الفصل الثامن

«برتراند رسل»: تفاهاتٌ منطقية!

«برتراند رسل» أو «إيرل رسل» الثالث، هو صاحب أطول مرحلة في تاريخ المثقفين في تقديم النصح والإرشاد للبشرية (١٨٧٢–١٩٧٠م)، وُلد في العام الذي أُعيد فيه انتخاب الجنرال «أوليسس س. جرانت» لرئاسة الولايات المتحدة الأمريكية، وماتَ على مشارف اﻟ «ووترجيت». كان أصغر من «مارسيل بروست» و«ستيفن كرين» بشهورٍ قليلة، وأكبر من «كالفن كوولدج» و«ماركس بيربوهم» بأسابيع قليلة، إلا أنه عاش طويلًا ليحيِّي الطلاب الثائرين في ١٩٨٦م، ويستمتع بأعمال «ستو بارد» و«بنتر». على مدى هذا الزمن، قدَّم تيارًا مندفقًا من النصح والموعظة والمعلومات والتحذيرات في موضوعاتٍ شتَّى. تحصي إحدى الببليوجرافيات (وهي ليست كاملة بكل تأكيد) ثمانية وستين كتابًا له، أولها «الديمقراطية الاجتماعية الألمانية»، الذى نُشر في ١٨٩٦م قبل وفاة الملكة «فيكتوريا» بخمس سنوات، بينما ظهر كتابه الصادر بعد موته (١٩٧٣م) «مقالات في التحليل»، في العام الذي استقال فيه «نيكسون» … وبينهما نشر أعمالًا في الهندسة والفلسفة والعدالة، وإعادة البناء الاجتماعي والفكر السياسي والتأمل والمنطق والبلشفية، والعين والعقل والصناعة، وألف باء الذرَّة (كان ذلك في سنة ١٩٢٣م، وبعد ذلك بستٍّ وثلاثين سنةً أصدر كتابًا عن الحرب النووية)، والعلم والنسبية والتربية والشك والزواج والسعادة والأخلاق والتبطُّل والدين والشئون الدولية، والتاريخ والسلطة والحق، والمعرفة والنفوذ والمواطنة، والأخلاقيات والسيرة والإلحاد والحكمة والمستقبل، ونزع السلاح والسلام والحرب والجريمة … وموضوعات أخرى.1

إلى جانب ما سبق لا بدَّ أن نُضيف عددًا هائلًا من المقالات في الصحف والمجلات، تناولت كل ما يخطر على الذهن من موضوعات؛ لا نستثني منها «استخدام أحمر الشفاه»، و«أخلاق السواح»، و«اختيار نوع السيجارة»، و«ضرب الزوجات».

فما الذي جعله يشعر بأنه مؤهل لتقديم كل ذلك النصح؟ ولماذا كان الناس يستمعون إليه؟ إن الإجابة عن هذا السؤال لا تبدو واضحةً لأول وهلة. وربما يكون السبب الرئيسي الوحيد لكتابة كلِّ هذا الكم الهائل هو أنه وجد الكتابة عمليةً سهلة — وفي مثل حالته — وكان يتقاضى عنها ثمنًا جيدًا.

كتب عنه صديقه «مايلز ماليسون» في العشرينيات، يقول: «لا بد أن يخرج «بيرتي» للسَّير بمفرده كل صباح لمدة ساعة، فيخطط ويفكِّر لعمل اليوم. بعد ذلك يعود ويجلس ليكتب بقية الصباح … بسهولة … دون توقف … ودون تصحيحٍ واحد.»2 أما النتائج الاقتصادية لهذا النشاط، فكان يسجلها في مفكرةٍ صغيرة، ويكتب فيها المبالغ التي تقاضاها عن كل شيءٍ نشرَه أو أذاعه طوال حياته، وكان يحتفظ بها في جيبٍ داخلي. وفي الأوقات التي كان لا يكتب فيها، أو عندما كان يشعر بالملَل يُخرجها من جَيبه ويتفحصها بعناية. وكان يُسمِّي ذلك «أكثر المشاغل فائدة».3
والمؤكد أن «رسل» لم يكن بالإنسان الذي حصَل على تجربةٍ واسعة عن حياة معظم الناس أو بالإنسان الذي يهتم بآراء ومشاعر العامَّة. كان يتيمًا، مات والده قبل أن يصل إلى سن الرابعة، قضى طفولته في كنف جده «إيرل رسل الأول» — لورد جون رسل — الذي قاد قانون الإصلاح العظيم عبر مجلس العموم البريطاني في سنة ١٨٣٢م. أما خلفية «رسل» فكانت خلفية «الأرستقراطية الهويجية» Whig Aristocracy التي كان لديها ذوقٌ اعتباطي للأفكار الثورية، رغم أن هؤلاء يحجزون أنفسهم بإحكام، وبمعزل عن الاتصال بالعامة أو حتى الطبقة العليا.

كان «الإيرل» العجوز، وبصفته رئيس وزراءٍ سابقًا يعيش في مسكنٍ فاخر في «ريتشموند بارك» كانت الملكة فيكتوريا، قد خصصَته له. وهنا نشأ «رسل»، وكنت أتصور أن لَكنته الفريدة في وضوحها وقِدَمها قد انتقلَت إليه من جده مباشرة، رغم أنها كثيرًا ما كانت تُصنَّف — بالخطأ — على أنها لَكنة «بلومسبري». على أن التأثير الرئيسي على طفولته كان لجدته، السيدة القوية صاحبة المبادئ، شديدة التدين، ذات الآراء ووجهات النظر التطهُّرية المتزمِّتة. أما والداه فكانا ملحِدَين وثوريَّين، وكانا قد تركا تعليماتٍ بأن يُربَّي ابنهما تحت رعاية «جون ستيوارت مل»، ولكن جدته لم تكترثْ بذلك، واحتفظَت بالطفل في المنزل في جَو الأناجيل والكتب الزرقاء (الكتب الدراسية الرسمية) التي تدرِّسها له مجموعة من المربيات والمعلمين (أحدهم على أية حالٍ اتضح أنه كان ملحدًا)، ولكن ذلك لم يكن له أي أثر حيث شق «رسل» طريقه الخاص رغم كل شيء.

في سن الخامسة عشرة كان يسجِّل في يومياته مستخدمًا الأبجدية اليونانية؛ لكي يخفي آراءه عن العيون المتطفلة: «وكان عليَّ أن أنظر في أسس الدين الذي نشأت عليه.»4 في هذا الوقت تقريبًا، كان قد فقد إيمانه، وظل هكذا بقية حياته. لم يرق له أبدًا ذلك المفهوم الذي يدركه معظم الناس عن حاجتهم لكائنٍ أسمى، وكان يعتقد أن العقل البشري يمكنه أن يجد إجابة عن جميع ألغاز الكون أو لا يجدها أبدًا.
لا أحد كان لديه ثقةٌ أكثر منه في قدرة العقل وقوَّته، رغم أنه كان يميل إلى أن يراها قوةً مجرَّدة غير مجسدة. ومن المحتمل أن يكون حبه للعقل المجرَّد وشكه في الحركات الجسدية، واللذان استمدَّهما من التعليمات البيوريتانية لجدَّته، هما اللذان جعلا منه عالِم رياضيات، فكان عالَم الأرقام — الذي لا يوجد أبعد منه عن الناس — هو أول وأعظم حب في حياته. وبمساعدة جيش من المدرسين الخصوصيين حصل على منحة في «ترينيتي كوليدج» — كامبريدج — حيث تفوَّق في الرياضيات. بعد ذلك كانت «زمالة» ترينيتي، والمسودة الأولى للعمل العظيم الذي كتبه مع «ألفريد نورث وايتهد» «مبادئ الرياضيات»، والذي أكمَلاه في آخر يوم من أيام القرن الماضي. كتب: «أُحب الرياضيات لأنها ليست إنسانية.» وفي مقالٍ بعنوان «دراسة الرياضيات» يزهو بالقول: «إن الرياضيات لا تحتوي على الحقيقة فقط، وإنما على الجمال الأسمى، ذلك الجمال البسيط الهادئ مثل جمال النحت دون الميل إلى أي جانبٍ ضعيف في طبيعتنا، جمال الرياضيات جمالٌ نقي، قابل للإتقان الذي يستطيع الفن العظيم وحده أن يظهره.»5
لم يتصور «رسل» أبدًا أن العامة كان يمكنهم أو حتى يجب أن يشجعوا على اختراق حدود المعرفة، وكان يؤدِّي عمله الاحترافي في الرياضيات بأسلوبٍ عالٍ جدًّا من الناحية الفنية، ولا يقدِّم أي تنازُلٍ لغير المتخصص، فالتفكير الفلسفي عنده يجب أن يتم بلُغةٍ خاصة، وكان يقاتل من أجل الاحتفاظ بهذا الدستور الكهنوتي وتدعيمه. كان كبير الكهنة الذي يمنع الدُّخلاء من اقتحام سر أسرار العقل، وكان يعارض بشدةٍ أسلوب زملائه الفلاسفة مثل «ج. إي مورو»، الذين كانوا يريدون أن يناقشوا المشكلات بلُغةٍ عادية، مُصرًّا على أن «لغة الناس العاديين غير المصقولة تجسِّد مبادئ الهمج»، ورغم ذلك، بينما كان من واجب كبار الكهنة أن يحتفظوا بالسر الأكبر فيما بينهم، كان من واجبهم كذلك وبالاعتماد على مخزنهم من الحكمة، أن يُمتعوا العامة ببعض الفاكهة القابلة للهضم من تلك الحكمة. ولذلك فإنه كان يفرِّق بوضوحٍ بين الفلسفة الاحترافية والأخلاقيات العامة ويمارس كلَيهما. كان زميلًا في كلية «ترينيتي» ١٨٩٥م و١٨٩٧م، ثم من ١٩١٩–١٩٢١م، ومن ١٩٤٤–١٩٤٩م، كما قضى عدَّة سنواتٍ يحاضر ويدرِّس في عدد من الجامعات الأمريكية. ولكن الجزء الأكبر من حياته قضاه يعلِّم الجماهير كيف يجب أن تفكر وتعمل. وقد كان لهذا الأسلوب من التبشير الفكري الغلبة على النصف الثاني من حياته المديدة. ومثل «آلبرت أينشتاين» في العشرينيات والثلاثينيات كان «رسل» بالنسبة للجماهير في كل العالم مثالًا ونموذجًا للفيلسوف المجرَّد وتجسيدًا للرأس المتكلم … فماذا كانت الفلسفة؟ حسن؛ كانت الفلسفة تلك الأشياء التي يقولها «رسل»، كان شارحًا موهوبًا. في عملٍ باكر له شرح أفكار «ليبنتز». الذي كان يجلُّه كثيرًا.6 كتابه «تاريخ الفلسفة الغربية» هو أفضل ما كُتب في موضوعه وكان يُباع في جميع أنحاء العالم، أما رفاقه الفلاسفة الذين كان ينتقدهم فكانوا يستنكرون عمله الشعبي. كان «لودفيج فتجنشتين» يرى أن كتابه «انتزاع السعادة» (١٩٣٠م) لا يمكن احتماله.7
وعندما نشر آخر عملٍ فلسفي مهم له «المعرفة الإنسانية» (١٩٤٩م) رفض النقاد الأكاديميون أن يأخذوه على محمل الجد، حيث قال عنه أحدهم أنه «تمتمة المشعوذ»،8 ولكن الجماهير تحب الفيلسوف الذي ينزل إلى العالم، إلى جانب ذلك كان هناك إحساس بأن «رسل» كان شجاعًا في اقتناعه بأفكاره — سواء كان محقًّا أو مخطئًا — وكان على استعداد أن يقاسي في سبيلها. ومثلما ذهب «أينشتاين» إلى المنفى هربًا من الاستبداد النازي، تخاصم «رسل» مرارًا مع سلطاتٍ متعددة، وكان يتحمل العقاب بشجاعةٍ نادرة.
وهكذا كتب في سنة ١٩١٦م منشورًا مجهولًا مع الرافضين لحمل السلاح يعترض على إرسال شابٍّ إلى السجن بسبب رفضه حمل السلاح لاعتباراتٍ أخلاقية ودينية، تم القبض على موزِّعي المنشور ومحاكمتهم وسجنهم، فكتب «رسل» رسالةً ﻟ «التيمز» أعلن فيها أنه هو الذي كتبه، فقُدِّم للمحاكمة التي قضت بتغريمه مائة جنيه، رفض أن يدفعها فحُجز على أثاثه في «ترينيتي» وتم بيعه، فقرر مجلس «ترينيتي» المكون من «كبار الزملاء» شطب عضويته. لقد تعاملوا مع الأمر بجديةٍ تامة وبعد تفكيرٍ طويل.9 أما بالنسبة للجماهير فبدا الأمر مثل عقابٍ مزدوج على نفس المخالفة.
وفي ١١ فبراير ١٩١٨م حُوكِم «رسل» وأُدِين مرةً أخرى وكان ذلك لأنه نشر مقالًا بعنوان «عرض السلام الألماني» في صحيفة «تربيونال» الراديكالية يقول فيه: «إن الحامية الأمريكية التي سوف تكون محتلة لإنجلترا وفرنسا في ذلك الوقت، وسواء كانت ندًّا للألمان أم لا، ستكون قادرة بلا شك على بث الرعب في نفوس المضربين، وهو عملٌ اعتاد عليه الجيش الأمريكي في الداخل.» وبسبب هذه العبارة المندفعة وُجِّه إليه الاتهام … «كتابة ونشر عباراتٍ تسيء إلى علاقة جلالة الملكة بالولايات المتحدة الأمريكية» وأُدِين وحُكم عليه بالسجن ستة شهور.10 وبعد الإفراج عنه رفضَت وزارة الخارجية (لبعض الوقت على الأقل) أن تمنحه جواز سفر، وقد أشَّر السير «آرثر نيكلسون» وكيل الوزارة الدائم على ملفه بأنه «أحد المخبولين المولعين بالأذى في البلاد».11
اصطدم «رسل» كذلك بالقانون في سنة ١٩٣٩-١٩٤٠م، عندما عُيِّن أستاذ كرسي في «سيتي يونيفرستي» في نيويورك. كان في ذلك الوقت قد أصبح معروفًا بآرائه اللادينية واللاأخلاقية. وبالإضافة إلى عددٍ لا يُحصَى من المقالات المعادية للمسيحية قرأ بيانًا عن «عقيدة الملحد» كان يتلوه من أنفه كما يفعل القساوسة: «نحن لا نؤمن بالله وإنما نؤمن بسيادة الإنسانية، لا نؤمن بالحياة بعد الموت وإنما نؤمن بالخلود من خلال العمل الصالح.»12 وكان يجد متعةً في تلاوة ذلك على مسامع أطفال أصدقائه التقدميين. وعندما أُعلن عن تعيينه في جامعة «سيتي يونيفرستي-نيويورك» واحتجَّت الدوائر الأنجليكانية والكاثوليكية بشدة، وحيث إن الجامعة كانت مؤسَّسة خاضعة لإشراف البلدية كان من حق المواطنين أن يرفعوا دعاوى ضد تعييناتها، وقامت إحدى السيدات بذلك فعلًا. قال محاميها «إن أعمال «رسل» فاسقة، شهوانية، فاجرة، خبيثة، جنسية، قبيحة، مضللة، مجرَّدة من النسيج الأخلاقي.»
أما القاضي — أمريكي من أصل بولندي — فقد أضاف إلى تلك السلسلة من القدح وحكم بأن «رسل» ليس كفئًا لشغل المنصب؛ فهو ملحد وداعية للحرية الجنسية. رفض رئيس البلدية أن يستأنف ضد الحكم، أما أمين السجل المدني في الإقليم فقد أعلن أن «رسل» يجب أن «يُغطَّى بالقطران والريش ويطرد من البلاد».13
كان آخر صدام مع السلطة في سنة ١٩٦١م وكان في الثامنة والثمانين، وحاول جاهدًا أن يستفزهم للقبض عليه بتهمة العصيان المدني احتجاجًا على الأسلحة النووية. شارك في اعتصامٍ غير قانوني أمام مبنى وزارة الدفاع في لندن في ١٨ فبراير وظل جالسًا على الرصيف عدَّة ساعات. لم يحدث شيء واضطُر للانصراف إلا أنه أُخطِر في ٦ أغسطس للحضور أمام المحكمة في ١٢ سبتمبر مُتهَمًا بتحريض الجماهير ضد القانون، وأُدِين وحُكم عليه بشهر سجن تم تخفيضه إلى أسبوع (قضاه في مستشفى السجن)، وعند النطق بالحكم صاح رجل: «يا للعار … يا للعار … إنه رجلٌ مسن في الثامنة والثمانين!» ولكن القاضي قال: «ولكنك عجوز بما يكفي لكي يجعلك تعرف أفضل.»14 ومن المشكوك فيه أن تكون هذه الأحداث قد ساعدَت على تقديم أفكار «رسل» إلى الجماهير، ولكنها جميعًا تشهد على إخلاصه واستعداده لأنْ ينقل الفلسفة من بُرجها العاجي الأكاديمي إلى الشوارع والأسواق.

كان الناس يرَونه — وإن كان على نحوٍ غير واضح — «سقراطًا» جديدًا يجرع السم، أو «ديوجينيس» جديدًا يظهر.

والواقع أن فكرة أنه كان يحمل الفلسفة إلى العالم فكرةٌ مضللة، رغم أنه حاول دون نجاحٍ أن يضغط العالم ويدخله إلى الفلسفة ووجد أن ذلك غير ممكن. حالة «أينشتاين» كانت مختلفة، حيث إنه كان فيزيائيًّا يعنيه سلوك الكون كما هو، وأصر على أن يطبق على وصفه لهذا السلوك أدق مقاييس البرهان التجريبي. وبتصحيحه لفيزياء «نيوتن» فإن «أينشتاين» غيَّر الطريقة التي نرى بها الكون برُمتها وأصبح لِعمله تطبيقات عديدة مستمرة، والحقيقة أن إسهامه في النظرية الذرية كان أول علامةٍ بارزة على طريق الطاقة النووية التي صنعها الإنسان.

على العكس من ذلك، كان «رسل» أبعد مَن يكون عن الحقيقة الفيزيائية؛ لم يكن يستطيع تشغيل جهاز ميكانيكي بسيط أو يؤدِّي أي عملٍ روتيني يمكن أن يقوم به أي إنسانٍ مدلل دون تفكير، كان يحب الشاي ولا يستطيع أن يصنعه!

عندما اضطُرَّت زوجته الثالثة «بيتر» ذات يومٍ للخروج من المنزل وكتبَت له في مذكرة المطبخ: «ارفع غطاء الموقد، ضع غلاية الشاي على السطح المعدني الساخن، انتظر حتى يغلي، صب الماء من الغلاية في إبريق الشاي»، وفشل فشلًا ذريعًا في تنفيذ ذلك.15
في آخر العمر ضعف سمعه ووضعوا له سماعة ولم يكن يستطيع أن يستخدمها دون مساعدة. كان العالم الإنساني مثل العالم الحسي يحيره ويربكه. كتب يقول إن قدوم الحرب العالمية الأولى قد اضطره إلى: «مراجعة آرائي عن الطبيعة الإنسانية … كنت حتى ذلك الحين أعتقد أن العادي أن يحب الآباء أطفالهم، ولكن الحرب أقنعتني بأن ذلك استثناء نادر. كنت أعتقد أن معظم الناس يحبون المال أكثر من أي شيء آخر، ولكني اكتشفتُ أنهم يحبون الدمار أكثر، كنت أعتقد أن المثقفين يحبون الحقيقة دائمًا ولكني وجدتُ هنا ثانية أن نسبةً لا تزيد عن عشرة بالمائة منهم هي التي تفضل الحقيقة على الشهرة».16

هذه العبارات الغاضبة تكشف جهلًا عميقًا بكيفية عمل عواطف الناس العاديين في وقت الحرب أو ربما في أي وقتٍ آخر، كما توجد عباراتٌ أخرى كثيرة في مجلدات سيرته الذاتية تضع القارئ العادي في حيرةٍ شديدة لكَون رجل بهذه الدرجة من الذكاء لا يستطيع أن يفهم الطبيعة الإنسانية.

الشيء الغريب هو أن «رسل» كان قادرًا على أن يكتشف في الآخرين الجمع الخطير بين المعرفة النظرية والجهل العملي بمشاعر الناس ورغباتهم، وربما كان يرثي لذلك أو يأسف له. في عام ١٩٢٠م زار «روسيا» البلشفية، وفي ١٩ مايو قابل «لينين» وجدَه «نظريةً مجسَّدة». كتب يقول: «ترك لدي الانطباع بأنه يحتقر الجماهير وأنه أرستقراطي مثقف.» لقد رأى «رسل» جيدًا كيف يمنع هذا الجمعُ بين الصفتَين المرء من إصدار أحكامٍ عاقلة، ويضيف: «لو كنت قد التقيتُه دون أن أعرف مَن هو، لَما كنت قد خمنتُ أنه كان رجلًا عظيمًا، ولتصورتُ أنه أحد الأساتذة المتشبثين برأيهم.»17 لم يستطع «رسل» أن يرى أن وصفه ﻟ «لينين» كان ينطبق عليه شخصيًّا إلى حدٍّ ما، فقد كان هو أيضًا من الأرستقراطية المثقفة، يحتقر الناس ويرثي لأحوالهم أحيانًا. علاوة على ذلك فإن «رسل» لم يكن فقط جاهلًا بسلوك معظم الناس، وإنما كان ينقصه الوعي العميق بالذات أيضًا. لم يستطع أن يرى سِماته الشخصية في مرآة «لينين»، ذلك أنه لم يلحَظ أنه شخصيًّا كان مُعرَّضًا لقوى عدم العقل والعاطفة والتي كان يأسى لوجودها في الآخرين. كان موقف «رسل» العام أنه من الممكن علاج كل أسقام العالم عن طريق المنطق والعقل والاعتدال، لو أن الرجال والنساء اتبعوا عقولهم أكثر من عواطفهم وناقشوا بالمنطق بدلًا من الحدس، ومارسوا الاعتدال بدلًا من الانغماس في التطرف، لأصبحَت الحرب مستحيلة والعلاقات الإنسانية أكثر انسجامًا، ولتحسَّنَت أحوال البشرية بالتدريج. وكان، كعالم رياضيات، يرى أن الرياضة البحتة لا يوجد بها أي مفهومٍ عصي على المعرفة بالمنطق، ولا توجد بها أي معضلة إلا ويمكن حلها من خلاله. لم يكن بالطبع غبيًّا لكي يفترض أنه يمكن حل المشكلات الإنسانية مثل المعادلات الرياضية، ولكنه كان يعتقد أنه مع الوقت والصبر والأسلوب المناسب والاعتدال يمكن أن يقدِّم العقل الحلول والإجابات لمعظم مشكلاتنا العامة والخاصة. وكان مقتنعًا بأنه يمكن الوصول إليها بروح من التجرد الفلسفي. وفوق كل ذلك كان يعتقد أن معظم الناس قادرون على التصرف القويم لو مُنِحوا الإطار العقلي والمنطقي السليم.
المشكلة أن «رسل» كان يوضح تكرارًا وفي مختلف ظروف حياته أن جميع تلك الافتراضات لم تكن على أرضٍ صلبة، عند كل منعطفٍ زمني مهم كانت آراؤه وأفعاله تسير حسب عواطفه كما تسير حسب عقله، وفي وقت الأزمات كان يتخلى عن المنطق تمامًا، ولا يمكن لأحد أن يضمن أنه سوف يتصرف تصرفًا سليمًا عندما كان يوجد ما يهدد مصالحه. وكانت هناك نقاط ضعفٍ أخرى؛ عندما كان يعظ بمثاليته الإنسانية كان يضع الحقيقة فوق أي اعتبارٍ آخر، ولكنه كان من الممكن أن يكذب ليخرج من أي ورطة أو مأزق. وعندما كانت تغضب روح العدالة فيه ويثور؛ ينهار احترامه للدقة. وكان من الصعب عليه أن يحقق التماسك والتجانس اللذين كان يجب أن يفرضهما العقل والمنطق نظريًّا على المخلصين لهما، ودعنا نتابع آراء «رسل» وكيف تطورَت بالنسبة لمسألة الحرب والسلام، وهو الموضوع الذي استهلك طاقته ربما أكثر من أي شيءٍ آخر. كان «رسل» يعتبر الحرب النموذج الأعلى للسلوك غير المنطقي، عاش حربَين عالميتَين وحروبًا أخرى أصغر وكرهها جميعًا وكانت كراهته للحرب حقيقية. في سنة ١٨٩٤م كان قد تزوَّج من «آليس ويتال» شقيقة «لوجان بيرسال سميث»، كانت من طائفة «الصاحبيين» — الكويكر — وقوَّت روحها الدينية السلامية من نزعته المنطقية. وعندما نشبَت الحرب في سنة ١٩١٤م أعلن أنه ضدها كليةً، وبذل كل ما في وسعه على كلا جانبَي الأطلنطي لكي يحقق السلام معرِّضًا حياته وعمله للخطر. ولكن التعليقات التي أدَّت إلى سجنه لم تكن تعليقات أو ملاحظات شخص مهادن أو معتدل أو عاقل. بيانه الفلسفي الرئيسي بعنوان «أخلاقيات الحرب» (١٩١٥م) الذي يدافع عن السلامية ويقول فيه إن من الصعب إيجاد مبرر للحرب، مقالٌ منطقي،18 ولكن سلاميته آنذاك وفيما بعدُ وجدَت التعبير عنها بأساليب شديدة الاندفاع إن لم تكن قتالية، فعلى سبيل المثال عندما اتخذ الملك جورج الخامس عهدًا على نفسه في وقت الحرب بأن يقلع عن الكحول سنة ١٩١٥م، أقلع «رسل» في الحال عن التوقف عن المسكرات الذي كان قد اتخذه بناء على رغبة «آليس» وكتب يقول إن دافع الملك «كان بغرض تسهيل قتل الألمان، وبالتالي بدا كما لو أن هناك صلة بين السلامية والكحول».19
وفي الولايات المتحدة كان يرى أن القوة الأمريكية وسيلة لفرض السلام وناشد الرئيس «ويلسون» واستفزه، وكان يراه آنذاك مخلِّصًا للعالم: «أن يتولى نصرة البشرية ضد المولعين بالحروب»،20 وبروحٍ يسوعية كتب رسالة إلى «ولسن» باسم أوروبا، «يدفعني اقتناعٌ داخلي أن أتكلم نيابة عن كل الأمم باسم أوروبا، فباسم أوروبا ألجأ إليك لكي تحقق لنا السلام.»
ربما كان «رسل» يكره الحرب، ولكنه كان أحيانًا يحب القوة. كان في سلاميته شيءٌ عدواني، وربما ميل للقتال. بعد الإعلان الأولي للحرب كتب: «لعدَّة أسابيع ظل ينتابني شعور بأنني لو حدث والتقيتُ «أسكويث» أو «جراي» لَما استطعتُ أن أمنع نفسي من ارتكاب جريمة قتل.»21 والحقيقة أنه التقى «أسكويث» بعد ذلك. خرج «رسل» من السباحة في «جارسنجتون مانور» عاريًا، فوجد رئيس الوزراء جالسًا على الشاطئ، ولكن غضبه هدأ، وبدلًا من أن يقتله دخلا في حوار عن «أفلاطون» كان «أسكويث» مثقفًا كلاسيكيًّا. يقول «كنجسلي مارتن» رئيس التحرير الذي عملت معه والذي كان يعرف «رسل» جيدًا، إن جميع المشاكسين الكبار الذين التقاهم كانوا مسالمين مثل «رسل». ونفس الشيء يقوله «ت. س. إليوت» تلميذ «رسل»: «كان «رسل» يعتبر أي عذر كافيًا للقتال.» ولكن ليس معنى ذلك أنه كانت لديه ميول للاشتباك باليد أو التلاكم، وإن كان إلى حدٍّ ما يؤيد الحكم المطلق ويؤمن بالحلول الشمولية. وقد عاد أكثر من مرة إلى فكرة عصر يتم فيه فرض السلم على العالم بقرار من سلطة دولية.
وقد طرأَت له هذه الفكرة لأول مرة قرب نهاية الحرب العالمية الأولى عندما قال إن «أمريكا» لا بد أن تستخدم قوتها العظمى للإصرار على نزع السلاح: «مزيج الأجناس ذلك، والغياب النسبي للتراث الوطني يجعلان أمريكا مناسبة بامتياز للوفاء بهذا العمل»،22 ثم عندما حققَت «أمريكا» احتكار الأسلحة النووية في ١٩٤٥-١٩٤٦م عاد إليه الاقتراح بقوة. وحيث إن «رسل» حاول بعد ذلك أن ينكر أو يعتم على آرائه أو يفسرها أثناء تلك الفترة، يصبح من المهم أن نعرضها في ترتيبها الزمني مع بعض التفصيل. وكما يقول كاتب سيرته «رولاند كلارك». فإن «رسل» كان مع حربٍ وقائية ضد «روسيا»، ولم يكن ذلك مرةً واحدة بل عدَّة مرات وعلى مدى سنواتٍ كثيرة،23 وعلى خلاف كل أفراد اليسار فإن النظام السوفيتي لم يستوعب «رسل» أبدًا. وكان قد رفض الماركسية تمامًا، وكتابه «الممارسة والنظرية البلشفية» ١٩٢٠م، والذي وصف فيه زيارته ﻟ «روسيا» كان شديد الانتقاد ﻟ «لينين» وما كان يفعله. كان يعتبر «ستالين» وحشًا، وكان يصدق التقارير المبتورة التي تصل إلى الغرب عن المزارع الجماعية المفروضة والمجاعة الكبرى وحملات الاعتقال والمعسكرات، ولم يشاركهم الرضا الذي قبلوا به امتداد الحكم السوفيتي على معظم أوروبا الشرقية في سنة ١٩٤٤-١٩٤٥م، وكان يعتبر ذلك كارثة بالنسبة للحضارة الغربية. كتب في ١٥ يناير: «أكره الحكومة السوفيتية فوق ما يتصور العقل.» وكان يعتقد أن التوسع السوفيتي سوف يستمر إن لم يوقفه التلويح باستخدام القوة، كما أكد في خطابٍ بتاريخ ١ سبتمبر ١٩٤٥م: «أعتقد أن «ستالين» قد ورث طموح «هتلر» لفرض دكتاتوريته على العالم.»24

ولذلك عندما تم تفجير أول الأسلحة النووية بواسطة الولايات المتحدة على اليابان، أحيا بسرعةٍ فكرة أن أمريكا لا بد أن تقوم بفرض السلام ونزع السلاح العالمي مستخدمة أسلحتها الجديدة حتى تجبر «روسيا» المتمردة على الطاعة. وكانت تلك بالنسبة له فرصة جاءت من السماء وقد لا تعود ثانية. وقد أطلق هذه الاستراتيجية أولًا: في مقالات في صحيفة «فوروارد» — حزب العمل — في «جلاسجو» (١٨ أغسطس ١٩٤٥م) وفي «مانشستر جارديان» في ٢ أكتوبر. ثم كانت هناك مقالةٌ أخرى عن نفس الموضوع في «كافالكاد» في٢٠ أكتوبر بعنوان «الفرصة الأخيرة للإنسانية»، وتضمنَت ملاحظته الدالة: «لن يكون من العسير إيجاد ذريعةٍ تبرر الحرب.»

ظل «رسل» يكرر مثل تلك الأفكار على مدى خمس سنواتٍ أطلقها أولًا: في «بوليمك» في يوليو-أغسطس ١٩٤٦م، وفي حديث في «الرويال إمباير سوسيتي» في ٣ ديسمبر ١٩٤٧م، وطُبِعَت في «يونيتد امباير» في يناير-فبراير ١٩٤٨م وفي «نيو كومن ولث» في يناير ١٩٤٨م، وفي محاضرة في كلية الدفاع الملكية في ٩ ديسمبر ١٩٤٧م ثم كررها في مناسباتٍ مختلفة: في مؤتمر طلابي في مدرسة «وستمنستر» في نوفمبر ١٩٤٨م وطُبعَت في القرن «التاسع عشر وما بعده» في يناير ١٩٤٩م ثم في مقال في «ورلد هورايزون» في مارس ١٩٥٠م، لم يحرِّف «رسل» كلماته في حديثه في «الرويال إمباير سوسيتي» اقترح تحالفًا — فيما بعدُ — يملي شروطًا على «روسيا»: «أنا أميل إلى الاعتقاد أن «روسيا» سوف تُذعن، وإذا لم تُذعن، بشرط أن يكون ذلك بسرعة، فالعالم قد ينجو من الحرب التي سوف تنتج ويخرج بحكومةٍ واحدة كما يريد العالم.» وفي مايو ١٩٤٨م كتب إلى دكتور «والتر مارسيليا» أحد خبراء نزع السلاح في أمريكا: «سيكون الدمار أكثر مما نتصور، وعمليًّا فإنه سيتم إرسال كل المثقفين إلى معسكرات العمل شمال شرق «سيبيريا» أو على شواطئ البحر الأبيض حيث سيموت معظمهم من المشقة، ومَن ينجو يتحول إلى حيوان. وإذا استُخدمَت القنابل الذرية فسوف يكون إلقاؤها في البداية فوق أوروبا الغربية حيث إن «روسيا» ستكون بعيدة. أما الروس وبدون قنابل ذرية فسيكون بمقدورهم تدمير كل المدن الكبرى في «إنجلترا». لا يوجد عندي شك في أن «أمريكا» سوف تنتصر في النهاية، ولكن إذا لم نحفظ أوروبا الغربية من الغزو فسوف تفقد حضارتها لعدَّة قرون. ورغم هذا الثمن الباهظ أعتقد أن الحرب تستحق أن تخاض. لا بد من القضاء على الشيوعية وإقامة حكومةٍ عالمية.» 25
كان «رسل» يؤكد باستمرار على ضرورة السرعة: «عاجلًا أو آجلًا سوف يكون لدى الروس قنابل ذرية، وعندما يمتلكونها سوف يصبح الموقف أكثر صعوبة، لذا يجب أن يتم كل شيء بأقصى سرعةٍ ممكنة.»26 حتى عندما قامت «روسيا» بتفجير قنبلةٍ ذرية كان مستمرًّا في الضغط برأيه ليحث الغرب على تطوير القنبلة الهيدروجينية: «لا أعتقد أنه في الوضع العالمي الحالي يمكن أن يؤدِّي اتفاق لتقييد النشاط الذري العسكري سوى إلى الضرر، حيث سيظن كل من الجانبين أن الآخر يتهرب منه.» بعد ذلك صاغ شعار: «الموت أفضل من أن نكون حُمرًا» في صيغةٍ متشددة: «إن الحرب القادمة لو قُدِّر لها أن تقوم فسوف تكون أكبر كارثة تخل بالجنس البشري إلى هذه اللحظة، ولكني أستطيع أن أفكر بكارثة أعظم: وهي امتداد نفوذ «الكرملين» على العالم بأسره.»27
كان تأييد «رسل» لشن حربٍ وقائية معروفًا على نطاقٍ واسع ويناقش في تلك السنوات، وقد هاجمه بسببه وبشدة، المندوب السوفيتي «آرنوست كولمان» في المؤتمر الدولي للفلسفة الذي عُقد في أمستردام سنة ١٩٤٨م، ورد عليه «رسل» بخشونةٍ مماثلة: «عُد وأخبر سادتك في الكرملين بأن عليهم أن يرسلوا خدمًا أكثر كفاءة لتنفيذ برامجهم في الدعاية والغش.»28 وفي ٢٧ سبتمبر كتب في مجلة «نيويورك تيمز»: «رغم أن حربًا عالميةً جديدة سوف تكون مرعبة، إلا أني من جانبي ما زلت أفضلها على إمبراطوريةٍ شيوعية عالمية.»
وربما في ذلك الوقت تقريبًا، ورغم كل ذلك، كانت آراء «رسل» قد بدأَت في التغير فجأةً وبصورةٍ أساسية، ففي الشهر التالي مباشرة — أكتوبر ١٩٥٣م — أنكر في مجلة «نيشن» أنه كان قد «أيد القيام بحربٍ وقائية ضد روسيا»، وقال إن «الحكاية برمتها اختراعٌ شيوعي».29 وظل لفترةٍ كما يقول أحد أصدقائه، عندما يذكِّره أحد بآرائه بعد الحرب يقول بإصرار: «أبدًا، ذلك من اختراع صحفي شيوعي.»30 وفي لقاء مع تليفزيون هيئة الإذاعة البريطانية أجراه معه «جون فريمان» في برنامجه المشهور «وجهًا لوجه» غيَّر «رسل» موقفه؛ فقد أرسل إليه خبراء نزع السلاح في أمريكا مقتطفات من تصريحاته وأقواله السابقة ولم يستطع أن ينكرها، ولذلك قال ﻟ «فريمان» الذي سأله عن خط الحرب الوقائية: «هذا صحيحٌ تمامًا، ولست نادمًا على ذلك، وهو متسق بالكامل ما أعتقده الآن.»31 وأتبع ذلك برسالة إلى مجلة هيئة الإذاعة البريطانية الأسبوعية «المستمع» يقول فيها: «لقد نسيتُ في الواقع تمامًا أنني كنت قد فكرتُ في سياسة تهديدٍ بالحرب كشيءٍ مقبول، وفي سنة ١٩٥٨م ذكَّرَني السيد «ألفرد كوهلبرج»، والسيد «والتر و. مارسيليا» بأشياء كنت قد قلتُها في سنة ١٩٤٧م وقرأتُها وأنا في غاية الدهشة، وليس لدي أي عذرٍ أقدمه.»32 وفي الجزء الثالث من سيرته الذاتية (١٩٦٨م) قدَّم المزيد من التفسير: «… عندما قدَّمتُ تلك النصيحة كان ذلك عرضًا ودون أي أملٍ حقيقي في اتباعها، ولذلك نسيتُها بسرعة»، ويضيف: «كنت قد ذكرتُها في رسالةٍ خاصة ثم في حديث لم أكن أتوقع أن تقوم الصحافة بتشريحه».33 ولكن التقصي الذي قام به «رولاند كلارك» أثبت أن «رسل» كان قد تحدَّث مرارًا عن الحرب الوقائية في مقالات وأحاديث عديدة وعلى مدى سنواتٍ طويلة، ومن الصعب أن نصدق أن يكون قد نسي تمامًا موقفه المتصلب ذلك.

وعندما أخبر «رسل» «جون فريمان» أن أفكاره عن الأسلحة النووية في أواخر الخمسينيات كانت تتسق مع تأييده بعد الحرب للقيام بحربٍ وقائية، فإنه كان يتمادى في السذاجة بطريقةٍ أخرى، وكان معظم الناس في الواقع يقولون إن كلامه هراء.

إلا أنه كان هناك نوعٌ آخر من الاتساق، هو اتساق التطرف، فكلٌّ من الحرب الوقائية ومسألة الموت أفضل من أن نكون حمرًا، كما عبَّر عنهما «رسل»، كانا مثالَين على جدلٍ معقول، تم دفعه إلى التطرف عن طريق الاستخدام الأرعن غير المسئول وغير الإنساني للمنطق. وهنا كانت نقطة الضعف في «رسل»؛ كان يعلق قيمةً زائفة على ما يمليه المنطق في إرشاده للبشرية كيف تدير شئونها مع السماح لها بتجاوز المعقول. وهكذا فإنه عندما قرر في منتصف الخمسينيات أن الأسلحة النووية كانت شرًّا مستطيرًا، ولا يجب استخدامها تحت أي ظرف، فإنه أيضًا كان يتبع نداء المنطق في اتجاهٍ آخر … مختلف، ولكنه متطرف بنفس الدرجة. أعلن اعتراضه على الأسلحة النووية أولًا في حديثٍ إذاعي سنة ١٩٥٤م، بعد ذلك جاءت مؤتمرات وبيانات دولية مع تصلب موقفه في تحريمها بالكامل مهما كان الثمن. وفي ٢٣ نوفمبر ١٩٥٧م نشر «رسالة مفتوحة إلى أيزنهاور وخروشوف» في جريدة «نيو ستيتسمان» يعرض فيها القضية،34 بعد شهرٍ وأنا أقرأ بريد القراء المنشور بالجريدة أدهشني وجود مقالةٍ طويلة مترجمة مع رسالة بالروسية موقَّعة من «نيكيتا خروشوف»، وكان ذلك رد الزعيم السوفيتي الشخصي على «رسل»، كان ذلك بالطبع مجرَّد دعاية لأن الروس مع كل تفوقهم في الأسلحة التقليدية كانوا على استعداد لقبول اتفاق على فك الأسلحة النووية (رغم أنه قد لا يخضع لإشراف). ولكن الخطاب أثار ضجةً كبرى عند نشره. بعد ذلك جاء ردٌّ أكثر ترددًا من الجانب الأمريكي، ولم يكن في الواقع من الرئيس وإنما من وزير خارجيته «جون فوستر دالاس».35 كان «رسل» في غاية الفرح لتلك الاستجابة ذات المستوى المتميز، فقد دغدغ الرد الأمريكي غروره — وتلك نقطة ضعفٍ أخرى — وقلب تقديره للأمور، الذي لم يكن أبدًا أقوى ما فيه. رسالة «خروشوف» التي كانت تتعاطف مع موقفه دفعَته للتطرف ضد الرسالة الأمريكية، ليس هذا فقط بل إنها حفزَته لكي تصبح قضية منع الأسلحة النووية مركز حياته، وبدأَت تظهر عليه ميول «تولستوية»!

وفي العام التالي ١٩٥٨م عُين «رسل» رئيسًا للحملة الجديدة لنزع السلاح النووي، وكانت عبارة عن هيئةٍ متواضعة مكونة من «جون كولينز»، والروائي «ج. ب. بريستلي»، وآخرين لحشْد الرأي العام في بريطانيا ضد تصنيع الأسلحة النووية، وقامت بتنظيم مظاهراتٍ سلمية ملتزمةٍ تمامًا بالقانون، وكانت مؤثرة وذات فاعلية في مراحلها الأولى، ولكن علامات التطرف ظهرَت بسرعة من جانب «رسل». سجَّل «روبرت كراوشاي وليمز» — أفضل مَن كتب عن «رسل» في تلك السنوات — في يومياته (٢٤ يوليو ١٩٥٨م) أن رسل انفجر غاضبًا وبشدة ضد «جون ستراشي» الذي كان شيوعيًّا سابقًا، ثم بعد ذلك أصبح عضوًا في البرلمان عن الجناح اليميني في حزب العمال، ثم وزيرًا للحربية في حكومة «أتلي» بعد الحرب، ولكنه في ١٩٥٨م كان بعيدًا عن السلطة ولم تكن لديه أي مسئوليات رغم أنه من المعروف عنه إيمانه بضرورة الردع النووي. وعندما سمع «رسل» أن «كراوشاي وليمز» وزوجته كانا يقيمان مع «ستراشي» سأل عن رأي الأخير في القنبلة الهيدروجينية، وعندما وقف على آرائه تصور أنها لا بد أن تكون نفس آراء «كراوشاي» وزوجته. قال وهو يدق بقبضته على مسند المقعد: «أنت وجون ستراشي تنتميان إلى نادي القتلة الذي يضم أناسًا لا يكترثون بما يحدث للعامة؛ إذ إنهم حكام يشعرون أنهم سوف يبقون ويحافظون على مزاياهم ويحرصون على سلامتهم ببناء ملاجئ خاصة مضادة للقنابل.»

وعندما سألوه إذا ما كان يعتقد بالفعل أن لدى ستراشي ملجأً مضادًّا للقنابل هاج وماج وانفجر غاضبًا: «عنده بالطبع …»، بعد ذلك بأسبوعَين دار بينهما حوار عن القنبلة الهيدروجينية، بدأ هادئًا، وفجأةً صرخ: «برتي! عندما ترى صديقك «جون ستراشي» قل له إنني لا أستطيع أن أفهم لماذا يريد أن يمتلك «عبد الناصر» القنبلة الهيدروجينية؟ كان مقتنعًا بأن أمثال «جون» يعرِّضون العالم للخطر وكان يشعر أن لديه ما يبرر ذلك.»36
الغضب المتصاعد، وغيبة الاهتمام بالحقائق الموضوعية، ونسبة الدوافع الشريرة لكل مَن يعتنق رأيًا مخالفًا، وعلامات انفصام الشخصية … كل ذلك عبَّر عن نفسه بشكلٍ علني في ١٩٦٠م عندما انشق «رسل» عن اﻟ (CND) — حملة نزع السلاح النووي — وتكوينه لجماعته الخاصة المنشقة باسم «لجنة المائة» الداعية للعصيان المدني، وكان من بين أوائل الموقِّعين الأساسيين لهذه الجماعة مثقفون بارزون وفنانون وكتاب مثل «كومبتون ماكينزي»، «جون برين»، «جون أوسبورن»، «آرنولد وسكر»، «ريج بتلر»، «أوجسطس جون»، «هربرت ريد»، «درويس ليسنج» وغيرهم ومعظمهم من المتطرفين. ولكن الجماعة سرعان ما خرجَت عن السيطرة، ويدلنا التاريخ على أن جميع الحركات السلامية تصل إلى نقطة يصاب عندها العنصر الأكثر نشاطًا بالإحباط بسبب عدم التقدم، ويلجأ إلى العصيان المدني وأعمال العنف، وهذا يحدث عند المرحلة التي تتوقف فيها عن الاحتفاظ بجماهيريتها. وكانت لجنة المائة، والاضمحلال الذي حدث لحملة نزع السلاح مثالًا على ذلك، إلا أن سلوك «رسل» على أية حالٍ عجَّل بما كان يمكن أن يحدث. وفي ذلك الوقت كان يعزى ذلك لتأثير سكرتيره الجديد «رالف شوينهام» عليه، وسوف نتحرى علاقته ﺑ «شوينهام» بعد قليل ولكن من الجدير بالملاحظة أن أفعال وأقوال «رسل» خلال أزمة اﻟ (CND) كانت واحدة. الاجتماعات التي أدَّت إلى استقالته من رئاسة الحملة كانت مؤسفة، حيث كان يتهم «كولينز» بوجود دوافع شخصية لديه، كما اتهمه بالكذب، وأصر على تسجيل الجلسات الخاصة على أشرطة.37

وبمجرَّد أن تخلص «رسل» من يد «كولينز» وأصدقائه، استولى التطرف على ذهنه تمامًا وأصبحَت تصريحاته عبثية، وبدأ ينفر من الجميع باستثناء المتعصبين الذين يستمعون إلى أفكاره ويذعنون لها، وكان ذلك يتناقض مع القواعد الأساسية للإقناع التي كان يعرفها عندما يكون هادئًا.

في مقالٍ عن «فولتير» كتبه سنة ١٩٥٨م يقول: «لا يجب اعتناق أي رأي بحماس، لا أحد يعتنق أن سبعة ضرب ثمانية تساوي ستًّا وخمسين لأن من المعروف أن ذلك كذلك، الحماس ضروري فقط عند تزكية رأي مشكوك فيه أو هناك دليل على زيفه.»38
الكثير من أقوال «رسل» منذ عام ١٩٦٠م كان متهورًا وليس حماسيًّا فقط، وكان يدلي بها توًّا بعد أن يكون قد أرهق نفسه في حالة نقمة مع الذين لا يشاركونه نفس الأفكار، ولذلك فإنه من أجل حديث في «برمنجهام» في سنة ١٩٦١م يقوم بتحضير مذكرات تُقرأ كما يلي: «على أساس إحصائي محض؛ فإن «ماكميلان» و«كيندي» شريران أكثر من «هتلر» خمسين مرة» وقد كان ذلك أمرًا في غاية السوء لأنه — وبصرف النظر عن أي شيءٍ آخر — كان يقارن حقيقةً تاريخية باحتمالٍ مستقبلي، ولكن التسجيل يبين لنا أن ما قاله «رسل» في حديثه كان هو: «اعتدْنا أن نعتبر «هتلر» شريرًا عندما كان يريد أن يقتل جميع اليهود، ولكن «كيندي» و«ماكميلان» لا يريدان قتل اليهود فحسب، وإنما قتلنا جميعًا، ولذلك فهُما أكثر شرًّا من «هتلر».» وأضاف: «لن أتظاهر بطاعة حكومةٍ تنظم مذبحة للجنس البشري كله … إنهم أسوأ أناس عاشوا في تاريخ الإنسانية.»39
تسليمًا بمقدمات «رسل» كان هناك منطق في اتهاماته، ولكن المنطق كان يُطبَّق بطريقةٍ انتقائية. كان أحيانًا يعتقد أن جميع مَن يملكون الأسلحة النووية سواءٌ في تخطيطهم للإبادة الجماعية … بما في ذلك الروس، وهكذا راح يؤكد في خطابٍ وجهه عام ١٩٦١م من «سجن بركستون» أن «كيندي» و«أديناور» و«خروشوف» و«ديجول» و«ماكميلان» و«جيتسكل» يعملون جميعًا من أجل هدفٍ مشترك: نهاية الحياة الإنسانية، ولكي تسعد أولئك الناس لا بد أن تمحى إلى الأبد كل العواطف الخاصة والآمال المشتركة.40 وكقاعدة، كان «رسل» يركز نيرانه على الغرب خاصة على بريطانيا، وقبل الجميع على الولايات المتحدة. وكان ذلك يعني نسيان كيف كان يكره الاتحاد السوفيتي وروسيا والروس أنفسهم، بعد الحرب كان يردد دائمًا أن الروس سيئون مثل النازيين، بل ربما أسوأ منهم، وقد سجَّل لنا «كراوشاي» بعض انفجاراته: «كل الروس برابرةٌ شرقيون»، «كل الروس استعماريون»، ومرة «تمادى حتى في القول إن جميع الروس يمكن أن يزحفوا على بطونهم لخيانة أصدقائهم»،41 ولكن في أواخر الخمسينيات وما بعدها غادرَت المشاعر المعادية للروس عقلَه وحلَّت محلها المشاعر المعادية للأمريكان. كانت كامنة فيه وسبق لها أن ظهرَت على السطح قبل ذلك، وساعد على اندفاعها كبرياءٌ بريطاني قديم ووطنية الطبقة العليا واحتقارٌ لمحدَثي النعمة، إلى جانب كراهيةٍ ليبرالية لأكبر دولةٍ رأسمالية في العالم. كان والداه الراديكاليان ينتميان إلى جيلٍ يربط أمريكا بالتطور الديمقراطي، وسبق أن قاما بزيارةٍ طويلة لها في سنة ١٨٦٧م؛ لأنه كما سجل «كان الشُّبان الذين يتمنون إصلاح العالم يذهبون إلى أمريكا لمعرفة كيف يفعلون ذلك هناك»، ويضيف: «لم يستطيعوا التنبُّؤ بأن الرجال والنساء الذين فتنهم جوهم الديمقراطي وأعجبوا بمعارضتهم للعبودية كانوا هم أجداد وجدات أولئك الذين قتلوا «ساكو» و«فانزيتي».»42 هو نفسه قام بزيارة أمريكا عدَّة مرات وعاش هناك سنوات لكسب المال: «أنا مفلس لدرجةٍ مرعبة، وأتطلع إلى أمريكا لأعيد توازن أوضاعي المالية» كتب ذلك في سنة ١٩١٣م وكرر كلامًا مثله فيما بعد.
كان «رسل» دائم النقد للأمريكان، لاحظ في أول زيارة له في ١٨٩٦م أنهم «كُسالى في كل شيء عدا البزنس».43 ولكن آراءه عن تأثير أمريكا على العالم كانت شديدة التذبذب، وكما رأينا أثناء الحرب العالمية الأولى كان يعتبر أمريكا «ويلسون» منقذة العالم، وعندما خاب أمله هناك تحول إلى وجهة نظرٍ مضادة في عشرينيات القرن. كان يقول: «إن الاشتراكية التي كان يفضلها آنذاك لن تتحقق في أوروبا حتى تتحول أمريكا إلى الاشتراكية أو على الأقل تكون على استعدادٍ لأنْ تبقى محايدة.»44 اتهم أمريكا بأنها تقوم «بتدمير حضارة الصين ببطء» وتنبأ بانهيار الديمقراطية الأمريكية إن لم تتبع الجماعية، ونادى «بتمرُّدٍ عالمي» ضد الاستعمار الرأسمالي الأمريكي وأكَّد أنه «إذا لم يتم هز إيمان أمريكا بالرأسمالية فسيكون هناك انهيارٌ شامل للحضارة».45

بعد عشرين عامًا، أثناء وبعد الحرب العالمية الثانية كان يؤيد السياسة العسكرية الأمريكية، ولكن ذلك كان يصحبه كراهيةٌ متزايدة لأساليب السياسة الأمريكية عمومًا.

وبعد عودته من زيارة لأمريكا كتب إلى «كراوشاي وليمز» في نهاية سنة ١٩٥٠م يقول: «كانت أمريكا بغيضة، والجمهوريون أشرار بقدر ما هم أغبياء، وأخبرتُ الجميع بأنني كنت أجد متعة في أن أدرس جو دولة بوليسية. وأعتقد أن الحرب العالمية الثالثة سوف تبدأ في مايو القادم.»46 راهن «مالكولم ماجردج» أن «جوزيف مكارثي» سوف يُنتخب رئيسًا (ولو أنه كان عليه أن يدفع الرهان عندما مات السيناتور)، وعندما بدأ «رسل» حملته ضد القنبلة الهيدروجينية كان عداؤه للأمريكيين قد أصبح شديدًا وظل كذلك حتى وفاته. كان يؤمن بنظرية المؤامرة بالنسبة لاغتيال «كيندي» ثم بعد أن سئم قضية القنبلة — كانت فترة اهتمامه بالقضايا قصيرة مثل «تولستوي» — انتقل إلى قضية «فيتنام» ونظَّم حملةً عالمية واسعة لفضح سلوك أمريكا هناك. ومشحونًا من سكرتيرة «شوينهام» سقط «رسل» صيدًا سهلًا للبدع المتهورة. قبل نصف قرن كان يدين استخدام الحلفاء وحكاياتهم عن السلوك الألماني العدائي في بلجيكا، لكي يحرك حمَّى الحرب. وفي كتابه «العدالة الاجتماعية في وقت السلم» (١٩١٦م) حاول أن يكشف زيف الكثير من تلك الأفكار. وقد استغل مكانته في الستينيات لنشر وإعطاء مصداقية لروايات من «فيتنام» كانت أقل معقولية، وكان ذلك كله بغرض إذكاء روح الكراهية ضد أمريكا. وقد انتهت هذه السياسة بمحكمة جرائم الحرب (١٩٦٦-١٩٦٧م) التي نظمها والتي اجتمعَت في النهاية في «ستوكهولم» لتنطق بالحكم ضد أمريكا. ومن أجل هذه الدعاية استطاع أن يجند مثقفين ممن لديهم الاستعداد لذلك مثل «إسحاق دويتشر» و«جان بول سارتر» و«سيمون دو بوفوار» والمؤلف اليوغوسلافي «فلاديمير ديديجيه» (الذي رأسها)، وأحد رؤساء المكسيك السابقين، وأكبر شاعر في «الفلبين»، ولكن لم يكن هناك حتى أي ادِّعاء للعدل أو النزاهة حيث إن «رسل» نفسه قال «إنه يعقدها لمحاكمة مجرمي الحرب «جونسون» و«راسك» و«مكنمارا» و«لودج» وأعوانهم من المجرمين.»47 وكفيلسوف كان «رسل» يصر دائمًا على استخدام الكلمات بحذر وبمعناها المحدد، وكناصح للإنسانية كان يعترف في سيرته الذاتية «بوصف الأشياء غير المقبولة باستهجان لكي يشاركه الآخرون ثورته»، وهذا اعترافٌ غريب من رجلٍ مكرس بحكم المهنة لتحليل المشكلات بطريقةٍ مجرَّدة ويرفع راية العقل، هذا إلى جانب أن محاولاته للاستفزاز وإغاظة الآخرين كانت تفلح مع أولئك الذين لم يكن لغضبهم قيمة، أو كان موجودًا بالفعل. وعندما قال «رسل» (في سنة ١٩٥١م) أن «لا أحد في أمريكا يستطيع أن يقوم بأي عملٍ سياسي قبل أن ينظر خلف الباب لكي يتأكد أن لا أحد يسمعه»، لم يكن عاقل يصدقه،48 وعندما أعلن أثناء أزمة الصواريخ الكوبية (١٩٦٢م): «يبدو من المحتمل أنكم جميعًا ستموتون خلال أسبوع لكي يسعد الأمريكان المجانين»، كان يدمر نفسه بذلك وليس «جون كيندي»،49 وعندما قال إن جنود أمريكا في «فيتنام» كانوا «على نفس الدرجة من السوء مثل النازيين» بدأ جمهوره ينفضُّ من حوله تدريجيًّا.50
وفي الحقيقة لا بد من القول إن «رسل» وعلى مدى حياته كان أكثر تأثيرًا في الجدل المستمر أكثر منه صاحب أقوالٍ مأثورة، ومجموعة أقواله ليست أفضل من أقوال «تولستوي»: «الجنتلمان هو الرجل الذي يزيد دخلُ جده عن ألف جنيه في العام»، «لن تكون هناك حكومة ديمقراطية في أفريقيا»، «يجب إرسال الأطفال إلى مدارس داخلية لإبعادهم عن حب الأم»، الأمهات الأمريكيات «ذنبهن قصورهن الغريزي، يبدو أن ينابيع الحب قد نضبَت فيهن»، «نادرًا ما يمكن تعلم النظرة العلمية للحياة من المرأة».51
والملاحظة الأخيرة تذكِّرنا بأن «رسل» رغم ارتباطه الذهني في العقود الأخيرة من حياته بالآراء السياسية تمامًا، إلا أنه اشتهر أيضًا بآرائه في موضوعاتٍ جدلية مثل الزواج العرفي، الحب الحر، إصلاح نظام الطلاق، التعليم المشترك. وكان على أية حالٍ يؤيد مبدأ حقوق المرأة الذي كان ينادي به المدافعون عنه. كان يطالب بمساواة المرأة داخل الزواج وخارجه وكان يعتبر النساء ضحايا نظامٍ أخلاقي قديم ليس له أساس من القيم. لا بد من الاستمتاع بالحرية الجنسية، وانتقد بشدةٍ مبادئ المحرمات والتضحية الإنسانية التي تنتقل تقليديًّا وتُعتبَر «فضيلة».52

كانت هناك أصداءٌ كثيرة في آرائه من «شلي» بالنسبة للمرأة والحياة الاجتماعية والأطفال والعلاقات الإنسانية، وكان لديه في الحقيقة إخلاص ﻟ «شلي» الذي كان يعتبر شعره خير معبر عن توجهاته في الحياة. استقر «رسل» في تلك المنطقة من «ويلز» حيث كان «شلي» قد حاول أن يُنشئ مجتمعًا في ١٨١٢-١٨١٣م، وكان منزله في «بلاس مانرهاين» من تصميم نفس المعماري الذي بنى منزل «مادوكس» صديق «شلي» فوق مصب نهر «بورتمادوك»، إلا أنه مثل «شلي» لم يكن سلوكه العملي نحو النساء يتطابق دائمًا مع مبادئه النظرية. زوجته الأولى «آليس» الأمريكية، وكانت من طائفة «الكويكرز»، إنسانة لطيفة ومثقفة ورقيقة، راحت ضحية فسق زوجها المتواصل، تمامًا مثل «هاريت» زوجة «شلي». كان «رسل» كما رأينا قد نشأ نشأةً متشددة، وظل هكذا بخصوص الأمور الجنسية حتى عشرينياته. وعندما ترك شقيقه «فرانك» — الإيرل الثاني — زوجته في سنة ١٩٠٠م وحصل على الطلاق وتزوج أخرى رفض «رسل» أن يعترف بالزوجة الثانية وكان يطلب من «فرانك» ألا يحضرها معه على العشاء. (وقد هوجم «فرانك» فيما بعدُ أمام مجلس العموم بسبب زواجه من امرأتَين في وقتٍ واحد)، ولكن عندما تقدَّم العمر ﺑ «رسل» أصبح مثل «فيكتور هوجو» من قبله، أكثر انغماسًا في الشهوات وأقل نزوعًا لاتباع قواعد المجتمع … إلا عندما كان يراها مناسبةً له. وقد أسقط «آليس» فعلًا من حياته — بعد ١٦ سنة — في ١٩ مارس ١٩١١م عندما زار «ليدي أوتولين موريل» مضيفة «بلومسبري» المليئة بالحيوية، في منزلها (في ٤٤ بدفورد سكوير). وجد زوجها «فيليب» — مصادفة — في الخارج … ونام معها! يقول «رسل» في مذاكرته: إنه لم يُقِم «علاقةً كاملة» مع «ليدي أوتولين» في تلك الليلة ولكنه عزم على ترك «آليس»، وعلى أن يجعل «ليدي أوتولين» تترك «فيليب». وما قد تشعر به أو تفكر فيه «موريل» «لم يكن أمرًا ذا أهمية بالنسبة لي»، كما تأكد له أن الزوج «قد يقتلنا نحن الاثنين»، ولكنه كان «على استعداد أن يدفع ذلك الثمن لقاء ليلة».

ونقل «رسل» الأخبار في الحال ﻟ «آليس» التي استشاطت غضبًا وقالت إنها مصممة على الطلاق وإنها ستذكر اسم «أوتولين»، وبعد نقاشٍ قال «رسل» (بحزم) إنها إذا نفذَت ما هددَت به «سوف أُقدِم على الانتحار لكي ألتف على فكرتها». بعد ذلك كان «غضبها فوق الاحتمال، وبعد ثورةٍ عاصفة استمرَّت عدَّة ساعات كنت أجلس لأعطي درسًا في فلسفة «لوك» لابنة أختها».53 وهذه الرواية التي تتفق مع أغراضه ليست متسقة مع سلوك «آليس» الفعلي. كانت طوال الوقت تعامله بتحفُّظٍ شديد، واعتدال وحب … فوافقَت على أن تذهب لتعيش مع أخيها لكي يستطيع هو مواصلة علاقته مع «ليدي أوتولين»، وأجَّلَت الطلاق إلى مايو ١٩٤٠م واستمرَّت على حبها له. وعندما جرَّدَته «ترينيتي كوليدج» من درجة «الزمالة» كتبَت: «كنت قد وفرتُ مبلغ مائة جينه لاستثمارها في بعض السندات، ولكني سوف أعطيها لك؛ حيث أخشى أن يكون هذا الاضطهاد قد أثَّر على دخلك.»54
وعندما دخل السجن قالت: «أفكر فيك بحزنٍ شديد كل يوم وأحلم بك كل ليلة.»55 ولكن «رسل» لم يرها بعد ذلك حتى سنة ١٩٥٠م، كان انفصاله عن «آليس» ينطوي على كثير من الكذب والخداع والنفاق. مرة، حلق شاربه ليخفي شخصيته أثناء لقاءاته السرية مع «ليدي أوتولين».
أصدقاؤه أصابتهم صدمة عندما اكتشفوا ما كان يدور؛ لأنه كان دائمًا يتحدث معهم بصراحة وانفتاح. وهذه السلسلة من الأحداث صنعَت مرحلة من الارتباك الجنسي في حياته. لم تكن علاقته مع «ليدي أوتولين» مُرضِية، وحسب روايته: «كنت أعاني من التهاب اللثة رغم أنني لم أكن أعرف ذلك، ولذلك كانت رائحة نفَسي كريهة … وذلك أيضًا لم أكن أعرفه، ولكنها لم تذكر ذلك.»56 … وهكذا بردَت العلاقة بينهما. وفي سنة ١٩١٣م التقى بزوجة «محلل نفسي» في الألب و«كنت أرغب في ممارسة الجنس معها ولكني فكرتُ أنني لا بد أن أشرح لها موقفي من «أوتولين»». لم تكن المرأة مهتمة بذلك وقررت أنها «يمكن أن تتجاهل ذلك ولو ليومٍ واحد». ولم يرها «رسل» بعد ذلك. ثم في سنة ١٩١٤م كانت أحداث مخزية أخرى مع فتاةٍ صغيرة من «شيكاغو» … كانت «هيلين دادلي» إحدى أربع شقيقات بنات طبيب نساء شهير، وكان «رسل» يقيم معه أثناء إلقاء محاضراته. وطبقًا لرواية «رسل»: «قضيتُ ليلتَين تحت سقف والدِهِن، الثانية قضيتُها معها وكانت شقيقاتها الثلاث يقُمن بالمراقبة لتحذيرنا في حال اقتراب أحد الوالدَين.» وقد رتب «رسل» بحيث تحضر إلى إنجلترا في ذلك الصيف وتعيش معه علنًا في انتظار حصوله على الطلاق. كتب إلى «ليدي أوتولين» يخبرها بما حدث، ولكنها كانت قد عرفَت أنه عولج من رائحة نفَسه الكريهة فأخبرَته برغبتها في استئناف العلاقة معه … على أية حال كانت الحرب قد أعلنَت في الوقت الذي وصلَت فيه «هيلين دادلي» إلى لندن في أغسطس ١٩١٤م، وقرر «رسل» «أن يعارضها»: «ولم أكن أرغب في زيادة تعقيد موقفي بفضيحةٍ خاصة تجعل أي شيء أقوله عديم القيمة»، ولذلك أخبر «هيلين» أن خطتهم أصبحَت غير قائمة. وبالرغم من «أنني كنت على علاقة بها من وقت لآخر» فإن الحرب «قتلَت عاطفتي نحوها وكسرت قلبها»، ثم يقول: «إنها سقطَت ضحية مرضٍ مجهول أصابها بالشلل في البداية ثم أودى بها إلى الجنون»، ولا شك في أن ذلك كان أكثر من طاقتها على الاحتمال.
في نفس الوقت فإن «رسل» زاد موقفه تعقيدًا بعشيقةٍ أخرى هي «ليدي كونستانس ماليسون»، سيدة مجتمع كانت تعمل تحت اسم «كوليت أونيل»، وكان قد التقى بها في سنة ١٩١٦م، وفي أول مرة اعترفا فيها بحبهما «لم يذهبا إلى الفراش»، حيث كان ذلك «كثيرًا عليَّ أن أقوله». كان كلاهما من دعاة السلامية، وأثناء أول اتصالٍ جنسي بينهما «فجأةً سمعنا صيحة فرحٍ عالية في الشارع، قفزتُ من السرير لأجد «منطاد زبلن» يسقط على الأرض محترقًا … كان حب «كوليت» في ذلك الوقت هو ملاذي، لا من القسوة ذاتها والتي كانت غير مقبولة، وإنما من الألم المبرح لإدراكي أن يكون الناس هكذا».57 سرعان ما تغلَّب «رسل» على ألمه الشديد، وخلال سنواتٍ قليلة كان قد أصبح شديد القسوة على «ليدي كونستانس». ارتضت أن تشارك «ليدي أوتولين» فيه. وكانت السيدتان تزورانه بالتناوب كل أسبوع أثناء سجنه المؤقت. وحسب فهم «ليدي كونستانس» فإن «أوتولين» فضلت أن تبقى مع زوجها آنذاك لكي تحصل على «رسل» عندما يتحقق له الطلاق. وعلى هذا الأساس قدمت «الدليل» الذي مكَّنه من الحصول على حكمٍ نافذ المفعول في وقتٍ معين (مايو ١٩٢٠م)، ومع ذلك كان «رسل» في ذلك الوقت قد وقع في علاقةٍ جديدة مع سيدةٍ جديدة أصغر سنًّا … داعية نسائية اسمها «دورا بلاك» … وحملَت منه! لم تكن ترغب في الزواج، فهي ضد تلك المؤسسة، ولكن «رسل» الذي لم يكن يريد أن يعقِّد موقفه أكثر من ذلك أصر على الزواج، واحتفلا قبل مولد الطفل بستة أسابيع … وهكذا تم التخلي عن «ليدي كونستانس» وأجبرت «دورا» على قبول «عار وشنار الزواج»،58 على حد تعبيرها.
«رسل» الآن في الخمسين. مأخوذ بسحر «دورا» الفاتن، يبهجه أن «تخرج لتستحم في ضوء القمر أو تجري عارية القدمين على العشب الرطب»، هي نفسها كانت تجلس مأسورة وهي تحكي كيف اقتحم أحد العسكريين منزله وهو يقول: «مجنون السلام اللعين يعيش هنا».59
من الناحية الجسدية لم يكن «رسل» يروق للجميع، في ذلك الوقت كان قد أصبح له ضحكةٌ متشققة مدوية، كان — تلميذه في كامبريدج — «ت. س. إليوت» يصفها بأنها: مثل «صوت نقار الخشب»، كما يقول «جورج سنتيانا» إنها مثل صوت الضبع. وكان «رسل» يرتدي بذلةً قديمة غامقة اللون، مكونة من ثلاث قطع نادرًا ما يغيرها (ونادرًا ما كان لديه أكثر من بذلةٍ واحدة في نفس الوقت)، ووقاء للجزء الأعلى من الحذاء، وياقات عالية مثل معاصره «كوولدج». عند زواجه الثاني سجلَت «بياتريس ويب» في مفكرتها أنه كان «عفن الرائحة، غير صحي، يشك في حسن الدوافع البشرية، عجوزًا قبل الأوان»، ولكن «دورا» كانت تحب «شَعره الكث المائل إلى البياض عندما يتماوج مع الهواء، أنفه الحاد، ذقنه الدقيقة، شفته العليا الممدودة». كانت تقول: «قدماه الصغيرتان العريضتان تتجهان نحو الخارج»، وأنه بالضبط كان يشبه «صانع قبعاتٍ مجنون»،60 وكانت تريد … وتلك رغبةٌ قاتلة … «أن تحميه من سذاجة الخاصة» أنجبا طفلَين، «جون» و«كاتي»، وفي سنة ١٩٢٧م أنشأ مدرسةً تقدمية «بيكون هل» بالقرب من «بيترسفليد»، وأخبر «نيويورك تيمز» أنه يحبذ أن تكون هناك «جماعات تعاونية من عشر أسر» يجمعون أطفالهم معًا «ويتناوبون رعايتهم»، على أن يكون هناك كل يوم «ساعتان للدروس» مع مراعاة «التوازن المناسب»، ويترك بقية الوقت ليقضوه «كما يحلو لهم».61 وكانت «بيكون هل» محاولة لتجسيد هذه النظرية. ولكن اتضح أن المدرسة كانت باهظة التكاليف مما اضطره لكتابة أشياء كثيرة لمجرَّد الحصول على المال لتسديد نفقات المدرسة. علاوة على أنه مثل «تولستوي» سئم هذا الروتين وترك «دورا» وحدها، والتي كانت بفضل آرائها التقدمية وإحساسها الأكبر بالمسئولية تدير المدرسة … كانا يتشاجران أيضًا بسبب الجنس، كانت «بياتريس ويب» قد توقعَت أن زواج «رسل» من فتاةٍ ذات شخصية خفيفة طائشة، وفلسفةٍ مادية لا يحبها ولا يستطيع أن يحترمها؛ لا بد أن يفشل. ومرةً أخرى مثل «تولستوي» كان «رسل» قد صمم على سياسة «مصارحة» وافقَت عليها كلٌّ منَّا «برتي» وأنا: «تَرْك الآخر حرًّا بخصوص مغامراته الجنسية»، لم يعترض عندما أصبحَت سكرتيرة للفرع الإنجليزي من الرابطة العالمية للإصلاح الجنسي، ولا عندما حضرَت المؤتمر الدولي للجنس في «برلين» (أكتوبر ١٩٢٦م) مع رائد عمليات تحويل الجنس دكتور «ماجنس هيرشفيلد»، وطبيب النساء «نورمان هير»، ولكنه لم يشعر بالارتياح عندما أقامت علاقةً صريحة مع صحفي — «جريفن باري» — وأنجبَت منه طفلَين، رغم أنه كان يقول بأن نساء طبقة «الهويج» في القرن الثامن عشر كان لهن في العادة أطفال من آباء مختلفين، وبعد عدَّة سنواتٍ كان يعترف في سيرته الذاتية: «حاولتُ في زواجي الثاني أن أحافظ على احترامي لحرية زوجتي، والذي كنت أعتقد أن عقيدتي تفرضه، إلا أنني وجدتُ أن طاقتي على الغفران، وما يمكن أن يُسمَّى بالحب المسيحي لم يكونا متساويين مع ما أتطلبه» ويضيف: «كان من الممكن أن يقول لي ذلك أي شخصٍ مقدمًا، ولكن الحقيقة أن النظرية أعمتني».62
والذي لم يذكره «رسل» أنه كانت له أنشطةٌ غامضة على نحوٍ خاص، الأمر الذي كان يتناقض مع سياسته في المصارحة، وهي حقيقةٌ بارزة أن جميع الحالات التي يحاول فيها المثقفون إفشاء كل ما يتعلق بالجنس كانت تنتهي إلى درجةٍ من السرية المذنبة غير المعتادة حتى في أسوأ العائلات. وقد روت «دورا» فيما بعد كيف استدعيَت إلى المنزل الذي كانوا يقضون فيه عطلاتهم في «كورنوول» بواسطة طباخ، رفض أن تترك طفليهما الشرعيين بالقرب من المربية لأنها كانت «نائمة مع السيد»،63 بعد ذلك تم فصل الطباخ المسكين من الخدمة.64 كذلك وجدَت «دورا» بعد عدَّة سنواتٍ أن «رسل» كان يجيء بحبه القديم «ليدي كونستانس» لتقضي أوقاتًا غرامية في غيابها. وعندما عادت بعد ذلك إلى المنزل مع وليدها الجديد، وجدَت أمامها مفاجأةً سيئة: «صدمني «برتي» بقوله إنه قد اتجه بعواطفه الآن نحو «بيتر سبنس»». كانت «مارجري» — بيتر — طالبة من «أكسفورد» جاءت لرعاية «جون» و«كاتي» أثناء الإجازات. وكانت أسرة «رسل» تقضي عطلةً رباعية في جنوب غرب «فرنسا»، كل طرف مع حبيبه أو حبيبته (١٩٣٢م)، ولكن قبل ذلك بعام كان «رسل» قد أصبح «إيرل» بعد موت شقيقه الذي لم يكن له أبناء، وكان هناك فرق.
أصبح الآن أكثر ميلًا نحو سلوك وتصرفات اللوردات، كان يتوق لعلاقةٍ منتظمة ولذلك أخذها لتعيش معه في منزل الأسرة. تقول «دورا» المصدومة: «لم أكن أعتقد البداية أن «برتي» يمكن أن يفعل ذلك»، وتضيف أنه كان من المحتم أن «يؤذي رجل من هذا النوع كثيرين في طريقه»، ولكن «سقطته التراجيدية» كانت في أنه «لم يشعر بندم كبير»، ورغم أنه كان يحب الجماهير وكان يعاني معهم، إلا أنه ظل بعيدًا عنهم لأن الأرستقراطي الذي بداخله كان ينقصه الحس الشعبي.65

كما اكتشفَت «دورا» أيضًا — الطريق الصعب — أن «رسل» عندما كان يتخلى عن زوجة ويتخذ أخرى لم يكن ساذجًا أو بسيطًا. كان مثل غيره من أبناء الطبقة والثروة يستأجر فريقًا من المحامين النافذين، ويعطيهم تفويضًا مطلقًا ليحصلوا له على ما يريد. كان الطلاق عملية في غاية التعقيد وقد يستغرق ثلاث سنواتٍ، فالزوجان كانا قد وقَّعا في مرحلةٍ سابقة على «صكٍّ انفصالي» يسمح للجانبَين بممارسة الجنس الحر، واتفقا على ألا يثير أحدهما أي مخالفاتٍ زوجية تكون قد حدثَت قبل ٣١ ديسمبر ١٩٣٢م في أي دعوى قضائية. وذلك بدوره جعل الدعاوى أكثر تعقيدًا وارتباكًا، كما جعل محامي «رسل» أكثر عدوانية.

كلا الوالدين يريد أن تكون له حضانة الطفلَين الشرعيين، وفي النهاية قاتل «رسل» بنجاح لكي يجعلهما تحت وصاية المحكمة العليا مثل ذرية «شلي» البائسة، ولكي يحصل على هذه النتيجة — الحُكم — استطاع محاموه تدبير شهادة سائقٍ كانت «دورا» قد طردَته من العمل بالمدرسة — وكان يعمل عند «رسل» — تفيد أنها كانت دائمًا في حالة سكر، تحطِّم زجاجات الويسكي في غرفتها، وأنها كانت تمارس فيها الجنس مع الأدباء والزائرين.66 ولكن «رسل» لم يخرج من القضية دون خسائر؛ إذ قال قاضي الطلاق الذي أصدر الحكم أخيرًا في سنة ١٩٣٥م أن الزنا بالنسبة للزوجة «كان على الأقل يسبقه حالات خيانة من زوجها، الذي كان مدانًا في حالات منها، وفي ظروفٍ أدَّت إلى تفاقم المخالفة … خيانة المدعى عليه مع أشخاص في المنزل أو التورط في أعمالٍ مشتركة».67
وقراءة التقارير الطويلة عن هذا الموضوع لا بد أن تجعل المرء يشعر بالشفقة على «دورا» التي ظلَّت مخلصة لمبادئها من البداية إلى النهاية، بعكس «رسل» الذي تخلى عن مبادئه بمجرَّد أن أصبحَت غير ملائمة له شخصيًّا ثم أقحم القانون. أولًا: هي لم تكن تريد الزواج، وكان ذلك في «مارس ١٩٣٥م قبل أن أتحرر تمامًا من زواجي القانوني. كنت في أواخر الثلاثينيات من العمر وقد أخذ الطلاق ثلاث سنواتٍ من حياتي وخلَّف مآسيَ لم أُشفَ منها تمامًا».68
استمر زواج «رسل» الثالث من «بيتر سبنس» حوالي ١٥ سنةً. يقول باقتضاب: «عندما قررَت زوجتي في عام ١٩٤٩م أنها لا تريد أن تبقى معي … انتهى زواجنا.»69 وخلْف هذه العبارة القصيرة المضللة حكايةٌ طويلة عن خيانات زوجية من جانبه، لم يكن «رسل» أبدًا إيجابيًّا أو مبادرًا لإغواء النساء أو البحث عن فريسةٍ نسائية، ولكنه لم يكن يتردد في إغواء أي واحدة تقع في طريقه. والحقيقة أنه كان قد أصبح خبيرًا في المراوغات التي كان يتقنها أي فاسق في عصر ما قبل الإباحية. ففي مناسبةٍ ما تجده يكتب إلى «ليدي أوتولين» … «آمَن خطة بالنسبة لكِ هو أن تجيئي إلى المحطة، وتنتظري في استراحة الدرجة الأولى على رصيف القطار المغادر، ثم بعد ذلك تخرجي معي في سيارة أجرة إلى أحد الفنادق وندخل معًا … المخاطرة هنا أقل منها في أي خطةٍ أخرى كما أنها لا تبدو غريبة بالنسبة لمسئولي الفندق».70
بعد ذلك بثلاثين سنة تجده يقدم نصيحةً تطوعية في أمورٍ مشابهة ﻟ «سيدني هوك»: «هوك، لو حدث أن أخذتَ أي امرأة إلى أحد الفنادق وشك فيكما موظف الاستقبال، فعندما يخبرك بسعر الغرفة دعها تقول بصوتٍ عال: «السعر مرتفع جدًّا»، من المؤكد أنه سيعتقد أنها زوجتك».71 كان «رسل» يفضل النساء مع مقدماتٍ منطقية! وكان ذلك يجعل الأمور أكثر سهولة، في ١٩١٥م قدَّم لتلميذه السابق المفلس «ت. س. إليوت» هو وزوجته «فيفيان» مأوى في شقته في «بري ستريت» في «لندن».
وقد وصفه «إليوت» ﮐ «مستر أبوليناكس» «الجنين غير المسئول ويقول إنه كان يسمع دقات القنطور، على الأرض الصلبة»، وكان «حديثه الجاف والعاطفي يبتلع المساء»، ولكن «إليوت» كان إنسانًا يثق بالآخرين ويأتمنهم، فترك زوجته بمفردها مع القنطور وحديثه العاطفي وقد حكى «رسل» لعشيقاته الأخريات طرفًا مما حدث. قال ﻟ «ليدي أوتولين» أن مغامراته مع «فيفيان» كانت أفلاطونية، واعترف ﻟ «ليدي كونستانس» أنه قد مارس الجنس معها، ولكنه وجد التجربة «جهنمية وكريهة»،72 ومن المحتمل أن تكون الحقيقة غير الحكايتَين معًا، ومن الممكن أن يكون تصرفه قد أسهم في جنون «فيفيان إليوت».
كانت ضحايا «رسل» دائمًا من الكائنات المتواضعة: خادمات، مربيات، أو أي أنثى صغيرة وجميلة تتحرك في البيت. في الصورة التي رسمها ﻟ «رسل» يقول «البروفيسور هوك» إن ذلك كان السبب الرئيسي لفشل زواجه الثالث، يقول إنه قد عرف من مصدرٍ موثوق به أن «رسل» بالرغم من عمره المتقدم كان يمكن أن يطارد «أي شيء داخل تنورة» يأتي في طريقه، وكان يفعل ذلك بطريقةٍ فاضحة حتى مع الخادمات … وليس من وراء ظهر «بيتر»، بل أمام عينَيها وعيون ضيوفه. تركَته ثم عادت ولكن «رسل» رفض أن يتعهد بالإخلاص للحياة الزوجية، وفي النهاية قررَت أنها لم تعد تحتمل كل ذلك الامتهان.73 ثم جاء الطلاق بعد ذلك في سنة ١٩٥٢م عندما كان «رسل» في الثمانين، بعد ذلك تزوج مدرِّسة من «برين ماور» اسمها «إديث فينش» كان يعرفها من عدَّة سنواتٍ، قامت على رعايته بقية حياته، وعندما كان يتهمه أحد بمعاداة أمريكا كان يقول بمكرٍ شديد: «نصف زوجاتي أمريكيات».74
نظريًّا، كان «رسل» مع حركة القرن العشرين لتحرير المرأة، أما من الناحية العملية فكان مغروسًا في القرن التاسع عشر. كان فيكتوريًّا، وعندما ماتت الملكة العجوز كان في الثلاثين تقريبًا، وكان يميل لأن يرى النساء يتبعن الرجال كذيولٍ لهم. كتبَت «دورا»: «بالرغم عن حق المرأة في الانتخاب، لم يكن «برتي» يؤمن حقيقةً بالمساواة بينها وبين الرجل. كان يعتقد أن الرجل أذكى منها. وذات مرة قال لي إنه كان دائمًا يجد ضرورة لأن يتحدث إلى المرأة باحتقار».75
ويبدو أنه كان يشعر في قرارة نفسه أن وظيفة المرأة هي إنجاب الأطفال للأزواج، كان لديه ابنان وبنت وكان أحيانًا يحاول أن يكرس نفسه لهم، ولكنه مثل بطله «شلي» كان يجمع بين نزعة التملك الشديدة واللامبالاة. وكانت «دورا» تشكو من أنه قد أصبح «بعيدًا عن فهم مشاكلهم، وانهمك تمامًا في دوره في السياسة العالمية» كما أنه — هو نفسه — اضطر للاعتراف بأنه «فشل كأب».76

وكما هو الحال بالنسبة لكثيرٍ من المثقفين فقد كان الناس — بما فيهم النساء والأطفال — يميلون لأن يكونوا خدمًا لأفكاره، وبالتالي لأنانيته. في بعض جوانب من شخصيته كان «رسل» إنسانًا لطيفًا طيب القلب، متحضرًا، قادرًا على إظهار لمسات الحب نحو الآخرين وإبداء الكرم. لم يكن فيه ذلك الاستغراق الذاتي في شئونه الخاصة مثل «ماركس» أو «تولستوي» أو «إبسن»، ولكن المسحة الاستغلالية فيما يخص علاقته بالنساء كانت حاضرة.

كما أن النساء لم تكن هي الفئة الوحيدة التي استغلها، كما توضِّح ذلك حالة «رالف شوينمان» كان أمريكيًّا درس الفلسفة وتخرَّج في «برنستون» ومدرسة «لندن» للاقتصاد وانضم إلى اﻟ (CND) في سنة ١٩٥٨م، وبعد عامَين — وكان في الرابعة والعشرين — كتب إلى «رسل» عن خططه لتنظيم جناح للعصيان المدني في الحركة. أعجبَت الفكرة الرجل العجوز فشجَّع «شوينمان» على الحضور للقائه، ووجده شخصيةً جذابة. كانت أفكار «شوينمان» المتطرفة متطابقة مع أفكاره، وكانت العلاقة بينهما تشبه العلاقة بين «تولستوي» و«تشيرتكوف».

وبسرعةٍ أصبح «شوينمان» سكرتيرًا له ومنظمًا لأنشطته، وفي الستينيات كان قد أصبح بمثابة رئيس الوزراء في بلاط الملك-النبي!

والحقيقة أنه كان هناك بلاطان، أحدهما في «لندن» مركز نشاط «رسل» العام، والثاني هو منزله في «بلاس بنرهين» على شبه جزيرة «بورتميريون» شمال «ويلز». كانت «بورتميريون» قريةً إيطالية منطلقة بَناها المهندس المعماري اليساري «ك. وليمز إيليس»، الذي كان يمتلك معظم المساحة المحيطة، وكانت زوجته «أمابيل» شقيقة «جون ستراشي» مدافعة متحمسة عن مبادئ «ستالين» ومؤلفه كتاب دعائي عن بناء قناة البحر الأبيض (عن طريق السخرة كما تكشَّف لنا الآن)، وهو أحد الوثائق الكريهة التي بقيَت من سنوات الثلاثينيات المظلمة. كان كثير من التقدميين الأغنياء مثل «بوزويل»، «كرواشاي وليمز»، «آرثر كوستلر»، «همفري سلاتر»، العالم العسكري «ب. م. س (اللورد فيما بعد) بلاكيت» والمؤرخ الاقتصادي «م. م. بوستان» يعيشون في تلك المنطقة الجميلة يستمتعون بالحياة ويخططون من أجل الألفية الاشتراكية، كان «رسل» هو مليكهم، وإلى جانب مثقَّفي الطبقة المتوسطة، كانت تأتي إلى بلاطه وفود الحجيج من أنحاء العالم، يَنشدون الحكمة ويطلبون الرضا، كما كان يفعل أسلافهم عند «تولستوي» في «ياسنايا بوليانا». كان «رسل» يستمتع بصولاته وجولاته المصحوبة بالدعاية الكبيرة في «لندن»، يلقي الخطب، يقود المظاهرات، يعرِّض نفسه للقبض عليه ويزعج المؤسسة بصفةٍ عامة، ولكنه كان يفضل الحياة في «ويلز» وبالتالي كان يناسبه جدًّا أن يدير له «شوينمان» أموره في «لندن» غير مأجور، فهو مخلِص بل متعصب له.

وهكذا لعب «شوينمان» دور وزير السلطان واستمر حكمه ست سنوات! كان معه عندما ألقي القبض عليه في سبتمبر ١٩٩١م ودخل السجن أيضًا. وعندما خرج اقترحَت وزارة الداخلية ترحيله كأجنبيٍّ غير مرغوب فيه، فكتب عددٌ كبير من المثقفين يطلبون بقاءه ولانت الحكومة!

ولكنهم بعد ذلك ندِموا على وساطتهم عندما اتضح أن «شوينمان» أصبحَت له السيطرة التامة على عقل «رسل» كما كانت ﻟ «تشيرتكوف» على عقل «تولستوي». كان من الصعب على أصدقائه القدامى أحيانًا أن يتحدثوا إليه بالتليفون. كان «شوينمان» يرد على المكالمات ويعِد بتحويل الرسائل إليه، كما اتُّهم بأنه كان المؤلف الحقيقي للرسائل الكثيرة التي بعث بها «رسل» ﻟ «التيمز» أو البيانات التي كانت تُرسَل باسمه لوكالات الأنباء تعليقًا على الأحداث العالمية، وكان «شوينمان» نفسه يؤيد هذه الظنون. كما كان يزعم أن جميع المبادرات السياسية المهمة التي حملَت اسم «برتراند رسل اعتبارًا من سنة ١٩٦٠م كانت من صنعي فكرًا وتنفيذًا»، وقال: «هناك على الأقل جزء من الحقيقة في أن الرجل المسن قد تم الاستيلاء عليه من قِبل شابٍّ ثائر شرير».77 كان «شوينمان» يتحمل عبئًا كبيرًا في لجنة المائة ومحكمة جرائم حرب فيتنام وإنشاء مؤسسة «رسل» للسلام. وفي الستينيات كانت قاعدة «رسل» في لندن قد أصبحَت نوعًا من وزارة خارجيةٍ مصغَّرة — بشكلٍ كوميدي — ترسل الخطابات والبرقيات التي لا تنتهي إلى وزراء الخارجية ورؤساء الدول: إلى «ماوتسي تونج» و«شو إن لاي» في الصين، و«خروشوف» في روسيا، و«عبد الناصر» في مصر، و«سوكارنو» في إندونيسيا، و«هيلاسلاسي» في إثيوبيا و«مكاريوس» في قبرص … وغيرهم، وعندما أصبحَت تلك الرسائل طويلة ومملة وأكثر عنفًا تضاءل الاهتمام بها والرد عليها شيئًا فشيئًا. كما كان هناك كذلك التعليق على أي أحداثٍ داخلية تقع: «قضية «بروفيومر» خطيرة لا لأن الحكومة تتألف من متلصصين وشواذ جنسيًّا وبغايا، إنها خطيرة لأن الموجودين في السلطة قد حطَّموا نزاهة القضاء وزوَّروا الأدلة وأرهبوا الشهود وتواطئوا مع الشرطة في تحطيم الدليل، بل وسمحوا لهم بأن يقتلوا رجلًا»، وكانت الصحف تمتنع أحيانًا عن نشر مثل هذا الهراء. وكان الأصدقاء القدامى الذين فقدوا الاتصال ﺑ «رسل» يعتقدون أن «شوينمان» هو مؤلف كل تلك البيانات. ولا يوجد شك في أنه كتب الكثير منها ولم يكن في ذلك جديد. لقد كان «رسل» يترك أي شخصٍ آخر يكتب مقالًا باسمه إذا لم يكن مهتمًّا بالموضوع؛ ففي سنة ١٩٤١م عندما استاء «سيدني هوك» من مقال «جلامور» بعنوان «ماذا تفعلين إذا وقعتِ في غرام رجلٍ متزوج؟» بقلم «برتراند رسل»، اعترف له «رسل» بأنه قبض عنه خمسين جنيهًا؛ بينما كانت زوجته هي التي كتبَته ووقعَت باسمه.78 ولا يوجد أي دليل على أن جهود «شوينمان» لم تكن تعبِّر عن آراء «رسل»، فقد كانت عنيفة تمامًا مثل آراء أمين سره. وتوضح لنا السجلات والأرشيف أن «شوينمان» كان يغيِّر ويغلظ عبارات وجملًا معينة في نصوص «رسل» بخطِّ يده، ربما كان ذلك إملاءً منه (مثال على ذلك البيان الخاص بأزمة الصواريخ الكوبية)، وعندما كانت تجمح العاطفة ﺑ «رسل» كان يخرج عن النص المعتدل المكتوب. أما إذا كان الكثير من البيانات التي تحمل اسمه قد تبدو طفولية اليوم، فلا بد أن نتذكر أن الستينيات كانت حقبةً طفولية وأن «رسل» أحد الذين يعبِّرون عن روحها.

كان مذنبًا دائمًا خاصة في آخر العمر، مذنبًا بنوبات غضبٍ طفولية، وهكذا نظَّم حفلًا خاصًّا ليمزق بطاقة عضويته في حزب العمال. وعندما اتجه «هارولد ويلسون» رئيس الوزراء آنذاك نحوه مادًّا إليه يده قائلًا: «لورد رسل»، احتفظ الإيرل العجوز بيدَيه في جيوبه بثباتٍ واضح. الواضح جدًّا كما يقول «رونالد كلارك» كاتب سيرته أنه — وعلى عكس ما كان يعتقد البعض — لم يصل إلى خرف الشيخوخة أبدًا. كان يسمح له «شوينمان» بقدر من الجموح ولكن السيطرة كانت له في النهاية. وعندما قرر أخيرًا أن «شوينمان» لم يعد صالحًا لأغراضه بدأ يتصرف باندفاع. لم يعترض على تطرفه ولكنه كان يكره سرقته للأضواء منه. قام «شوينمان» بعدَّة جولات في الخارج باسم الممثل الشخصي ﻟ «ايرل رسل» وسبب ذلك مشاكل. ففي الصين أشعل غضب «شو إن لاي» عندما حث الجماهير على عصيان الحكومة، وشكا «شو إن لاي» إلى «رسل».

وفي يوليو ١٩٥٦م كانت هناك صورٌ أخرى من سوء تصرفه في مؤتمر السلم العالمي في «هلسنكي»، عندما تلقَّى «رسل» برقيةً ناقمة من المنظمين: «لقد أحدثَت كلمة ممثلك الشخصي ضجةً كبرى، رفضها الجمهور بشدة كما أثارت الاستفزاز في مؤتمر السلام، المؤسسة أصبحَت بلا مصداقية، لا بد من تبرئة نفسك من «شوينمان» وكلمته … مع التحية».79
ثم كانت مشاحناتٌ طويلة بعد ذلك، سرية وعلنية، بخصوص محكمة جرائم حرب فيتنام. وفي سنة ١٩٦٩م — وكان «رسل» في السابعة والتسعين من العمر — قرر أنه لم يعد في حاجة إلى «شوينمان» وخدماته وقطع صلته به فجأة، وفي ٩ يوليو شطبه من وصيته كمنفذ ووصي وقطع العلاقة به تمامًا في منتصف الشهر. بعد شهرَين حذف اسمه من مجلس إدارة مؤسسة «رسل» للسلام وفي نوفمبر أملى على زوجته الرابعة «إديث» بيانًا من سبعة آلاف كلمة عن كل علاقته ﺑ «شوينمان» طبعَته على الآلة الكاتبة ووقَّع على كل صفحةٍ منه مع خطابٍ مرفَق موقَّع كُتب على آلةٍ أخرى. كانت النبرة رافضة ومتعالية: «لا بد أن يكون «رالف» راسخًا في جنون العظمة، والحقيقة أنني لم آخذه أبدًا على محمل الجد كما يتصور، كنت معجبًا به في السنوات الأولى ولكني لم أعتبره أبدًا إنسانًا موهوبًا أو متفوقًا أو له أي أهميةٍ خاصة».80

أما أحد أسباب احتفاظ «رسل» به لفترةٍ طويلة فهو براعته في جمع الموارد المالية بطُرق لم يكن «رسل» يراها تليق به لو فعلها.

كان «رسل» شديد الحرص في كل ما يتعلق بالمال … الحصول عليه، إنفاقه، وللإنصاف يمكن أن نقول منْحه أيضًا. أثناء الحرب العالمية الأولى أعطى «ت. س. إليوت» الذي كان معوزًا أسهمًا بمبلغ ثلاثة آلاف جنيه لم يكن يريد أن يحتفظ بها في شركةٍ هندسية تحولَت إلى إنتاج الأسلحة الحربية، وكانت الأسهم قد آلت إليه بالميراث، ويتذكر: «بعد ذلك بسنوات، وكانت الحرب قد انتهت ولم يعد «إليوت» فقيرًا، أعادها إليَّ».81

كان «رسل» عادةً يقدِّم الهدايا الثمينة الغالية خاصة للسيدات، كما كان جشعًا وبخيلًا! يقول «هوك»: إن خطاياه الرئيسية كانت الغرور والجشع، وأنه كان يكتب في الولايات المتحدة مقالات لا قيمة لها أو مقدمات لكتب يعتبرها تافهة مقابل مبالغ ضئيلة من المال.

وكان يدافع عن نفسه بإلقاء اللوم على المدرسة التي كانت تكلفه ٢٠٠٠ جنيهٍ شهريًّا، ثم على زوجاته. كان يقول إن زوجته الثالثة مبذرة، وبعد طلاقهما كان يؤكد أنه أعطاها عشرة آلاف جنيهٍ من الأحد عشر التي حصل عليها من جائزة نوبل عام ١٩٥٠م، وأن عليه أن يدبر مالًا كثيرًا وأن يهتم بنقوده لأنه كان يدفع نفقتَين في وقتٍ واحد. كان «رسل» يستمتع بفكرة أنه من ذوي الدخل الكبير، ومن هنا كان حرصه الشديد على الاحتفاظ بمفكرة يسجل فيها الدخل والمصروف. وقد سجل «كراوشاي وليمز» في مذكراته: «كان يستمتع بتشجيعنا له على إمعان النظر في المبلغ البسيط الذي كان يحققه في تلك الأيام»،82 وعلى نحوٍ خاص كانت سعادته بالغة بحصوله على جائزة «سوننج» الدنماركية التي تصل قيمتها إلى حوالي خمسة آلاف جنيه، وهتف سعيدًا «ومعفاة من الضرائب؛ مكسبٌ صافٍ»، أخبر «كراوشاي وليمز» أنه سوف يقضي يومَين فقط في الدنمارك: «نحن ذاهبون فقط لقبض المبلغ والعودة فورًا» … كان «شوينمان» «وزير ماليةٍ بامتياز، وكان يُرفق بخطابات «رسل» قصاصاتٍ مكتوب عليها عبارات مثل: «إذا كنت ترى أن العمل الذي يقوم به «رسل» من أجل السلام ذو قيمة فلربما فكرتَ في دعمه ماليًّا» … «هذه المذكرة، على أية حال، مرسلة إليكم دون علم «لورد رسل» عن طريق سكرتيره».83 كما كان يتقاضى مبلغ ثلاثة جنيهات (خفَّضها بعد ذلك إلى جنيهَين) من كل مَن يطلب توقيع «رسل» على أتوجراف، كما كان يحصل من كل صحفي يريد إجراء مقابلة معه على مائة وخمسين جنيهًا، ومن المؤكد أن «رسل» كان على علم بذلك الابتزاز حيث إنه سمع كثيرًا من الشكاوى والاحتجاجات على الأسلوب الأمريكي الذي يتبعه «شرينمان» في جمع الأموال، ومع ذلك سمح باستمراره، ويبدو أنه بارك اثنين من مشروعات «شوينمان» الكبيرة؛ إذ على الرغم من نصيحة ناشر «رسل» القديم «السير ستانلي آنون» أقام شوينمان مزادًا على حقوق نشر السيرة الذاتية ﻟ «رسل» في أمريكا — وكان ذلك يكاد يكون أسلوبًا غير معروف في تلك الأيام — ودفع بالعطاء إلى مبلغٍ يصل إلى مائتَي ألف دولار، وهو مبلغٌ ضخم آنذاك، كما استغل وجود أرشيفٍ ضخم لدى «رسل» — مثل «برخت» — فقد كان «رسل» مثل معاصره «تشرشل» من أوائل الذين أدركوا قيمة الخطابات التي تصله من المشاهير وكان يحتفظ بها كلها إلى جانب صور من رسائله، وفي الستينيات كان قد تجمع لديه ربع مليون وثيقة كانت تُعتبَر: «أهم أرشيفٍ خاص من نوعه في بريطانيا»، وقد نقل «شوينمان» أستاذ الدعاية والترويج الأرشيف إلى «لندن» في سيارتَين مدرَّعتَين وبعد طويل مساومةٍ باعه لجامعات «مكماستر» و«هاميلتون» و«أونتاريو» مقابل ربع مليون جنيه.84
كانت ضربة المعلم بالنسبة ﻟ «شوينمان» أن يجعل مؤسسة السلام التي حصل لها على وضعٍ خيري معفاةً من الضرائب وعلى مستوى مؤسسة الأطلنطي للسلام، يقول «رسل»: «ثم على غير رغبة مني ضغط عليَّ رفاقي لكي تحمل المؤسسة اسمي»،85 وفي سنواته الأخيرة كان يستطيع أن يقدم مبالغ كبيرة من أجل جميع أغراضه، سواء كانت معقولة أو حمقاء، ويتمتع بدخلٍ كبير ويدفع أقل قدرٍ قانوني من الضرائب.
وبعد أن أقام «شوينمان» هذا الصرح البارع أُعفي من العمل، أما بالنسبة للادعاء بأن «رسل» كان مثل صديقه «وليمز إيليس» — غنيًّا واشتراكيًّا — فلمَ لم يتبرع أي منهما بأمواله؟ كانت لدى «رسل» إجابةٌ جاهزة في مخزونه: «أخشى أن تكونوا قد فهمتموني على نحوٍ خاطئ، أنا و«كلوج وليمز إيليس» اشتراكيان ولا ندَّعي أننا مسيحيان». إن القدرة على الحصول على أفضل ما في العالمَين، عالم تنامى الشعور بأنه أفضل أخلاقًا من الآخرين وعالم التميز، قضية مهمة تسري في حياة كثير من كبار المثقفين، وليس هناك من هو أكثر من «رسل» تعبيرًا عن ذلك. لم يكن يرفض أبدًا ما كان يجلبه له حسبه وشهرته واتصالاته، رغم أنه لم يكن يطلب ذلك مباشرة، وهكذا عندما حكم عليه قاضي «بوستريت» بالسجن ستة أشهر مع الشغل في سنة ١٩١٨م تم تخفيض الحكم في الاستئناف وأعلن رئيس المحكمة: «سوف تكون خسارة كبيرة للبلاد لو عوقب السيد «رسل» الرجل الممتاز بهذه الطريقة»،86 أما ما يقوله «رسل» في سيرته الذاتية فهو أن تخفيف الحكم كان بفضل زميلٍ فيلسوف، كان حينذاك وزيرًا للخارجية: «بفضل تدخل «آرثر بلفور» تم تخفيض الحكم إلى الفئة الأولى — دون شغل — لكي يتسنى لي أن أقرأ وأكتب كما أريد أثناء السجن بشرط ألا أقوم بأية دعايةٍ سلامية، وقد وجدتُ السجن ملائمًا في جوانب كثيرة»،87 في سجن «بركستون» كتب مقدمة للفلسفة الرياضية، وشرع في كتاب «تحليل العقل»، كما كان يستطيع أن يحصل على أحدث الكتب ويقرؤها بما في ذلك الكتاب المدمر الشهير: «الفيكتوريون الكبار» من تأليف «ليتون ستراتشي» والذي جعله يضحك ويقهقه لدرجة أن الضابط جاء إلى زنزانته قائلًا: أن عليَّ أن أتذكر أن السجن مكان للعقاب، بينما تدهورَت في السجن صحة صديقٍ آخر من السلاميين مثل «إي. دي. موريل» وكان يقضي عقوبة من نفس الدرجة. كان «رسل» يتمتع أيضًا بامتيازاتٍ أخرى، عندما رتب له «شوينمان» أن يتسلم حصةً إضافية من القصص البوليسية من المكتبة العامة: الْتهم «رسل» عددًا كبيرًا من القصص والروايات البوليسية مثل كثيرين من أبناء جيله من المثقفين. (كان صديقه القديم «ج. ماكتاجارت» يحتاج إلى ثلاثين كتابًا في الأسبوع) كما لم يحتجَّ أحد ضده — ومَن يستطيع؟ — حتى أثناء نقص المواد التموينية في فترة ما بعد الحرب عندما كان يرسل إليه مصنع خمور اسكتلندي صندوقًا من الويسكي كل شهر مكتوب عليه «إيرل رسل».88

كان من الصعب عليه في معظم الأحيان أن ينسى أصوله الاجتماعية؛ فكان يصف زوجته الأولى بأنها ليست من النوع الذي قد تلقبُّه جدتي ﺑ «ليدي»، وأطلق على عيد ميلاده الواحد والعشرين «اليوم الذي كبرت فيه». كان يجد متعة في أن يكون وقحًا مع الناس الذين يُسمِّيهم بالطبقة المتوسطة مثل المعماريين. وعندما يزعجه أحد لدرجةٍ كبيرة كان يستدعي الشرطة؛ مثلما حدث عندما اعتصمَت ممثلة ووكيلها في بيته في «لندن» رغم أنهما كانا يقلدان ممارساته. كانت لديه رغبةٌ شديدة في الحصول على وسام الاستحقاق، وكان يعتبر عارًا أن يحصل عليه أحدٌ قبله أقل منه شأنًا مثل «إدنجتون» و«وايتهد». ثم شعر بالرضا عندما أنعم به عليه أخيرًا «جورج السادس»، واعتقاد اليسار أن «رسل» لم يستخدم لقبه أبدًا اعتقادٌ غير صحيح؛ فعلى العكس من زوجته الثالثة التي يبدو أنها كانت سعيدة بذلك، كان «رسل» يستخدمه عمليًّا عندما كان يعتقد أن ذلك سوف يحقق فائدة له. كان «إيرل رسل» يتصرف كشخصٍ عادي عندما لا تكون هناك ضرورة أو عندما تكون هناك! ولكن أحدًا لم يكن يجرؤ — أو يسمح له — أن يتبسَّط معه.

أما بالنسبة للمنطق فكان يلجأ إليه كذلك عند الحاجة، أثناء الغزو السوفيتي ﻟ «تشيكوسلوفاكيا» تم إقناعه بتوقيع رسالة احتجاج مع عددٍ كبير من الكُتاب وكان عليَّ أن أناقش مسألة نشرها في «التيمز». كان عنوان الرسالة لا بد وأن يكون وحسب الترتيب الأبجدي لأسماء الموقعين: «من مستر «كنجسلي آميس» وآخرين»، قررتُ، ووافق محرر بريد «التيمز» أن أثر العنوان لا بد أن يكون أقوى في العالم الشيوعي لو أنه كان: «من «إيرل رسل» (الحاصل على وسام الاستحقاق) وآخرين …» وقد كان. ولكن «رسل» لاحظ تلك الخدعة البسيطة وغضب جدًّا واتصل تليفونيًّا محتجًّا، ثم لحقني عند المطبعة وأنا أقوم بتسليم «نيو ستيتسمان» للطباعة. وقال إنني فعلت ذلك لأعطي انطباعًا زائفًا بأنه هو نفسه الذي فكر في الرسالة، أنكرت ذلك قائلًا إن الهدف الوحيد كان من أجل أن يكون للرسالة تأثيرٌ قوي. ثم قلت له: «إذا كنت قد وقعت على الرسالة فليس من حقك أن تشكو إذا وُضِع اسمك في المقدمة … إن هذا غير منطقي …» فما كان منه إلا أن ضرب سماعة التليفون بعنف وهو يقول: «تفاهات منطقية».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤