبقات الحاكمة والمتعلمة، بل كانوا طبقةً واحدة.

وكما يشير «دي توكيفي» لم يكن هناك في الولايات المتحدة طبقة «إكليريكية مؤسساتية»، وبالتالي لم تكن هناك حركة ضدها، والتي كانت مصدرًا لكثير من التخمر الثقافي في أوروبا. كان الدين في أمريكا عامًّا ولكنه تحت سيطرة الكافة. كان معنيًّا بالسلوك وليس بالجمود. كان اختياريًّا ويتسم بالتعددية الطائفية. وهكذا كان يعبر عن الحرية أكثر مما يقيدها … وأخيرًا كانت أمريكا أرض وفرة وفرص كبرى. لم يكن هناك أي دلائل ملحوظة عن ظلم واضح مثل الذي حرض المثقفين في أوروبا على اعتناق الأفكار الثورية.

كان معظم الناس مشغولين بالحصول على الأموال وإنفاقها، بالاستثمار والاندماج، مشغولين عن التفكير في الهموم الأساسية للمجتمع.

وقد أخذ المثقفون الأمريكيون الأوائل، مثل «واشنطن إيرفينج»، طابعهم وأسلوبهم ومضمونهم من أوروبا، حيث قضوا معظم وقتهم، وكانوا تراثًا حيًّا للنزعة الثقافية الاستعمارية، وكان ظهور روح ثقافية وطنية أمريكية مستقلة في حد ذاته ردة فعل على تبعية وخضوع «إيرفينج» وأمثاله.

وأكبر دليل وأول ممثل لهذه الروح هو «رالف والدو إيمرسون» (١٨٠٣–١٨٨٢م) المثقف الأمريكي النموذجي للقرن التاسع عشر، والذي أعلن أن هدفه كان استخراج «الدودة الشريطية الأوروبية» من جسم وعقل أمريكا وأن «يطرد الولع الأوروبي بالولع الأمريكي»،1 وكان هو أيضًا قد ذهب إلى أوروبا ولكن بروح نقدية رافضة. إلا أن إصراره على «أمريكية» عقله أدى إلى توحد عريض مع افتراضات مجتمعه، وتوثقت صلته به عندما تقدم به العمر، وكان النقيض الواضح لنظرة المثقفين الأوروبيين.
«إيمرسون» من مواليد «بوسطن» في سنة ١٨٠٣م، ابن وزير وحدوي، كما أصبح وحدويًّا، ولكنه ترك الوزارة لأنه لم يستطع أن يقيم العشاء الرباني بضمير مستريح، سافر إلى أوروبا واكتشف «كانط»، وعاد واستقر في «كونكورد» — «ماساشوستس» — حيث أسس أول حركة فلسفية أمريكية أهلية عُرفت بالفلسفة المتعالية١ التي تضمنها كتابه الأول «الطبيعة» الذي نشره في ١٨٣٦م وهي نظرة أفلاطونية جديدة، غير عقلانيةٍ إلى حدٍّ ما، صوفية بقدر، مع لمسةٍ رومانتيكية، وفوق كل شيء غامضة. وقد دوَّن «إيمرسون» في واحد من دفاتره الكثيرة: «من أجل هذا وُلدت وجئت إلى العالم؛ لكي أخلص النفس من نفسي، والكون من الكون، لأقدم فائدة معينة لم تستطع الطبيعة أن تضيعها ولا أنا أعفي نفسي من تقديمها.»
«الله غني يطوي جوانحه على رجال أكثر مني ينتظرون الفرصة الملائمة … أتدفق إلى الأبد بحرًا من الفائدة يفيض على بشر كثيرين … لا المجرى يعود إلى الخلف، ولا الخطيئة أو موت الإنسان يبددان الطاقة الثابتة التي توزع نفسها في البشر، كالشمس في الأشعة أو البحر في القطرات.»2 وهذا لا معنى كبيرًا له، أو لعله على نحوٍ ما يعبِّر عن حقيقةٍ بدهية. ولكن في عصر الإعجاب بفلسفة «هيجل» وبدايات «كارليل» كان الأمريكيون فخورين بأن بلدهم الوليد قد أنجب مفكرًا خاصًّا بهم يُعترف به، ولُوحظ فيما بعدُ أن الإعجاب به كان لا يستند إلى فهم الناس له، وإنما على أساس «أن أناسًا كهؤلاء يستحقون التشجيع»،3 وبعد عام من نشر الطبيعة، ألقى «إيمرسون» خطابًا في «هارفارد» بعنوان «الدارس الأمريكي» كان يقول عنه «أوليفر ويندل هولمز»: «إعلان استقلالنا الفكري.»4 وتناولت أفكاره الصحافة الأمريكية النامية. أما صحيفة «نيويورك تريبيون» أهم صحف البلاد آنذاك والتي كانت تنشر تقارير «ماركس» من أوروبا فقد روجت لأفكار «إيمرسون» — الترنسندنتالية — بطريقةٍ مثيرة وكانت تعتبرها ثروة قومية مثل «شلالات نياجرا».
و«إيمرسون» جدير بالدراسة لأن عمله يصف الصعوبة التي مر بها المثقفون الأمريكيون للإفلات من ربقة الإجماع المحلي. في جوانب كثيرة ظل نتاج خلفيته، خلفية «نيو إنجلند»، خاصة فيما يتعلق بأسلوب تناوله البدائي التطهري والشاحب للجنس. عندما نزل عند أسرة «كارليل»، في «كريجن باتوك»، في أغسطس ١٨٣٣م كانت «جين كارليل» تراه كائنًا شبه أثيري، آتٍ من «السحاب»، «كارليل» نفسه كان يشعر «بأنه مثل ملاك بروحه الجميلة الشفافة».5
ويصف «إيمرسون» في يومياته كيف كان مضطرًّا في زيارةٍ تالية (أغسطس ١٨٨٤م) أن يدافع عن المعايير الأخلاقية الأمريكية في حفل عشاء في منزل «جون فوستر» كان يحضره «ديكنز» و«كارليل» وآخرون. «قلت إنني عندما جئت إلى «ليفربول» تساءلت إذا ما كان البغاء يمثِّل ظاهرة في تلك المدينة كما كان يبدو. كان بالنسبة لي يدل على فسادٍ كبير في الدولة، ولم أعرف كيف يمكن لأي صبي أن ينشأ سالمًا، ولكنهم قالوا لي إن الوضع ظل على ما هو عليه لعدَّة سنوات، ليس أسوأ وليس أفضل، ورد «ديكنز» أن العفة في الذكور كانت جيدة كما كانت على أيامنا، وأنها كانت نادرة في «إنجلترا» لدرجة أنهم يمكنهم إحصاء كل الاستثناءات، ولكني أكدت له أن الأمر ليس كما يظن، وأن الشباب من ذوي التربية الجيدة يذهبون إلى سرير الزفاف في معظم الأحوال وهم عذارى مثل عرائسهم.»6
وكما كتب «هنري جيمس» فيما بعدُ عن «إيمرسون»: «إحساسه الناضج بالشر والكامن في اللاشعور … أحد السمات الجميلة التي نعرفه بها.» ورغم أنه يضيف بقسوةٍ: «يصبح لدينا انطباع عن ضمير يلهث في الفراغ، يتوق إلى الأحاسيس وحركة تشبه خياشيم سمكة على البر.»7 وواضح أن الدوافع الجنسية لم تكن قوية عند «إيمرسون». كانت زوجته الأولى الشابة تسميه «جدي»، أما الثانية والتي كان عليها أن تتحمل أمه — التي كان يعبدها — حتى ماتت، فكانت تبدي ملاحظات مُرَّة ولاذعة كان يسجلها — ببراءة — في يومياته: «أنقذوني من الأرواح العظيمة، أحب الروح الصغيرة ذات الحجم المعقول»، كان يعتقد أن قصيدته: «فلنمنح كل شيء للحب»8 قصيدة جريئة بينما لا يوجد أي دليل على أنه قد «منح» الكثير. كانت صداقته غير الزوجية مع امرأة علاقة أفلاطونية، أو لعلها كانت أفلاطونية جديدة … وليس باختيارها.
«إيمرسون» يلمح بحذر: «لي أنا أيضًا أعضاء، ولدي رغبة في اللذة، ولكن التجربة علمتني أيضًا أن تلك اللذة طُعم في فخ.»9 ويومياته التي تكشف لنا عنه الكثير، وأكثر مما كان يريد، تسجل حلمًا (عام ١٨٤٠-١٨٤١م) يحضر فيه مناقشة عن الزواج. اتجه أحد المتحدثين إلى الجمهور فجأةً «مثل ماكينة» يندفع منها ماء غزير وانتشر بعنف في كل اتجاه «ليطرد الجميع بعيدًا ويصوب تيار الماء كله نحو «إيمرسون»، وأغرقني وأنا أحدق، ثم استيقظت لأجد نفسي جافًّا تمامًا والحمد لله».10
تزوج «إيمرسون» في المرتين لأسباب كلها تدبر وحصافة، وهكذا استطاع الحصول على رأسمال حقق له درجةً معقولة من الاستقلال الأدبي. وباستثماره جيدًا استطاع أن يحقق اقترابًا معقولًا من نظام المقاولات الذي كان ينمو بسرعة، كما استطاع أن يحقق سمعة قومية في النهاية، سمعة لا تبارى كحكيم ونبيٍّ، ولم يكن ذلك من خلال كتبه وإنما من خلال شبكة المحاضرات التي كانت جزءًا من ذلك النظام. في البداية كانت مجموعة محاضراته «الحياة الإنسانية» في «بوسطن» (١٨٣٨م)، ثم «التميز» في «نيويورك» (١٨٤٢م)، بعدها دراسته عن العقول العظمية «الممثلون النيابيون» (١٨٤٥م).11 وقد تصادف بروز «إيمرسون» كمثقف رفيع المستوى — وشعبي في نفس الوقت — وكمحاضر تنقل الصحف المحلية والإقليمية والقومية محاضراته مع تطور حركة جمعيات المحاضرات العامة التي قام بتأسيسها «جوسيا هولبروك»، في ١٨٢٩م لتثقيف الأمة التي كانت آخذة في الاتساع.
أُنشئت قاعات المحاضرات العامة (الليسيوم) في «سينسيناتي» سنة ١٨٣٠م وفي «كليفلاند» سنة ١٨٣٢م وفي «كولمبس» سنة ١٨٣٥م، ثم بعد ذلك على امتداد «الميدوست» ووادي «المسيسيبي»، وبنهاية الثلاثينيات كان هناك قاعة في كل مدينة كبرى تقريبًا، وكان ذلك كله إلى جانب المكتبات وجمعيات المحاضرات والمناظرات التي كان يقيمها التجار والموجهة للشباب وغير المتزوجين وموظفي البنوك والباعة في المحلات … إلخ؛ أي الذين كانوا يشكلون أغلبية سكان المدن،12 وكانت الفكرة من وراء ذلك هي إبعادهم عن الشوارع والارتقاء بعملهم التجاري وبمستواهم الفكري. كانت آراء «إيمرسون» تناسب هذا المفهوم تمامًا. كان ضد النخَب الثقافية والفكرية، وكان يعتقد أن ثقافة أمريكا الخاصة يجب أن تكون قومية وشاملة وديمقراطية. كان الاعتماد على النفس ضروريًّا، كان يقول إن أول أمريكي قرأ «هوميروس» في مزرعة قد أدَّى خدمة جليلة للولايات المتحدة، وأنه عندما كان يرى رجلًا يقرأ كتابًا في قطار كان يود أن يعانقه. كانت فلسفته الاقتصادية والسياسية الشخصية تتطابق مع الفلسفة العامة التي كانت تدفع الأمريكيين عبر القارة نحو تحقيق قدرهم الواضح؛ القاعدة الوحيدة الأمينة توجد في نظام يتوازن ذاتيًّا بين العرض والطلب، لا تضع تشريعات، تدخل وسوف تنتزع القوة بقوانين المالية. لا تُقدم أي هبات، سن القوانين المتكافئة، حافظ على الحياة والممتلكات ولن تحتاج إلى تقديم الصدقات. افتح أبواب الفرصة أمام الموهبة والفضيلة وسوف تكون صادقة مع نفسها ولن تكون الملكية في أيدٍ سيئة.
«في جماعة حرة وعادلة سوف تندفع الملكية لتنتقل من الكسالى والبلهاء إلى الشجعان والمثابرين.»13

في هذا الوقت بالضبط كان من الصعب أن تجد من الأفكار ما هو أكثر تناقضًا من ذلك مع الأفكار التي كان يدعو إليها «ماركس». وتجربة «إيمرسون» الميدانية كانت تتناقض مع الأسلوب الذي كان «ماركس» يقول إن الرأسمالية تعمل — أو لا بد أن تعمل — بموجبه. وبدلًا من معارضة هذا السعي من أجل التنوير، كان الملَّاك والمديرون يروجون له بطريقةٍ إيجابية. وعندما ذهب «إيمرسون» إلى «بنسبورج» في سنة ١٨٥١م أغلقت الشركات أبوابها باكرًا حتى يتسنى لصغار الموظفين الذهاب للاستماع إليه، رغم أن سلسلة محاضراته لم تكن مكرسة لدعم النزعة التجارية. كانت الموضوعات تتناول — على سبيل المثال — «الغريزة والإلهام»، «تطابق الفكر والطبيعة»، «التاريخ الطبيعي للعقل» … وهكذا.

ولكن «إيمرسون» كان يميل إلى تقديم الدليل على أن المعرفة إلى جانب الشخصية الأخلاقية يمكن أن تؤدِّي إلى نجاح العمل التجاري. كثير من الذين كانوا يتوقعون أن يبهرهم ذلك الفيلسوف الكبير وجدوا أن ما كان يقوله في حكم البدهيات. وصفَته جريدة «سينسيناتي» بأنه «غير مدعٍ … وطيب طيبة جد يقوم بتلاوة الإنجيل»، «الإنسان مبذر بحكم تكوينه ويجب أن يكون منتجًا»، «الحياة هي السعي من أجل القوة».

أقوالٌ كتلك كان المستمعون إليه يرونها صادقة، وعندما كانت تلخص وتنتزع من سياقها في الصحف كانت تسري إلى مخزون الحكمة الشعبية الأمريكية، ولم يكن غريبًا أن يرتبط «إيمرسون» دائمًا بنفس سلسلة محاضرات «ب. ت. بارنوم» الذي كانت موضوعاته تتناول «فن الحصول على المال»، «النجاح في الحياة». وكان الاستماع إلى «إيمرسون» من علامات الطموح الثقافي والذوق الرفيع، وأصبح تجسيدًا للإنسان المفكر. قالت صحيفة «شيكاغو تريبيون» عن آخر محاضرة له في «شيكاغو» سنة ١٨٧١م: «كان التصفيق الشديد ينم عن ثقافة الجمهور.» وبالنسبة لأمة كانت تسعى نحو التقدم الأخلاقي والثقافي بنفس الحماس الذي تتطلع به إلى الثورة وتعتبر الاثنين ضروريين من أجل صنع حضارتها الجديدة، كان «إيمرسون» في نهاية سبعينيات القرن (التاسع عشر) معلمًا وبطلًا قوميًّا، كما كان «هوجو» بالنسبة ﻟ «فرنسا»، و«تولستوي» بالنسبة ﻟ «روسيا». كان قد وضع نموذجًا أمريكيًّا.

أمام هذه الخلفية التي يتجلى فيها تطور الأمة الاقتصادي، وحياتها الثقافية والفكرية في انسجام تام، يجب أن نضع «إرنست هيمنجواي»، الذي يصعب أن نعترف به كمثقف أو كمفكر من النظرة الأولى. ولكننا إذا نظرنا إليه عن كثبٍ؛ لوجدنا أنه يمتلك كل مواصفات المثقف الرئيسية بدرجةٍ غير عادية، وبتركيبتها الأمريكية المحددة.

وعلاوة على ذلك كان كاتبًا عميق الأصالة أحدث تحولًا في الأسلوب الذي كان يعبر به أقرانه الأمريكيون عن أنفسهم، وكذلك في أسلوب الجميع في العالم الناطق بالإنجليزية. خلق أسلوبًا جديدًا شخصيًّا وعلمانيًّا شديد المعاصرة، أمريكي الأصل ولكنه انتقل بسهولة إلى ثقافات عدَّة. لقد مزج عدَّة توجهات أمريكية معًا وجعل من نفسه نموذجًا مجسدًا لها؛ ولذلك استطاع أن يكون تجسيدًا لأمريكا في مرحلة معينة كما كان «فوليتر» بالنسبة ﻟ «فرنسا» في خمسينيات القرن (الثامن عشر)، و«بيرون» بالنسبة ﻟ «إنجلترا» في عشرينيات القرن (التاسع عشر).

وُلد «هيمنجواي» في سنة ١٨٩٩م في ضاحية «أوك بارك-شيكاغو»، المشهورة بجوها الصحي النظيف، والتي كانت قد احتفت ﺑ «إيمرسون» أيما احتفاء قبل ذلك بربع قرن. والداه «جريس» و«إدموند إد هيمنجواي»، وهو شخصيًّا كانوا كلهم نتاجًا واضحًا للحضارة التي ساعد على صنعها «إيمرسون» ومحاضراته والفاعلية الاقتصادية التي نشأت عن ذلك. كان الوالدان — أو بالتأكيد كان يبدو أنهما — يتمتعان بصحة جيدة ونشاط وكفاءة وتعليم جيد ومواهب عدَّة وتوافق اجتماعي ووفاء لموروثهما الثقافي الأوروبي مع الإحساس الشديد بالفخر بما أجرته عليه أمريكا من تطور.

كانا يخشيان الله ويعيشان حياتهما كاملة داخل منزلهما وخارجه. كان الدكتور «هيمنجواي» طبيبًا ممتازًا، يمارس الصيد والرماية والرحلات البحرية والبرية في الأحراش والغابات، وكان يمتلك كل المهارات البرية لرجال الغابات وعلمها لابنه. أمه «جريس هيمنجواي» كانت امرأة شديدة الذكاء، قوية الإرادة، ذات إنجازات كثيرة. قارئة ممتازة، تكتب نثرًا جميلًا وشعرًا ذكيًّا، ترسم، تُصمم الأثاث وتصنعه، تغني بصوتٍ جميل وتعزف على آلات موسيقية مختلفة، وقد كتبَت ونشرت أغنيات جيدة.14،15

وكلاهما (الأب والأم) بذل كل ما في وسعه لكي ينقل للأبناء (كان «إرنست» الابن الأكبر والأكثر تفضيلًا) كل موروثهم الثقافي ويضيف إليه، وكانا والدين نموذجيين في نواحٍ كثيرة، فنشأ «هيمنجواي» قارئًا جيدًا، مثقفًا ورياضيًّا ماهرًا. كلاهما كان شديد التدين، ينتميان إلى طائفة أبرشية خاصة، كما كان الدكتور «هيمنجواي» إلى جانب ذلك من طائفة «المسبتين» الذين لا يعملون يوم السبت مثل كثير من اليهود. كانوا يذهبون إلى الكنيسة يوم الأحد ويصلون على المائدة عند تناول الطعام، وتضيف «صني» — شقيقة «هيمنجواي» — «كنا نصلي كل صباح ونقرأ ترنيمة أو أكثر من الإنجيل، وكان الوالدان يفرضان قانون البروتستانتية الأخلاقي بشدة ويعاقبان الخارج عليه بصرامة.»

كانت «جريس» تصفع الأطفال بفرشاة الأسنان، والدكتور بمشحذ الموسى. وعندما كانوا يكذبون أو يتفوهون بألفاظ غير لائقة يغسلون لهم أفواههم بصابون مُرٍّ عقابًا لهم، وبعد العقاب يكون الركوع وطلب العفو من الرب. كان الدكتور «هيمنجواي» يوضح دائمًا أنه يعرف المسيحية بالشرف الذكوري والسلوك القويم. كتب إلى «هيمنجواي» — الابن — يقول: «أريد أن تكون نموذجًا لكل ما هو طيب ونبيل وشجاع ومهذب في الرجل، تخشى الله وتحترم المرأة.»16 وكانت أمه تريده نموذجًا للبروتستانتي التقليدي؛ لا يدخن، لا يشرب، عفيفًا قبل الزواج، مخلصًا أثناءه، مطيعًا لوالديه موقرًا لهما في جميع الأحوال، خاصة أمه. أما «هيمنجواي» فقد رفض دين والديه بالكلية، كما رفض أن يكون الابن الذي يريدون. ويبدو أنه كان قد قرر بحزم — منذ سنوات المراهقة — أن يتبع أسلوبه الخاص في جميع الأمور وأن يصنع تصوره الخاص للإنسان الشريف والحياة الخيرة التي يستحقها، وكان ذلك تصورًا رومانسيًّا أدبيًّا، وإلى حدٍّ ما أخلاقيًّا، ولكن دون أي مضمون ديني بالمرة. ويبدو أن «هيمنجواي» كان مجرَّدًا من الروح الدينية، فقد ترك «الاعتقاد» في السابعة عشرة عندما التقى ﺑ «بل» و«كاتي سمث» (وقد تزوجت الأخيرة من جون دوس باسوس فيما بعد)، وكان والدهما مدرسًا ملحدًا، ألَّف كتابًا بارعًا يثبت فيه أن المسيح لم يكن له وجود أبدًا. عند أول فرصة توقف «هيمنجواي» عن ممارسة الدين، كان قد ذهب ليعمل لأول مرة في «كانساس سيتي ستار» ويعيش في منزل لا يشرف عليه فيه أحد. وفي سنة ١٩١٨م، وكان تقريبًا في العشرين كان يؤكد لأمِّه: «لا تقلقي أو تبكي أو تحزني بخصوص أن أكون مسيحيًّا جيدًا، فأنا كما كنت دائمًا أصلي كل ليلة، وإيماني قوي.»17 ولكنه كان يكذب ويقول ذلك فقط من أجل السلام النفسي. لم يكن يؤمن بالله، والأكثر من ذلك أنه كان يعتبر الدين المنظم تهديدًا للإنسانية، تقول زوجته الأولى «هادلي» إنها لم تشاهده يصلي سوى مرتين: عند زفافهما وعند تعميد ابنهما.
ولكي يُرضي زوجته الثانية «بولين» تحول إلى الكاثوليكية دون أن يكون لديه أي فهمٍ إضافي عن المذهب الجديد. وكان يثور عندما تحاول «بولين» أن تتبع قواعده (تنظيم النسل مثلًا) بأساليب تضايقه. نشر كتابات ساخرة عبارة عن محاكاة تجديفية للمسيح في قصته «مكان نظيف جيد الإضاءة»، ولعملية الصلب في «الموت في الظهيرة»، وهناك تجديف شديد أيضًا في مسرحيته «الطابور الخامس». وعلى قدر فهمه للمذهب الكاثوليكي كان يكرهه. لم يبدِ أي بادرة احتجاج عندما أُحرقت مئات الكنائس وانتهكت في «إسبانيا»، ذلك المكان الذي كان يعرفه ويقول إنه يحبه، لقد تخلى عن ادعائه المظهري للكاثوليكية بعد أن ترك زوجته الثانية،18 والحقيقة أنه عاش حياته كلها بعد سنوات المراهقة وثنيًّا يعبد أفكارًا من صنعه.
ورفض «هيمنجواي» للدين كان من سمات المثقف المراهق وفي نفس الوقت من علامات رفضه لثقافة والديه الأخلاقية. بعد ذلك كان يحاول أن يميز بين والديه وبطريقةٍ تبرئ والده دائمًا. عندما انتحر والده حاول أن يحمِّل أمه المسئولية، رغم أنها كانت حالة واضحة لطبيب أدرك أن مرضه لا شفاء منه. كان الدكتور «هيمنجواي» هو الطرف الضعيف في زواجه ولكنه كان يقف إلى جوار زوجته تمامًا في خلافاتها مع ابنهما، والذي كانت مشاحناته معهما معًا أكثر مما هي مع الأم فقط. ولكن «هيمنجواي» كان يركز مقاومته على «جريس»، وذلك — في نظري — لأنه كان يراها المصدر الرئيسي لإرادته الذاتية وقوته الأدبية. كانت امرأة قوية مخيفة، وكان هو في طور التكوين لأن يصبح رجلًا قويًّا ومخيفًا … والدائرة لا تتسع لاثنين، وصل النزاع بينهما إلى ذروته. في سنة ١٩٢٠م عندما عاد «هيمنجواي» من الحرب العظمى وكأنه بطل، كان قد قضى الجزء الأخير منها في وحدة طبية على الجبهة الإيطالية، وبعد عودته فشل في أن يجد لنفسه عملًا، وكان مزعجًا لوالديه بسبب بطالته وسلوكه السيئ في نظرهما. في شهر يوليو من ذلك العام كتبَت إليه توبخه بشدة قائلة إن حياة أي أم تشبه البنك، «وكل طفل تلده يدخل إلى الحياة برصيد ضخم يبدو وكأنه لن ينفذ»، يستمر الطفل في السحب، «دون إيداعات جديدة في السنوات الأولى كلها»، بعد ذلك وحتى المراهقة «وعندما يكون السحب شديدًا من البنك، تكون هناك إيداعات قليلة ضئيلة على شكل خدمات، بعض الامتنان، وبعض عبارات الشكر»، وفي مرحلة الرجولة عندما يواصل البنك يستمر في تقديم الحب والحنان، «وفي ذلك الوقت يكون البنك في حاجة إلى بعض الإيداعات معقولة الحجم على هيئة عرفان بالجميل وتقدير، والاهتمام بأفكار الأم وشئونها. أشياء بسيطة تقدم للبيت، رغبة في إرضاء أي مطالب للأم، لا إغضابها، زهور، حلوى … أو قطعة ملابس جميلة ترتديها تقدم مع قبلة أو ضمة حنان … تسديد بعض الفواتير لكي تخلي الأم ذهنها منها … كل تلك الأشياء بمثابة إيداعات تجعل الحساب في وضع جديد. أعرف أمهات كثيرات يتلقين هدايا مثل تلك وأكثر من أبناء أقل قدرات وإمكانيات من ابني. إن لم تثب يا بني لرشدك وتكف عن كسلك وتسكعك وبحثك عن الملذات واستغلال وجهك الوسيم، وإهمال واجباتك نحو الله ونحو مخلصك المسيح … لن يكون في انتظارك سوى الإفلاس؛ بعد أن تكون قد سحبت أكثر من الرصيد.»19

احتفظت أمه بهذه الورقة عدَّة أيام تمعن التفكير فيها كأنها دجاجة تحتضن بيضة لتفقس، تنمق فيها وتعيد صياغتها كما كان يفعل «هيمنجواي» ببعض كتاباته … ثم قدمتها إليه بنفسها. وكانت ردة الفعل المتوقعة الغضب المتصاعد باستمرار … ثم البدء في التعامل مع أمه كعدو.

يقول «دوس باسوس»: إن «هيمنجواي» كان الرجل الوحيد الذي لقيَه في حياته ووجده يكره أمه لتلك الدرجة، ويقول الجنرال «لانهام» — أحد معارفه الآخرين — في شهادته: «منذ أيامي الأولى مع «هيمنجواي» كان لا يشير إلى أمه إلا ﺑ «تلك القحبة»، وكثيرًا ما كان يخبرني بأنه يكرهها.»20
وكانت تلك الكراهية تنعكس مرارًا وبطرق مختلفة في أعماله، وتطورت إلى بغض شديد لأخته الكبرى: «أختي مارسيلين القحبة»، «عاهرة كاملة»، ثم اتسعت لتشمل أُسرًا بكاملها يعبر عنها في أطر غير مترابطة؛ مثل تناول الرسامين السيئين (كانت أمه ترسم) في سيرته الذاتية «حفل متنقل»: «لا يقترفون أشياء مرعبة أو يسببون ضررًا، كل ما عليك أن تفعله بالنسبة للرسامين السيئين هو ألا تنظر إليهم، ولكنك حتى إذا تعلمت ألا تنظر إلى تلك الأسر وألا ترد على رسائلهم فلن يعدموا وسيلة لأن يكونوا خطرين.» كانت كراهيته لأمه شديدة، لدرجة أنها سممت حياته وذلك لأنه كان يشعر بالذنب، وظل هذا الإحساس يغذي الكراهية بداخله. كان قد ظل على تلك الكراهية في ١٩٤٩م، وكانت هي في الثمانين من عمرها تقريبًا عندما أرسل إلى ناشره من منزله في «كوبا» يقول: «لن أراها، وهي تعرف أنها لن تستطيع أن تجيء إلى هنا أبدًا.»21 لقد فاق نفوره منها كره «ماركس» لأمه، أو لعله كان قريبًا من موقف «ماركس» من النظام الرأسمالي نفسه، وبالنسبة ﻟ «هيمنجواي» كانت كراهية الأم تكتسب وضعية النظام الفلسفي.

انهيار الأسرة دفع «هيمنجواي» نحو «تورنتوستار» ومن ثم إلى أوروبا كمراسل أجنبي وروائي. إنه لم يرفض أو ينكر دين والديه فقط وإنما آراء أمه عن ثقافة مسيحية متفائلة والتي كانت تعبِّر عنها في كتاباتها القوية — التي كانت لا تروق له — وكانت رغبته الدائمة في ألا يكتب مثلها واستخدام أسلوبها الخطابي أحد القوى الدافعة له نحو الإتقان والتمكن الأدبي الذي أصبح سمته البارزة.

عاش «هيمنجواي» حياة مراسل أجنبي اعتبارًا من ١٩٢١م متخذًا من «باريس» قاعدة له. كان يقوم بتغطية أخبار الحرب في الشرق الأوسط والمؤتمرات الدولية ولكن بؤرة اهتمامه الرئيسية كانت مركزة على رجال الأدب المغتربين القادمين من ضفة اليسار. كتب «هيمنجواي» الشِّعر، وكان يحاول أن يكتب النثر. كانت إحدى عاداته التي أخذها عن أمه حمل الكتب أينما ذهب، يدسها في جيبه ليقرأ في أي مكان أو في أي وقت عندما يتيسر ذلك، كان يقرأ كل شيء، وطوال حياته كان يشتري الكتب وكانت أرفف الكتب تغطي جدران كل مكان عاش فيه. في بيته في «كوبا» كان عليه أن يبني مكتبة ضخمة تضم ٧٤٠٠ مجلدٍ تميزها كتابات متخصصة عن الموضوعات التي تهمه وعلى نحوٍ خاص النصوص الأدبية التي كان يقرؤها أكثر من مرة. عندما جاء إلى «باريس» كان قد قرأ كل الأعمال الإنجليزية الكلاسيكية تقريبًا، ولكنه كان لديه الإصرار الأكيد لتوسيع مجاله. لم يشعر بأي نقص لعدم إكمال تعليمه في الجامعة ولكنه كان يشعر بالندم وكان يحرص على ملء أي فراغٍ ناجم عن ذلك، ولذلك عكف على قراءة «ستندال»، و«فلوبير»، و«بلزاك»، و«موباسان»، و«زولا»، وأهم الروائيين الروس: «تولستوي»، «تورجنيف»، «دوستويفسكي»، والكتَّاب الأمريكيين: «هنري جيمس»، «مارك توين»، «ستيف كرين». وقراءة المحدثين كذلك: «كونراد»، «ت. س. إليوت»، «جيرترود ستاين»، و«إزرا باوند»، «د. ﻫ. لورانس»، «ماكسويل أندرسون»، «جيمس جويس» … كانت قراءاته واسعة وكان يمليها عليه أيضًا رغبة قوية في الكتابة.

منذ الخامسة عشرة كان معجبًا ﺑ «كبلنج»، وواصل دراسته طوال حياته، والآن أضاف إلى ذلك اهتمامًا وثيقًا ﺑ «كونراد»، ومجموعة «جويس» الرائعة، «أهل دبلن»، ومثل جميع الكتاب الكبار كان لا يلتهم الكتب فقط وإنما يتعلم من الجميع، حتى من كُتاب الدرجة الثانية مثل «ماريات»، «هيو والبول»، «جورج مور».

انتقل «هيمنجواي» مباشرة إلى وسط مثقفي «باريس»، في سنة ١٩٢٢م، مع وصول «فورد مادوكس فورد» إلى هناك، والذي كان كشاف مواهب من الطراز الأول. فهو الذي ساعد على ظهور «لورانس»، و«نورمان دوجلاس»، و«ويندهام لويس»، و«آرثر رانسوم»، وغيرهم. في سنة ١٩٢٣م نشر الطبعة الأولى من «ترانس أتلانتيك ريفيو»، وبترشيح وتوصية من «إزرا باوند» عيَّن «هيمنجواي» مساعدًا له غير متفرغ لبعض الوقت.

كان «هيمنجواي» معجبًا ﺑ «فورد» كراعٍ ومشجع للأدب، ولكنه كان كثير الشكوى منه: تجاهله لمعظم الكتَّاب الشبان، قلة اهتمامه بالأشكال وبالأساليب الأدبية الجديدة، ذوقه القريب من الذوق السائد في الصحف، وقبل ذلك كله اعتقاده أن معظم الأدب الجيد يجيء من «فرنسا»، و«إنجلترا» متجاهلًا النتاج الأمريكي الذي كان يتزايد كمًّا وكيفًا. كان «هيمنجواي» يرى نفسه «أمبريزاريو» — الراعي الذي يدير النشاط — الطليعة الأمريكية، وكان يقول — من تحت الضرس — إن «فورد»: «يدير الأمور كلها بأسلوب المساومة»،22 وبمجرَّد أن وجد نفسه في مكتب المجلة بمفرده بدأ ينحو بها منحًى أمريكيًّا لدرجة أنها إلى جوار ٦٠ مادة إنجليزية و٤٠ مادة فرنسية كانت تحمل ٩٠ مادة كتبها أمريكيون. وعندما ذهب فورد في رحلة إلى «باريس» جعل «هيمنجواي» من أعداد يوليو، وأغسطس، معرضًا للمواهب الأمريكية الشابة، لدرجة أن «فورد» عندما عاد شعر بأنه كان لا بد أن يعتذر «عن ذلك الكم عن أمريكا والذي فرضناه على قرائنا»،23
ولكن «هيمنجواي» كان لديه حافزه القوي من أجل الشهرة والتفوق الأدبي كما كان أقل اهتمامًا — على المدى الطويل — بالأحزاب ومكائد مثقفي الشاطئ اليساري، من اهتمامه بتطوير موهبته. كان «باوند» قد قدم «هيمنجواي» إلى «فورد» بقوله إنه: «يكتب نثرًا جيدًا جدًّا كما أنه صاحب أفضل أسلوب في العالم.»24 وهي ملاحظة على درجةٍ عالية من الأهمية لأنها تجيء في سنة ١٩٢٢م حيث لم يكن «هيمنجواي» قد وجد طريقه الخاص، ولكنه كان يبحث عنه، كما تكشف أوراقه الأولى بما فيها مِن حذف وشطب وتعديل، وربما لا يوجد أي كاتب روائي آخر خاض كل ذلك الكفاح لكي يجد طريقة في الكتابة تناسب العمل الذي يريد أن يكتبه تمامًا. ودراسة «هيمنجواي» في تلك المرحلة تعتبر نموذجًا على ما ينبغي أن يكون عليه الكاتب لكي يحقق مهاراته المهنية، وهي تشبه في المثابرة ونبل المقصد جهود «إبسن» لكي يصبح كاتبًا مسرحيًّا، ولها أيضًا نفس التأثير الثوري على الحرفة.

كان «هيمنجواي» يعتقد أنه قد ورث عالَمًا زائفًا يتمثل في دين والديه وثقافتهما الأخلاقية ويجب أن يحل محله عالَم حقيقي. ولكن ماذا كان يقصد ﺑ «الحقيقي»؟ ليست الحقيقة الموروثة التي يكشف عنها والداه؛ المسيحية — التي رفضها — وليست الحقيقة المستمدة من أي أيديولوجية أو عقيدة من الماضي تعكس عقل الآخرين مهما كان عظيمًا، ولكنها الحقيقة كما كان يراها هو، كما كان يشعر بها، يسمعها، يشمها ويتذوقها.

كان معجبًا بفلسفة «كونراد» الأدبية وبالأسلوب الذي لخَّص به هدفه؛ «الإخلاص المدقق لحقيقة أحاسيسي الخاصة». كانت تلك هي نقطة البداية بالنسبة له. ولكن كيف تنتقل هذه الحقيقة؟ معظم الناس عندما يكتبون بما في ذلك الكتَّاب المحترفون، يميلون إلى الانزلاق لرؤية الأحداث بعيون الآخرين؛ لأنهم يرثون التعبيرات البالية والصيغ المكررة والكليشيهات المعتادة. وهذا صحيح على نحوٍ خاص بالنسبة للصحفيين الذين يقومون بالتغطية السريعة للمناسبات، وكثيرًا ما يكون ذلك بطريقةٍ مملة. ولكن «هيمنجواي» كانت لديه فرصة التدريب الممتازة الذي حصل عليه في «كانساس سيتي ستار»، كان رؤساء تحريرها الذين تناوبوا عليها قد وضعوا قواعد داخلية (١١٠ قاعدة) لإجبار المراسلين على استخدام لغةٍ إنجليزية بسيطة واضحة ومباشرة، خالية من الكليشيهات والتعبيرات المستهلكة. وكان يتم تطبيق تلك القواعد بصرامة. بعد ذلك كان «هيمنجواي» يصفها بأنها كانت «أفضل قواعد تعلمتها في مهنة الكتابة».25 وفي سنة ١٩٢٢م وهو يغطي مؤتمر «جنوة» تعلم فن الكتابة التلغرافية عن طريق «لنكولن ستيفنس»، واستوعبه بسرعةٍ شديدة. كان يقول له وهو يعرض عليه أول برقية ناجحة يكتبها: «انظر إلى هذه البرقية؛ ليس فيها صفات ولا أحوال. لا شيء سوى الدم والعظم والعضلات … إنها لغة جديدة.»26
على هذا الأساس الصحفي بنى «هيمنجواي» أسلوبه الخاص والذي كان عبارة عن نظرية وتطبيق. وقد كتب كثيرًا في بعض أعماله طريقته في الكتابة في: «حفل متنقل»، «تلال أفريقيا الخضراء»، «موت في الظهيرة» وغيرها.27
أما المبادئ الأساسية للكتابة التي وضعها لنفسه فهي جديرة بالدراسة.28 ذات مرة عرَّف فن الأدب الروائي، متِّبعًا «كونراد»: «ابحث عما أعطاك الإحساس، الفعل الذي أعطاك الدهشة، بعد ذلك اكتبه بوضوح حتى يراه القارئ كذلك.»29 كل شيء لا بد أن يتم باختصار، باقتصاد، ببساطة، بأفعال قوية، بعبارات قصيرة ودون أي شيء لا ضرورة له. «النثر معمار وليس ديكورًا داخليًّا، لقد انتهى عصر الباروك».30
كان يولي اهتمامًا خاصًّا لدقة التعبير وكان يفتش في القواميس عن الكلمات. ومن المهم بمكان أن نتذكر أن «هيمنجواي» أثناء فترة تكوين أسلوبه النثري كان شاعرًا، وكان شديد التأثر ﺑ «إزرا باوند» الذي يقول إنه تعلم منه أكثر مما تعلم من أي إنسان آخر. كان «باوند»: «الإنسان الذي يؤمن بالكلمة الوحيدة الدقيقة التي ينبغي استخدامها، الرجل الذي علمني ألا أثق بالصفات»، كذلك درس «جويس» عن كثب. وهو كاتب يقلده في دقته ويحترمه من أجلها، وبقدر ما كان ﻟ «هيمنجواي» أسلاف من الأدباء يمكننا أن نقول إنه كان ذرية زواج «كبلنج» و«جويس». والحقيقة أن كتابة «هيمنجواي» فذة وفريدة، وتأثيره على ما كان الناس يكتبونه ويرونه في ربع القرن الممتد من ١٩٢٥م إلى ١٩٥٠م كان طاغيًا وشاملًا. أثره مسيطر لدرجةٍ يصعب معها أن نطرحه من نثرنا، خاصة في الرواية. ولكنه في أوائل العشرينيات كان من الصعب أن يحقق اعترافًا به أو أن ينشر له أحدٌ عمله الأول «ثلاث قصص وعشر قصائد». كان ذلك العمل محاولة أو مغامرة طليعية، وقد نُشر محليًّا في «باريس». لم تلتفت المجلات الكبرى إلى رواياته، وحتى سنة ١٩٢٥م كانت مجلة «دايال» — التي تعتبر نفسها مجلة مغامرة — ترفض قصصه بما في ذلك قصته الممتازة: «الذي لا يقهر». وما صنعه «هيمنجواي» هو ما يصنعه أي كاتب أصيل. أنشأ سوقه الخاصة، عَدَى الناس بذوقه الخاص. الطريقة التي تجمع بذكاء بين الالتقاط الدقيق للأحداث واللمحة الساخرة والاستجابة العاطفية لها كانت قد ظهرت في ١٩٢٣–١٩٢٥م، وكان ذلك الاختراق تحديدًا في سنة ١٩٢٥م مع نشر «في زماننا»، استطاع «فورد» أن يشيد به ككاتب أمريكا الرائد «الأكثر ضميرًا والأكثر إجادة والأكثر براعة». أما في رأي «إدموند ولسن» فقد كان الكتاب يقدم نثرًا «من الطراز الأول»، و«أصيل لدرجةٍ مدهشة». هذا النجاح الكبير تبعه صدور روايتين مهمتين: «وأيضًا تشرق الشمس» (١٩٢٦م)، و«وداعًا للسلاح» (١٩٢٩م)، وربما كانت الثانية هي أفضل ما كتب، بيع من هذه الكتب مئات الألوف من النسخ، وقرأها الناس مرارًا، وحسده كتَّاب كثيرون عليها. ومنذ سنة ١٩٢٧م عندما راجعت «دوروثي باركر» مجموعة «رجال بلا نساء» في اﻟ «نيويوركر» أشارت إلى أن تأثير «هيمنجواي» خطير «الشيء البسيط الذي يصفه يبدو وكأنه من السهل صنعه، ولكن انظر إلى الأولاد الذين يحاولون ذلك».31
يمكن محاكاة أسلوب «هيمنجواي»، ولكن أحدًا لن يقلده بنجاح؛ حيث إنه لا ينفصل عن موضوعات كُتبه، خاصة جوها النفسي، كان هدف «هيمنجواي» هو تجنب أسلوب الوعظ والإرشاد الواضح مهما كان نوعه، وكان يكرهه في الآخرين … حتى العظماء، كتب: «أنا معجب ﺑ «الحرب والسلام» بسبب الوصف الرائع والمؤثر للحرب وللناس، ولكني لم أثق ذات يوم في تفكير الكونت العظيم … كان بإمكانه أن يبدع أكثر من ذلك وأصدق من ذلك عن أي واحد آخر، لكن تفكيره اليسوعي الأخرق لم يكن أفضل من تفكير مدرِّسي التاريخ الإيفانجليكيين، وقد تعلمت منه كيف أكره عقيدتي الخاصة بشدة وأن أكتب بصدق ومباشرة وموضوعية وتواضع قدر المستطاع.»32 في أفضل أعماله كان يتجنب دائمًا أن يعظ القارئ أو حتى يلكزه لينبهه لتصرف شخصياته، إلا أن كتبه تملؤها قيم علمانية جديدة، وهذا نابع مباشرة من الطريقة التي يصف بها «هيمنجواي» الأحداث والأفعال. إن العمومية الدقيقة لأخلاقيات «هيمنجواي» هي التي تجعل منه ذلك النموذج للمثقف، كما أن طبيعة تلك الأخلاقيات هي التي تعكس أمريكيته؛ كان يرى الأمريكيين: أقوياء، نشطاء، فعالين، أو بالأحرى عنيفين، خلاقين، أصحاب إنجازات، غزاة، مسالمين، صيادين، وبنائين. كان هو نفسه عنيفًا بالغ النشاط، وعندما كان يتحدث مع «باوند» و«فورد» عن الأدب كان يتوقف من وقت لآخر لكي يلاكم شخصًا وهميًّا في استوديو «فورد». كان ضخمًا قوي البنية يجيد رياضات مختلفة كما كان من الطبيعي بالنسبة له كأمريكي وككاتب أن يعيش حياة فعل وأن يصفها.

كان موضوعه «الفعل»، ولم يكن هناك شيء جديد في ذلك بالطبع. فقد كان «الفعل» أيضًا هو موضوع «كبلنج». أبطاله وموضوعاته هي الجنود واللصوص والمهندسون والبحارة والحكام، الصغار والكبار، أي واحد وأي شيء يمكن أن يكون عرضة للتوتر والسلوك العنيف، حتى الحيوانات والآلات.

ولكن «كبلنج» لم يكن مثقفًا، كان عبقريًّا. كان له «شيطان» ولكنه لم يكن يعتقد أن بإمكانه إعادة صياغة العالم بواسطة ذكائه فقط. لم يرفض تراث الحكمة الكبير الموروث، على العكس كان يتمسك بقوانينها. «هيمنجواي» أقرب إلى «بيرون»، وهو كاتب آخر كان ينشد الفعل ووصفه بمهارة شديدة. لم يكن يؤمن بمشروعات صديقه «شلي» الطوباوية والثورية والتي كانت تتراءى له مُثلًا مجرَّدة أكثر منها مفاهيم يمكن تحقيقها، ولكنه صنع لنفسه قانونًا أخلاقيًّا جاء كرد فعل على القانون التقليدي الذي كان يرفضه عندما ترك زوجته وترك «إنجلترا» إلى الأبد.

بهذا المعنى، وبهذا المعنى فقط يمكن اعتباره مثقفًا، لم يكتب أبدًا عن نظامه بشكلٍ رسمي رغم تماسك منطقه، ولكنه يتبدى في رسائله ويملأ صفحات قصائده الطويلة «تشايلد هارولد»، و«دون جوان». إنه نظام شرف وواجب، ليس مقننًا ولكن الفعل يعبر عنه، ولا يستطيع أحد أن يقرأ تلك القصائد دون أن يتضح له كيف كان «بيرون» يرى الخير والشر وكيف كان يقيس البطولة بالتحديد. كان «هيمنجواي» يعمل بنفس الطريقة، بالتصوير. حدد مثَله الأعلى ذات مرة بأنه القدرة على بيان «الفضيلة تحت ضغط»، ولكنه لم يوضح أكثر من ذلك، ربما كانت قيمة عصية على التعريف المحدد، ولكنها كانت قادرة وبلا شك أو حدود على التصوير، وتلك هي القوة الدافعة وراء جميع أعمال «هيمنجواي».

رواياته روايات فعل، وهذا في ذاته يجعلها روايات أيديولوجية، فبالنسبة ﻟ «هيمنجواي» لا يوجد شيء اسمه الفعل المحايد أخلاقيًّا. حتى وصف وجبة غداء يعتبر تعبيرًا أخلاقيًّا طالما هناك أشياء صالحة أو غير صالحة للأكل، وطريقة جيدة أو رديئة للأكل. أي عمل يمكن أن يؤدَّى على نحوٍ صحيح أو خاطئ وأن يكون نبيلًا أو غير نبيل. المؤلف نفسه لا يحدد «الأخلاقي» ولكنه يقدم كل شيء في إطار أخلاقي ضمني بحيث تتكلم الأحداث عن نفسها، الإطار شخصي ووثني، ومن المؤكد أنه ليس مسيحيًّا. والداه — خاصة أمه — كانا يجدان قصصه لا أخلاقية، وأحيانًا يكون ذلك بوضوح، وكانت تكتشف فيها الحس الزائف والتجديفي، الذي كان «هيمنجواي» يقوله أو يلمح إليه هو أنه كانت هناك دائمًا طرق سليمة أو خاطئة لممارسة الزنا أو السرقة أو القتل، وجوهر أدبه هو مراقبة الملاكمين والصيادين ومصارعي الثيران والجنود والكتَّاب والرياضيين أو أي شخص تقريبًا لديه مهارة معينة أو يقوم بعمل محدد ويحاول أن يعيش حياة جيدة حسب قيم كل منهم … وعادة ما يفشل. والمآسي تحدث لأن القيم نفسها يتضح أنها خاطئة أو متوهمة أو بسبب الضعف الكامن أو النفاق الخارجي أو تشابك الحقائق الموضوعية وتداخلها. ولكن الفشل يمكن تعويضه برؤية الحقيقة، بامتلاك الشجاعة على رؤية الحقيقة ومواجهتها، وشخصيات «هيمنجواي» تقف أو تسقط بكونها صادقة أو العكس، الصدق هو المكون الأساسي في نثره، وهو الخيط الوحيد الذي يربط كل نظامه الأخلاقي، وهو سبب تماسكه.

بعد أن صنع «هيمنجواي» أسلوبه وعالمه الأخلاقي، وجد نفسه يعيشهما معًا. فقد أصبح كما كان: الضحية والسجن، وعبد خياله الخاص، ومجبرًا على تنفيذ ذلك كله في حياته العملية، ولم يكن «هيمنجواي» شاذًّا في ذلك أيضًا. فالشاعر «بيرون» بمجرَّد أن نشر الرباعية الأولى من «تشايلد هارولد» وجد نفسه يسير على الدرب الذي حددته، ربما كان عليه أن يغير الاتجاه قليلًا بكتابة «دون جوان»، ولكنه لم يترك لنفسه خيارًا حقيقيًّا سوى أن يحيا كما كان يغني … ولكنها بالنسبة ﻟ «بيرون» كانت مسألة ذوق وقسر. كان يجد متعة في لعب دور مطارد النساء ومدعي البطولة والمحرر.

نفس الشيء بالنسبة ﻟ «أندريه مالرو» معاصر «هيمنجواي»؛ روائي و«مثقف/فعل»، آخر، ثائر ومستكشف وباحث مغامر عن الكنوز الفنية، بطل مقاومة اختتم حياته بمنصب وزير يجلس على يمين «ديجول». أما بالنسبة ﻟ «هيمنجواي» فالمرء يقف متحيرًا، مطاردته للحياة الحقيقية، حياة الفعل كانت عملية نشاط ذهني، بمعنى أنها كانت حيوية بالنسبة لنوع الأدب الذي كان يكتبه، وكما يقول البطل «روبرت جوردان» في رواية «الحرب الإسبانية»: «لمَن تدق الأجراس؟» (١٩٤٠م): «كان يجب أن يعرف كيف كان ذلك بالفعل، وليس كيف كان ينبغي أن يكون.» «هيمنجواي» المثقف المهووس بالفعل العنيف كان شخصًا واقعيًّا. أحد زملائه من دقيقي الملاحظة في «تورنتوستار» يصفه عندما كان في العشرين من عمره: «يجمع بين الحساسية المرتجفة، والانشغال بعنف غير محدود.» كان يستمتع بكل رياضات والده خارج المنزل وأكثر منها: التزلج على الجليد، الصيد في أعالي البحار، الصيد في الغابات … الحرب، ولم يكن هناك أدنى شك في شجاعته عند الضرورة.

مراسل «نيويورك تيمز» — «هربرت ماثيوز» — يصف كيف أنقذه «هيمنجواي» من الغرق بشجاعة نادرة أثناء معركة «نهر إبرو» سنة ١٩٣٨م: «كان رجلًا عظيمًا عند أي مأزق.»33 كما أدلى الصيادون البيض الذين أخذوه معهم في رحلة صيد في شرق أفريقيا بشهادة مماثلة، وكان ذلك اختبارًا جيدًا. الأكثر من ذلك أن شجاعته لم تكن هوجاء أو غريزية. كانت شجاعة عقلية، وهناك نوادر كثيرة تدل على أن حاسة الخطر لديه كانت حادة؛ إذ يعرف معنى الخوف وكيف يقهره. ولم يصف أحدٌ الجبن بكل تلك الحيوية مثله، وقد جعل القارئ يشعر بالرغبة لأن يعيش رواياته. ذلك هو سبب النمو السريع للصورة التي رسمها «هيمنجواي» للإنسان/الفعل.

ومثل «روسو» وكثير من المثقفين الذين جاءوا من بعده، كانت صورة «هيمنجواي» المجسمة المرئية، نقيض الصورة القديمة المخملية للرومانسيين والتي كانت صالحة في زمانها، صنع صورة جديدة للنزعة الرجولية: البدلة السفاري، حزام الرصاص للكتف، البنادق، القبعة المدلاة على الرأس، رائحة البارود، التبغ، الويسكي …

أحد هواجسه كان أن يضيف عدَّة سنوات إلى عمره. في العشرينيات رقَّى نفسه إلى «بابا» بسرعة، آخر فتاة يعرفها هي «ابنة». منذ بداية الأربعينيات أصبح «بابا هيمنجواي» شخصية مألوفة في المجلات المصورة، وشهيرًا مثل نجوم هوليوود، وأكبر شخص في التاريخ يعطي مقابلات صحفية واستجابات لكاميرات المصورين. وفي وقتٍ ما كان وجهه ذو اللحية البيضاء أكثر شهرة من وجه «تولستوي».

ولكن في محاولته لتجسيد عالمه وقيَمه، ولأن يحيا الأسطورة التي خلقها، كان «هيمنجواي» يصعد أيضًا إلى طاحونة لن يسمح لنفسه بالنزول من عليها حتى الموت. ومثلما كانت أمه تنظر إلى الحب الأموي كحساب في البنك، كان «هيمنجواي» باستمرار يودع التجربة والخبرة في حسابه ثم يسحب منه لصالح أدبه.

الحرب الإيطالية ١٩١٧-١٩١٨م كانت هي رأس ماله الأول الذي أنفق معظمه في العشرينيات معوضًا مصروفاته بالرياضة المجنونة ومصارعة الثيران. في الثلاثينيات كانت الإيداعات قيِّمة … رحلات الصيد وتجربة الحرب الأهلية الإسبانية الثرية، ولكنه كان كسولًا في استغلال فرص الحرب العالمية الثانية، كما أن تورطه المتأخر فيها لم يضِف إلى «رأس ماله الكتابي» سوى القليل. بعد ذلك كان أهم إيداعاته هو صيد الأسماك، وصيد الحيوانات، محاولاته للعودة إلى دائرة القنص الكبير، ومصارعة الثيران كانت هزلية في معظمها.

وقد لاحظ «إدموند ويلسون» التناقض سواء في الكتابة أو النشاط: «السيد الشاب والمنتحل العجوز». والحقيقة أن «هيمنجواي» واصل الاستمتاع ببعض هواياته العنيفة ولكن ليس بالقدر الذي كان يدعيه. كان هناك هبوط في الحماس للحياة البرية وكما لو أنه كان يفعل ذلك بإرادته. في رسائله إلى ناشر أعماله «تشارلز سكرينر» نجد إشارات زائفة ومدعية عن نشاط كبير. كتب إليه في ١٩٤٩م: «احتفالًا بعيد ميلادي الخمسين … مارست الجنس ثلاث مرات، أصبت عشر حمامات (سريعة جدًّا) في نادي الصيد، شربت كثيرًا مع الأصدقاء وجُبت المحيط طوال المساء بحثًا عن السمك الكبير.»34

صحيح؟ غير صيح؟ مبالغة؟ لا أحد يعرف!

لا شيء من كلام «هيمنجواي» عن نفسه، والقليل من كلامه عن الآخرين، يمكن أن تأخذه على محمل الصدق دون دليل. ورغم الأهمية المركزية للصدق في كتاباته، إلا أنه كان يؤمن — شأن المثقفين جميعًا — بأن الصدق لا بد أن يكون الخادم المطيع له. كان يعتقد، وأحيانًا يتباهى، أن الكذب يعد جزءًا من تدريبه ككاتب. كان يكذب بوعي ودون تفكير.

يعرف بالتأكيد أنه يكذب عمدًا، كما يتضح ذلك في قصته الجميلة «بيت الجندي» من خلال شخصية «كربز»؛ كتب: «من الطبيعي أن يكون أفضل الكتَّاب كذابين، جزء كبير من حرفتهم هو أن يكذبوا … أن يخترعوا … إنهم كثيرًا ما يكذبون دون وعي، ثم بعد ذلك يتذكرون كذبهم بندم شديد.»35 ولكن الدليل يوضح أن «هيمنجواي» كان يكذب من قبل أن يخترع اعتذارًا رسميًّا عن ذلك. كان يكذب وهو في الخامسة عندما ادعى أنه استطاع أن يوقف حصانًا جامحًا بمفرده. أخبر والديه أنه خطب لنفسه ممثلة السينما «ماي مارس»، رغم أنه لم يكن قد رآها في حياته سوى في فيلم «ميلاد أمة»، وكان يردد ذلك أمام زملائه في «كانساس سيتي»، وبتفاصيل كثيرة منها أن خاتم الخطبة كان ثمنه ١٥٠ دولارًا.

أحيانًا كان كذبه بيِّنًا ومزعجًا كما فعل وهو في الثامنة عشرة عندما أخبر أحد أصدقائه أنه اصطاد سمكة، بينما كان قد اشتراها من السوق. كان يروي قصصًا كاذبة عن احترافه الملاكمة في «شيكاغو»، ورغم كسر أنفه في مباراة استمر في اللعب. ادعى أنه من أصول هندية وأن له بنات في الهند.

سيرته الذاتية «حفل متنقل» لا يمكن الاعتماد عليها، وشأنها شأن اعترافات «روسو» تصبح أكثر خطورة عندما تبدو صريحة، كان يكذب عادة على والديه وإخوته ويكذب في كلامه وأحيانًا لأسباب غير واضحة. وهكذا قال إن أخته «كارول» اغتُصبت وهي في الثانية عشرة من قِبل أحد الشواذ جنسيًّا (وهذا غير صحيح)، وبعد ذلك كان يزعم أنها طُلقت، وأحيانًا أنها قد ماتت. بينما كانت سعيدة في حياتها الزوجية مع شخصٍ يُدعى «جاردينر» كان «هيمنجواي» «يكرهه».36
كثير من أكاذيب «هيمنجواي» الكبيرة والمتكررة كان يتعلق بخدمته في الحرب العالمية الأولى. معظم الجنود بالطبع، حتى الشجعان منهم، يكذبون عن الحروب التي شاركوا فيها، والتقصي التفصيلي لحياة «هيمنجواي» يثبت أنه كان مثلهم.37 اختراعاته عما حدث في «إيطاليا» كانت كاذبة لدرجةٍ غير عادية.

أولًا: قال إنه تطوع في الجيش ولكنهم رفضوه لضعف نظره، وهذا غير ثابت في السجلات وغير محتمل أن يكون قد حدث. من المؤكد أنه لم يكن مقاتلًا … وكان ذلك باختياره.

قال في مناسبات مختلفة، بما في ذلك مقابلات صحفية، إنه قد خدم في فوج المشاة الإيطالي رقم ٦٩ وحارب في ثلاث معارك كبيرة. ادعى أنه كان ضمن فوج مفرقعات «أرديتي»، كما أخبر صديقه البريطاني العسكري «شينك-دورمان سميث» أنه قاد هجومًا في «مونت جرابا» أُصيب أثناءه بجرحٍ بالغ. أخبر رفيقه في الحرب الأهلية الإسبانية والجنرال «جوستان ديوران» أنه كان قائد سرية ثم كتيبة وهو لم يتجاوز التاسعة عشرة من عمره.

صحيح أنه جُرح — لا شك في ذلك — ولكنه كان يكذب مرارًا وتكرارًا عن المناسبة التي جُرح فيها وعن طبيعة الإصابة. اخترع قصة أنه قد أُصيب في كيس الخصيتين، مرتين وليس مرة واحدة وأنه كان يريح خصيتيه على وسادة. قال إنه سقط مرتين بنيران مدفع ماكينة وأُصيب اثنتين وثلاثين مرة بخمس وأربعين طلقة. وفوق كل ذلك قال إنه قد عُمِّد كاثوليكيًّا على ما كانت تتصوره الممرضات فراش موته. وكل الأقوال السابقة غير صحيحة.

الحرب أطلقت عنان الكذاب في شخصية «هيمنجواي». في «إسبانيا» كان يغار من مهارات «ماثيوز» كمراسل حربي، فكان يرسل بتقارير كاذبة من جبهة «تيريول»: «أرسلت أول رسالة عن الحرب إلى «نيويورك» قبل «ماثيوز» بعشر ساعات، وفوق ذلك عدت وحضرت الهجوم مع قوات المشاة، دخلت المدينة خلف سرية ديناميت وثلاث سرايا مشاة ثم سجلت ذلك وحصلت على أخطر رسالة عن القتال من بيت إلى بيت استعدادًا لإرسالها.»38 كذب أيضًا عندما قال إنه كان أول مَن دخل «باريس» المحررة سنة ١٩٤٤م، والجنس مثل الحرب أيضًا … أطلق الكذب في «هيمنجواي» إحدى حكاياته الإيطالية المختارة والمكررة، أن امرأة من صقلية أخذته أسيرًا جنسيًّا، كانت صاحبة فندق واحتجزته وكان عليه أن يمارس الجنس معها لمدة أسبوع بلا توقف. أخبر «برنارد بيرنسون» (أحد الذين تلقوا منه رسائل كثيرة كاذبة) أنه عندما انتهى من «وأيضًا تشرق الشمس» اصطاد فتاة، ولكن زوجته جاءت فجأةً فاضطر إلى تهريب الفتاة من السطح … وهذا كله كذب!

كذب بخصوص شجاره الشهير مع ذلك المدعو «كيك لويب» في «بامبلونا» سنة ١٩٢٥م قائلًا إن «لويب» كان معه بندقية وهدده بالقتل. (كتب الحادث بشكلٍ مختلف في رواية «وأيضًا تشرق الشمس»). كذب عن كل زيجاته وطلاقاته وتسوياته المادية، سواء مع مَن يهمهن الأمر أو مع أمه. كذب عن زوجته الثالثة «مارثا جيلهورن» كذبًا صراحًا. كانت هي أيضًا تقول إنه أكبر كذاب منذ «منشاوزن»، معظم حكاياته التي قد تبدو مغطاة بغطاء من تفاصيل سيرته الذاتية يمكن أن تكون من اختراعه. كل ما يمكن أن نقوله هو أن احترامه للصدق كان قليلًا. وبالتالي فقد كان مناسبًا وجاهزًا لتلك «الحقبة الهابطة والكاذبة» من الثلاثينيات.

لم يعتنق «هيمنجواي» أبدًا أي مبادئ سياسية متسقة، كانت قيَمه ومبادئه كلها عن أمور أو ولاءات شخصية. كان صديقه — ذات يوم — «دوس باسوس» يقول إن «هيمنجواي» كشابٍّ: «كان لديه أذكى أحد الأدمغة لكي يعري الادعاءات السياسية»،39 ولكن من الصعب أن تجد دليلًا كافيًا يؤكد ذلك. في انتخابات ١٩٣٢م كان «هيمنجواي» يؤيد الاشتراكي «يوجين دبز»، ولكنه في ١٩٣٥م كان قد أصبح مناصرًا قويًّا لخط الحزب الشيوعي في معظم القضايا.

في عدد «الجماهير الجديدة» — صحيفة الحزب الشيوعي — الصادر في ١٧ سبتمبر ١٩٣٠م نشر مقالًا عنيفًا بعنوان «مَن القاتل»، موجهًا اللوم للحكومة عن وفاة أربعمائة وخمسين من عمال السكك الحديدية السابقين في إعصار «فلوريدا» كانوا يعملون في مشروعات فيدرالية. المقال يتسم بروح الدعاية والتهييج الشيوعي.

ويبدو أن نظرة «هيمنجواي» على مدى ذلك العقد، كانت هي أن الحزب الشيوعي هو القائد الشرعي الوحيد الموثوق به في الحملة ضد الفاشية، وأن توجيه النقد إليه أو الإسهام في أي نشاطٍ معارض له يُعتبر خيانة. كان يقول إن أي شخص يسير في خط مضاد للحزب الشيوعي «إما أحمق أو وغد»، وأنه لن يسمح بوضع اسمه على ترويسة مجلة الجناح اليساري الجديدة «كن» الصادرة عن «إسكواير» عندما اكتشف أنها ليست صوتًا للحزب الشيوعي. كان هذا التوجه يحكم موقفه من الحرب الأهلية الإسبانية التي رحب بها على أساس مهني كمصدر لمادته: «الحرب الأهلية أفضل حرب بالنسبة للكاتب، إنها الأكثر اكتمالًا».40،41

والغريب أنه قبِلَ خط الحزب الشيوعي عن الحرب من البداية إلى النهاية بكل ما فيه من فجاجة. قام بزيارة الجبهة أربع مرات (ربيع وخريف ١٩٣٧م وربيع وخريف ١٩٣٨م)، ولكنه حتى قبل أن يغادر «نيويورك» كان قد قرر كل أسباب الحرب الأهلية، ووقع بالفعل مع «دوس باسوس»، و«ليليان هيلمان» و«أرشيبالد ماكليش» لعمل فيلم دعائي بعنوان «إسبانيا في اللهيب»، وكتب يقول: «قلبي دائمًا مع الناس العاملين المستغلين ضد الملاك المقيمين في أراض بعيدة، حتى وإن كنت أشرب مع الملاك وأصطاد الحمام معهم.»

كان الحزب الشيوعي هو «ناس هذه البلاد»، وكانت الحرب صراعًا بين «الناس» و«الملاك الغائبين»، «البربر، الطليان، الألمان»، وكان يقول إنه يحب ويحترم الحزب الشيوعي الإسباني «أفضل ناس» في الحرب!

كان خط «هيمنجواي» وتمشيًا مع الحزب الشيوعي هو التقليل من قيمة دور الاتحاد السوفيتي، خاصة في توجيه سلوك الحزب الشيوعي الإسباني الضاري في السياسة الداخلية الملطخة بالدماء في إسبانيا الجمهورية، الأمر الذي أدى إلى قطيعة مخجلة مع «دوس باسوس».

كان مترجم «باسوس» وهو «جوسيه روبلز» رئيسًا سابقًا لجامعة «جون هوبكنز» وانضم إلى القوات الجمهورية عند بداية الحرب وكان صديقًا ﻟ «أندريس نين» رئيس حركة POUM الفوضوية، كما كان مترجمًا للجنرال «جان أنطونوفيتش بيرزن» رئيس البعثة العسكرية السوفيتية في «إسبانيا»، وبالتالي فقد كان يعرف بعض أسرار تعاملات «موسكو» مع وزارة الدفاع في مدريد. كان «بيرزن» قد قتل على يد «ستالين» الذي أصدر فيما بعدُ أوامره للحزب الشيوعي الإسباني بتصفية اﻟ POUM كذلك. تم تعذيب «نين» حتى الموت وألقي القبض على مئات آخرين متهمين بالنشاط الفاشي وتم إعدامهم. كما اتُّهم «روبلز» بالتجسس وأُعدم سرًّا رميًا بالرصاص، وقلق «دوس باسوس» لاختفائه. كان «هيمنجواي» الذي يرى نفسه ضليعًا في الشئون السياسية و«باسوس» مستجدًّا فيها، يسخر منه لذلك القلق. وفي فندق «جي لورد» في «مدريد»، والذي كان مأوى لقيادات الحزب الشيوعي حيث ينزل فيه «هيمنجواي»، سأل صديقه «بيب كونيتا نيلا» (ظهر فيما بعدُ أنه المسئول عن معظم إعدامات الحزب الشيوعي) عما حدث. وأكد له أن «روبلز» كان حيًّا، مقبوض عليه بالتأكيد، ولكنه كان ينتظر محاكمة عادلة، وصدق «هيمنجواي» ذلك وأخبر «دوس باسوس».

وفي الحقيقة كان «روبلز» قد أُعدم بالفعل، وعندما اكتشف ذلك متأخرًا عن طريق صحفي كان قد جاء توًّا من مدريد، أخبر «باسوس» بأنه كان مذنبًا، وأن مَن يصدق غير ذلك إنسان أحمق.

ولكن «باسوس»، الذي حزن كثيرًا، رفض أن يصدق أن «روبلز» كان مذنبًا، وراح يهاجم الشيوعيين علنًا، وانفجر «هيمنجواي»: «تدور في «إسبانيا» حرب بين الناس الذين اعتدت أن تكون إلى جانبهم وبين الفاشست، فإذا كنت بكراهيتك للشيوعيين تستطيع أن تجد مبررًا لهجومك على الذين ما زالوا يخوضون الحرب من أجل المال، فإني أعتقد أنك على الأقل يجب أن تصحح معلوماتك.» ولكن «باسوس» كما اتضح، كان قد حصل على معلومات صحيحة. كان «هيمنجواي» هو الساذج البريء، المغفل.42
وقد بقي هكذا حتى نهاية الحرب ولبعض الوقت بعدها. ووصل عمله من أجل الشيوعيين ذروته في ٤ يونيو ١٩٣٧م عندما تحدث أمام المؤتمر العام الثاني للكُتاب، الذي عقده الحزب الشيوعي الأمريكي في قاعة «كارنيجي» في «نيويورك» من خلال منظمة جبهوية. كان من رأي «هيمنجواي» أن الكتَّاب عليهم أن يحاربوا الفاشية لأنها النظام الوحيد الذي لن يمكنهم من قول الحقيقة، وأن من واجب المثقفين أن يذهبوا إلى «إسبانيا» ويفعلوا شيئًا بأنفسهم، عليهم أن يكفوا عن الجدل حول أمور مذهبية في مقاعدهم الوثيرة ويبدءوا القتال «تدور الآن هناك حرب سوف تستمر لفترةٍ طويلة، فمَن يريد من الكُتاب أن يفهمها فليذهب إليها».43

ولكن «هيمنجواي» كان مغفلًا بكل تأكيد، وفي نفس الوقت كان يشارك في أكذوبة بكل وعيه، حيث يتضح من روايته عن الحرب الإسبانية «لمَن تدق الأجراس؟» أنه كان على علم بالجانب الأسود للقضية الجمهورية، وأنه ربما يكون قد عرف بعض الحقيقة عن الحزب الشيوعي الإسباني بنفسه، ولكنه لم ينشر الكتاب إلا في سنة ١٩٤٠م بعد أن كانت قد انتهت.

طوال فترة الحرب كان «هيمنجواي» يتبع نفس خط أولئك الذين كانوا يحاولون منع كتاب «جورج أورويل»: «الثناء على كتالونيا» وأن الحقيقة بعيدة جدًّا عن البراعة السياسية والعسكرية. وبالتالي فإن حديث «هيمنجواي» أمام مؤتمر الكتاب كان مخادعًا تمامًا، كما كان غريبًا؛ لأنه لم يبدِ أي رغبة في أن يعمل بالنصيحة التي يقدمها للآخرين؛ «أن يذهب إلى هناك ليفهم الحرب». وعندما بدأت مشاركة أمريكا في الحملة المناهضة للنازية علنًا في سنة ١٩٤١م لم ينضم إليها. في ذلك الوقت كان قد امتلك منزلًا في «فينكافيجيا»، في ضواحي «هافانا» في «كوبا»، ظل مكان إقامته الرئيسي معظم سنوات عمره بعد ذلك. كما أن نجاح روايته «لمن تدق الأجراس؟» التي أصبحَت من أكثر الكتب مبيعًا في القرن العشرين حقق له دخلًا هائلًا أراد أن يتمتع به في رياضته المفضلة الآن وهي صيد الأسماك في أعالي البحار، وكانت النتيجة مرحلة مخزية أخرى في حياته عرفت ﺑ «مصنع اللصوص».44
كان لدى «هيمنجواي» ميل شديد لعقد صداقات في مجتمع قاع المدينة، خاصة في الدول الناطقة بالإسبانية. كان يحب الشخصيات الملتبسة المريبة، الذين تتكون منهم تجمعات مصارعي الثيران ورواد المقاهي، والقوادون والداعرات وصيادو الأسماك ومخبرو الشرطة، إلى غير أولئك من الذين كانوا يفرحون ويستجيبون لدعوته لهم على مشروب أو منحهم بقشيشًا. في عام ١٩٤٢م أصبح هاجسه هو الخطر المحدق من استيلاء الفاشست على الحكم. كان يقول إن هناك ثلاثمائة ألف من الكتائبيين أعضاء الحزب الفاشستي والمشهورين بالعنف، وأنهم قد ينتفضوا ليحولوا «كوبا» إلى نقطة نازية متقدمة على عتبة «أمريكا». وكان يقول إن لديه معلومات تفيد أن الغواصات الألمانية موجودة في المياه الكوبية، وقدم حسبة تقول إن قوةً قوامها ألف غواصة يمكن أن تنزل ثلاثين ألفًا من جنود النازي في «كوبا» لمساعدة المتمردين. ومن الصعب أن نؤكد أنه كان يصدق تلك الأشياء الغريبة. طوال حياته كان «هيمنجواي» عبارة عن سطح خارجي يبدو متماسكًا، ولكنه يخفي تحته لُجة من السذاجة في أي موضوع. ربما يكون قد تأثر برواية التجسس التي كتبها «إرسكين شيلدر»: «لغز الرمال»، فقد أقنع صديقه السفير الأمريكي «برادن» بضرورة عمل شيء. اقترح «هيمنجواي» أن يجند ويقود مجموعة من العملاء من بين أصدقائه في قاع المجتمع لمراقبة عملاء الفاشست المشكوك فيهم، ويستخدم لنْشه الخاص بعد تسليحه من أجل مراقبة المناطق المحتمل أن تأتي إليها الغواصات، وقد وافق «برادن» على الخطة وادعى فيما بعدُ أنها فكرته.45

ونتيجة لذلك كان «هيمنجواي» يحصل على مائة دولار شهريًا ليدفع لستة عملاء يعملون كل الوقت، ولعشرين آخرين متنكرين، اختارهم من بين معارفه في المقاهي والبارات. وفي وقت تقنين توزيع السلع التموينية كان يحصل على ١٢٢ جالونًا من الجازولين في الشهر لتشغيل اللنْش الخاص به، والذي كان مزودًا بمدفع ماكينة وعدد من القنابل اليدوية.

وجود «مصنع اللصوص» هذا كما كان يطلق عليه، رفع من مكانته بين رواد المقاهي والبارات في «هافانا»، وإن كان لا يوجد أي دليل على أنهم نجحوا في اكتشاف جاسوس واحد للفاشست.

أحد الأسباب أن «هيمنجواي» وقع في الخطأ الأول وهو أنه دفع بسخاء من أجل تقارير مثيرة.

مكتب التحقيقات الفيدرالي الذي كان غير راضٍ عن تلك المغامرة المنافسة، أبلغ «واشنطن» بأن كل تقارير عصابة «هيمنجواي» كانت «غامضة ولا أساس لها من الصحة وذات طبيعة ميالة للإثارة … كما أن معلوماته لا قيمة لها». أما «هيمنجواي» الذي كان على علم بعداء المكتب، فقد رد بأن جميع عملاء اﻟ FBI من أصول أيرلندية أو رومان كاثوليك أو مؤيدين ﻟ «فرانكو» و«ميترون». ولكنه كان يستفيد بحصة الوقود في رحلاته للصيد في أعالي البحار.
هذه الأحداث أدَّت إلى واحد من أعنف شجارات «هيمنجواي»، كان الجنرال «ديوران» من بين الذين أعجب بهم كثيرًا في «إسبانيا»، وهو الذي ألهمه شخصية بطله «روبرت جوردان» في «لمن تدق الأجراس؟» كان «ديوران» النموذج الذي يريد «هيمنجواي» أن يكونه؛ المثقف الذي يتحول إلى قائد استراتيجي. كان موسيقيًّا وصديقًا ﻟ «دي فالا»، و«سيجوفيا» وواحدًا من صفوة مثقفي «إسبانيا»، قبل الحرب، ولكنه كان يعتنق ما كان «هيمنجواي» يصادق عليه وهو أن الحرب الحديثة تحتاج إلى «ذكاء» وأنها عمل عقلي … والحرب أيضًا شِعر … شِعر مأسوي.46

كان ضابط احتياط في الجيش الإسباني في سنة ١٩٣٤م، واستُدعي في بداية الحرب الأهلية، وسرعان ما أصبح جنرالًا بارزًا. وفي النهاية كان قائدًا لفيلق الجيش العشرين.

وبعد انهيار الجمهورية حاول «ديوران» أن يتطوع في الجيش الأمريكي أو البريطاني وفشل، وعندما اخترع «هيمنجواي» فكرة «مصنع اللصوص» استخدم نفوذه لربط «ديوران» بالسفارة الأمريكية وجعله مسئولًا عن المشروع. في نفس الوقت كان الجنرال وزوجته الإنجليزية «برونتي» ضيوفًا عليه في اﻟ «فينكا» ولكن «ديوران» اكتشف بسرعة أن الحكاية كلها كانت تهريجًا في تهريج وأنه كان يضيع وقته فتقدم لوظيفة أخرى. وحدث شجار شخصي عنيف ضم «برونتي»، و«مارثا» — زوجة «هيمنجواي» آنذاك — وانتهى بانفجار أثناء حفل غداء بالسفارة. قطع «هيمنجواي» صلته ﺑ «ديوران» بعد ذلك، وعندما التقيا بالمصادفة في مايو ١٩٤٥م قال له «هيمنجواي» من تحت أسنانه: «لقد استطعت بنجاح أن تبقى بعيدًا عن الحرب … أليس كذلك؟»

كان ذلك هو النموذج لانتهاء علاقات «هيمنجواي» بأصدقائه السابقين. الكاتب الذي كان يشيد في أدبه بمزايا الصداقة كان من الصعب عليه أن يحتفظ بصديق لفترةٍ طويلة. وكما كان الحال بالنسبة لكثير من المثقفين — «روسو» و«إبسن» مثلًا — كانت خلافات «هيمنجواي» ومشاجراته مع زملائه الكتَّاب شديدة وشريرة. كان «هيمنجواي» شديد الغيرة — حتى بمقاييس الحياة الأدبية — من مواهب ونجاحات الآخرين. وبانتهاء سنة ١٩٣٧م كان قد تخاصم تقريبًا مع كل من عرفهم من الكتاب باستثناء واحد فقط. الكاتب الوحيد الذي لم يهاجمه في سيرته الذاتية كان «إزرا باوند». من البداية إلى النهاية كان يكتب عنه بإعجاب. منذ بداية تعارفهما أعجب بعطف «باوند» على الكتاب، وبعدم أنانيته. كان يقبل النقد العنيف منه، والذي لا يمكن أن يقبله من غيره، بما في ذلك تلك النصيحة الحادة في ١٩٢٦م بأن يكتب رواية بدلًا من نشر مجموعة قصصية. ويبدو أنه كان يحب في شخصية «باوند» فضيلة كان يعرف أنها تنقصه شخصيًّا. وهي غيبة الغيرة المهنية تمامًا.47

عندما كان «باوند» معرضًا لخطر الإعدام بتهمة الخيانة العظمى في سنة ١٩٤٥م بعد إذاعة ثلاثمائة حديث لصالح المحور، فإن «هيمنجواي» تحرك فعلًا لإنقاذ حياته. قبل ذلك بعامين عندما وُجهت إليه التهمة رسميًّا قال «هيمنجواي»: «لا شك أنه مجنون، أعتقد أنه يمكن إثبات جنونه منذ آخر رباعية كتبها … تاريخه طويل في الكرم والمساعدات النزيهة لغيره من الفنانين وهو واحد من أعظم الشعراء الأحياء.»

والحقيقة أن «هيمنجواي» هو الذي كان وراء الدفع الناجح بأن «باوند» كان مجنونًا، واحتجازه في إحدى المصحات العقلية ونجاته من غرفة الغاز.48
كذلك تجنب «هيمنجواي» الخصام مع «جويس»، ربما لعدم وجود فرصة، وربما لأنه كان مستمرًّا في إعجابه بأعماله منذ قال عنه ذات مرة: «إنه الكاتب الوحيد الذي أحترمه بين الكتاب الأحياء.» أما بالنسبة للآخرين فالحكايات تبعث على الأسف؛ تخاصم مع «فورد مادوكس فورد»، و«سنكلير لويس» و«جيرترود ستاين»، و«ماكس إيستمان»، و«دوروثي باركر»، و«هارولد لويب»، و«أشيبالد ماكليش» … وغيرهم. صراعاته الأدبية أفلتت من داخله أعمال الحقد الشرير إلى جانب الجنوح إلى الكذب. جزء كبير من كذبه يتعلق بالكتَّاب الآخرين. في سيرته رسم صورة ﻟ «ويندهام لويس»: «لا يبدو عليه الشر، يبدو عليه القبح، عيناه عينا مغتصب فاشل.» وواضح هنا أنه كان يثأر لنفسه من نقدٍ كان «لويس» قد وجهه إليه49 … وفي نفس الكتاب يطلق سلسلة من الأكاذيب عن «سكوت فيتز جيرالد» وزوجته «زيلدا» التي كانت قد خرقت ذات «هيمنجواي» المتضخمة، بينما كان زوجها يحبه ولم يسبب له أي ضرر. أما هجوم «هيمنجواي» العنيف والمتكرر على تلك الروح الهشة فمن الصعب فهمه إلا في إطار الغيرة المحمومة. يقول «هيمنجواي» إن «فيتزجيرالد» أخبره: «أنت تعلم أنني لم أنم مع أي امرأة سوى «زيلدا» التي قالت إن تكويني لا يمكن أن يرضي أي امرأة … وذلك لا يرضيها.» ودخل الاثنان إلى دورة مياه للرجال وأخرج «فيتز جيرالد» قضيبه للمعاينة! فأكد له «هيمنجواي»: «أنت لائق تمامًا.» كتابة كأنها مقطع من رواية!

كانت أقسى وأعنف خصومات «هيمنجواي» مع «دوس باسوس»، وهي الأشد إيلامًا وذلك بسبب طول العلاقة التي كانت بينهما. من الواضح أن الغيرة كانت هي السبب، «باسوس» ظهر على غلاف مجلة «تايم» في سنة ١٩٣٦م (بينما كان على «هيمنجواي» أن ينتظر عامًا آخر)، ثم جاءت حادثة «روبلز» في «إسبانيا» وبعدها خلاف مع «باسوس»، و«كاثيا» في «نيويورك» وكانت صديقة قديمة له. قال «هيمنجواي»: إن «باسوس» متشرد، يقترض الأموال ولا يردها، وإن زوجته مصابة بجنون السرقة، وإن هناك كلامًا كثيرًا في السر عن أصله البرتغالي وميلاده غير الشرعي، وقد حاول «هيمنجواي» أن يضع تلك المعلومات في كتاب في سنة ١٩٣٧م ولكن ناشروه نصحوه بحذفها حتى لا يقع تحت طائلة القانون. كما أخبر «وليم فوكنر» في سنة ١٩٤٧م أن «باسوس» كان نفَّاجًا رهيبًا (على أساس أنه لقيط).

ولكي ينتقم «باسوس» لنفسه من «هيمنجواي» صوره في شخصية «جورج ألبرت وارز» الكريهة في روايته «البلد المختار» (١٩٥١م)، الأمر الذي جعل «هيمنجواي» يخبر «بيل سميث» صهر «باسوس» بأنه في «كوبا» مجموعة من الكلاب والقطط المتوحشة لكي تهاجم اللقطاء البرتغاليين الذين يكتبون الأكاذيب عن أصدقائهم. وصوب سهامًا أخرى نحو «باسوس» في «حفل متنقل»؛ كان مثل السمكة الدليل التي ترشد القرش إلى فريسته مثل «جيرالد ميرفي»، وأنه قد نجح في تدمير زواج «هيمنجواي» الأول.50

وهذا الكلام الأخير ليس صحيحًا؛ لأن «هيمنجواي» لم يكن في حاجة لأية مساعدة خارجية لكي يخرب زواجه الأول.

كان في أدبه يكتب عن النساء عادة بفهم واضح، كان يشترك مع «كبلنج» في موهبة تنويع أسلوب تناوله الذكوري مع تقديم وجهة النظر الأنثوية بشكلٍ مؤثر وغير متوقع.

كان هناك كثير من التضارب حول مسحةٍ أنثوية (أو ربما ميل لارتداء ملابس الجنس الآخر أو الانتماء إليه) في «هيمنجواي» نابعة من هوسه الواضح بالشَّعر، خاصة الشعر القصير في النساء، وينسب ذلك إلى أن أمه كانت ترفض أن تلبسه ملابس ولد، وتركت شعره دون أن تقصه لوقتٍ طويل جدًّا.51 الواضح أن «هيمنجواي» وجد من الصعب أن يقيم أي نوع من العلاقة المتحضرة مع امرأة على الأقل لفترةٍ طويلة، إلا إذا كانت تلك العلاقة قائمة على خضوع تام من جانبها.
الأنثى الوحيدة التي أحبَّها من بين أفراد عائلته كانت شقيقته الصغرى «أرسولا»، أو «أختي الحبيبة أورا» كما كان يُسمِّيها. وكذلك كانت مفتونه به وكانت عبدة له. أخبر صديقًا له في سنة ١٩٥٠م أنه عندما عاد من الحرب في سنة ١٩١٩م (كانت «أرسولا» في السابعة عشرة): «كانت تنتظر دائمًا، نائمة على السلم في مدخل الطابق الثالث المؤدِّي إلى غرفتي. كانت تريد أن تستيقظ عندما أجيء؛ لأنها كانت تعرف أنه من غير المفضل أن يشرب الإنسان بمفرده. كانت تشرب شيئًا خفيفًا معي حتى أنام، وتنام هي الأخرى لكيلا أكون وحيدًا بالليل. كنا ننام والنور مضاء، إلا إذا أطفأته هي أحيانًا عندما تكتشف أنني قد نمت، أو تضيئه إذا رأتني مستيقظًا.»52

وربما يكون ذلك من اختراعه أو ربما يعكس فكرة «هيمنجواي» عن كيف يجب أن يكون سلوك المرأة معه. وسواء كانت تلك الرواية حقيقية أو كاذبة فإنه ما كان ليجد ذلك الضرب من الخنوع في الحياة. ثلاث من زوجاته الأربع كن خانعات خاضعات على نحوٍ غير عادي بالمقاييس الأمريكية في القرن العشرين … ولكن ذلك لم يكن كافيًا بالنسبة له.

كان يحب التنويع والتغيير، والدراما.

كانت زوجته الأولى «هادلي ريتشاردسون» تكبره بثماني سنوات وكانت غنية جدًّا. عاش على أموالها إلى أن أصبحَت كُتبه تباع بأعدادٍ كبيرة. كانت ممشوقة القوام وجذابة حتى أُصيبت بالسمنة بعد أن حملت بطفله الأول «جاك» — بمبي — وفشلت في التخلص من سمنتها فيما بعدُ.53
لم يكن «هيمنجواي» يتردد في أن يغازل نساء أخريات في وجودها مثل «ليدي توايزدن» التي ظهرت في شخصية «برت آشلي» في رواية «ثم تشرق الشمس»، وكانت امرأة عابثة من «مونبارتاس»، وسبب شجاره مع «هارولد لويب». تحملت زوجته «هادلي» كل ذلك الامتهان، ثم علاقة أخرى مع «بولين فايفر»، فتاة جميلة لعوب، أغنى من «هادلي»، كان أبوها واحدًا من أكبر ملاك الأراضي وتجار الغلال في «أركانساس»، وقعت في غرامه وأغوته ونجحت هي وهو في إقناع «هادلي» بالسماح بوجود تلك العلاقة. ولم يكتفيا بذلك فأقحموها في محاولة للانفصال ثم إلى الطلاق. قبلت ذلك وكتبَت إلى «هيمنجواي» تقول: «لقد تزوجتك على الحلوة والمرة.» (وكانت تعني ذلك فعلًا)، كانت التسوية كريمة من جانبها، وكتب إليها «هيمنجواي» مبتهجًا: «ربما يكون أسعد شيء بالنسبة ﻟ «بمبي» أن يكون له أمٌّ مثلك، كم أنا معجب بتفكيرك المستقيم، بعقلك، بقلبك، وبيديك الجميلتين، وأدعو الله دائمًا أن يعوضك عن الأذى الذي ألحقته بك، يا أفضل وأصدق وأحب مَن عرفت.»54

كان هناك عنصر بسيط من الصدق في هذا الخطاب، وهو أن «هيمنجواي» كان يرى أن «هادلي» قد تصرفت بكل نبل، وكان قبل زواجه من «بولين» قد بدأ في صنع أسطورة عن قداستها.

وكانت «بولين» من جانب آخر قد لاحظت أن «هادلي» لم تتعامل مع الطلاق بمنطق تجاري على أساس أن «هيمنجواي» لن يكون محظوظًا في المرة التالية، فاستخدمت ثروتها لتجعل حياتهما أكثر اتساعًا اشترت منزلًا أنيقًا في «كي وست فلوريدا» ووسعته. وهو الذي جذبه إلى الصيد في أعالي البحار والذي أحبه فيما بعد. أنجبت له ابنًا، «باتريك»، ولكنها عندما أعلنت في سنة ١٩٣١م أنها كانت حاملًا في طفل آخر «جريجوري» بدأ الزواج في الانهيار … كان «هيمنجواي» الآن قد وجد بغيته وذوقه في «هافانا» حيث تعرَّف على شقراء في لون الفراولة «جين ماسون» زوجة رئيس الخطوط الجوية «بان-أميركان» في «كوبا»، والتي كانت تصغره بأربعة عشر عامًا. رشيقة … جميلة … تشرب كثيرًا … رياضية من الطراز الأول تستمتع بالتسكع معه في البارات ومع أصدقاء البارات ثم تقود سيارات السباق بسرعةٍ جنونية. كانت بطلة نموذجية من بطلات «هيمنجواي»، ولكنها كانت ميالة للاكتئاب ولا تستطيع أن تدبر حياتها المعقدة. حاولَت الانتحار ونجحت في أن تكسر ظهرها إلى الدرجة التي جعلت «هيمنجواي» يفقد الاهتمام بها. في نفس الوقت كانت «بولين» قد قطعت خطوات يائسة نحو استعادة زوجها.

كتبَت إلى «هيمنجواي» تقول إن والدها قد منحها مبلغًا كبيرًا من المال … هل يريد جزءًا منه؟ «لا نهاية لهذه الأموال الوسخة … دعني أعرف … لا تتخذ امرأة أخرى … حبيبتك «بولين»». بَنَت له بركة سباحة في «كي وست» وكتبَت إليه: «ليتك هنا تنام في سريري، تستخدم حمامي، تشرب من الويسكي الذي لدي … بابا العزيز … عد إلى البيت أرجوك … وبأسرع ما تستطيع.» ذهبت إلى جراح تجميل: «أنفي كبير … شفتاي غير كاملتين، أذناي بارزان، يجب إزالة كل ما في وجهي من بثور قبل أن أذهب إلى «كوبا» …» صبغت شعرها الأسود بلون ذهبي وكانت كارثة … ولم تفلح رحلتها إلى «كوبا»! أطلق «هيمنجواي» اسمها على قاربه ولكنه لم يحملها فيه! كتب: «كلما عاملتَ شخصًا بطريقةٍ أفضل وأظهرت مدى حبك له سئم منك.» كان يعني ما يقول. علاوة على ذلك فإنه كإنسان يشعر بالذنب ويلقي بمسئوليته على الآخرين، راح يحملها مسئولية فشل زواجه الأول وبالتالي فهي تستحق كل ما يحدث لها.

التالية كانت «مارثا جيلهورن»، كاتبة ومراسلة صحفية مثقفة مثل «هادلي» وتنتمي إلى الطبقة فوق المتوسطة مثل كل نساء «هيمنجواي»، كانت طويلة القامة، ساقاها طويلان بشكلٍ واضح، شقراء، عينان زرقاوان، وأصغر منه بعشر سنواتٍ تقريبًا. كان «هيمنجواي» قد التقى بها لأول مرة في بار «سلوبي جو-كي وست» في ديسمبر ١٩٣٦م، وفي العام التالي دعاها للحاق به في «إسبانيا»، وفعلت. كانت التجربة مقدمة جعلتها تفتح عينيها، لا لأنه بدأها بكذبة: «كنت واثق أنك ستحضرين إلى هنا يا بنيتي لأنني رتبت لتحقيق ذلك.» لم يكن ذلك صحيحًا كما كانت تعرف. أصر أيضًا على إغلاق غرفتها من الخارج ولكي لا يضايقها أي رجل آخر.55 اكتشفَت أن غرفته في فندق «أمبوس ماندوس» كانت في حالة من الفوضى المقززة.

كتبَت فيما بعد: «كان «إرنست» على درجةٍ بالغة من القذارة … أحد أكثر الرجال الذين عرفتهم تدنيًا في الذوق.» كان «هيمنجواي» قد أخذ عن والده غرامه بساندويتشات البصل وكان يمتعه أن يصنعها من أنواع البصل القوية في «إسبانيا»، يقضمها بالتناوب مع جرعات من زمزمية الويسكي الفضية … كانت «مارثا» شديدة الحساسية وكان ذلك يجعلها تشعر بالغثيان ولا يحتمل أن تكون قد أحبته جسديًّا … كانت ترفض أن تنجب طفلًا منه وفيما بعدُ تبنت واحدًا: «ليس هناك ما يدعو لأن تنجب طفلًا عندما يكون في مقدورك أن تشتري واحدًا … وهذا ما فعلته.»

تزوجت «هيمنجواي» أساسًا لأنه كان كاتبًا مشهورًا، شيء ما كانت تحاول هي أن تحققه؛ تتمنى أن يكون لها نصيب من نجوميته الأدبية، ولكن «بولين» كانت تقاتل بشراسة للاحتفاظ بزوجها، وعندما أحست بأنها كانت قد بدأت تخسر الحرب تذكرت تسوية «هادلي» السهلة، وأصرت من جانبها على تسوية عنيفة، مما أجَّل الطلاق. وإلى أن حدث ذلك كان «هيمنجواي» يجنح إلى اعتبار «مارثا» المسئولة عن انهيار زواجه. وهناك شهود من بين الأصدقاء على مشاجراتهم العلنية في مراحل باكرة.

كانت «مارثا» هي الأكثر مهارة والأقوى إرادة بين زوجاته فلم تكن هناك فرصة لاستمرار الزواج. أولًا: كانت تعترض بشدة على إفراطه في الشرب وما يتبع ذلك من قسوة وفظاظة. أصرت ذات مرة أن تقود السيارة وهما عائدان من حفلٍ شربَا فيه كثيرًا (في نهاية ١٩٤٢م) وتشاجرا في الطريق فصفعها على وجهها بظهر يده. أبطأت بالسيارة «اللنكولن» التي كان يحبها ودخلت بها في شجرة وتركته بداخلها وانصرفت.56 ثانيًا: كان هناك سبب آخر وهو القذارة … وكانت تعترض بشدة على سرب القطط التي كان يقتنيها في «كوبا»، وكانت رائحتها قذرة جدًّا، حيث كان يتركها تتحرك. في عام ١٩٤٦م قامت بعملية إخصاء للذكور فكان يتمتم بغضب شديد فيما بعد: «لقد قطعت قططي.»57 كانت تصحح له نطقه للغة الفرنسية وتتحدى معرفته بأنواع النبيذ الفرنسي وتسخر من «مصنع اللصوص». كانت تلمح بأنه يجب أن يكون بالقرب من ساحة القتال في أوروبا وأخيرًا قرر أن يذهب بعد ترتيب من «كوليير»، حيث كانت تعمل، ثم تركها وذهب، مما ضاعف من ثورتها. تبعته إلى لندن في سنة ١٩٤٤م حيث وجدته يعيش في قذارته المعتادة في «دورشستر» وزجاجات الويسكي الفارغة تتدحرج تحت سريره. في هذا الوقت كان كل شيء قد بدأ في الانهيار، بعد أن عادا إلى «كوبا»، كان يوقظها في الليل عندما يعود من جلسات الشراب. «عندما كنت أحاول أن أنام كان يوقظني لكي يتنمر، يزمجر، يسخر مني. كانت جريمتي هي أنني ذهبت إلى الحرب وهو لم يذهب، ولكنه لم يكن يفهم الأمور على هذا النحو. كان يقول إنني مجنونة، أريد الإثارة وأحب المخاطرة، لا أتحمل مسئولية تجاه أحد، أنانية فوق كل الحدود. ولم يتوقف ذلك أبدًا … صدقني! كان كل شيء قاسيًا وقبيحًا»،58 «كان يهددني».59 كتب قصيدة بذيئة بعنوان «إلى مهبل مارثا جيلهورن» الذي كان يشبهه برقبة قربة ماء ساخن قديمة وكان يقرؤها في السرير لأي امرأة ينام معها. كانت «مارثا» تشكو من أنه «كان يزداد جنونًا عامًا بعد عام» … كانت تعيش «حياة عبد مع تاجر عبيد متوحش» … وانسحبت منها.
كان تعليق ابنه «جريجوري»: «كان يعذب «مارثي».» وفي النهاية بعد أن دمر كل حبها له وتركته كان يدَّعي أنها هي التي هجرته.60 انفصلا في سنة ١٩٤٤م، وبموجب القانون الكوبي احتفظ «هيمنجواي» لنفسه بكل ممتلكاتها هناك على أساس أنها هي التي تركته. كان يقول إن زواجه منها «أفدح أخطاء حياتي»، كتب رسالة إلى «بيرنسون» يعدد له فيها خطاياها ويتهمها بالزنا: «أرنبة»، ويقول إنها لم ترَ في حياتها شخصًا يموت ومع ذلك حققت ثروة من وراء الكتابة عن الأعمال العدائية أكثر من أي امرأة أخرى منذ «هاريت بيتشر ستو» … وكل ذلك غير صحيح.
زواجه الرابع والأخير استمر حتى موته، والسبب أساسًا أن بطلته هذه المرة «ماري ويلش»، كانت تصر على أن يستمر مهما حدث. كانت من طبقة مختلفة عن الزوجات السابقات، ابنة تاجر أخشاب من «مينسوتا»، ولم يكن لديها أية أوهام عن الرجل الذي تزوجته حيث إنه منذ بداية علاقتهما في فندق «ريتز» في باريس في فبراير سنة ١٩٤٥م وبعد أن استبد به السكر وجد صورة لزوجها الصحفي الأسترالي «نويل منكس»، فألقى بها في المرحاض وراح يصوب عليها بمسدسه الكبير فدمر المرحاض وأغرق الغرفة.61 كانت «ماري» صحفية في اﻟ «تايم»، ولم تكن بطموح «مارثا» ولكنها كانت نشيطة وذكية.
عندما أدركت أن «هيمنجواي» كان يريد زوجة خادمة أكثر منها منافسة، تركت الصحافة كلية لكي تتزوجه رغم أنها استمرَّت في تحمل نوبات الثورة والغضب على شاكلة: «لم أنم مع الجنرالات لكي أحصل على أخبار لمجلة «تايم».»62
كان يُسمِّيها «فينوس جيب بابا» وكان يتباهى بعدد المرات التي يمارس فيها الجنس معها. قال للجنرال «تشارلز (باك) لانهام» إنه بعد فترة من إهمالها كان من السهل أن يهدئها حيث إنه «رواها أربع مرات في الليلة السابقة» (عندما سألها «لانهام» عن ذلك بعد موت «هيمنجواي» كانت تتنهد وهي تقول: «ليت ذلك كان صحيحًا»).63

كانت «ماري» قوية الإرادة، مديرة، وفيها الكثير من «الكونتيسة تولستوي»، وفي هذا الوقت كان «هيمنجواي» بالطبع في شهرة «تولستوي»، روائيًّا للرجولة، نبيًّا خارج المنزل، مشروبات، بنادق، ملابس سفاري، رحلات صيد … إلخ.

حيثما كان يذهب … في «إسبانيا»، في «أفريقيا»، وفي «كوبا» أساسًا، كان يحيط به بلاط من الرفاق والمساعدين وأحيانًا سيرك متنقل مركزه «هافانا». كان البلاط غريبًا وشاذًّا مثل بلاط «تولستوي»، ربما لم يكونوا على نفس الدرجة من التبعية المعنوية، ولكنهم كانوا مخلصين على طريقتهم. قبل أن تتركه سجلت «مارثا جيلهورن» ما أسمته ﺑ «مشهد مضحك جدًّا في «كوبا»».

«هيمنجواي» وهو «يقرأ بصوتٍ عالٍ من رواية «لمن تدق الأجراس؟» لمجموعة من الأصدقاء الأغنياء المتعلمين صيادي الحمام، كانوا كلهم يجلسون على الأرض مسحورين».64

ومع ذلك كانت حياة «هيمنجواي» أقل إثارة ولونًا من تلك التي في «ياسنايا بوليانا» بفضل عاداته المرعبة.

تركت لنا «ديوري شفلن» زوجة أحد المليونيرات أصحاب «هيمنجواي» وصفًا للمشهد العام في «كوبا» سنة ١٩٤٧م: «القارب قذر وغير مريح، القطط المتوحشة تتجول في اﻟ «فينكا»، ولا يوجد بها ماء ساخن، «هيمنجواي» نفسه ينضح برائحة الويسكي والعرق، غير حليق الذقن، و«ماري» مسئولة عن عمل أشياء كثيرة.» كان هناك أيضًا أسلوب الامتهان الواضح والمتعمد. كان يحب مجاملات النساء خاصة إذا كن جميلات وشهيرات. كانت هناك «مارلين ديترتش» التي كانت تغني له في الحمام وهو يحلق، و«لورين باكال» «… أكبر مما كنت أتخيل»، «نانسي» «أنت رشيقة وجميلة يا حبيبتي»، «فيرجينيا فيرتل» — «أوجيجي» — التي كانت دائمًا ضمن سيرك «هيمنجواي» في فندق «ريتز». كتبَت «ماري» وهي حزينة: «ساعة ونصف الساعة الآن منذ أن تركت غرفة «جيجي فيرتل» عندما قال «إرنست»: سوف أحضر بعد دقيقة.»

أما في «مدريد» فكان هناك بحسب تعبيره «بغايا القتال»، وفي «هافانا»: «مومسات جبهة الماء». كان يحلو له أن يعابثهن في حضور «ماري» كما كان يفعل مع «دوروي تويسدن» تحت بصر «هادلي» مع تقدم العمر. كان يحب الفتيات والنساء الأصغر سنًّا. قال ذات مرة ﻟ «مالكوم كاولي»: «لقد مارست الجنس مع كل امرأة تمنيتها، ومع كثيرات ممن لم أكن أريد، ومارسته جيدًا. أعتقد ذلك.»65 ولم يكن ذلك صحيحًا بالمرة. بعد الحرب العالمية الثانية أصبح «هيمنجواي» أكثر كذبًا. في «فينيسيا» وقع في غرام امرأة شابة اسمها «أدريانا إيفا نسش» كانت مروعة ومثيرة للشفقة، جعلها بطلة لروايته المشئومة بعد الحرب «عبر النهر وبين الأشجار» (١٩٥٠م) كانت باردة ونفاجة وبليدة الحس وكانت تريد أن تتزوج ولا شيء غير ذلك. كان ابنه «جريجوري» يصفها ﺑ «ذات الأنف المعقوف»، أغدق عليها «هيمنجواي» كثيرًا من كرمه وأكثر مما أُنفق على أي علاقة بين اثنين في التاريخ، ميولها الفنية وطموحها جعلاه يجبر ناشر كُتبه على قبول غلافين صممتهما لكتابيه «عبر النهر»، و«العجوز والبحر» (١٩٥٢م) والكتاب الأخير هو الذي جعله يستعيد شهرته ويحقق له جائزة «نوبل»، وكان لا بد أن يتم تغيير الغلافين. كانت «أدريانا» تتهم «ماري» بأنها «غير مثقفة»، نفس الحكم الذي كان يردده «هيمنجواي»، والذي كان يثني على تربية المرأة وأسلوبها المتحضر ويقارن بينها وبين «ماري» التي كان يعتبرها «غسالة» أو «كناسة».66
في رحلته الأخيرة للصيد في شتاء ١٩٥٣-١٩٥٤م كانت له مباذله وسقطاته، كان قد أصبح أكثر قذارة حتى بمقاييسه هو، الخيمة كلها مزق بالية وزجاجات ويسكي فارغة، ولأسباب غامضة مرتبطة بأفكاره الخاصة كان يرتدي اللباس الوطني ويحلق رأسه بالموسى ويصبغ بعض ملابسه باللون الأصفر الوردي — مثل الماساي — ويمسك حربة. الأسوأ من ذلك أنه رافق فتاة محلية من «الواكامبا» اسمها «ديبا» يصفها «دينيس زافينا» — عضو رحلة الصيد — بأنها كانت «جزءًا من قمامة المعسكر قذرة الرائحة». كانت هي وصديقاتها يقمن الحفلات في خيمة «هيمنجواي»، وذات مرة وقع به سريره المعلق. وكما تقول «ماري» في يومياتها: «كانت هناك دائمًا مناقشاته الصاخبة الكثيرة والتي كانت تستمر ليلًا ونهارًا.»67 ثم كانت هناك آخر رحلاته الكبرى إلى «إسبانيا» في سنة ١٩٥٩م عندما تحرك سيرك «هيمنجواي» بثمانين أو تسعين قطعة أثاث من أجل مصارعة الثيران. جاءت فتاة اسمها «فاليريا دابني-سميث» — ١٨ سنة — ابنة أحد عمال البناء في «دبلن»؛ لتُجري معه مقابلة لوكالة أنباء بلجيكية جديدة. أحبها، وربما يكون قد فاتحها في الزواج. ولكنه وجد أن «ماري» كانت أكثر صلاحية لرعاية رجلٍ مسن، زوجة طبيعية … أخيرة … من أجل الطريق، ولكنه وظف «فاليريا» في السيرك براتب ٢٥٠ دولارًا في الشهر وكانت تجلس في المقعد الأمامي للسيارة بالقرب من يده العابثة، بينما «ماري» قابعة في الخلف. كانت «ماري» تتحمل ذلك صابرة على أساس أن «فاليريا» لا ضرر منها، بل إنها تسرِّي عن «هيمنجواي» وتجعله أقل عنفًا. وبعد موته احتفظت بها بين موظفي السيرك، تزوجت «جريجوري هيمنجواي» فيما بعد، ولكن بعد أن كانت قد تسببت في أن يكون الصيف «مرعبًا وبشعًا وبائسًا».68
هل تحملت «ماري» أكثر مما تحملت «الكونتيسة تولستوي»؟ ربما لا، على أساس أن «هيمنجواي» كان على عكس «تولستوي» طائر بيت (رجلًا منزليًّا)، ليس لديه ميول الانطلاق في البرية. تعلمت «ماري» الإسبانية وأدارت شئون البيت جيدًا وشاركت في معظم رحلاته الرياضية. في وقتٍ ما كتب «هيمنجواي» تقرير حالة عنها، وحدد فيه مواصفاتها: «صيادة سمك ممتازة، صيادة طيور متوسطة، سباحة قوية، طباخة جيدة بالفعل، خبيرة نبيذ، بستانية ممتازة، تستطيع أن تدير العمل على قارب أو في البيت باللغة الإسبانية.»69 ولكنه كالعادة لم يبدِ أي عطف عليها عندما جرحت نفسها في رحلة صيد برية. سجلت حوارًا بينهما بعد إصابةٍ مؤلمة: «يمكن أن تتحملي»، «أحاول»، «الجنود لا يفعلون هذا»، «لست جنديًّا».70 في العلن خصام شديد، وفي داخل البيت عنف مرعب متبادل. ذات مرة ألقى بآلتها الكاتبة على الأرض وحطم منفضة سجائر كانت تعتز بها، وألقى بالنبيذ على وجهها وسبها بلفظ «عاهرة»، ردت عليه بأنه إن كان يريد أن يتخلص منها فإنها لن تترك البيت «حاوِل مهما أردت أن تجبرني على تركه ولن تفلح، مهما قلت. ومهما فعلت … اضربني بالنار، اقتلني، ولكني سأظل هنا وأدير المنزل واﻟ «فينكا» إلى أن تعود فائقًا من أثر السكر في الصباح وتقول بصراحة وصدق أنك تريدني أن أرحل».71 كان ذلك عرضًا ولكنه كان متعقلًا ولم يقبله.
أطفال «هيمنجواي» من زوجاته كانوا دائمًا شهود صمت — وأحيانًا خوف — على حياته الزوجية. وهم صغار كانوا يقضون معظم الوقت مع الخدم والمربيات حيث كان «سيرك هيمنجواي» دائم التنقل. نسمع عن واحدة منهن اسمها «آدا ستيرن» وكانت سحاقية. كان «بمبي» الابن الأكبر يرشوها بما يسرقه من نبيذ، و«باتريك» كان يصلي لكي يدخلها الله النار، بينما كان «جريجوري» الأصغر يخشى أن تتركهم.72
«جريجوري» هذا هو الذي كتب فيما بعدُ كتابًا فاضحًا ومدمرًا عن والده. كان وهو شاب قد وقع في مشكلة مع الشرطة في «كاليفورنيا»، واتصلت أمه «بولين» — وكانت قد طلقت من والده منذ فترة طويلة — ﺑ «هيمنجواي» (٣٠ سبتمبر ١٩٥١م) تقص عليه المشكلة وتطلب مساعدته. رد عليها بأنها المسئولة: «انظري إلى تربيتك»، وراحا في نقاش غاضب، كانت «بولين» «تصرخ في التليفون وهي تنتحب». وفي تلك الليلة استيقظت من النوم على ألم داخلي شديد، وفي اليوم التالي ماتت (كان عمرها ٥٦ سنة) على طاولة العمليات نتيجة ورم في الغدة الكظرية، وربما يكون التوتر الشديد هو سبب تفاقم الحالة قبل الوفاة. كان «هيمنجواي» يقول إن السبب هو جنوح ابنه، والابن يقول إن السبب هو غضب والده العنيف. «لم تكن متاعبي سبب إزعاجها، وإنما مكالمته التليفونية الوحشية معها قبل وفاتها بثماني ساعات». كتب «جريجوري» في كتابه: «من الجيد أن تكون تحت تأثير شخصية مسيطرة طالما كانت تلك الشخصية صحية، ولكن عندما تكون قد جفَّت فيها الروح كيف يمكن أن تقول لها إن رائحتها قد أصبحَت لا تحتمل؟»73
والحقيقة أن «هيمنجواي» لم يعانِ من جفاف الروح. كان سكيرًا مدمنًا وكان ذلك شيئًا رئيسيًّا ومهمًّا في حياته وعمله، كما كان المخدر بالنسبة ﻟ «كوليردج». كان حالة دراسية نموذجية لمعرفة كيف يتحول الشخص إلى مدمن، يساعد على ذلك اكتئاب مرضي عميق من المحتمل أن يكون موروثًا مما يؤدِّي إلى تفاقم الحالة. قال لي «ماكليش» ذات مرة: «المشكلة أنني طوال حياتي عندما كانت تسوء الأمور، كنت أتناول كأسًا، وسرعان ما يصبح كل شيء أفضل.»74 بدأ يشرب منذ المراهقة، كان الحداد «جيم دلورث» المقيم في نفس المنطقة يزوده في السر بشراب «السيدر» القوي، لاحظت أمه تصرفاته وخافت عليه من الإدمان (يقال إن إفراطه في الشرب بدأ مع خصامه الشديد ﻟ «جريس»). في «إيطاليا» عرف النبيذ، ثم بدأ في تناول المشروبات الأقوى في نادي الضباط في «ميلانو». الجرح وعلاقة حب فاشلة جعلاه يشرب أكثر؛ اكتشفوا أن خزينته في المستشفى كانت مليئة بزجاجات الكونياك الفارغة … نذير سوء!
في العشرينيات كان يشتري النبيذ بالجالون في «باريس» ويشرب خمس أو ست زجاجات مع وجبة الطعام الواحدة. وهو الذي علم «سكوت فيتزجيرالد» شرب النبيذ من الزجاجة مباشرة وكان على حد تعبيره: «مثل الفتاة التي تذهب للسباحة دون لباس بحر.» في «نيويورك» ظل ثمِلًا لعدَّة أيام بعد أن وقَّع عقد روايته «ثم تشرق الشمس»، وربما تكون تلك أول نوبة سكْر طويلة. أشيع أنه أول مَن اخترع عبارة Have a drink التي انتشرت في العشرينيات رغم أن هناك مَن يتهمونه بأنه كان بخيلًا ولا يقدم كأسًا لأحد، وهو بدوره كان يميل إلى اتهام معارفه بالتطفل كما فعل مع «كين تينان» في «كوبا» في الخمسينيات.75
كان «هيمنجواي» يحب أن يشرب مع النساء، وكان يبدو له ذلك بديلًا عن رضاء أمه. «هادلي» التي كانت تشرب كثيرًا معه كتبَت: «ما زلت أتوق كما تعرف إلى تلك الملاحظة التي أبديتها بأنك كنت مجنونًا بي في قدرتي على الشرب».76 نفس الدور لعبَته «جين ماسون» رفيقته في «هافانا» في الثلاثينيات، التي كان يشرب معها «الجن» و«الشمبانيا» وشراب «الدايكويرز» المثلج في «كوبا». في ذلك العقد كان قد أصبح لا يستطيع التحكم في نفسه مع الشراب. كان أحد السقاة في حانات «هافانا» يقول عنه: «لم أشاهد في حياتي شخصًا يستطيع أن يشرب تلك الكمية من المارتيني.» في منزل صديقه «توروالد سانشيز» تحول إلى سكير شرس … مقاتل … ألقى بملابسه من النافذة وحطم كئوسًا من الباكاراه فصرخت زوجة صديقه فزعةً وطلبت من الخادم أن يغلق عليه الغرفة. كانوا في أثناء رحلات الصيد يشاهدونه وهو يتسلل من خيمته من أجل المشروب.
يقول شقيقه «ليستر» إنه في «كي وست» في نهاية الثلاثينيات كان يشرب سبعة عشر كأسًا من الويسكي بالصودا في اليوم، وغالبًا ما يأخذ زجاجة شمبانيا معه إلى السرير وهو ذاهب لينام. في هذه المرحلة بدأت آلام الكبد الشديدة لأول مرة، ونصحه الطبيب بأن يترك الشراب، وحاول أن يحدده بثلاث كئوس قبل العشاء ولكن ذلك لم يستمر. أثناء الحرب العالمية الثانية كان المعدل يتزايد باضطراد، ويقال إنه كان يضيف «الجن» إلى الشاي عند الفطور. في سنة ١٩٤٨م أجرى معه «أ. هوتشنر» مقابلة لحساب «كوزموبوليتان» قال فيها إنه شرب سبعة كئوس مضاعفة من شرابٍ يُسمَّى «بابا دابلز» (الشراب الهافاني المسمى باسمه وهو خليط من الروم والجريب فروت والماراشينو)، وعندما ذهب إلى العشاء أخذ الكأس الثامنة معه من أجل قيادة السيارة. كما زعم: «شربت ذات ليلة ست عشرة كأسًا هنا.» وكان يتباهى أمام ناشر أعماله أنه قد بدأ المساء باﻟ «أبسنثي» — عشبة طبية تستخدم في إنتاج المسكرات — ثم شرب زجاجة نبيذ على العشاء ثم انتقل إلى جلسة فودكا، وبعدها ثبتها بالويسكي والصودا حتى الثالثة صباحًا. قبل العشاء في «كوبا» كان يشرب الروم على نحوٍ خاص، وفي أوروبا المارتيني، وقد شاهدته مرة في أوائل الخمسينيات وهو يتناول ست كئوس على التوالي — كان شديد التبجح في تناوله للشراب أمام الناس — في حديقة فندق «دوم» في «مونبارناس»، مشروباته على الإفطار لا بد أن تكون «الجن»، و«الشمبانيا»، و«الويسكي»، أو «الموت في مجرى الخليج»، وهي كأس كبيرة من «الجن» والليمون من ابتكاره. فوق ذلك كله كان هناك «الويسكي» باستمرار؛ كان ابنه «باتريك» يقول إن والده كان يستهلك جالون في اليوم على مدى العشرين سنة الأخيرة من حياته. كانت قدرته على التماسك شديدة، لم تلحظ «ليلان روس» التي رسمت صورة قلمية له لحساب اﻟ «نيويوركر» أنه كان سكرانًا طوال الوقت الذي كان يتكلم فيه معها. يقول «دينيس زافيرو» عن آخر رحلة صيد له: «أعتقد أنه كان سكرانًا طوال الوقت ولكن نادرًا ما كان يظهر عليه ذلك»، كما كان يبدي مقدرة غير عادية على قطع الشرب أو التوقف عنه تمامًا لفترات قصيرة، هذا إضافة إلى أن قوة بنيانه كانت تساعده على التحمل، ولكن آثار الإدمان كانت قوية كما كان الشرب سببًا مهمًّا في عدد الحوادث التي سببها. كان «والتر بنيامين» يصف المثقف — وهو نفسه مثقف — بأنه «رجل يحمل على أنفه نظارة طبية وفي قلبه الخريف»، ومن المؤكد أن «هيمنجواي» كان يحمل في قلبه الخريف — وربما منتصف الشتاء — ولكنه كان يبعد النظارة عن أنفه قدر الاستطاعة رغم ضعف عينه اليسرى الشديد الذي ورثه عن أمه (كانت هي أيضًا قد رفضَت أن تضع نظارة بدافع من الغرور). وربما كان جسمه الضخم الغريب أيضًا أحد أسباب الحوادث الكثيرة في حياته، فالقائمة طويلة جدًّا.77 عندما كان طفلًا وقع وهو يضع عصا في فمه فجرحت اللوزتين. دخلت سنارة صيد السمك في ظهره. إصابات متكررة في الملاكمة وكرة القدم. في سنة ١٩١٨م أُصيب في الحرب وجرح قبضته عندما حطم بها واجهة عرضٍ زجاجية. بعد عامين جرح قدميه وكان يسير على زجاج مكسور. وقع على مربط قارب في المرسى وأُصيب بنزيف داخلي. حرق نفسه بعد أن حطم سخان ماء بيده (١٩٢٢م)، مزق أربطة قدمه (١٩٢٥م)، جرح ابنه عينه السليمة (١٩٢٧م). في ربيع ١٩٢٨م وقع أول حادث كبير له نتيجة السكْر، كان قد عاد إلى المنزل وجذب سلسلة مصباح السقف بدلًا من سلسلة الطرد لتنظيف المرحاض فسقط الغطاء الزجاجي على رأسه وأُصيب بارتجاج في المخ واحتاج إلى تسع غرز في الرأس، مزق عضلة فخذه (١٩٢٩م)، حطم إبهامه بالخرامة، كسر ذراعه في حادث سيارة سنة ١٩٣٠م، طعن ساقه وهو سكران، وكان يحاول أن يطعن سمكة قرش (١٩٣٥م)، كسر إصبع قدمه الكبير وهو يركل بابًا مغلقًا، اخترق مرآة أمامه فكسر قدمه، أصاب عينه الضعيفة سنة ١٩٣٨م، وفي سنة ١٩٤٤م أُصيب مرتين بارتجاج في المخ. الأول عندما دخل بسيارته في الظلام في خزان لنقل الماء، والثانية عندما قفز من فوق دراجة نارية في حفرة. في سنة ١٩٤٥م أصر على أن يقود السيارة بدلًا من السائق لتوصيل «ماري» إلى مطار «شيكاغو»، انزلقت السيارة واصطدمت بكومة من التراب وكسرت له ثلاثة ضلوع وركبته وجرح في جبهته (بينما دخلت ماري في زجاج السيارة)، نشب أسد مخالبه فيه وهو يلعب معه في سنة ١٩٤٩م، وقع على القارب فشج رأسه وجرح قدمه وأُصيب بارتجاج في المخ للمرة الخامسة. في سنة ١٩٥٣م خلع كتفه بعد أن سقط من سيارته، كما شهد نفس الشتاء سلسلة من الحوادث وقعت له في أفريقيا: حرق نفسه وهو يحاول أن يطفئ حريقًا شب في العشب وكان سكرانًا … حادثا طيران، ارتجاج آخر في المخ، شق في الجمجمة، كسر في العمود الفقري، جروح داخلية، ثقب في الكبد، إصابات في الكلى والطحال، شلل في العضلة العاصرة، الحوادث التي كانت تجيء بعد السكر استمرَّت تقريبًا حتى نهاية حياته: أربطة ممزقة، الْتواءات في الكاحل نتيجة تسلق سور (١٩٥٨م)، ثم حادث سيارة آخر (١٩٥٩م).
ورغم بنيانه القوي كان للإدمان أثره المباشر على صحته بدءًا بالكبد المدمَّرِ في أواخر الثلاثينيات. في سنة ١٩٤٩م وأثناء التزلج على الجليد في «كارتينو داميزو» دخل غبار في عينه، ومع الشرب تطورت إلى حالة خطرة من الاحمرار والالتهاب، ظل يعاني منها لمدة عشر سنواتٍ بعد ذلك مع ندبة حمراء امتدت من قنطرة الأنف حتى الفم. في ذلك الوقت ومنذ نوبات الإفراط في الشرب في «إسبانيا» (١٩٥٩م) كان يعاني من متاعب في الكلى والكبد (تليف وجفاف في البشرة وسكر) إلى جانب الأرق المرضي وتجلط الدم ومشاكل جلدية أخرى.78

أصبح عنيدًا وعجوزًا قبل الأوان. كانت آخر صورة حزينة التقطت له وهو يسير بجوار منزل كان قد اشتراه في «أيداهو». الصورة تعبِّر عن نفسها. حتى وهو على تلك الحال كان ما زال يسير على قدميه … حيًّا. وأصبح التفكير بالنسبة له أمرًا صعبًا. انتحر والده بسبب الخوف من مرض عادي كان من الممكن علاجه، أما «هيمنجواي» فكان يخشى أن تكون أمراضه مستعصية.

في الثاني من يوليو ١٩٦١م وبعد محاولات فاشلة كثيرة للعلاج من الاكتئاب والبارانويا أمسك ببندقيته الإنجليزية المفضلة ذات الماسورتين، وضع بها خزنتين من الرصاص وفجر جمجمته!

لماذا كان «هيمنجواي» يريد الموت؟ إنه أمر غير عادي بين الكتاب … معاصره «إيفيلين وو» كاتب بالإنجليزية وذو قيمة مماثلة تقريبًا، كان هو الآخر يتوق إلى الموت. ولكن «وو» لم يكن مفكرًا مثقفًا. لم يعتقد أنه كان بإمكانه إعادة صياغة قوانين الحياة من دماغه، ولكنه خضع للمنهج التقليدي لكنيسته ومات لأسباب طبيعية بعد خمس سنوات، «هيمنجواي» صنع قانونه الخاص القائم على الشرف والصدق والإخلاص، خذل قانونه وقانونه خذله. والأخطر من ذلك أنه ربما كان قد شعر أنه يخذل فنه، كانت له أخطاؤه الفادحة، ولكن كان هناك شيء مهم لا ينقصه: الصدق الفني … النزاهة الفنية … التي ظلت تضيء كالمنارة طوال حياته. لقد وضع أمام نفسه مهمة أن يخلق أسلوبًا جديدًا في الكتابة الإنجليزية والأدب الروائي ونجح. كان ذلك أحد الأحداث البارزة في تاريخ لغتنا وهو الآن جزء لا يتجزأ منها.

كرَّس «هيمنجواي» لتلك المهمة مصادر هائلة من المهارة الخلاقة والطاقة والجلد … وكان ذلك في حد ذاته أمرًا صعبًا. ولكن الأصعب منه — كما اكتشف — أن يحافظ على المستوى الإبداعي الذي حدده لنفسه.

أصبح ذلك واضحًا له في منتصف الستينيات وكان إضافة إلى اكتئابه العادي، منذ ذلك الوقت أصبحَت قصصه القصيرة الناجحة عبارة عن اهتزازات على منزلق طويل، ولو أنه كان فنانًا بدرجةٍ أقل لما همه ذلك كإنسان، ولكان قد استمر في كتابة ونشر روايات أقل قيمة كما فعل كتاب كثيرون، ولكنه عندما كان يكتب أقل من مستواه كان يعرف، ولم يستطع أن يتحمل ذلك. كان يحاول أن يجد العون في الشراب حتى أثناء الكتابة. في البداية كانوا يشاهدونه في العشرينيات وأمامه مشروبه «روم سان جيمس»، كانت عادة نادرة في البداية، ثم أصبحَت متقطعة ثم ثابتة. يقال إنه في الأربعينيات كان يستيقظ في الرابعة والنصف صباحًا ويبدأ بالشرب مباشرة ويكتب واقفًا. القلم الرصاص في يد والكأس في اليد الأخرى.79 وكان أثر ذلك على عمله مدمرًا كما كان متوقعًا.

إن المحرر الخبير يستطيع أن يعرف دائمًا ما إذا كانت كتابة ما قد أنجزت بمساعدة الشراب مهما كان الكاتب موهوبًا.

بدأ «هيمنجواي» في إنتاج مادة وفيرة لا تصلح للنشر، أو مادة كان يشعر أنها لا ترقى إلى الحد الأدنى من المستوى الذي وضعه لنفسه، ومع ذلك نشر بعضها ولوحظ أنها أقل إن لم تكن محاكاة لأعماله السابقة. كان هناك استثناء واحد. أو لعلهما استثناءان … وبالذات «العجوز والبحر»، رغم أنها لا تخلو أيضًا من عنصر محاكاة للذات.

ولكن المستوى العام كان ضعيفًا. وفي هبوط … ووعي «هيمنجواي» بأنه كان عاجزًا عن إعادة القبض على عبقريته — ناهيك عن تطويرها — عجَّل باكتمال دائرة الاكتئاب والشراب من حوله. «هيمنجواي» رجل قتله فنه!

وحياته درس يجب أن يعيَه كل المثقفين … وهو أن الفن وحده لا يكفي!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤