الفصل السابع

«برتولد برخت»: قلب من الجليد

منذ زمن بعيد أدرك كل مَن يحاول السيطرة على أفكار الناس أن المسرح هو الوسيلة المثلى لذلك. في ٧ فبراير ١٦٠١م، وقبل يوم واحد من قيام «إيرل إسكس» ورجاله بتمردهم في لندن، دفعوا للفرقة التي كان ينتمي إليها «شكسبير» لكي تقدم عرضًا خاصًّا — لم يكن في البرنامج — لمسرحيته «ريتشارد الثاني» والتي كانت تعتبر مسرحية مناهضة للملكية آنذاك.

الإصلاح المضاد الذي كان يقوده «الجيزويت» كان يعتمد اعتمادًا رئيسيًّا في دعايته على العروض المسرحية. «فولتير»، و«روسو» كتبا للمسرح، والأخير حذر من قدرته الخطيرة على إفساد الأخلاق العامة. «فيكتور هوجو» استخدمه لتدمير آخر «البوربون»، «بيرون» كرس جزءًا كبيرًا من طاقته للدراما الشعرية … حتى «ماركس» كان يكتب مسرحية.

ولكن «إبسن» كما رأينا، كان أول مَن استخدم المسرح بشكلٍ واضح ومنظم وبنجاح مدهش من أجل إحداث ثورة في التوجهات الاجتماعية، خليفته الطبيعي في هذا المجال كان «برتولد برخت» رغم أنه كان كاتبًا مسرحيًّا يختلف عنه في وجوه عدَّة. هو الذي صنع مسرحية الدعاية الحديثة المصقولة، مستخدمًا — وبكل ذكاء — واحدة من المؤسسات الثقافية الجديدة في القرن العشرين، أي المسرح المدعوم من الدولة.

وعلى مدى عقدين من الزمن بعد وفاته — الستينيات والسبعينيات — كان هو أكثر كتب العالم تأثيرًا، ورغم ذلك كان «برخت» أثناء حياته وإلى حدٍّ ما إلى اليوم شخصية غامضة!

كان ذلك هو الخيار المدروس سواء من جانبه أو من جانب الحزب الشيوعي، ذلك التنظيم الذي خدمه بكل إخلاص على مدى السنوات الثلاثين الأخيرة من حياته. كان «برخت» من جانبه يريد أن يحول الاهتمام العام بحياته إلى اهتمام بعمله، وبنفس الدرجة كانت المؤسسة الشيوعية لا تريد لأحد أن يستكشف أصله أو خلفيته أو أسلوب حياته.1 وهكذا توجد في مسيرته الحياتية فجوات كثيرة رغم أن الخطوط الرئيسية واضحة بما يكفي.

وُلد في ١٠ فبراير ١٨٩٨م في مدينة «أوجسبورج» الكئيبة، العريقة، والتي تبعد ٤٠ ميلًا عن «ميونخ».

وعلى عكس التأكيدات الشيوعية المتكررة، لم يكن «برخت» من سلالة فلاحين، كان أسلافه من الجانبين وحتى القرن السادس عشر من الطبقة المتوسطة. بينهم فلاحون متعلمون وأطباء ومدرسون وموظفون ورجال أعمال.2 كانت أمه ابنة موظف مدني، وكان والده يعمل بتجارة الورق، موظفًا، ثم مديرًا للمبيعات في مصنع الورق في «أوجسبورج». شقيقه الأصغر «والتر» دخل نفس المهنة فيما بعدُ وأصبح خبيرًا في صناعة الورق في جامعة «دارمشتات» الفنية.
كان «برتولد» يشكو من متاعب في القلب ويبدو نحيلًا فأصبح (مثل كثير من المثقفين) طفل أمه المدلل. كانت تقول إنها لا تستطيع أن ترفض له أي طلب من طلباته الكثيرة. في سن المراهقة سئم الحياة وفقد الاهتمام بأسرته. نادرًا ما كان يذكر اسم والده، لم يبادل أمه الحب، وعندما ماتت في سنة ١٩٢٠م أصر على دعوة جماعة من أصدقائه الصاخبين إلى المنزل في اليوم التالي … يتذكر أخوه: «كنا جميعًا في غاية الحزن.» ثم غادر المنزل قبل جنازتها بيوم واحد، رغم أنه ندم على ذلك أشد الندم ذات يوم في لحظة من لحظات لوم النفس: «كنت أستحق الضرب.»3 تقول أسطورة «برخت»: إنه وهو في المدرسة كان لا يعترف بالدين، بل إنه أحرق «الإنجيل» وكتاب التعاليم علنًا وكاد يُطرد بسبب آرائه السلامية. والحقيقة أنه كتب أشعارًا وطنية، ولم تكن مشاكله في المدرسة بسبب آرائه السلامية وإنما بسبب الغش في الامتحانات.
كان «برخت» جزءًا من الثقافة الألمانية الشبابية ما قبل ١٩١٤م: الغرام بالعزف على الجيتار، والتوجه إلى الطبيعة، والأيديولوجيا المضادة للمدينة، معظم معاصريه من الطبقة الوسطى جُندوا وذهبوا إلى جبهة القتال، منهم من قضى نحبه هناك، ومنهم من أصبح نازيًّا بعد نجاته من الموت. لم يكن «برخت» رافضًا حمل السلاح بسبب مبادئ سياسية أو دينية ولكنه أعفي من ذلك بسبب مرض القلب فأصبح مساعدًا طبيًّا (كان قد درس الطب فترة قصيرة في جامعة ميونخ)، وقد رسم فيما بعدُ صورة مرعبة للمجزرة التي شهدها في المستشفيات العسكرية. «إذا أمرني الطبيب: ابتر هذه الساق، أجيبه: حاضر يا سيدي، وأبتر الساق»، «إذا أمرني بإجراء عملية تربنة كنت أفتح جمجمة الرجل وأعبث بمخه، رأيت هناك كيف كانوا يرممون البشر لكي يعيدوهم إلى الجبهة بأسرع ما يمكن»،4 ولكن «برخت» لم يكن قد استُدعي حتى أكتوبر ١٩١٨م، وكان معظم القتال قد انتهى. كان عمله الأساسي عبارة عن متابعة بعض حالات الأمراض التناسلية.
وهو يكذب أيضًا عندما يدعي بعد ذلك كلمته في حفل استلام جائزة «ستالين» للسلام أنه في نوفمبر ١٩١٨م هرع «على الفور» إلى جمهورية «بافاريا» الشيوعية وأصبح مساعدًا عسكريًّا. كان يروي حكايات مختلفة عما قام به من أعمال، ولكنها بالتأكيد لم تكن — حينذاك ولا في أي وقت آخر — بطولية.5

منذ سنة ١٩١٩م وما بعدها رسخ «برخت» نفسه كشخصية أدبية؛ أولًا: كناقد مرهوب الجانب لقسوته ووقاحته ووحشيته، ثم في المسرح نفسه وذلك بفضل عزفه على الجيتار وبراعته في كتابة الأغاني (كانت موهبته الشعرية هي الأفضل والأنقى من البداية إلى النهاية) وقدرته على أدائها بصوتٍ جميل ساحر من الطبقة العالية.

في بداية العشرينيات كانت الحالة المسرحية ذات نزعة يسارية شديدة، ومنها أخذ «برخت» الإشارة. كان أول نجاح له «سبارتكوس»، التي أُعيد تسميتها ﺑ «طبول في الليل» سنة ١٩٢٢م وحصل بها على جائزة «كليست» لكُتاب المسرح الشبان، وحققَت الضجة المطلوبة. ولكن «برخت» في تلك المرحلة كان انتهازيًّا أكثر منه صاحب أيديولوجية. كان يريد أن يلفت الأنظار إليه ونجح في ذلك لدرجةٍ كبيرة. كان هدفه هو ترويع البرجوازية. كان يكره الرأسمالية وكل مؤسسات الطبقة المتوسطة. هاجم الجيش. كان يمدح الجبن ويمارسه، «كينر» بطل قصته القصيرة المشهورة «احتياطات ضد العنف»، والذي يحمل الكثير من مسيرته الشخصية؛ جبان. صديقه «فالتر بنيامين» قال بعد ذلك إن الجبن والنزعة التدميرية كانا من صفاته البارزة.6

كان يحب أن يثير بأعماله ضجة ويكشف عن فضائح، كان يريد أن تثير مسرحياته الهمس وصيحات الاستنكار من جانب من الجمهور والتصفيق الحاد من الجانب الآخر. لم يكن يهتم بالنقد المسرحي القائم على التحليل. كان يكره ويحتقر المثقفين التقليديين، خاصة ذلك النوع الأكاديمي أو الرومانسي. اخترع «برخت» في الواقع مثقفًا من نوعٍ جديد كما فعل «روسو» و«بيرون» في زمانهم. نموذج «برخت» الجديد رفيع الثقافة والذي كان نفسه نموذجًا له، كان فظًّا غليظ القلب شكاكًا. أراد أن يضع على المسرح الجو الخشن والعنيف الموجود في الساحة الرياضية. كان مثل «بيرون» يستمتع بصحبة الملاكمين المحترفين.

طلبوا منه ذات يوم في سنة ١٩٢٦م أن يقوم بالتحكيم في مسابقةٍ شعرية فتجاهل أربعمائة مساهمة من الشعراء ومنح الجائزة لقطعةٍ جافة وجدها في مجلة رياضية للدراجات.7 رفض التراث الموسيقي النمسوي/الألماني وانحاز إلى أصوات معدنية رتيبة لدى المؤلف اليهودي «كورت فيل» الذي تعاون معه. كان يريد أن تظهر مناظر مسرحه عظامها على الخشبة … المعدات وراء الإلهام … كان ذلك هو نوع الصدق الجديد الذي يريده، كانت المعدات والأجهزة تخلبه وكذلك الرجال خلفها، المهندسون.
كان «برخت» بارعًا في العمل بيده ومهندسًا عقليًّا كذلك. كثير من توجهات «برخت» ونشاطه الذهني في العشرينيات يعكس عبقريته في الدعاية لنفسه. كان موهوبًا في ذلك مثل «هيمنجواي» — وكثير من المثقفين — وكجزء من ذلك كان مثل «هيمنجواي» أيضًا يقوم بتطوير أسلوبه المتميز في الملبس. ولكن «هيمنجواي» كان أمريكيًّا تمامًا، ورياضيًّا. والواضح أن «برخت» كان معجبًا به — وإن كان في السر — ولكن كان يضايقه أن يقول أحد إنه كان يسرق أفكار «بابا». في العشرينيات كان لا يكتم إعجابه بالولايات المتحدة، وكانت تلك آخر مرحلة يقبل فيها المثقف الأوروبي أن يكون معجبًا بالأمريكان خاصة بزعماء العصابات وأبطال الرياضة منهم. كتب «برخت» قصيدة عن معركة «ديمبسي/تني» عام ١٩٢٩م، ولذلك جاءت أفكار ملابسه عبر الأطلنطي ولكن بعضها الآخر كان أوروبيًّا، كانت السترة ذات الحزام الجلدي والكاب تجذب الشباب العنيف، وكان «لينين» هو الذي ابتدعها في سنة ١٩١٨م، ولكن «برخت» أضاف إلى ذلك اختراعاته الخاصة: ربطة عنق جلدية، وصديرية جلدية بأكمام من القماش. كان يريد أن يبدو نصف طالب ونصف عامل، وأنيقًا في نفس الوقت، وأثارت ملابسه الجديدة تعليقات كثيرة. كان أعداؤه يقولون إنه يرتدي قمصانًا من الحرير تحت الملابس الجلدية البروليتارية، وكان «كارل زوكماير» يصفه بأنه «هجين سائق شاحنة وطالب جيزويت»،8 ثم أكمل هذا الأسلوب الخاص بابتداع طريقة في تصفيف شعره مباشرة إلى أسفل جبهته والاحتفاظ بذقن غير حليقة لمدة ثلاثة أيام. لا أكثر ولا أقل. كان المثقفون يقلدون تلك اللمسات بعد ذلك على مدى ثلاثين أو أربعين أو خمسين سنة، كما قلدوه في ارتداء نظارات طبية متقشفة ذات إطار معدني. كان «برخت» يفضلها رمادية … لونه المفضل. كان يكتب على ورق رمادي، وبعد أن اشتهر كان ينشر «أعمالًا في طور الإعداد» — وهي مسودات نصوصه — في كتيبات رمادية اللون مثل الكتب المدرسية، وهو نوع من الدعاية الشخصية، قلدوه أيضًا فيما بعد. كانت سيارته رمادية اللون وكان قد حصل عليها من شركة سيارات كتب لها أغاني إعلانات. وباختصارٍ فإن «برخت» كان صاحب موهبة متميزة في التجلي البصري، ذلك الميدان الذي تفوق فيه الألمان وتصدروا العالم فيه في العشرينيات، نفس الوقت تقريبًا عندما كان «هتلر» يصمم جهاز الحزب النازي الذي أنفق عليه الكثير ويخترع أسلوب العرض الليلي الذي عُرف فيما بعدُ ﺑ «الصوت والضوء».

كان صعود «هتلر» أحد العوامل التي دفعت ﺑ «برخت» في موضع سياسي أكثر عمقًا.

في سنة ١٩٢٦م كان قد قرأ «رأس المال» أو أجزاءً منه، بعد ذلك كانت له صلات بالحزب الشيوعي الألماني رغم شهادة «روث فيشر» — أحد قيادات الحزب وشقيقة صديقه الموسيقار «هانز آسلر» — بأنه لم ينضم إلى الحزب رسميًّا إلا في الثلاثينيات.9 كما كانت سنة ١٩٢٦م مهمة أيضًا، حيث شهدت بداية تعاونه مع «فيل». في سنة ١٩٢٨م قدما «أوبرا البنسات الثلاثة» — أول ليلة عرض في ٣١ أغسطس — ونجحت نجاحًا كبيرًا في «ألمانيا» وفي كل العالم بعد ذلك. في جوانب كثيرة كانت تلك المسرحية نموذجًا دالًّا على أسلوب «برخت» في العمل. كانت الفكرة الأساسية مأخوذة من «أوبرا الشحاذين» ﻟ «جاي»، وكانت أجزاء بكاملها مسروقة بكل بساطة من ترجمة «ك. ل. آمرز» ﻟ «فرانسوا فيلون» (وبعد احتجاج كان «آمرز» يحصل على جزء من الحقوق). كانت موسيقى «فيل» الرائعة والمؤثرة أحد أهم أسباب نجاح العمل. ولكن «برخت» استطاع على نحوٍ ما أن يجعل الفضل يُنسب إليه ويحصل على كل الثناء، وعندما اختلف مع «فيل» في النهاية أعلن بازدراء: «سوف أركل هذا اﻟ «ريتشارد شتراوس» المزيف على السلم وأتركه ليتدحرج.»10

أحد أسباب استيلاء «برخت» على الفضل لنفسه كان براعته في العلاقات العامة وأساليب تقديم نفسه للجمهور.

في سنة ١٩٣٠م اعترض «ج. و. بابست» الذي كان قد حصل على حق فيلم «أوبرا البنسات الثلاثة» على تصوير المعالجة التي كتبها «برخت» وحوَّرها نحو اتجاهٍ أكثر شيوعية، ولكن «برخت» رفض تغييرها وانتقلت القضية إلى المحكمة في شهر أكتوبر. كان «برخت» يقوم بتمثيل نوبات غضب مسرحية أمام الكاميرات والصحفيين ورغم أن القضية كانت على وشك أن تسير ضده حصل على مقابلٍ مادي ضخم في نظير التنازل عنها واستطاع أن يظهر بمظهر الشهيد لنزاهته الفنية أمام نظامٍ رأسمالي وحشي. ثم نشر معالجته الخاصة مع مقدمة تبرز المغزى الماركسي المتشدد: «العدالة والحرية الشخصية كلها شرطية عند الإخراج».11 كان بارعًا في تقديم مصالحه الخاصة في نفس الوقت الذي يعلن فيه إخلاصه للجماهير. سبب آخر لشهرة «برخت» المتنامية هو أن الحزب الشيوعي في سنة ١٩٣٠م كان قد بدأ يعتبره نجمه الخاص وأصبح يتمتع بدعم جميع مؤسساته.
لم يكن ﻟ «برخت» قيمة كبيرة في «موسكو» أيام «ستالين»، حتى الحزب الشيوعي الألماني الأكثر مرونة في الأمور الفنية كان يعتبر بعض أعماله خفيفًا ويحمل أفكارًا خارجة على الإجماع، على سبيل المثال «قيام وسقوط مدينة ماهاجوني» (١٩٣٠م) التي أثارت هياجًا ومظاهرات نازية منظمة، ولكن «برخت» كان يظهر بمظهر المذعن للانضباط الحزبي. كان يحضر محاضرات الماركسية اللينينية في كلية العمال في «برلين»، ولأنه كان في قرارة نفسه «هيجلي» يحب عالم الفانتازيا الفكرية للجدل — مثل «ماركس» — وجد النظام جذابًا من الناحية العقلية كان أول عمل ماركسي صحيح له هو Die Maßnahme في سنة ١٩٣٠م، أما إعداده لرواية «جوركي»: «الأم» فقد قُدمت في جميع أنحاء «ألمانيا» في قاعات تابعة للحزب الشيوعي. كان يكتب سيناريوهات أفلام الدعاية السياسية، وقد طور بالاشتراك مع «فيل» — الذي لم يكن أبدًا ماركسيًّا مخلصًا — القالب الفني السياسي الجديد وهو الأوبرا المدرسية أو الدراما التعليمية، والتي لم يكن هدفها — كما تزعم — هو تثقيف الجمهور سياسيًّا بقدر ما هو تحويله إلى «كورس» مدرب جيدًا لا يختلف كثيرًا عن جماهير «نورمبرج». الممثلون أصبحوا مجرَّد أدوات سياسية. آلات أكثر منهم فنانين، والشخصيات في المسرحيات أنماط وليست أفرادًا تؤدِّي أدوارًا موضوعة في إطار محدد.

الميزة الفنية لهذا الشكل كانت تكمن في الإبهار المسرحي الذي تفوق فيه «برخت» بكل تأكيد، ولكن استخداماتها السياسية كانت واضحة وعاشت عدَّة عقود ووصلت إلى الحضيض مع دراما الأوبرا الكئيبة التي كانت تقدمها السيدة «ماو» أثناء الثورة الثقافية الصينية في الستينيات. كما اخترع «برخت» أيضًا استخدام مشاهد المحاكمة (الساحرات، سقراط، جاليليو، جريدة ماركس الممنوعة … إلخ) لأغراض الدعاية، وانتقل هذا التكنيك إلى «ريبرتوار» الجناح اليساري، وكان يظهر من وقت لآخر كما حدث في محاكمة «رسل» لجرائم حرب «فيتنام». والحقيقة أن الكثير من اختراعات «برخت» المسرحية — المكياج الأبيض، النعوش، الهياكل العظمية، منصات الأسلحة الضخمة — ما زالت تستخدم في مسرح الشارع التقدمي والمواكب والمظاهرات.

كما كانت لدى «برخت» رسائله الأخرى لكي يظل اسمه في ذاكرة الجمهور. كان يحرص على أن تلتقط له الصور وهو يكتب الشِّعر وسط تجمعات العمال؛ ليؤكد أن أيام الرومانسية السياسية الفردية قد ولَّت، وأن الشعر الآن قد أصبح نشاطًا بروليتاريًّا جماعيًّا. كان يمارس مبادئ النقد الذاتي الماركسية في العلن. حمل مسرحيته التعليمية «الإمعة» إلى مدرسة «كارل ماركس» التي كان يشرف عليها الشيوعيون، وطلب من الطلاب أن يقدموا تعليقاتهم عليها وأعاد كتابتها على ضوء ذلك (وبعد أن حقق لنفسه الدعاية المطلوبة أعادها إلى ما كانت عليه).12

كان يؤكد باستمرار على عنصر المشاركة في العمل رغم أنه عند فشل أي مسرحية كان يسارع ليؤكد أن دوره كان متواضعًا.

وضع صعود «هتلر» إلى السلطة في ١٩٣٣م نهاية مفاجئة لهذا النشاط الكبير، وغادر «برخت» «ألمانيا» صباح اليوم التالي لحريق «الرايخستاغ».

كانت الثلاثينيات فترة صعبة بالنسبة له، ولم يكن لديه رغبة في أن يكون شهيدًا. حاول أن يستقر في «فيينا» ولكن حالة الميل المتزايدة للسياسة الألمانية لم تعجبه فغادرها إلى «الدنمارك». رفض صراحةً أن يحارب في «إسبانيا». ذهب عدَّة مرات إلى «موسكو» وكان بالفعل محرِّرًا مشاركًا في Das Wort التي كانت تصدر في «روسيا» (مع «فيشت وانجر» و«ويلي بريديل») والتي كانت تحقق له الدخل الوحيد المنتظم. ولكنه كان على حق في اكتشافه أن «روسيا» لم تكن مكانًا آمنًا لشخص مثله، ولذلك لم يقضِ أكثر من أيام معدودة في كل زيارة.
كتاباته في الفترة من ١٨٣٣–١٨٣٨م كانت عملًا من أعمال الهواية السياسية. بعد ذلك وبالقرب من نهاية العقد بدأ فجأةً يقدم إنتاجًا عالي المستوى وفي تتابُعٍ سريع: «حياة جاليليو» (١٩٣٧م) «محاكمة لوكولوس» (١٩٣٨م)، «سيدة ستشوان الطيبة» (١٩٣٨م، ١٩٤٠م)، «الأم شجاعة» (١٩٣٩م). قرر أن يجرب السوق الأمريكية فكتب «أرتورو أوي»، ويظهر فيها «هتلر» في شخصية رجل عصابات من «شيكاغو». وعندما قامت الحرب في ١٩٣٩م وجد أن «الدنمارك» لن تكون آمنة، فانتقل إلى «السويد» ثم «فنلندا»، ثم — بعد أن حصل على فيزا لدخول أمريكا — عبر «روسيا» و«الباسيفيكي» إلى «كاليفورنيا» و«هوليوود» (١٩٤١م). كان قد زار أمريكا قبل ذلك ولكنه لم يترك أثرًا خارج دوائر اليسار. كانت تصوراته الأولى عن «أمريكا» قد ذوت ولم يحب الواقع الجديد، بل لعله كان يكرهه. لم يستطع أن يعمل بأسلوب «هوليوود» وأصبح شديد الحقد على المهاجرين الآخرين الذين نجحوا هناك (كان «بيترلو» استثناء).13 لم يحب الناس أعماله السينمائية، وبعض مشروعاته فشل فشلًا ذريعًا. في ١٩٤٤-١٩٤٥م اشترك معه «و. ﻫ. أودن» لإعداد نص إنجليزي من «دائرة الطباشير القوقازية»، كما اشتركا في إعداد «دوقة مالفي» ولكن معالجتهما رُفضَت في اللحظة الأخيرة لصالح النص الأصلي الذي كان يحقق نجاحًا كبيرًا في «لندن»، ولذلك سحب «برخت» اسمه من على العمل. كذلك فشل عرض «جاليليو» ببطولة «تشارلز لوتون». لم يفهم «برخت» السوق في «هوليوود»، أو «برودواي»، ولم يستطع التوافق معها. لم يتحمل سادة المسرح ولا حتى أقرانه منهم. كان يريد أن يكون مسئولًا تمامًا لكي يصبح مؤثرًا، وبعد أن تأكد له أن مسرحه لن ينجح إلا تحت ظروف مثالية يسيطر عليها تمامًا، جهز «برخت» نفسه لصفقة فاوستية عجَّل بها ظهوره في ٣٠ أكتوبر ١٩٤٧م أمام لجنة التحقيق في النشاط المُعادي لأمريكا، كانت اللجنة تحقق في النشاط الشيوعي في هوليوود، وقد استُدعي «برخت» مع ١٩ آخرين للمثول أمامها للإدلاء بشهاداتهم، رفض الآخرون كلهم أن يجيبوا عن الأسئلة التي تتناول عضويتهم في الحزب الشيوعي واتُّهموا بازدراء المحكمة وحُكم على عشرة منهم بالسجن سنة واحدة.14 ولكن «برخت» لم يكن لديه النية أن يقضي فترة في سجنٍ أمريكي. عندما سئل عن عضوية الحزب أنكر ذلك تمامًا «لا … لا … لا … لا … لا أبدًا»، كان الاستجواب مضحكًا إلى حدٍّ ما لأن مترجمه «ديفيد بومجاردت» من مكتبة الكونجرس كان ينطق بلكنة أكثر حدة من لكنة «برخت»، لدرجة أن رئيس المحكمة «ج. بارنل توماس» كان يصيح غاضبًا: «لا أستطيع أن أفهم المترجم بأكثر مما أفهم الشاهد.»
اكتشف «برخت» أن اللجنة لم تكن مستعدَّة جيدًا، ولذلك راح يكذب بهدوء وثقة «ألم تؤسس كثيرًا من كتاباتك على فلسفة «ماركس» و«لينين»؟» «لا! لا أظن ذلك صحيحًا، ولكني درست بالتأكيد. كان عليَّ أن أدرس ككاتب مسرحي تاريخي». وعندما سئل عن الأغاني التي نُشرت له في كتاب أغاني الحزب الشيوعي، قال إنها لم تكن ترجمة صحيحة، وفكر في الإدلاء بشهادة مطيعة مؤكدًا: «نشاطي … كان دائمًا نشاطًا أدبيًّا ذا طبيعة مستقلة تمامًا». ولكنهم لم يمكنوه من قراءة شهادته. كان يكذب باقتناع شديد، وكان حريصًا على تصحيح أي أخطاء في الأحداث، وبدا متعاونًا مع اللجنة بقدر الإمكان لدرجة أنهم شكروه علنًا كشاهد متعاون.15
الكتَّاب الآخرون الذين كانوا قد استُدعوا كانوا في دهشة بالغة للطريقة التي استطاع بها «برخت» أن يخدع اللجنة، لدرجة أنهم تجاهلوا أو نسوا أنه خدعهم بموافقته على المثول أمام لجنة التحقيق. وهكذا ظل بطلًا لليسار. وبعد أن عاد سالمًا إلي أوروبا كان يجلس بكل شجاعة أمام الصحافة ليقول: «عندما اتهموني بمحاولة سرقة مبنى «الإمباير ستيت» شعرت بأن الوقت قد حان لكي أرحل.»16
والآن، وقد استقر في «سويسرا» بدأ «برخت» يُجري مسحًا جيدًا للمشهد الأوروبي قبل التفكير لعمله المستقبلي. صمم لنفسه زيًّا جديدًا، بدلة عمالية رمادية اللون … أنيقة … مع كاب رمادي. كان له معارف على صلة وثيقة بالحزب الشيوعي فاكتشف بسرعةٍ حقيقة شديدة الأهمية بالنسبة له. كان النظام الوليد التابع للسوفيت في «ألمانيا الشرقية» يناضل من أجل الاعتراف السياسي به، أو بالأحرى من أجل الاحترام الثقافي، وكان على استعداد لاحتضان شخصية أدبية مهمة تساعد على منحه الشرعية. وكانت لدى «برخت» — بالضبط — أوراق الاعتماد الأدبية والأيديولوجية المناسبة لأهداف «ألمانيا الشرقية». في أكتوبر ١٩٤٨م قام «برخت» بعملية استطلاعية في «برلين الشرقية» أثناء حضوره حفل استقبال على شرفه أقامته اللجنة الثقافية للحزب الشيوعي. كان يجلس إلى جواره «ولهلم بيك» الذي سيصبح فيما بعد رئيسًا ﻟ «ألمانيا الشرقية»، ومن الناحية الأخرى الكولونيل «توبانوف» القوميسار السياسي السوفيتي. وطُلب من «برخت» الذي كان يجلس بينهما أن يرد على كلمتيهما، فما كان منه إلا أن قام بحيلة بارعة تترك الطريق مفتوحة أمام كل خياراته وتعطي لمحة عن تواضعه بأسلوبٍ مسرحي. كل ما فعله هو أن صافح كُلًّا منهما وجلس في مكانه. بعد ثلاثة شهور كان افتتاح «الأم شجاعة» في «برلين الشرقية»، بعد أن قدموا له دعمًا كبيرًا، ونجحت المسرحية نجاحًا ساحقًا مع قدوم النقاد من جميع أرجاء أوروبا الغربية لمشاهدتها، وأخيرًا أغرى ذلك «برخت» أن يجعل من «ألمانيا الشرقية» قاعدة انطلاق لعملياته المسرحية. إلا أن خطته الكبرى كانت أكثر تعقيدًا؛ إذ وجد أن «النمسا» أيضًا كانت تبحث لنفسها عن شرعية ما بعد الحرب. كان النمسويون من بين مؤيدي «هتلر» المتحمسين قد أداروا له الكثير من معسكرات الاعتقال (أربعة من ستة معسكرات ضخمة من معسكرات الموت)، ولأسبابٍ استراتيجية كان الحلفاء قد ارتأوا أن يعاملوا «النمسا» على أنها «كانت بلدًا محتلًّا»، أي «ضحية لعدوان النازي» أكثر من اعتبارها عدوًّا، ولذلك كان للنمسويين هوية محايدة بعد سنة ١٩٤٥م، ومن هنا كان من المناسب جدًّا بالنسبة له أن يحصل على جواز سفر نمسوي. في نفس الوقت كانت السلطات النمسوية شغوفة مثل الألمان الشرقيين لاستعادة مكانتها في قلوب المتحضرين من خلال التأكيد على إسهاماتهم الثقافية … ووجدوا كذلك في «برخت» ضالتهم المنشودة … وهكذا عُقدت صفقةٌ أخرى. يقول «برخت» إنه كان يريد «أن يقوم بدور ثقافي في بلد يوفر المناخ المناسب لذلك»، ويضيف: «دعني أؤكد أنني أعتبر نفسي شاعرًا فقط ولا أريد أن أخدم أي أيديولوجية سياسية بعينها، أنا بريء من فكرة إعادة توطين نفسي في «ألمانيا».» وكان يصر على أن ارتباطاته ﺑ «برلين» الشرقية كانت سطحية. وليس لديَّ أي مهمة رسمية أو ارتباط محدد في «برلين» ولا أتقاضى أي راتب بالمرة … وفي نيتي أن أتخذ من «سالزبورج» مقرًّا دائمًا لي.17

ومعظم تلك الأقوال كانت أكاذيب، ولم يكن لديه أية نية للإقامة في «سالزبورج» ولكنه حصل على جواز السفر النمسوي، الأمر الذي سيمكنه من السفر حيث يريد ويحقق له قدرًا كبيرًا من الاستقلالية إزاء حكومة «ألمانيا الشرقية».

كان هناك عنصر ثالث آخر في استراتيجية «برخت» المحكمة التدبير، كانت ترتيباته مع الألمان الشرقيين على أساس أنهم سوف يزودونه بشركة ومسرح لحسابه مع دعم ضخم في مقابل توحده الفني مع النظام، وكانت حسابات «برخت» صحيحة كما اتضح فيما بعد، حيث إن استثمارًا كهذا يمكن أن يحقق لمسرحياته دفعة صحيحة كانت تحتاج إليها لكي تشق طريقها نحو الريبرتوار العالمي. حقوقه عنها سوف تصبح كبيرة، ولم تكن لديه النية أن يترك الألمان الشرقيين يفيدون منها ولا أن يضع نفسه تحت رحمة دور النشر لديهم.

وفي السنوات العشر ما بين ١٩٢٢ و١٩٣٢م كان يرفض تمامًا أن تكون له علاقة بالمؤسسات التعاونية للنشر التابعة للحزب الشيوعي الألماني مفضلًا عليها الشركات الرأسمالية التي تدفع العائد المناسب. الآن أيضًا يعهد بحقوق النشر الخاصة بأعماله ليد ناشر من «ألمانيا الغربية» «بيتر سوهر كامب» ويجبر الألمان الشرقيين على أن يكتبوا على طبعاتهم من كتبه بإذن من «سوهر كامب – فرانكفورت – أون ين». كانت جميع أرباحه من النشر من العالم ومستحقاته عن تقديم أعماله تدفع في مواعيدها بعملة «ألمانيا الغربية» وتحول إلى حسابه في أحد بنوك «سويسرا». وبحلول صيف ١٩٤٩م وبفضل قدر كبير من المخاتلة والكذب الصراح كان ما يريده بالضبط قد تحقق: جواز سفر نمسوي، دعم حكومي من «ألمانيا الشرقية»، ناشر من ألمانيا الغربية، حساب في بنك سويسري.

حصل «برخت» على مسكن بصفته «مستشارًا فنيًّا» لما كان بالفعل شركته الخاصة «برلين إنسامبل» وكانت مديرتها زوجته «هيلين ويجل». وفي ١٢ نوفمبر ١٩٤٩م كان الافتتاح الكبير بمسرحية «السيد بونتيلا»، وفي الوقت المناسب كان مسرح «سكيف باوردام» قد أُعطي له كمقر دائم للشركة وتم تدشينه ببوستر ﻟ «بيكاسو». لم يعطَ لأي فنان منذ «فاجنر» إمكانيات على هذا المستوى المثالي لتقديم أعماله. كان لديه ٦٠ ممثلًا بالإضافة إلى مصممي المناظر والملابس والموسيقيين وعشرات المساعدين … وكان العدد الإجمالي للعاملين ٢٥٠ مستخدمًا. كل ما يحلم به أي كاتب مسرح كان متوفرًا له وكان يستطيع أن يُجري بروفات لمدة ٥ شهور، وكان يستطيع أن يلغي عرضًا مسائيًّا لمسرحية في الريبرتوار بالفعل لكي يكمل بروفات مسرحية جديدة، وفعلها، وكانت قيمة التذاكر ترد بكل بساطة للجمهور عندما يحضر. لم يكن هناك أي قلق عن عدد الممثلين أو تكاليف الإنتاج، كان يغير ويعيد الكتابة عدَّة مرات على ضوء البروفات الكاملة فيحقق درجة من الإتقان لم يصل إليها أي كاتب مسرحي آخر في العالم. كان تحت تصرفه ميزانية ضخمة للسفر والتنقل تمكنه من حمل مسرحية «الأم شجاعة» — ذلك الإنتاج الضخم — إلى «باريس» سنة ١٩٤٥م، ثم «دائرة الطباشير القوقازية» في العام التالي، وكانت تلك الزيارات هي البداية الحقيقية لشهرته وتأثيره. ولكنه كان قد أعد العدَّة لهذا اليوم منذ سنواتٍ طويلة مستخدمًا كل مهاراته الفذة في الدعاية لنفسه؛ تحسين من صورته البروليتارية، ومن صورة مسرحياته، عناية فائقة بإعداد وتفصيل الملابس، مقابلات شخصية مع الصحف يسيطر عليها جيدًا، تصوير ولكن بشرط أن يختار الصور التي سوف تُنشر. كان «برخت» يحرص على إعطاء عمله بُعدًا جادًّا ورصينًا، وجذب اهتمام الأكاديميين الذين رآهم أفضل مَن يروِّج لشهرة الكاتب.

وكان ذلك هو السبب الذي جعله يبدأ سلسلته: «عمل في طور الإعداد» والتي استأنفها الآن على نطاقٍ واسع. كان يحتفظ في الولايات المتحدة ﺑ «سجل عمل» يضمنه تقارير مستمرة عن أفكاره وأعماله وتوثيق قصاصات وكتابات الصحف وما إلى ذلك. وفي سنة ١٩٤٥م بدأ في تسمية ذلك إلى جانب أوراق العمل الأخرى ﺑ «الأرشيف».

ثم صور ذلك كله بطريقةٍ تشبه المايكروفليم المستخدمة هذه الأيام وأقنع «مكتبة نيويورك العامة» بالاحتفاظ بمجموعة كاملة منها، كان هدفه هو تشجيع الدارسين الذين يعدون رسائل الدكتوراه عن أعماله وتسهيل الأمر لهم.

كما أرسل مجموعة أخرى إلى «جيرهارد نيل هاوس» أحد خريجي «هارفارد»، والذي كان يُعِد رسالة عنه في ذلك الوقت وأصبح فيما بعدُ من أكبر المتحمسين له والمروجين لصورته في الولايات المتحدة، كان «برخت» أيضًا قد استطاع أن يستقطب أحد الأكاديميين الأمريكيين «إريك بنتلي» أستاذ اللغة الإنجليزية الذي كان يُعد رسالة عن «ستيفان جورج». وفي سنة ١٩٤٣م شجعه «برخت» على أن يترك «جورج» ويركز عليه، وفيما بعدُ كان هو الذي يترجم «دائرة الطباشير القوقازية» — مع «ماجا بنتلي» — وينظم لعرضها الأول في الولايات المتحدة سنة ١٩٤٨م ويصبح قارع الطبل الرئيسي ﻟ «برخت» عبر الأطلنطي. كان «برخت» باردًا إزاء هذا النوع من التابعين وكان يدفعهم باستمرار للتركيز على أعماله بلا هوادة. يقول «بنتلي»: «لم يحاول أبدًا أن يعرف الكثير عني، ولم يتركني أبدًا أعرف الكثير عنه.»18 كان «برخت» يعتقد أن إثارة العقبات في طريق هؤلاء وحتى إهمالهم يشحذ همتهم لخدمته والتقرب منه. أصبح غريب الأطوار ومن الصعب إرضاؤه، وكل ذلك باسم الأمانة الفنية. كان «روسو» قد وصل إلى نفس الاكتشاف واستخدمه، ولكن في حالة «برخت» كان أسلوب التطبيق يتم بكفاءة ألمانية وبتمكن. في الخمسينيات كانت تلك الجهود تُؤتي ثمارها في «أمريكا»، وكان «برخت» يروج لشهرته في أوروبا كذلك ويشجع الآخرين لكي يفعلوا مثله. سلطته القوية في «برلين» الشرقية كراع للمسرح جذبت حوله مجموعة من مخرجي المستقبل والمصممين. كان يقودهم ويأمرهم مثل قائد بروسي، كان في الواقع يدير الشركة كلها بسلطة قوية مطلقة، وكان الكل يحترمه ويرهب جانبه. حتى البروفات كانت مناسبات مسرحية يسجلها تلاميذه وتوضع في الأرشيف وتوزع في «لندن» و«باريس» وغيرهما، وكان أولئك الشباب وسيلة نشر «الرسالة البرختية» في عالم المسرح في أنحاء العالم.19

كان هناك مثقفون من خارج دائرته أيضًا يروجون له، في «باريس» كان «رولان بارت» يقرع الطبول في مجلة «تياتر بوبيولير» — المسرح الشعبي — وكواحد من مؤسسي علم السيميولوجيا الحديث — دراسة أنماط الاتصال الإنساني — كان «بارت» في موضع مثالي لكي يجعل «برخت» محط إعجاب المثقفين. في «بريطانيا» كان هناك «كينيث تينان» والذي كان ما زال مؤثرًا وكان قد تحول إلى «برخت» عن طريق «إريك بنتلي» في الخمسينيات وأصبح ناقدًا مسرحيًّا في «الأوبزرفر» منذ عام ١٩٥٤م، كان من الممكن أن يكون هذا الترويج المحموم ﻟ «برخت» وأعماله أقل تأثيرًا لولا أنه تصادف مع التغير الأساسي في اقتصاديات المسرح الغربي. في ربع القرن الممتد ١٩٥٠–١٩٧٥م، ولأول مرة كانت كل دولة في أوروبا، وبمعنى الكلمة، قد قبلت فكرة المسرح المدعوم من الدولة، وتبلورت هذه المؤسسات الجديدة على نطاقٍ واسع، وأغدقت عليها موارد سخية، كانت في بعض الأحيان تمول من القطاع الخاص.

وعلى عكس مسرح الدولة في النظام القديم والذي يُعد الكوميدي «فرانسيز» نموذجًا له، كانت الشركات الجديدة توضع بقوانينها خارج سيطرة الحكومة وكانت تفخر باستقلاليتها. كانت من الناحية الظاهرية تشبه المسارح التي تمولها الدولة بسخاء في أوروبا الشرقية، خاصة مسرح «برخت»، وكانت كلها تتخذ أوروبا الشرقية نموذجًا وتركز على عروض ضخمة تُجرى لها بروفات عديدة، والفرق كان أنها تقدم أعمالًا كلاسيكية وأعمالًا جديدة — ذات مغزًى — من الريبرتوار العالمي. وكانت أعمال «برخت» هي الاختيار الطبيعي لهؤلاء. وفي «لندن» حيث كان التغيير أكثر ثورية — أزاحت المسارح المدعومة المسارح التجارية، وأصبحَت تقدم مسرحيات ذات نوعية معينة — عين المسرح القومي «كينيث تينان» ليكون أول مدير أدبي له. وهكذا في أوروبا كلها وفي كل العالم أصبح الناس يشاهدون مسرحيات «برخت» في ظروف جيدة وعلى مسارح مدعومة وفي معظم الأحيان بنفس المستوى التي كانت عليه في مسرحه الخاص.

«فاجنر» نفسه لم تتوفر له هذه الدرجة من حُسن الحظ. وهكذا آتت صفقة «برخت» الفاوستية أُكلها، وحتى في نهاية حياته أخذ يواصل تحققه بسرعةٍ كأهم شخصية وأعظمها تأثيرًا في عالم المسرح، وكان دائمًا على استعداد لأن يستخلص نصيبه حيث لم يستطع أن يكبح خبثه.

كان «برخت» منذ وقت باكر جدًّا يمارس الخنوع لتحقيق مصالحه الشخصية، بل ويعتبره عقيدة. أحد الأقوال الأولى التي تُنسب إليه: «لا تنسَ أن الفن خداع وأن الحياة نفسها خدعة، ولكي تبقى على قيد الحياة يجب أن تنغمس أنت أيضًا في الخداع والاحتيال … بحذر وبنجاح.» وكل أعماله مليئة بنصائح من هذا النوع ولنفس الهدف، في «طبول في الليل» يتفاخر «كراجر» الجندي الجبان: «أنا خنزير، والخنزير يعود إلى البيت؛ من الحرب.» بطله «جاليليو» يقول وهو ينحني أمام المديتشي: «تعتقد أن خطابي خانع أكثر مما ينبغي؟ … إن رجلًا مثلي، بإمكانه أن يصل إلى وضع محترم بالزحف على بطنه فقط، وأنت تعرف أنني أحتقر الناس الذين لا تستطيع عقولهم أن تملأ بطونهم.» وكان «برخت» يكرر تلك الأفكار خارج المسرح أيضًا. كان يقول لابنه «ستيفان»: «لا بد من تحاشي الفقر بكل وسيلة ومهما كان الثمن؛ لأن الفقر يعوق الكرم. ولكي تنجو لا بد أن تكون أنانيًّا.» وأفضل وصاياه كانت: «أحسنْ إلى نفسك.»20
وخلْف هذه الفلسفة كانت تكمن أنانية عنيدة ويبدو أنها كان سمةً عامة في كبار المثقفين. ولكن «برخت» كان يتابع أهدافه الأنانية بقسوةٍ منظمة ودم بارد إلى درجةٍ نادرة حتى بمقاييسهم. قبل المنطق الكئيب للخنوع؛ بمعنى أنه إذا انحنى للقوي استبد بالضعيف، كان موقفه من النساء طوال حياته متسقًا اتساقًا مرعبًا؛ جعلهن جميعًا في خدمة أغراضه. كلهن دجاجات في مزرعةٍ هو الديك الوحيد بها. كان يصمم زيًّا خاصًّا لهن مكملًا لزيه: فساتين طويلة، غامقة الألوان، كلمحة من التطهر.21

ويبدو أنه كان قد حقق أول نجاح له وهو في السابعة عشرة عندما أغوى فتاة أصغر منه بعامين. كان وهو شاب يركز على بنات الطبقة العاملة: الفلاحات، بنات المزارعين، بائعات، عاملات صالونات الحلاقة، ثم الممثلات فيما بعدُ … وبالعشرات.

لم يسبق لأي إمبريزاريو (مدير فرقة) أن استخدم أريكة الفرقة المسرحية بطريقةٍ مجرَّدة من المبادئ مثله. كان «برخت» يجد متعة خاصة في إفساد البنات من ذوات النشأة الكاثوليكية المتشددة. ولا ندري لماذا كان البعض يجدنه جذابًا. تقول «ماريان زوف»، وهي ممثلة كانت صديقة له، إنه كان دائمًا قذرًا، وكان عليها أن تغسل له رقبته وأذنيه بنفسها. «إلزا لانكستر» زوجة «تشارلز لوتون» كانت تصف أسنانه بأنها «شواهد قبور صغيرة تبرز من فم مظلم»، ولكن صوته الساحر، العالي، كان يروق للبعض. وعندما كان يغني، كما تقول «زوف»، كان صوته «المعدني المثير» يرسل الرعدة عبر عمودها الفقري. كانت تحب فيه كذلك رفغه العنكبوتي و«عيناه السوداوان العميقتان»، «عينان تلسعان». كان «برخت» في المرحلة الأولى، مجاملًا، مقبِّل أيادٍ من الطراز الأول، مثابرًا. وقبل ذلك كله كثير المطالب. ولم تكن أمه فقط هي التي اكتشفت أن مطالبه اللحوحة من الصعب مقاومتها. علاوة على ذلك، فإن «برخت» — رغم قسوة قلبه — كان يرى النساء أهم من الرجال بالنسبة له، كان يعطيهم مسئولياتٍ إن كان ذلك على أساس من تذلل وخنوع. كان يستهويه أن يطلق على كل واحدة اسمًا لا يستخدمه سواه. «بي»، «ما»، «مك» … وهكذا. لم يكن يهتم بالغيرة، البصق، الهرش، ثورة الغضب. كان يحب ذلك كله.

كان هدفه — مثل «شلي» — أن يدير تجمعاتٍ جنسية صغيرة يكون سيدها، وقد نجح «برخت» فيما فشل فيه «شلي»، في جميع الأوقات كان لديه أكثر من امرأة في وقتٍ واحد. في يوليو ١٩١٩م أنجب ابنًا من سيدة شابة كان اسمها «باولا بانهولرز» (بي)، كان قد لوح لها بوعد الزواج. في فبراير ١٩٢١م كانت «زوف» (مار) التي حملت منه أيضًا وأرادت أن تحتفظ بالجنين ولكنه رفض: «إن ابنًا يمكن أن يدمر كل سلامي النفسي.» اكتشفت كلٌّ منهما علاقته بالأخرى وكانت معركة وطرحاه أرضًا في أحد مقاهي «ميونخ». ثم أجلستاه ليختار بينهما فقال: «كلاكما.» ثم اقترح على «بي» أن يتزوج «مار» ليجعل ابنها شرعيًّا ثم يطلقها ويتزوج «بي» ويجعل ابنها شرعيًّا كذلك. ولكن «مار» أعطته درسًا بليغًا من التأنيب وغادرت المقهى باشمئزاز. كما انصرفت «بي» وهي تتمنى أن تفعل نفس الشيء لولا أنها كانت خجولة.

ذهب «برخت» خلفها وصعد إلى عربة القطار حيث كانت تجلس وعرض عليها الزواج وقبلت. وبعد أسابيع قليلة تزوج «مار» وليس «بي»! فقدت «مار» طفلها الأول ولكنها ولدت له طفلة «هانا» في مارس ١٩٢٣م، بعد شهور قليلة كان «برخت» قد بدأ علاقة أخرى مع ممثلة «هيلين ويجل»، انتقل إلى شقتها في سبتمبر ١٩٢٤م، وبعد شهرين ولدت طفلهما «ستيفان»، وبالتدريج كان العدد يتزايد في «مجموعته الجنسية»، بما في ذلك سكرتيرته المخلصة «إليزابيث هاوبتمان»، ثم ممثلة أخرى «كارولا نيهر» التي لعبت دور «بولي» في «أوبرا البنسات الثلاثة».

ثم حدث الطلاق بين «برخت» و«مار» في عام ١٩٢٧م ليصبح على استعداد للزواج مرة أخرى. فمَن تراه يختار الآن؟ ظل مترددًا لمدة عامين ثم اختار «ويجل» في النهاية … لأنها الأكثر نفعًا، قدم باقة ورد إلى «نيهر» على سبيل الترضية قائلًا: «لا أستطيع وإن كان هذا لا يعني شيئًا.» فما كان منها إلا أن ضربته بالباقة على رأسه. أما «هويتمان» فحاولت الانتحار. هذه الفوضى التي سببت للنساء كل هذا القدر من الغيظ والإحباط لم يكن لها أي تأثير عليه. كان كما هو هادئًا صافيًا، لم يظهر عليه ذات يوم أي قلق أو اضطرابٍ لما سببه لأي امرأة. كان يستخدمهن ثم يلقي بهن بعد تحقيق الأهداف التي يريدها. هناك مثلًا الحالة المأسوية ﻟ «مارجريت ستيفن» — مك — وهي ممثلة هاوية أعطاها دورًا في مسرحية وأغواها أثناء البروفات، تبعته «مك» في منفاه وعملت سكرتيرة له دون أجر. كانت موهوبة في اللغة وتولت كل مراسلاته الأجنبية (كان برخت يجد صعوبة في التأقلم مع أي لغة باستثناء لغته)، وكانت تعاني من السل ثم ساءت حالتها أثناء سنوات المنفى في الثلاثينيات، وعندما نصحها طبيبها وصديقها الدكتور «روبرت لاند» بدخول المستشفى رفض «برخت»: «لا فائدة من ذلك، ولا يمكنها البقاء في المستشفى الآن حيث إنني في حاجة إليها.» وهكذا لم تكمل العلاج وواصلت العمل من أجله. وبعد أن تخلى عنها في «موسكو» سنة ١٩٤١م وغادر إلى «كاليفورنيا» ماتت هناك بعد أسابيع قليلة وهي تمسك في يدها ببرقية منه. كانت في الثالثة والثلاثين.

حالة أخرى هي حالة «روث بيرلو» التي بدأت علاقته بها في سنة ١٩٣٣م، كانت دنماركية ذكية في الرابعة والعشرين، سرقها من زوجها الطبيب الممتاز، وكما فعل مع عشيقاته السابقات كان يكلفها بكثير من أعمال السكرتارية بيْد أنه كان يبدي اهتمامًا بملاحظاتها على مسرحياته مما كان يشعل نار الغيرة لدى «ويجل» التي كانت تكرهها أكثر من عشيقاته الأخريات. كانت «بيرلو» معه في «أمريكا» وكانت تشكو مر الشكوى وتقول: «أنا زوجة «برخت» السرية.»، و«أنا عاهرة كاتب كلاسيكي.» كما أُصيبت بخبل عقلي وكان لا بد أن تعالَج في مستشفى «بيليف» في «نيويورك»، وكان تعليق «برخت»: «ليس هناك من هو أكثر جنونًا من شيوعي مجنون.» وبعد أن غادرت المستشفى كانت تشرب بشراهة، ثم تبعته إلى «برلين» الشرقية، أحيانًا خنوعة ذليلة، وأحيانًا تُسبب له الفضائح إلى أن أرسلها أخيرًا عنوة إلى «الدنمارك» حيث أدمنت الشراب.

كانت «بيرلو» طيبة القلب، موهوبة، ولكنه لم يفكر في معاناتها طوال السنوات التي عرفها فيها.

كانت «ويجل» أكثر نساء «برخت» عنفًا وإن كانت أكثرهن خضوعًا له، والواقع أنها حلت محل أمه. كان مثل «ماركس» لديه ميل لاستغلال الآخرين وقد وجد فيها بغيته على أوسع نطاق. كانت بالنسبة له «جيني» و«لينشن» معًا، وكانت، في أمور كثيرة قوية الذهن مع سمات قيادية وقدرات تنظيمية كبيرة. كانا في الظاهر يبدوان متساويَين؛ يناديها ﺑ «ويجل»، وتناديه ﺑ «برخت»، ولكنها كامرأة كانت تفتقد الثقة في نفسها خاصة بالنسبة للرغبة الجنسية، وكان هو يدق على نقطة الضعف هذه ويستخدمها. كانت تقوم على خدمته في البيت وفي المسرح على السواء. في البيت تغسل وتنظف بطاقة قوية وتتجول في محلات الأنتيكات لشراء التحف الجميلة، وتطبخ كثيرًا وجيدًا، وتنظم الحفلات لأصدقائه ورفاقه وعشيقاته وكانت تساعده على تطوير قدراته المهنية بكل ما تملك من طاقة. وعندما امتلك مسرحًا خاصًّا به في ١٩٤٩م كانت تقوم بإدارته وتشرف على شباك التذاكر والفواتير وأعمال النظافة والفنيين والتغذية وكافة الشئون الإدارية، ولكنه كان يشير دائمًا إلى أنها مسئولة فقط عن المبنى وليس لها أي علاقة بالنشاط الإبداعي الذي كان يبعدها عنه تمامًا … لدرجة أنها كانت تكتب إليه لتذكره بمواعيده الخاصة في المسرح.

عزلها عن جوِّ نزواته النسائية الذي استمر بقوة خلال سنواته في «برلين» عندما كانت قدراته ووضعه يسهلان له الحصول على عدد كبير من الممثلات الشابات. وعندما يفيض الكيل أحيانًا كانت تترك البيت، ولكنها بشكلٍ عام كانت متحملة ومتسامحة باستسلامٍ حزين. وفي بعض الأحيان تقدم النصح لعشيقاته الصغيرات: ««برخت» غيور جدًّا، لا يقتصر على امرأة واحدة، يتوقع أن تكون نساؤه مخلصات له أو على الأقل يعملن حسب توجيهاته.» كان يحب السيطرة ولذلك كان في حاجة إلى معلومات. كان يجري اتصالات تليفونية عديدة للتأكد مما تفعله أي واحدة لا تقضي المساء معه، وقرب نهاية حياته صار يبدو مثل مُهر عجوز ذليل يبذل جهدًا جهيدًا ليحتفظ بجزأَي مؤخرته معًا!

لم تترك له علاقاته النسائية العديدة وقتًا لأطفاله، وكان لديه على الأقل طفلان غير شرعيين، ولدت له «روث بيرلو» ابنًا في ١٩٤٤م ولكنه مات صغيرًا. ابنه الأكبر من «باولا»: «فرانك بانهولزر» كبر وأصبح رجلًا وقُتل على الجبهة الروسية في سنة ١٩٤٣م، لم يرفض «برخت» الاعتراف به بالضبط كما فعل «ماركس» بالنسبة لابنه «فريدي»، ولكنه لم يكن مهتمًّا به، وكان نادرًا ما يراه ولم يذكره أبدًا في مذكراته أو يومياته وكذلك أبناؤه الشرعيون لم يكن لهم وجود ظاهر في حياته. كان يكره أي وقت يقضيه معهم ويضن عليهم به. نفس الحكاية المعتادة للمثالية الفكرية. الأفكار قبل البشر! البشرية — بحروف كبيرة — قبل النساء والزوجات والأبناء والبنات.

«فلورانس» زوجة «أوسكار هومولكا» التي كانت تعرفه جيدًا في «أمريكا» لخصت المسألة بذكاء شديد: «في علاقاته الإنسانية كان مقاتلًا من أجل حقوق الناس دون أن يكون مكترثًا بسعادة أقرب الأقارب إليه.»22 كان «برخت» نفسه يقول، مستشهدًا بكلمات «لينين»، إن على المرء أن يكون قاسيًا على الأفراد من أجل خدمة المجموع، نفس الأسلوب كان يطبقه في العمل.

كان لديه أسلوبه الخلاق والأصيل في تقديم مادته، ولكن المادة كانت مأخوذة من كُتَّاب آخرين. كان معدًّا موهوبًا، بارعًا في المحاكاة، مجددًا ومعدلًا لأفكار وحبكات أعمال الآخرين، وصحيح أنه من أكثر الذين حققوا شهرة وأهمية بالقليل الذي كان من عنده بالفعل. وكان يتساءل بسخرية: ولمَ لا؟ ماذا يهم إذا كان ذلك من أجل البروليتاريا؟

وبعد اكتشاف سرقته من «آمرز» سلم بما يُسمِّيه «ضعفه الأساسي فيما يتعلق بالملكية الأدبية»، وهو اعتراف خطير من رجل أصبح متشددًا فيما بعدُ في حماية إنتاجه. مسرحيته «سان جوان أوف ستوكياردز» (١٩٣٢م) محاكاة لعمل «شيلر» «عذراء الأورليانز» ومسرحية «شو»: «سان جوان».

أسس عمله «بنادق سنيورا كارار» على عمل «ج. م. سينج»: «رايدرز تو ذا سي»، مسرحيته «بونتيلا» تنطوي على سرقة من عمل باحثة الفولكلور «هيلا وولوجوكي» التي استضافته في «فنلندا»، وهذا مثال حي على عدم الوفاء، سرق من «شلي»، سرق من «كبلنج»، سرق من «هيمنجواي». وعندما لفت «إرنست بورنمان» نظره إلى التَّشابه الغريب بين إحدى مسرحياته وقصة قصيرة ﻟ «هيمنجواي» — وهكذا لمس نقطة حساسة — انفجر «برخت»: «اخرج من هنا … اخرج … اخرج …»

«هيلين ويجل» التي كانت في المطبخ ولم تسمع بداية النقاش ولا تعرف موضوعه انضمت إليه واندفعت إلى داخل الغرفة وهي تصرخ: «نعم … اخرج … اخرج …» وهي تلوح له بالمقلاة مثل السيف.23
«ضعف برخت» الرئيسي كان أحد أسباب عدم شعبيته في وسط الكتَّاب الآخرين خارج توابعه والمرتبطين به من الناحية الحزبية. كان الكتَّاب الأكاديميون من «مدرسة فرانكفورت» يحتقرونه («ماركيوز» و«هوركهايمر») ويعتبرونه «ماركسيًّا فظًّا». كان «أدورنو» يقول عنه إنه يقضي الساعات كل يوم ليضع الطين تحت أظافره لكي يبدو مثل العمال. في «أمريكا» كان عدوًّا لكل من «كريستوفر آشروود» و«د.ﻫ أودن». كان «آشروود» يكره محاولاته ومحاولات «ويجل» لتحطيم معتقداته البوذية الجديدة التي اعتنقها. كان يرى «برخت» إنسانًا «متحجر القلب»، «متنمرًا»، ويعتبرهما أشبه بفردين من «جيش الخلاص».24
«أودن» الذي كان شريكًا سابقًا له، كان يمتدح شِعره ولكنه يحتقره كسياسي جاد «لا يستطيع أن يفكر»، وأخلاقياته يُرثى لها «إنسان سيئ جدًّا». «شخص كريه»، «أحد قلة يستحقون الإعدام» — «وفي الواقع يمكن أن أتصور أن أقوم بذلك بالنسبة له».25 كان «توماس مان» يكرهه ويعتبره «من بطانة الحزب» ولكنه «للأسف موهوب»، «وحش».
وكان «برخت» يرد على ذلك: «ذلك الذي يكتب قصصًا قصيرة»، «فاشستي أصيل»، «نصف موهوب»، «حيوان زاحف».26
أحد أسباب كراهية «أدورنو» وأصدقائه ﻟ «برخت» أنهم كانوا يستاءون من «تمسحه بالعمال»، وكانوا يرون ذلك «دجلًا»، وبالطبع فإن زعمهم أنهم كانوا يفهمون مطالب العمال كان أيضًا بلا أساس. كانوا يعيشون حياة الطبقة المتوسطة. ومثل «ماركس» نفسه لم يلتقوا أبدًا بأبناء الشقاء ولكنهم على الأقل لم يلبسوا ملابس عمال من تصميم خياطين يتقاضون أجورًا باهظة عنها. كانت هناك درجة من الكذب والخداع المنظم من قِبل «برخت» كفيلة بأن تقلب معدتهم. كانت هناك مثلًا حكاية يروجها عن نفسه أنه عندما وصل إلى باب أحد الفنادق الفخمة من أجل موعد «سافوي» في لندن و«ريتز» في باريس، و«بلازا» في «نيويورك» …«كان الموقع يتغير» مرتديًا ملابس العمال بالطبع؛ رفض حراس الفنادق الذين يلبسون ثيابهم الرسمية أن يسمحوا له بالدخول. وحيث إن «برخت» كان بطبيعته مستبدًّا وعلى استعداد لأن يتصرف كأي أرستقراطي بروسي غاضب لو أن أحدًا حاول أن يمنعه من الحصول على ما يريد، فمن المحتمل جدًّا ألا يكون شيء من هذا القبيل قد حدث. ولكن «برخت» كان يستخدم ذلك كشعار لتعامله مع النظام الرأسمالي. وفي رواية أخرى له عن نفس الموضوع يقول إنهم أوقفوه عند المدخل وهو ذاهب إلى حفل استقبال غربي فخم وطلبوا منه أن يملأ استمارة بيانات، وعندما فعل ذلك سأله حارس على الباب: «برتولد برخت؟ … هل أنت أحد أقارب برتولد برخت؟» فأجاب: «نعم! أنا ابنه.» ثم خرج وهو يهمهم: «في كل مكان صغير أو كبير ما زلت تجد القيصر «ولهلم الثاني».»27

كان يأخذ بعض حيله للدعاية من «شارلي شابلن» الذي كان معجبًا به واعتبره ذات يوم مخرجًا أفضل منه. وهكذا عندما وصل بسيارته إلى حفل رسمي وفتح له الحاجب الباب خرج «برخت» بسرعة من الباب الآخر تاركًا الحاجب يبدو عليه الغباء، والمتزاحمون في المكان ينفجرون في الضحك، أما السيارة فكانت هي نفس سيارته الرمادية القديمة وكان قد رفض قبول سيارة رسمية (ليموزين فاخرة) من «ألمانيا الشرقية» محدثًا الضجة الإعلامية المفيدة! أما الاحتفاظ بالسيارة القديمة وتسييرها (بما في ذلك الوقود وقطع الغيار والصيانة …) فكان ميزة أكبر في الممارسة — لم يكن بمقدور أحد غير متصل بالنظام أن ينفق على سيارة خاصة — لأنه استخدمها كوسيلة جديدة للدعاية.

كان هناك أيضًا شيء غامض ومضلل في أسلوب حياة «برخت»؛ فبالإضافة إلى الشقة الفاخرة المطلة على المقابر المدفون بها حبيبه «هيجل» (كانت شقة ويجل تحتها) اشترى «برخت» منزلًا ريفيًّا في ضاحية «بكو» على بحيرة «شارموزيل»، كانت الحكومة قد صادرته من أحد الرأسماليين وكان «برخت» يستخدمه في إجازاته الصيفية ويستجم في ظل أشجاره الوارفة. والحقيقة أنهما منزلان، أحدهما كبير والآخر صغير.

وكان «برخت» يقول إنه يعيش في ما كان يُسمِّيه بالكوخ الريفي. وفي شقته في المدينة كان يحتفظ بصور «ماركس» و«إنجلز» لكي يريها لمسئولي النظام عند زيارتهم له، ولكنه كان يضعها بطريقةٍ بها قدر من السخرية — غير ملحوظة للعين الرسمية — يثير ضحك الأصدقاء.

قلق «برخت» للحفاظ على صورته، وتقديم مظهر الاستقلال بأي وسيلة، كان نابعًا من الحقيقة المؤكدة أنه قد عقد صفقة فاوستية. ولم يكن هناك بالفعل أي شيء جديد في توحد مصالحه المهنية مع بقاء وانتشار الشيوعية، وكان ذلك يتم ضمنيًّا وأحيانًا صراحة في حياته منذ سنة ١٩٣٠م.

كان «برخت» ستالينيًّا في الثلاثينيات … وأحيانًا متشددًا. يسجل الفيلسوف الأمريكي «سيدني هوك» حوارًا فاترًا معه عندما زاره «برخت» في سنة ١٩٣٥م في شقته في «باروستريت» — مانهاتن — وكانت حملات التطهير في بدايتها، أثار «هوك» معه قضايا «زينوفيف» و«كامينيف» وسأله كيف يتحمل العمل مع الشيوعيين الأمريكيين الذين كانوا يعلنون عن جرائمهم بصوتٍ عالٍ؟ قال «برخت»: إن الشيوعيين الأمريكيين لم يكونوا صالحين — ولا الألمان أيضًا — وإن أهم شيء هو الحزب الشيوعي السوفيتي. قال «هوك» إنهم جميعًا جزء من نفس الحركة ومسئولون عن القبض على رفاقهم السابقين الأبرياء وسجنهم. وقال «برخت»: «بالنسبة لهم فإنهم كلما كانوا أكثر براءة، حق عليهم الإعدام.»

هوك: ماذا تقول؟

برخت: كلما كانوا أكثر براءة حق عليهم الإعدام.

كان الحوار بالألمانية كما سجله «هوك».

هوك: لماذا؟ لماذا؟

كرر السؤال ولكن «برخت» لم يُجب. فقام «هوك» وذهب إلى الحجرة الأخرى وأحضر معطف «برخت» وقبعته، «عندما عدت كان ما زال جالسًا في مقعده ممسكًا بكأس في يده وعندما رأى المعطف والقبعة في يدي نظر إليَّ بدهشة. وضع الكأس من يده، نهض بابتسامة باهتة وتناول معطفه وقبعته وانصرف».28
عندما نشر «هوك» ذلك لأول مرة اعترض عليه «إريك بنتلي» ولكن — حسب رواية «هوك» — عندما حكى له الحادث (في مؤتمر برلين للحرية الثقافية، ١٩٦٠م) قال «بنتلي»: «هذا هو برخت!» ويذكرنا ذلك برد فعل «بيرون» عندما سمع حكاية «كلير كليرمونت» والابن غير الشرعي ﻟ «شلي»، ويؤكد ذلك أيضًا البروفيسور «هنري باتشر» — سيتي يونيفرستي — الذي يشهد بأن «برخت» «قال نفس الشيء في وجودي»، مضيفًا نفس التبرير المدمر الذي كان يقدمه لذلك: «بعد خمسين سنة من الآن سيكون الشيوعيون قد نسوا «ستالين»، ولكني أريد أن أتأكد أنهم سوف يواصلون قراءة «برخت»، وهكذا لا أستطيع أن أعزل نفسي عن الحزب.»29 والحقيقة أن «برخت» لم يحتج أبدًا على حملات التطهير حتى عندما شملت أصدقاءه، وعندما ألقي القبض على عشيقته السابقة «كارولا نيهر» في «موسكو» كان تعليقه: «إذا كانت مدانة فلا بد أن هناك أدلة ضدها.»30 واختفت «كارولا» … والمؤكد أنها أُعدمت بواسطة «ستالين».
وعندما أعدم «ستالين» صديقًا آخر له: «ترتياكوف»، رميًا بالرصاص، كتب «برخت» قصيدة رثاء ولكنه لم ينشرها إلا بعد سنواتٍ طويلة. أما أثناء الحدث فكان تعليقة: «لقد أثبتت المحاكمات بكل وضوح وجود مؤامرات ضد النظام. وقد انضم إليها كل الحثالة في الداخل والخارج، كل الطفيليين محترفو الإجرام، والمخبرون. كلهم شارك فيها … وكان لكل أولئك الغوغاء نفس أهداف المتآمرين، وأنا مقتنع بأن تلك هي الحقيقة.»31 في ذلك الوقت بالفعل كان «برخت» يؤيد كل سياسات «ستالين» علنًا بما فيها سياساته الفنية، في سنة ١٩٣٨-١٩٣٩م مثلًا أيد الهجوم على «الشكلانية»، أو على أي نوع من التجريب أو الإبداع الفني. وكتب: «إن الحملة المفيدة على «الشكلانية» قد ساعدت على التطور الخلاق للأشكال الفنية بإثباتها أن المضمون الاجتماعي هو الشرط الحاسم لمثل هذا التطور، وأي إبداع شكلي لا يخدم المضمون الاجتماعي أو يستمد مبرراته منه سيظل ضربًا من العبث.»32
وعندما مات «ستالين» في النهاية كان تعليق «برخت»: «إن المظلومين في قارات العالم الخمس لا بد أنهم شعروا بتوقف قلوبهم عندما سمعوا أن «ستالين» قد مات. لقد كان تجسيدًا لآمالهم.»33 كان في غاية السعادة عندما حصل على جائزة «ستالين» للسلام سنة ١٩٥٥م، معظم القيمة المادية (١٦٠٠٠٠ روبل) ذهب مباشرة إلى حسابه في البنك السويسري، ولكنه ذهب إلى «موسكو» ليتسلم الجائزة وطلب من «بوريس باسترناك» — ربما لم يكن على علم بوضعه — أن يترجم كلمته في الحفل.
كان «باسترناك» سعيدًا أن يقوم بذلك، ولكن فيما بعدُ — أعيد تسمية الجائزة — تجاهل طلب «برخت» أن يترجم مجموعة من قصائده في مديح «لينين». كان «برخت» مستاءً لتوزيع حديث «خروشوف» في الجلسة السرية عن جرائم «ستالين»، وعارض نشره بشدة وأبدى أسباب ذلك لأحد تلاميذه: «لديَّ حصان أعرج وأجرب وأحول، يجيء شخص ما ليقول: لكن الحصان أعرج وأجرب … وانظر … إنه أحول! هو على حق ولكن ما فائدة ذلك بالنسبة لي؟ ليس لدي غير هذا الحصان … لا يوجد غيره، وأفضل شيء في رأيي أن يكون كلامنا عن عيوبه بأقل قدر ممكن.»34 و«عدم التفكير» كان سياسة اضطر «برخت» أن يتبناها منذ سنة ١٩٤٩م، حيث كان قد أصبح موظفًا مسرحيًّا لنظام «ألمانيا الشرقية» المغالي في ستالينيته. لقد بدأ — وفي نيته الاستمرار — كتابة قصيدة بلاط بعنوان «إلى بني وطني» بمناسبة انتخاب «ولهلم بيك» رئيسًا لجمهورية ألمانيا الديمقراطية الجديدة في ٢ نوفمبر ١٩٤٩م، وأرفقها بخطاب إليه معبرًا عن ابتهاجه بتلك المناسبة. وعمومًا كان «برخت» أكثر اتساقًا في وفائه من بين كتَّاب الحزب الشيوعي إذا استبعدنا ابتذالاته. كان يعطي اسمه لأي سياسة دولية يتبناها النظام. احتج بشدة على المثقفين في «ألمانيا الغربية» لتواطئهم مع إعادة تسليح الجمهورية الاتحادية وصمتهم عن التسليح المماثل في «ألمانيا الديمقراطية». كان من عادته أن يستهجن الآخرين بسبب أخطائه؛ كان أحد الموضوعات المتكررة في تلك السنوات هو خطورة المثقفين الذين «يخدمون» الرأسمالية من أجل المال والامتيازات، وكان يكتب مسرحية تتناول هذا الموضوع عندما مات. قدم مادة وفيرة ضد «أديناور» تتضمن رباعية غريبة بها أبيات مثل: «أديناور … أديناور … أديناور … أرنا يدك! إنك تبيع أراضينا من أجل ثلاثين قطعة من الفضة … إلخ.»

وحقق له ذلك جائزة «ألمانيا الديمقراطية» للأدب (من الدرجة الأولى). كان «برخت» باستمرار جاهزًا للقاء كبار الضيوف وتقديم حديثه المعَد سلفًا والذي يستنكر إعادة تسليح «ألمانيا الغربية». كان يوقع برقيات الاحتجاج ويكتب أغاني المسيرات والقصائد الأخرى للنظام.

وكانت هناك أحيانًا خلافات على النقود عادة كما حدث مثلًا مع مؤسسة السينما في «ألمانيا الشرقية» على مسرحية «الأم شجاعة». كان النظام قد رفض «كريجزفيبل» في البداية على اعتبار أنه «سلامي» ولكنهم رضخوا عندما هدد «برخت» بنقل القضية إلى «مجلس السلم العالمي» الذي يسيطر عليه الشيوعيون.

ولكن كقاعدةٍ كان «برخت» هو الذي يرضخ. مسرحيته «محاكمة لوكولوس» ١٩٣٩م التي كُتبت في الأصل كتمثيلية إذاعية معارضة للحرب، كتب لها الموسيقى «بول ديساو» وتم التخطيط لتقديمها في ١٧ مارس ١٩٥١م على مسرح أوبرا الدولة في «برلين» الشرقية، وانزعج النظام للدعاية الضخمة الباكرة، حيث كان يرى أنها أيضًا «سلامية»، ولأن الوقت كان قد فات بحيث لا يمكن إيقاف العمل، خفضوه إلى ثلاثة عروض ووزعوا التذاكر كلها على عمال الحزب، ولكن بعضها قد تسرب إلى السوق السوداء ووصل إلى أيدي أشخاص من «برلين» الغربية حضروا وكانوا يصفقون بحرارة، وتم إلغاء العرضين الآخرين … بعد ذلك بأسبوع كانت جريدة الحزب الرسمية «نيوز دويتش لاند» تنشر هجومًا تحت عنوان «محاكمة لوكولوس: فشل تجربة في مسرح أوبرا الدولة». تركَّز الهجوم الناري كله على موسيقى «ديساو» واتهموه بأنه تابع ﻟ «سترافينسكي»: «مخرب التراث الموسيقي الأوروبي»، ولكن النص كذلك كان محل انتقاد «لفشله في التطابق مع الواقع»، وتم استدعاء كل من «برخت» و«ديساو» إلى اجتماع حزبي استمر ثماني ساعات. وفي نهاية الاجتماع تحدث «برخت» بدافع من الواجب: «أين يمكن أن تجد حكومة في أي مكان في العالم تبدي مثل هذا الاهتمام بالفنانين وتولي أهمية لما يقولون؟» ثم قام بعمل التعديلات التي طلبها الحزب، مغيرًا العنوان إلى «إدانة لوكولوس»، كما أعاد «ديساو» كتابة الموسيقى.

ولكن الإنتاج الجديد (١٢ أكتوبر) لم يكن مُرضيًا كذلك.

وقالت «نيوز دويتش لاند»: «تحسُّن كبير، ولكنه ما زال يفتقر إلى الجاذبية الشعبية، ويقترب من الرمزية بدرجةٍ خطيرة.» وهكذا بعد إدانة العمل، اختفى من المسرح الألماني الشرقي، رغم أن «برخت» استطاع أن يقدمه في الغربي.35 أما الاختبار الحقيقي لصفقة «برخت» الفاوستية فقد حدث في سنة ١٩٣٥م عندما قام العمال في «ألمانيا الشرقية» بانتفاضتهم وجاءت الدبابات السوفيتية لقمعها. وظل «برخت» وفيًّا ولكن ليس مجانًا! لقد استغل المأساة بكل ذكاء وخبث لتقوية موقفه وتحسين شروط الصفقة التي عقدها. عندما مات «ستالين» سنة ١٩٣٥م كان «برخت» قد وقع تحت ضغط من سلطات «ألمانيا الشرقية» لأن يتواءم مع السياسة الفنية السوفيتية، وكانت في ذلك الوقت تروج لأساليب «ستانيسلافسكي» التي كان «برخت» يكرهها. صحيفة «نيوز دويتش لاند» التي كانت تعبِّر عن آراء لجنة الفنون الجميلة التابعة للدولة — حيث كان ﻟ «برخت» أعداء، والتي كانت تشن حملة على فرقته — حذرت من أن شركة «برخت» كانت تقف ضد كل ما يمثِّله «ستانيسلافسكي»، وفي نفس الوقت كانت فرقته تشارك في أحد المسارح وكانت اللجنة تصد محاولات «برخت» للاستيلاء على مسرح «آم سكيف باوردمان»، كان هدف «برخت» هو تحطيم اللجنة والاستيلاء على المسرح.
ويبدو أن الانتفاضة جاءت مفاجئة له مما يثبت أنه كان بعيدًا كل البعد عن حياة الناس العاديين. كان لديه النقد الأجنبي الوفير، وكان يسافر إلى الخارج كثيرًا هو وزوجته ويتسوقان من أنحاء العالم، وفي «ألمانيا الشرقية» نفسها كان لديه إمكانية التسوق من المحلات الخاصة بكبار رجال الحزب والنخبة المتميزة. ولكن الجماهير — ومعظمهم كانوا يتضورون جوعًا — فكانوا تحت رحمة التقلبات العشوائية في سياسة الحكومة لتوزيع الحصص التموينية. وقد لجأ ستون ألفا إلى «برلين» الغربية وحدها. وفي شهر أبريل تم رفع الأسعار فجأةً وسحبت بطاقات التموين من قطاعات كبيرة من الناس (الذين يعملون لحسابهم وأصحاب المنازل مثلًا)، ولكن «برخت» أعفي من ذلك لوضعه المتميز وكمواطن نمسوي رغم أنه كان يعمل لحسابه ويملك منزلًا! وفي ١١ يونيو عكست السياسة فجأةً وأعيدت بطاقات التموين وتحركت سياسة الأسعار والأجور بحدة ضد مصلحة عمال المصانع. في ١٢ يونيو طلب عمال البناء عقد اجتماع جماهيري عندما وجدوا أجورهم تخفض إلى النصف. وبدأت الاحتجاجات بصورةٍ جادة في ١٥ يونيو واستمرَّت مع تزايد الغضب الجماهيري إلى أن تدخلت الدبابات السوفيتية. ورغم مفاجأة الانتفاضة له، هرع «برخت» الذي كان في منزله الريفي للاستفادة منها، مدركًا أهمية مساندته للنظام في هذا الظرف المصيري، فكتب إلى رئيس الحزب «أوتو جروتيووهل» في ١٥ يونيو يطلب إعطاءه المسرح وإعلان ذلك، ويفهم من ذلك أن المقابل سيكون تأييد خط الحزب مهما كان الأمر. كانت ثمة صعوبة في تحديد الخط قبل يومين، عندما ألقي القبض على عاطل من «برلين» الغربية، كان قد تسلل إلى القطاع الشرقي ليحصل على إعانة البطالة الخاصة به، وأُدِين سرًّا بتهمة «التحريض الغربي» وأعدم رميًا بالرصاص … وهكذا أصبح اسم الانتفاضة هو: «الإثارة والتحريض الفاشستي»، وهكذا أيضًا تحدد خط الحزب الذي تبناه «برخت» فورًا. وبنهاية نفس اليوم كان قد أملى رسائل إلى قادة الحزب «أولبرشت»، «جروتيووهل»، والمستشار السياسي السوفيتي «فلاديمير سيميونوف» الذي كان هو الحاكم العام الروسي من الناحية الفعلية. وفي ٢١ يونيو كانت «نيوز دويتش لاند» تنشر: أن «برتولد برخت» الحائز على جائزة الدولة قد أرسل إلى «فالتر أولبرشت» السكرتير العام للجنة المركزية لحزب الوحدة الاشتراكي خطابًا يعلن فيه: «أشعر في هذه اللحظة بالحاجة إلى أن أعبر لك عن ارتباطي بالحزب. المخلص «برتولد برخت».» بعد ذلك زعم «برخت» أن خطابه كان ينطوي على نقد كثير للحكومة وأن تلك العبارة المنشورة كان يسبقها عبارتان هما: «سوف يسجل التاريخ احترامه للحسم الثوري للحزب، وأن المناقشة الواسعة مع الجماهير عن معدل البناء الاشتراكي سوف تؤدِّي إلى غربلة الإنجازات الاشتراكية وتأمينها.» وكتب المراسل السويسري «جودي سوتر»: «كانت تلك هي المناسبة الوحيدة التي رأيته فيها صغيرًا لا حول له ولا قوة؛ عندما جذب من جيبه أصل الخطاب المرتبك لكي يريه لعددٍ كبير من الناس.»36

على أية حال فإن «برخت» لم يحاول أن ينشر النص الأصلي للخطاب آنذاك ولا بعد ذلك، وما لديه كان نسخة بالكربون وليس الأصل. ولو أنه نشرها لكان النظام قد نشر الأصل. كان «برخت» قادرًا على إرسال خطاب … ثم يشكو على انفراد أنه قد أرسل واحدًا مختلفًا حتى وإن كان النص الذي كان يحتفظ به صحيحًا فإن شكواه من تصرف «أولبرشت» لم يكن لها أساس. كان قادة «ألمانيا الشرقية» مشغولين بأمور أخرى أهم من عناوين «برخت» الفرعية، كانوا يفكرون في كيفية إنقاذ رقابهم مثلًا!

وعلى أية حال … ألم يكن شراء «برخت» قد تم … والثمن قد تم تسديده؟ فلماذا إذن يترددون في اختصار كتاب الشكر ذاك؟ بعد يومين نشرت «نيوز دويتش لاند» خطابًا طويلًا آخر منه كشف موقفه بوضوح؛ أشار في الواقع إلى حالة من «السخط» سائدة «بين قطاع عريض من عمال «برلين» بسبب سلسلة الإجراءات الاقتصادية التي أخفقت»، وتمضي الرسالة: «وقد حاولت عناصر فاشية منظمة أن تستغل هذا السخط لخدمة أغراضها الدنيئة، وظلت «برلين» لعدَّة ساعات على حافة حرب عالمية ثالثة، ولكن تم إحباط محاولاتهم بفضل التدخل السريع والحاسم للقوات السوفيتية. وكان من الواضح أن تدخُّل القوات السوفيتية لم يكن موجهًا ضد تظاهرات العمال، وإنما ضد محاولة هولوكوست جديدة.»37 كما كرر تلك الصيغة إلى ناشره الألماني «دهماء تدفقت في كل أنحاء «برلين» الشرقية ولكن الجيش السوفيتي فقط هو الذي استطاع أن يمنع حربًا عالمية»، وكان ذلك هو خط الحزب بالضبط، بينما لم يكن هناك أي دليل على وجود «مهيجين فاشست»، ولا كان «برخت» نفسه يعتقد ذلك، إلا بعد وفاته بوقت طويل.38 كان «برخت» قد وجد أن الحقيقة كريهة، وهي أن العمال الألمان كانوا رافضين للنظام.
ومثل معظم أفراد أي طبقة حاكمة، لم يلتقِ «برخت» بالعمال إلا في صورة خدم أو أحيانًا على هيئة حرفيين يقومون بأعمال إصلاحات في منزله. وقد سجل محادثة جرت بينه وبين عامل سباكة كان يقوم ببعض الإصلاحات في منزله الريفي. شكا له العامل أن صبيًّا كان يعمل لديه وفصله بسبب السرقة، كان الآن في مخفر الشرطة، شرطة الشعب، المملوء بنازيين سابقين. كان العامل يريد انتخابات حرة، فقال له «برخت»: «في هذه الحالة سوف ينتخب الناسُ النازيين.» لم يكن ذلك أبدًا هو منطق عامل السباكة ولكنه يعكس توجه عقل «برخت». لم يكن يثق بالشعب الألماني وكان يفضل الحكم السوفيتي الاستعماري على الديمقراطية.39
حصل «برخت» على المقابل لقاء تأييده للنظام، رغم أن «أولبرشت» انتظر قرابة العام لكي يسلمه له. في محاولته لتدمير لجنة الفنون الجميلة، اكتشف «برخت» أنه كان في حاجة إلى مساعدة «ولفجانج هاريش» أستاذ الماركسية النجيب في جامعة «همبولت» والذي زوده بالدفوع الأساسية التي لم يكن هو نفسه ليستطيع أن يبرزها بالأسلوب الصحيح، وفي أوائل سنة ١٩٥٤م أُلغيت اللجنة وحل محلها وزارة جديدة للثقافة وعلى رأسها صديقه الحميم «جوهانز بيكر». وفي شهر مارس كان قد تم دفع القسط الأخير من الصفقة، فقد حصل «برخت» رسميًّا على ملكية المسرح الذي تمناه طويلًا. وقد احتفل بهذا الانتصار بأن سرق «آيسوت كيليان»، زوجة «هاريش» الجميلة، واتخذها عشيقته الرئيسية ورقَّاها من ممثلة ثانوية إلى مساعدة له في مكتبه الرئيسي. وكانت نصيحته ﻟ «هاريش» المصدوم أن: «طلِّقها فورًا، وتستطيع أن تتزوجها ثانية بعد عامين».40 كان يقصد أنه سيكون قد انتهى منها آنذاك. ولكن عندما جاء «ذاك» الوقت كان هو الذي انتهى بالفعل!

فقد مرض في نهاية ١٩٥٤م ومر وقت طويل قبل أن يكتشفوا متاعب القلب، وهو أمر غريب بالنسبة لتاريخه الطبي. لم يكن «برخت» يثق بالطب الشيوعي، وكان يتردد على عيادة في «برلين» الغربية وأجرى ترتيبات ليذهب إلى عيادة أخرى في «ميونخ» في سنة ١٩٥٦م ولكنه لم يذهب. قضت عليه جلطة عنيفة في الشريان التاجي في ١٤ أغسطس.

خدعة جديدة ﻟ «ويجل» التي طالما عانت على يديه، فقد كتب وصية خصص فيها جزءًا من حقوق نشر أعماله لأربع نساء: سكرتيرته وعشيقته القديمة «إليزابيث هاوبتمان» (حصلت على حقوق أوبرا «البنسات الثلاثة» أكثر أعماله قيمة)، والمسكينة «روث بيرلو» و«آيسوت كيليان» و«كاثي روليك»، والتي كان قد أغواها سنة ١٩٥٤م وكان يتناوبها مع «كيليان» في نفس الوقت! ولكن «كيليان» التي فوضها «برخت» بتوثيق الوصية لم تُطق صبرًا للانتظار بمكتب المحامي، وهكذا لم تعد الوصية صالحة. أما «ويجل» وبصفتها الزوجة الشرعية الوحيدة فقد حصلت على كل شيء وأعطت للنساء الأخريات حسبما تراءى لها.

كل رغبات «برخت» الأخرى تم تنفيذها. كان يريد أن يوضع في تابوت من الصلب الرمادي لكي يحفظه من الديدان، وأن يوضع خنجر من الصلب في قلبه بمجرَّد أن يلفظ أنفاسه الأخيرة … وقد تم ذلك بالفعل وأعلن عنه؛ وربما كانت تلك الأخبار هي أول إشارة للكثيرين ممن عرفوه أنه كان له قلب!

لقد حاولتُ في هذه الدراسة أن أجد شيئًا لصالح «برخت» أستطيع أن أقوله، ولكن بصرف النظر عن كونه كان يعمل بجد دائمًا ويرسل طرود الطعام إلى أوروبا أثناء الحرب وبعدها مباشرة (وربما كانت «ويجل» هي التي تفعل ذلك)، لا يوجد ما يقال عنه.

إنه المثقف الوحيد — بين أولئك الذين قد تناولتهم — الذي يبدو دون ملمح واحدٍ يفتديه. كان مثل معظم المثقفين يفضل الأفكار عن الناس ويقدمها عليهم. لم يكن هناك دفء في أي من علاقاته. لم يكن له أصدقاء بمعنى الكلمة.

كان يستمتع بالعمل مع الناس بشرط أن يكون هو المسئول. ولكن كما قال «إريك بنتلي» فإن العمل معه كان سلسلة من الاجتماعات واللجان، ولم يكن — كما يقول «بنتلي» أيضًا — يبدي أي اهتمام بالناس كأفراد، وربما كان ذلك سبب عدم قدرته على خلق شخصيات … بل أنماط! كان يستخدمهم كأدوات لخدمة أغراضه، كرفيقات سرير … كسكرتيرات، كطباخات … أكثر مما كان ينظر إليهن كأفراد … كبشر!

وفي النهاية … ماذا كانت أهدافه؟ ليس من الواضح بالمرة أنه كان لديه معتقدات حقيقية ثابتة. قال مترجمه الفرنسي «بيير إبراهام»: إن «برخت» قد أخبره قبل وفاته بوقت قصير أنه كان ينوي أن ينشر مسرحياته التعليمية بمقدمات جديدة يقول فيها أنه لم يقصد أن يأخذها أحد على محمل الجد، وإنما «كتمارين لياقة لأبطال الروح … أولئك الذين يؤمنون بالجدل».

ولكن تلك الأعمال كانت تُقدم بجدية في ذلك الوقت، وإذا كانت مجرَّد «تمارين» … فأي من أعماله الأخرى لم يكن كذلك؟

في شتاء ١٩٢٢-١٩٢٣م كان «آرنولد برونين» يتناقش مع «برخت» عن احتياجات الناس، وكان ﻟ «برونين» تأثير كبير عليه، وكان قد جعل اسمه «أكثر يسارية» بتغييره من «آرنولد» إلى «آرنولت» وقلده «برخت» في ذلك. إنه لم يُسقط فقط اسمَيه المسيحيَّين «يوجين» و«فردريك» لأنهما «ملكيان جدًّا» ولكنه حسَّن اسمه من «برتولد» إلى «برتولت». ولكن عندما كان «برونين» في نفس تلك المناسبة يستعجل الحاجة لتغيير العالم لكيلا يشعر أحد بالجوع، غضب «برخت» وقال حسب رواية «برونين»: «وماذا يضيرك إن كان الناس يتضورون جوعًا؟ إن المرء يجب أن يمضي في طريقه، يصنع لنفسه اسمًا ويكون له مسرح يقدم عليه أعماله.» ويضيف «برونين»: «لم يكن يهمه أي شيء آخر.»41

كان «برخت» يحب أن يجمع بين الأضداد، أن يكون غامضًا، ملتبسًا، كان يغطي عقله بحجاب ذكي كما يلف جسمه في ملابس العمال، ولكن ربما في هذه المناسبة … ولمرة واحدة فقط … قد قال ما كان يؤمن به بالفعل!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤