الفصل التاسع

«سارتر»: كُرَةٌ صغيرة من الفراء والحبر!

مثل «برتراند رسل»، كان «جان بول سارتر» فيلسوفًا محترفًا، ومثله كان يريد أن يؤثر في أكبر جمهورٍ ممكن مع الفارق في الأسلوب، «رسل» كان يرى في الفلسفة عِلمًا كهنوتيًّا لا يمكن للعامة أن يسهموا فيه، وكان أقصى ما يمكن أن يقوم به فيلسوفٌ خبير بالناس مثله هو أن يقطِّر كمياتٍ صغيرة من الحكمة ثم يوزعها على هيئة محلول في المقالات الصحفية والكتب الشعبية والإذاعات. أما «سارتر» فعلى العكس من ذلك؛ لأنه كان يعمل في بلدٍ يدرس الفلسفة في المعاهد والكليات، كما تُناقَش في المقاهي، وكان يعتقد أنه يستطيع أن يجذب الجماهير لكي تشارك في منظومته من خلال المسرحيات والروايات، وبدا كما لو كان قد نجح في ذلك لوقتٍ ما على الأقل. ومن المؤكَّد أنه لا يوجد من فلاسفة هذا القرن من له مثل أثره المباشر على عقول واتجاهات ذلك الكم من البشر، خاصة الشباب، في جميع أنحاء العالم.

كانت «الوجودية» هي الفلسفة الشعبية الأكثر انتشارًا في أواخر الأربعينيات والخمسينيات من هذا القرن. كانت مسرحياته ناجحة، تُباع بأعدادٍ كبيرة وقد وُزِّع بعضها أكثر من مليونَي نسخة في «فرنسا» وحدها.1

كان «سارتر» يقدِّم أسلوبًا للحياة، ورأس كنيسةٍ علمانية وإن تكن غامضة، ومع ذلك … ماذا كانت النتيجة في نهاية الأمر؟ مثل معظم المثقفين الكبار … كان «سارتر» أنويًّا من الدرجة الأولى، وليس هذا بالأمر الغريب لو أخذنا ظروف طفولته بالاعتبار. كانت حالة كلاسيكية للطفل الوحيد المدلل. الأسرة تنتمي للشريحة العليا من الطبقة الريفية المتوسطة، الأب ضابطٌ بحري، الأم من عائلة «شفايتزر» الغنية في «الألزاس»، الأب وبكل المقاييس شخصٌ عديم الأهمية، كان يُعامَل بقسوةٍ شديدة من والده، كان ماهرًا في الفنون التقنية، يحتفظ بشاربٍ ضخم يعوضه عن قصر القامة (خمسة أقدام وبوصتان)، وعلى أية حال مات و«سارتر» في الشهر الخامس عشر وأصبح «مجرَّد صورةٍ معلَّقةٍ في غرفة نوم أمي».

أما الأم «آن-ماري» فقد تزوجَت مرةً ثانية من «جوزيف مانسي» رئيس مصنع «ديلوناي-بيليفيل» في «لاروشيل».

ورث «سارتر» المولود في ٢١ يونيو ١٩٠٥م قِصر قامة والده (خمسة أقدام وبوصتان ونصف البوصة)، كما ورث عنه عَقله وكُتبه، ولكنه في سيرته الذاتية «الكلمات» اتخذ طريقًا مستقلًّا، وحاول أن يطرده من حياته؛ كتب: «لو أنه عاش لكتم أنفاسي وحطَّمني، ولحُسن الحظ مات صغيرًا»، «لم يستطع أحد في الأسرة أن يثير فضولي بشأنه»، أما بالنسبة للكتب «فكان مثل معاصريه يقرأ أشياء تافهة وقد بعتُها … كان الرجل الميت لا يعني الكثير بالنسبة لي».2 أما الجد الذي سحق أبناءه فقد منح «جان بول»: «كل العطف وأعطاه دخْل مكتبته الكبيرة. كانت أمه شديدة الخنوع وكان الطفل الصغير هو أثمن ممتلكاتها، كانت تُلبسه ملابس البنات وتركَت شعره طويلًا — أطول من شَعر هيمنجواي — حتى الثامنة تقريبًا، عندما أصدر جده أوامره وكانت مذبحة لجز الشعر الطويل! كان «سارتر» يُسمِّي طفولته «الجنة»، أما أمُّه فكانت «العذراء التي تعيش معنا تحت الرقابة والسيطرة من الجميع. كانت في خدمتي، ملكي أنا، ولم يكن أحد ليستطيع أن يتحدى امتلاكي لها … لم أعرف العنف ولا الكراهية ولم أمُر بتجربة الغيرة»، لم يكن هناك أي مجال «للتمرد»، ولم تكن نزوة أي فردٍ آخر تُعتبَر قانونًا بالنسبة لي» وضع الملح ذات مرة في المربى وكان في الرابعة من عمره، وباستثناء ذلك لم تكن هناك أي جرائم أو عقاب. كانت أمه تناديه ﺑ «بولو»، وكانوا يقولون إنه جميل «وكنت أصدق ذلك»، كان ينطق بأشياء «أكبر من سِنه»، وكانوا يتذكرون ذلك ويروُونه له»، ولذلك «تعلمتُ أن أشكِّل الآخرين»، ويقول إنه «عرف كيف يقول أشياء أكبر من سنه دون مجهود».3 وأحيانًا تذكرنا كتابة «سارتر» ﺑ «روسو» وتستعيد كلماته: «كان الرب مولودًا في أعماق قلبي، والحقيقة في ظلام فهمي»، «لم يكن لي حقوق لأنني كنت مغمورًا بالحب، لم يكن لدي واجبات لأنني كنت أعمل كل شيء من خلال الحب»، كان جده «يؤمن بالنهضة وأنا كذلك: النهضة ذلك الطريق الطويل الصعب الذي يفضي إلى نفسي»، كان يصف نفسه بأنه «ملكيةٌ ثقافية … كنت مشبعًا بالثقافة وكنت أعيدها إلى العائلة مثل الإشعاع». ويتذكر موقفًا حدث مع أمه عندما طلب ذات يوم إذنًا لكي يقرأ رواية «مدام بوفاري» ﻟ «فلوبير» (وكانت ما زالت تُعتبَر روايةً صادمة).

الأم: ولكن إذا قرأ عزيزي الصغير كُتبًا كتلك في مثل هذه السن … ماذا سيفعل عندما يكبر؟

سارتر: سوف أعيشها!

«وفيما بعدُ كانوا يُعيدون تكرار هذه الإجابة اللمَّاحة في محيط الأسرة بإعجابٍ شديد».4 ولكن احترام «سارتر» للحقيقة لم يكن كبيرًا، ومن الصعب أن نحكم على مصداقية وصفه لطفولته وشبابه، فأمه تضايقَت عندما قرأَت «الكلمات» وكان تعليقها أن «بولو لم يفهم أي شيء عن طفولته».5 أما الذي صدمها بشدة فكانت تعليقاته القاسية على أفراد الأسرة.
لا شك أنه كان مدلَّلًا، ولكن عندما كان في الرابعة حدثَت كارثة؛ إذ على أثر نوبة إنفلونزا حادة أُصِيب بشحاذ في عينه اليمنى ولم يعد قادرًا على استخدامها فيما بعد. كانت عيناه دائمًا سبب متاعب له، وكان باستمرار يضع نظارةً سميكة وفي ستينياته كان يتجه نحو العمى. في المدرسة اكتشف أن أمه كانت تكذب بخصوص شكله وعرف أنه كان قبيحًا، ورغم قِصر قامته إلا أنه كان قوي البنية عريض الصدر، وجهه خالٍ من التعبير وعينه المريضة تجعله يبدو بشعًا، ولأنه كان قبيحًا كان التلاميذ يعتدون عليه بالضرب. أما هو فكان يرد بالسخرية والنكات اللاذعة. فأصبح الشخصية المرحة ومهرج المدرسة، بعد ذلك عندما كبر وأصبح يطارد النساء كان يقول: «لكي أتخلص من عبء قُبحي».6
وقد أتيح ﻟ «سارتر» أفضل تعليم يمكن أن يتوفر لشخصٍ من جيله: مدرسة «ليسيه» جيدة في «لاروشيل»، عامان في مدرسة «ليسيه هنري الرابع» الداخلية في باريس وكانت أفضل المدارس العليا في «فرنسا» في ذلك الوقت، ثم مدرسة المعلمين العليا التي تخرَّج فيها أفضل الأكاديميين الفرنسيين. كان بين معاصريه شخصياتٌ ممتازة: «بول نيزان»، «ريموند آرون»، «سيمون دو بوفوار»، كان يلعب الملاكمة والمصارعة ويعزف على البيانو — سيئًا — ويغني جيدًا بصوتٍ قوي ويساهم في تقديم الاسكتشات الفكاهية في حفلات المدرسة. كتب الشعر والرواية والمسرحية والأغاني والقصص القصيرة والمقالات الفلسفية. كان المهرج مرةً أخرى ولكن على نطاقٍ أوسع من الحيل والخدع، اعتاد — وحافظ على ذلك لسنواتٍ كثيرة — أن يقرأ قرابة ثلاثمائة كتاب في العام،7 وكان مجال قراءاته واسعًا: كما كانت تستهويه الروايات الأمريكية.

حصل أيضًا على أول عشيقة «سيمون جوليفيه»، وكان مثل والده يفضلهن طويلات القامة إذا تيسر ذلك، كانت «سيمون» شقراء ونحيلة وأطول منه بكثير. فشل «سارتر» في أول امتحان للحصول على الدرجة الدراسية وفي العام التالي نجح بتفوق وكان ترتيبه الأول، كما كانت «سيمون دو بوفوار» — وتصغره بثلاث سنوات — الثانية.

الآن نحن في عام ١٩٢٩م، ومثل معظم النابهين من الشباب في ذلك الوقت عمل «سارتر» مدرسًا.

كانت الثلاثينيات عقدًا مفقودًا بالنسبة ﻟ «سارتر» تقريبًا، لم تتحقق له الشهرة الأدبية التي كان يتوقعها ويتمناها بشدة، قضى معظم سنوات العقد مدرسًا في «لي هافر» التي كانت تعتبر نموذجًا مصغرًا للزراية الإقليمية. شهدَت تلك السنوات سفريات إلى «برلين»، وهناك — عملًا باقتراح «آرون» — درس «هوسرل» و«هيدجر» وفلسفة الظاهريات التي كانت الفلسفة الأصيلة في أوروبا الوسطى، ولكنها بشكلٍ عام كانت تعلم الكدح. كره البرجوازية. كان وعيه الطبقي حادًّا ولكنه لم يكن ماركسيًّا، والحقيقة أنه لم يقرأ «ماركس» بالكامل، ربما بعض مقتطفات. كان ثائرًا ولكن بلا قضية. لم ينضم لأي حزب ولم يكترث لصعود «هتلر» إلى السلطة. لم تحركه أحداث «إسبانيا»، ومهما زعم فيما بعدُ فإن سجله لا يوحي بأي آراءٍ سياسية قوية له قبل الحرب، هناك صورةٌ فوتوغرافية له يبدو فيها متأنقًا من أجل حديثٍ أكاديمي، في رداءٍ أسود وعباءةٍ صفراء مزينة بالفراء والملابس كلها كبيرة عليه. كان عادة ما يرتدي سترةً رياضية وقميصًا مفتوحًا ويرفض ربطة العنق، في منتصف العمر فقط أصبح يرتدي زِي المثقفين: بلوفر بولو برقبة، وسترة غريبة نصفها من الجلد. كان يفرط في الشراب. في يوم الحديث الثاني كان هو الممثل الرئيسي وسط منظرٍ غريب يشبه شخصية «جيم المحظوظ». في رواية «كنجسلي آميس»، كان ثملًا وغير متماسك ولم يستطع أن يقدِّم مساهمته فأنزلوه من على المسرح.8 في تلك الأيام، وطوال حياته، كان يحب الاقتراب من الشباب والطلاب على نحوٍ خاص. كان «سارتر» يترك طلابه يفعلون ما يحلو لهم. كانت رسالته: الفرد مسئول عن نفسه تمامًا وله حق انتقاد كل شيء وأي شخص. كان بإمكان الطلاب أن يخلعوا ستراتهم وأن يدخنوا في قاعة الدرس. لم يهتموا بكتابة أي مذكرات أو تقديم أي مقالات. كتب «سارتر» كثيرًا ولكن كتاباته لم تجد ناشرًا. كان يضايقه أن يرى صديقَيه «نيزان» و«آرون» ينشران أعمالهم ويحققان قدرًا من الشهرة. وأخيرًا في عام ١٩٣٦م أنجز كتابًا عن دراساته الألمانية (أبحاث فلسفية) فلم يجذب سوى القليل من الاهتمام. ولكنه كان يرى ما يريد أن يحققه. كان «جوهر» عمل «سارتر» هو إبراز الفعالية الفلسفية من خلال الأدب الروائي والدراما وأصبح ذلك راسخًا في ذهنه في أواخر الثلاثينيات. كان يحاول إثبات أن جميع الروائيين الموجودين — وفي ذهنه «دوس باسوس»، و«فرجينيا وولف»، و«فوكنر» و«جويس»، و«ألدوس هكسلي»، و«توماس مان» — يعبِّرون كلهم عن أفكارٍ قديمة معظمها مستمَد بطريقةٍ مباشرة أو غير مباشرة من «ديكارت» و«هيوم». كتب إلى «جان باولهان» يقول: «قد يكون من المهم أن تكتب رواية عن زمن «هيدجر»، وهذا ما أود أن أفعله». مشكلته أنه في الثلاثينيات كان يعمل في كلٍّ من الرواية والفلسفة على انفصال، ولكنه بدأ يثير الناس فقط عندما وضعهما معًا وفرضهما على اهتمام الجماهير عن طريق المسرح. كانت رواية فلسفية من نوعٍ ما تولد ببطء، وكان يريد أن يُسمِّيها «الملنخوليا» ولكن الناشر غيَّر الاسم إلى «الغثيان»، عنوان أكثر تأثيرًا، وصدرَت في سنة ١٩٣٨م، ومرةً أخرى كانت الاستجابة ضعيفة في البداية. الحرب هي التي صنعَت سارتر. كانت كارثة على «فرنسا»، وبالنسبة لأصدقاء مثل «نيزان» كانت الموت. جلبَت الخطر أو العار لآخرين … أما حرب «سارتر» فكانت مفيدة. تم تجنيده في قسم الأرصاد الجوية التابع لمجموعة مدفعية حيث كان عليه أن يختبر اتجاه الريح بإطلاق بالونات الهواء الساخن في الجو وكان زملاؤه يضحكون عليه. كان الرقيب المشرف عليه أستاذ رياضيات وكان يقول: «من البداية كنا نعرف أنه لن تكون له أي فائدة من الناحية العسكرية.» كانت الروح المعنوية في صفوف العسكرية الفرنسية في الحضيض. وكان «سارتر» مشهورًا بالقذارة وبأنه لا يستحم. كل ما كان يفعله هو أن يكتب.

كان كل يوم يكتب خمس صفحات في رواية وكانت في النهاية «أجراس الحرية» ويكتب أربع صفحات في «مفكرة الحرب» وعددًا لا يحصى من الرسائل كلها إلى نساء. عند الغزو الألماني انهارت الجبهة ووقع «سارتر» في الأسر وهو يحاول أن يكتب (٢١ يونيو ١٩٤٠م)، وفي معسكر الأسرى القريب من «تريفييه» انخرط في السياسة فعلًا بسبب الحراس الألمان الذين كانوا يحتقرون الأسرى الفرنسيين، خاصة عندما يكونوا قذرين، وكانوا يركلون «سارتر» باستمرار في مؤخرته العريضة. وكما فعل في المدرسة قبل ذلك كان ينجو من تلك المواقف بالتهريج وكتابة المواد المسلية للمعسكر، كما واصل العمل بجد في كتابة رواياته ومسرحياته حتى أُفرِج عنه في مارس ١٩٤١م بتقريرٍ طبي عن عمًى جزئي.

سلك «سارتر» طريقه مباشرةً نحو «باريس» وحصل على وظيفة مدرس فلسفة في ليسيه «كوندورسيه» الشهيرة، حيث كان معظم مدرسيها قد نفوا أو اختفوا تحت الأرض أو في معسكرات الاعتقال. وبالرغم من أسلوبه في التدريس — وربما بسببه — كان الموجهون يعتبرونه مدرسًا ممتازًا.

وجد «باريس» منعشة في زمن الحرب، وفيما بعدُ كتَب: «هل يفهمني الناس إذا قلت إن الرعب كان فوق الاحتمال ولكنه كان يناسبنا جدًّا؟ … لم نكن أبدًا أحرارًا مثلما كنا في ظل الاحتلال الألماني».9 ولكن ذلك كان يتوقف على مَن تكون! و«سارتر» كان محظوظًا! لم يظهر اسمه على أي قوائم أو سجلات نازية لأنه لم يكن قد شارك في السياسة قبل الحرب ولا حتى في الجبهة الشعبية في سنة ١٩٣٦م، فكان بالنسبة لهم يُعتبَر «نظيفًا»، وكان من المرضي عنهم عند مَن يقدرون الفن، فقد كانت «باريس» مليئة بالمثقفين الألمان المحبين للثقافة الفرنسية من الذين يرتدون الملابس العسكرية مثل «جيرهارد هيلر»، و«كارل إيبتنج»، و«كارل هينز بريمر»، ولم يمتدَّ تأثيرهم على الرقابة فقط وإنما امتد إلى الصحف والمجلات المسموح بها والمسرح ومراجعات الكتب.10 وبالنسبة لهم كانت روايات «سارتر» ومسرحياته تحظى بالقبول بسبب خلفيتها الفلسفية التي تنتمي إلى أوروبا الوسطى، خاصة في تأكيدها على «هيدجر» الذي كان مرضيًّا عنه من قِبل مثقفي النازية الأكاديميين. لم يتعاون «سارتر» بنشاط مع النظام أبدًا، أقرب مرة كانت عندما كتب لمطبوعةٍ أسبوعية بعنوان «كوميديا»، ولكنه لم يكن يجد أي صعوبة في نشر أعماله وتقديم مسرحياته. وكما قال «أندريه مالرو»: «كنتُ أواجه «الجستابو» في الوقت الذي كانت مسرحيات «سارتر» تُقدَّم فيه في «باريس» بتصريحٍ من الرقباء الألمان».11

كان «سارتر» يميل للمشاركة في المقاومة بطريقةٍ غامضة، ولحُسن حظه باءت جهوده بالفشل. هنا مفارقةٌ ساخرة من تلك التي يواجهها المرء عندما يكتب عن المثقفين. كانت فلسفة «سارتر» الشخصية التي سوف تُسمى ﺑ «الوجودية» بعد ذلك بسرعةٍ تتشكل الآن في عقله. وكانت في جوهرها فلسفة فعل تقول بأن شخصية الإنسان وقيمته تقررهما أعماله وليس آراؤه. الإنسان بأفعاله وليس بكلماته. أطلق الاحتلال النازي كل غرائز «سارتر» المعادية للسلطة، كان يريد أن يحاربها، ولو اتبع حكمة شعاراته الفلسفية لكان عليه أن يفجر القطارات أو يطلق النار على أفراد «الجستابو» ولكنه لم يفعل. كان يتكلم، يكتب، يقاوم نظريًّا، بالعقل والروح وليس بالعمل الفعلي، ساعد في تشكيل جماعةٍ سرية «الحرية والاشتراكية» التي كانت تعقد الاجتماعات وتناقش، ويبدو أنه كان يعتقد أن المثقفين لو اجتمعوا وأطلقوا النفير فسوف تتداعى جدران النازية، ولكن «جيد»، و«مالرو» خذلاه عندما قصدهما، وكان بعض أعضاء الجماعة مثل رفيقه الفيلسوف «موريس ميرلو بونتي» قد بدءوا يضعون ثقتهم في الماركسية.

سار «سارتر» وراء «برودون»: بتلك الروح كتب أول بيانٍ سياسي له في مائة صفحة يتناول حالة «فرنسا» بعد الحرب.12 هكذا كان هناك كثير من الكلمات … ولا فعل!
كتب أحد الأعضاء «جان بويلون» يقول: «لم نكن جماعة مقاومة منظمة، كنا مجرَّد مجموعة من الأصدقاء قررَت أن تكون ضد النازيين وأن ننقل أفكارنا إلى الآخرين». كما كان هناك نقدٌ شديد أيضًا من آخرين لم يكونوا أعضاءً في الجماعة. يقول «جورج كازبلاس» الذي اختار الحزب الشيوعي: «صدمتُ منذ البداية إذ وجدتُ أنهم مجموعة من الأطفال: لم يكونوا أبدًا بالوعي الذي يمكن أن يجعل ثرثرتهم تصيب أعمال الآخرين بالشلل»، وكان «راءول ليفي» — أحد رجال المقاومة النشطين — يقول: «عملهم مجرَّد ثرثرة حول كوب من الشاي» و«سارتر» نفسه «جاهلٌ سياسي»،13 وفي النهاية ماتت الجماعة لعدم فاعليتها.
لم يقدِّم «سارتر» إذن أي شيء للمقاومة، لم يرفع إصبعًا أو يكتب كلمة ضد المجازر، كان كل تركيزه على تطوير عمله، يكتب بلا هوادة: مسرحيات وفلسفة وروايات. وكان بشكلٍ أساسي يكتب في المقاهي. نصه الفلسفي الرئيسي: «الوجود والعدم»، الذي يعبر عن مبادئه بشكلٍ شامل، كتب معظمه في شتاء ١٩٤٢-١٩٤٣م الذي كان قارس البرودة، وكان «المسيو بوبال» صاحب مقهى «فلور» في «بوليفار سان جيرمان» ماهرًا في تدبير الفحم للتدفئة والتبغ للتدخين، ولذلك كان «سارتر» يجلس ليكتب هناك كل يوم، يقبع متدثرًا بسترةٍ قبيحة واسعة من الفراء الصناعي لونها برتقاليٌّ فاقع، يشرب كوبًا من الشاي بالحليب، يُخرج محبرته وقلمه وينفجر في الكتابة بلا توقُّف لمدة أربع ساعات تقريبًا، ونادرًا ما كان يرفع عينه عن الورقة «كرةٌ صغيرة من الفراء والحبر».14 تقول «سيمون دو بوفوار» التي وصفَته على النحو السابق أنه كان يطعِّم الكتاب الذي انتهى إلى ٧٢٢ صفحة ﺑ «عبارات حريفة»، عبارة عن الفتحات عمومًا، وأخرى عن فتحة الشرج وممارسة الجنس على «الطريقة الإيطالية».15 ونشره في ١٩٤٣م ولكن النجاح كان بطيئًا (ولم تصدر عنه مراجعاتٌ مهمة حتى ١٩٤٥م) وتراكميًّا.16 ولكن شهرة «سارتر» وتأكيده لأهميته تحقَّقا من خلال المسرح. مسرحيته «الذباب» قُدمَت في نفس الشهر الذي صدر فيه «الوجود والعدم»، وفي البداية كان توزيع التذاكر قليلًا إلى حدٍّ ما، وإن كانت قد لفتَت الانتباه ورسخَت من شهرته الصاعدة. وبسرعةٍ طلب منه «باتيه» أعمالًا سينمائية فكتب ثلاثة ليحقق بذلك دخلًا ماديًّا كبيرًا لأول مرة، ثم انشغل في تأسيس مجلةٍ نقدية جديدة مهمة: «لي ليتر فرانسيز» (١٩٤٣م)، وفي الربيع التالي أُضِيف اسمه إلى هيئة المحكمين في جائزة «لابلياد» مع «أندريه مالرو» و«بول إيلوار» وهي دلالةٌ أكيدة على أنه كان قد أصبح ذا مكانةٍ أدبية مهمة. وفي ٢٧ مايو ١٩٤٤م قدمَت مسرحيته «جلسة سرية»، ذلك العمل الممتاز الذي يلتقي فيه ثلاثة أشخاص في غرفة استقبال يتضح أنها غرفةٌ مؤدِّية إلى الجحيم، والمسرحية على مستويَين: أحدهما تعليق على الشخصية مع رسالة أن «الجحيم هو الآخرون»، وعلى المستوى الآخر تقدم «الوجود والعدم» بأسلوبٍ شعبي، نسخة مثورة منذ «هيدجر» أُعطيَت بريقًا فرنسيًّا وعلاقةً معاصرة وتقدِّم رسالة عن النشاط الثوري والتحدي المضمَر. كان ذلك هو الشيء الذي برع فيه الفرنسيون، تناول فكرةٍ ألمانية وتحديثها في الوقت المناسب. ونجحَت المسرحية نجاحًا كبيرًا سواء مع النقاد أو الجمهور ووُصفَت بأنها: «الحدث الثقافي الذي دشَّن العصر الذهبي لسان جيرمان دي برس».17

اشتهر «سارتر» بسبب «جلسةٍ سرية»، وهي دليلٌ آخر على قدرة المسرح التي ليس لها نظير في التعبير عن الأفكار، ولكن الغريب أن تطير شهرة «سارتر» العالمية — شهرة سيئة في الواقع — ليصبح ذلك «الوحش المقدَّس» من خلال المنبر القديم: المحاضرات العامة.

بعد عام من تقديم المسرحية كان السلام قد عاد إلى «فرنسا»، وراح الكل — خاصة الشباب — يحاول تعويض سنوات الثقافة المفقودة ويبحث عن أكسير الحقيقة بعد الحرب. كان الشيوعيون والديمقراطيون الاشتراكيون الكاثوليك (MRP) — وكانت قوة وليدة — يحاربون معركةً طاحنة للسيطرة على الحرم الجامعي.

استخدم «سارتر» فلسفته لكي يقدِّم البديل: ليس الكنيسة ولا الحزب، وإنما فلسفة للفردية يبدو فيها كل كائنٍ حي سيدًا مطلَق الحرية عندما يختار طريق الفعل والشجاعة. كانت رسالة حرية بعد الكابوس الشمولي. كان «سارتر» بالفعل قد رسخَت مواهبه وقدراته كمحاضرٍ ساحر بسلسلةٍ ناجحة عن «الأساليب الاجتماعية في الرواية» التي ألقاها في شارع «جان جاك» في خريف ١٩٤٤م وحينذاك ألمح فقط إلى بعض مفاهيمه، بعد عام وكانت «فرنسا» قد أصبحَت حرة ومتعطشة للإثارة الفكرية أعلن عن محاضرةٍ عامة في «سال دي سنترو» — ٨ شارع جان جوجون — في التاسع والعشرين من أكتوبر ١٩٤٥م، لم تكن كلمة «الوجودية» من عنده، ويبدو أنها من اختراع الصحافة. ففي شهر أغسطس السابق كان قد طلب منه أن يعرِّف المصطلح فقال: «الوجودية؟ أنا لا أعرف ما هي. كل ما أعرفه أن فلسفتي فلسفة وجود.» الآن كان عليه أن يتبنَّى الاصطلاح الذي سكَّه الإعلام ليجعل عنوان محاضراته: «الوجودية فلسفة إنسانية» وكما قال «فيكتور هوجو»: «ليس هناك أقوى من فكرةٍ تجيء في زمانها.»

كان زمن «سارتر» قد جاء على نحوَين متميزَين. كان يبشِّر بالحرية وسط أناسٍ جائعين لها وينتظرونها، ولكنها لم تكن حريةً سهلة.

يقول «سارتر»: «الوجودية تعرف الإنسان بأفعاله … تقول له أن الأمل لا يوجد إلا في الفعل، وأن الشيء الوحيد الذي يجعله يعيش هو الفعل»؛ ولذلك «فالإنسان يلتزم بحياته وهكذا يستمد صورته التي لا يوجد بعدها شيء.» كما يقول: «إن الإنسان الأوروبي الجديد في ١٩٤٥م هو الفرد الوجودي الجديد — وحده وبلا أعذار — وهذا ما أقصده بقولي إننا محكوم علينا بالحرية.»18

هكذا كانت حرية «سارتر» الوجودية والجديدة شديدة الجاذبية لجيلٍ ضال، وحيد، فقير، نبيل، عدواني إلى حدٍّ ما — حتى لا نقول عنيفًا — ضد النخبوية، شعبي، ولا يُستثنى من ذلك أحد. كان أي شخص خاصة من الصغار يمكن أن يكون وجوديًّا.

الأمر الثاني أن «سارتر» كان يرأس واحدة من تلك الثورات المرحلية بأسلوبٍ فكري. بين الحربَين كانت طبقة المثقفين الفرنسيين قد سئمَت التجاوزات النظرية للمعركة الطويلة حول «دريفوس» وأشلاء الفلاندز وفضلَت العزلة. وكان هذا التوجه قد أرساه «جوليان بندا» الذي شجَّع كتابه الناجح «خيانة المثقفين» (١٩٢٧م) الابتعاد عن الالتزام بعقيدة أو بحزب أو قضية، والتركيز على المبادئ المجرَّدة والنأي بالنفس عن ميدان السياسة. وكان «سارتر» شخصيًّا أحد الذين التفتوا إلى «بندا»، وحتى سنة ١٩٤١م لم يكن هناك من هو أقل منه التزامًا، ولكن الآن وبعد أن اختبر الجو ببالونات الهواء الساخن لديه استشم نسيمًا مختلفًا أسس هو وأصدقاؤه مجلةً جديدة «الأزمنة الحديثة» ورأس تحريرها، وظهر العدد الأول منها الذي يضم بيانه التحريري في شهر سبتمبر، وكان نداءً مُلحًّا للكُتاب بالالتزام مرةً أخرى.

«للكاتب مكانٌ في زمنه. كل كلمة لها صداها، وكذلك كل صمت، وأنا أعتبر «فلوبير»، و«إدموند»، و«جونكور» مسئولين عن القمع الذي تلا الكوميونة لأنهما لم يكتبا سطرًا واحدًا لمَنعه، ربما قال قائل منكم إن ذلك لم يكن من واجبهما، ولكن هل كانت محاكمة «كالا» من واجب «فولتير»؟ وهل كانت إدانة «دريفوس» من واجب «زولا»؟»19

كانت تلك أرضية المحاضرة وكان هناك توترٌ ثقافي في «باريس» في ذلك الخريف. قبل ثلاثة أيام من محاضرة «سارتر» شهدَت «باريس» انفجارًا عاطفيًّا أثناء افتتاح عرضَين للباليه في مسرح الشانزليزيه، عندما علت أصوات الجمهور بالاستهجان ضد ستار «بيكاسو».

لم يتم الإعلان عن محاضرة «سارتر» بكثافة، لم يظهر سوى بضع كلمات في خانة الإعلانات الصغيرة في «ليبراسيون» و«لوفيجارو» و«ليموند» و«كومبات»، وعندما اقترب «سارتر» من القاعة في الساعة الثامنة والنصف كان الزحام شديدًا في الخارج فتصوَّر أنها كانت مظاهرةً منظمة من قِبل الحزب الشيوعي، زحام من جماهير تريد الدخول، ولأن القاعة كانت قد امتلأَت عن آخرها، أصبحوا لا يسمحون إلا بدخول المشاهير أو الشخصيات المهمة، وكان على أصدقاء «سارتر» أن يفسحوا له طريقًا لكي يدخل بصعوبة. في الداخل، وبسبب الزحام كان قد أُغمي على عدد من النساء وبدأَت المحاضرة متأخرة عن موعدها. كانت الحكاية كلها محاضرة أكاديمية في الفلسفة، ولكن تلك الظروف المحيطة بها جعلَت منها أهم حدثٍ إعلامي بعد الحرب، وبالمصادفة كان «جوليان بندا» يُلقي محاضرةً عامة في نفس الليلة، في قاعةٍ شبه خالية من الجمهور. كانت التغطية الصحفية لمحاضرة «سارتر» مذهلة.20 عددٌ كبير من الصحف نشر آلاف الكلمات من نَص «سارتر» رغم النقص الشديد في الورق في تلك الأيام. كل ما قاله والطريقة التي قال بها كان محل استهجانٍ شديد. قالت الجريدة الكاثوليكية اليومية «لاكروا» إن الوجودية «أشد خطرًا من عقلانية القرن الثامن عشر ووضعية القرن التاسع عشر»، واتفقَت في الرأي مع «لي هيومانيتيه» على أن «سارتر» عدو للجميع. وبعد فترةٍ وجيزة تم إدراج كل أعمال «سارتر» على قائمة الكتب الممنوعة من قِبل «الفاتيكان»، وقال عنه «ألكساندر فادييف» القوميسار الثقافي ﻟ «ستالين» إنه «ابن آوى يحمل آلةً كاتبة، ضبع يمسك بقلم حبر». كذلك أصبح «سارتر» محل غيرةٍ مهنية شديدة. مدرسة «فرانكفورت» التي كانت تكره «برخت» أصبحَت تكرهه بدرجةٍ أشد. «ماكس هوركهايمر» كان يعتبره «المحتال والمبتز في عالم الفلسفة»، ولكن كل هذا الهجوم كان يسرع بقوَّته فتمحق كل مَن يعترض طريقها.
والآن، كان «سارتر» قد أصبح مثل الكثيرين من كبار المثقفين قبله، خبيرًا في فنون الدعاية لنفسه، وما لم يكن يفعله كان يقوم بعمله من أجله أصدقاؤه ومريدوه. علقَت صحيفة «ساميدي سوار» بالقول: «لم نشهد انتصارًا دعائيًّا كهذا منذ أيام بارنوم.»21

وكلما كان الهجوم يتزايد على ظاهرة «سارتر» كانت تزدهر «الأزمنة الحديثة»، في عددها الصادر في نوفمبر أشارت إلى أن «فرنسا» كانت بلدًا مهزومًا منهار المعنويات، وكل ما خلَّفَته هو الأدب وصناعة الأزياء، وأن «الوجودية» هدفها أن تمنح الفرنسيين بعض الكرامة وتُبقي على خصوصيتهم في عصرٍ يتسم بالتفسخ. وهكذا يصبح اتِّباع «سارتر» عملًا وطنيًّا. وفي شهرٍ واحد باع كتابٌ صغير يضم محاضرته — وتمَّت طباعته بسرعة — أكثر من نصف مليون نسخة.

والأكثر من ذلك أن الوجودية لم تكن فلسفةً تُقرأ، كانت جنونًا يستمتع الناس به، يقول كتابٌ تعليمي عنها: «الوجودية مثل العقيدة لا يمكن شرحها، يمكن أن تعيشها.» وكان «سارتر» يعلِّم الناس أين يعيشونها،22 ولم يكن أمرًا جديدًا أن يصبح «سان جيرمان دي برس» مركزًا لصرعةٍ فكرية جديدة. كان «سارتر» في الحقيقة يواصل السير على طريق «فولتير» و«ديدرو» و«روسو» الذين كانوا من الزبائن الأول لمقهى «بروكوب» القديم في مكانٍ قريب من البوليفار. وفي وقتٍ آخر كان يموج بالحياة في ظل الإمبراطورية الثانية في عصر «جوتييه» و«جورج صاند» و«بلزاك» و«زولا»، وكان ذلك عندما افتُتح مقهى «فلور» لأول مرةٍ وكان من بين زبائنه الدائمين «هويسمانز» و«أبولينير».23

ولكن في «باريس» ما قبل الحرب كان «المونبارناس» هو البؤرة الثقافية، حيث النبرة غير ملتزمةٍ سياسيًّا، وشاذة جنسيًّا إلى حدٍّ ما، وكوزموبوليتانية، وكانت تغشى مقاهيه الفتيات النحيلات اللائي ينتمين للجنسَين!

كان التحول إلى «السان جيرمان» تحولًا شديدًا لأنه كان تحولًا اجتماعيًّا وجنسيًّا وثقافيًّا في نفس الوقت؛ حيث كان «سارتر» يساريًّا، ملتزمًا، متجهًا نحو الجنس الآخر بشدة وشديد الفرنسية.

كان «سارتر» شخصيةً مرحة، يعشق الويسكي والجاز والبنات وعلب الليل. إن لم يكن في مقهى «فلور» أو اﻟ «دي ماجو» القريبة أو يتناول طعامه في «براسيري ليب» على الجانب الآخر من الطريق، كان لا بد أن تجده في علب الليل الجديدة أو الكهوف التي انشقَّت عنها فجأةً أحشاء الحي اللاتيني. في ملهى «روزيه روج» كانت هناك المغنية «جوليت جريكو» التي كتب لها أغنيةً جميلة، والكاتب والمؤلف الموسيقي «بوريس فيان» الذي كان يعزف على آلة «الترومبون» ويكتب في مجلة «الأزمنة الحديثة». وفي شارع «دوفيني» كان يوجد مقهى «تابو» و«بارفير» في شارع «جاكوب». أما «سارتر» نفسه فكان يعيش على مقربة من ذلك كله، في «٢٤ شارع بونابرت»، وكانت شقته تطل على كنيسة «سان جيرمان» ذاتها وعلى مقهى اﻟ «دي ماجو» (كانت أمه مقيمة هناك أيضًا وتُواصل اهتمامها بغسيل ملابسه). كانت للحركة جريدتها اليومية «كومبات» برئاسة تحرير «ألبير كامو» الذي كانت رواياته الواسعة الانتشار تُعتبَر وجودية.

فيما بعدُ كتبَت «سيمون دو بوفوار»: «كانت «كومبات» تنقل كل شيء يصدر عن أفوهنا وأقلامنا بشكلٍ مقبول.» كان «سارتر» يعمل طوال اليوم، يكتب بلا هوادة. وفي تلك الفترة كتب ملايين الكلمات: محاضرات، مسرحيات، روايات، مقدمات كتب، أحاديث إذاعية، قصص، سيناريوهات، ومقالات نقدية وفلسفية.24 وصفه «جاك أوديبرتي» بأنه «شاحنة تركن في كل مكانٍ محدثة جلبةً ضخمة … في المكتبة، في المسرح، في السينما». أما الليل فكان للَّعب. مع نهاية المساء يكون قد استبد به السكْر ويصبح عدوانيًّا. تشاجر مع «كامو» ذات مرة وأصابه بكدمةٍ سوداء حول عينه.25 كان الناس يجيئون لكي يحملقوا فيه، كان ملِك الحي، رئيس الغاضبين، سيد العارفين وفئران السراديب، وبكلمات «جان بولهان»: «كان الزعيم الروحي لألوف الشباب.»

ولكن إذا كان «سارتر» هو الملك، فمَن تراها تكون الملكة؟

وإذا كان هو الزعيم الروحي لألوف الشباب، فإلى أين يا تُرى كان يقودهم؟ سؤالان مستقلِّان رغم أنهما متصلان ويجب تناولهما على التوالي.

كان «سارتر» قد أصبح مشهورًا على المستوى الأوروبي بحلول شتاء ١٩٤٥-١٩٤٦م، وكان قد مر على بدء علاقته ﺑ «سيمون دو بوفوار» عقدان من الزمان تقريبًا. «سيمون» كانت فتاة من «مونبارناس»، ووُلدَت بالفعل فوق مقهى «روتوند الشهير». كانت طفولتها صعبة، تحطمَت أسرتها بسبب إفلاسٍ شائن أَودَى بجدها إلى السجن، مهر أمها لم يُسدَّد أبدًا، كان والدها عاطلًا متسكعًا لم يمارس عملًا مناسبًا في حياته.26 كتبَت «سيمون دو بوفوار» بمرارةٍ شديدة عن والدَيها: «كان والدي مقتنعًا بجريمة «دريفوس» كما كانت أمي مقتنعة بوجود الله.»27 وجدَت مهربًا في العمل بالتدريس وأصبحَت مثقفة ذات اهتماماتٍ فكرية … وكانت أنيقة. في جامعة «باريس» كانت طالبة متميزة في الفلسفة وجذبها «سارتر» ودائرته. قال لها: «من الآن سوف أخذك تحت جناحي.» وظل ذلك صحيحًا بمعنًى ما، رغم أن علاقتهما كانت سكِّينًا ذا حدين بالنسبة لها. كانت أطول منه ببوصةٍ واحدة وأصغر منه بثلاث سنوات. وبمعنًى أكاديمي محدد كانت أكثر مقدرة منه. يقول «موريس دي جانديلاك» — أحد معاصريها — إن عملها «صارم ودقيق وبارع وعلى درجةٍ عالية من الفنية.» ورغم صِغر سنها كانت تنافس «سارتر» على المركز الأول في مادة الفلسفة، وكان الممتحنان «جورج ديفي» و«جان واهل» يعتبرانها الأفضل.28 ومثل «سارتر» كانت كاتبةً قوية ومُجيدة في مجالاتٍ عدَّة. لم تكتب مسرحيات، ولكن أعمالها الأوتوبيوجرافية (السيرة الذاتية) أكثر تشويقًا من كتاباته رغم أنها ليست صادقة تمامًا. وروايتها الرئيسية «الصفوة المثقفة»، التي تصور عالم الأدب بعد الحرب وحققَت لها جائزة «الجونكور» أفضل بكثير من أي رواية ﻟ «سارتر».

إلى جانب ذلك لم يكن فيها أي شيء من عيوبه سوى الكذب. إلا أن هذه المرأة الذكية صاحبة العقل القوي أصبحَت عبدًا ﻟ «سارتر» منذ لقائهما الأول تقريبًا، وظلَّت هكذا طوال حياتها وحتى آخر العمر.

كانت تقوم على خدمته كعشيقة وزوجة سرية وطباخة ومديرة منزل وحرس نسائي وممرضة، ودون أن تطلب أي وضعٍ قانوني أو مالي في أي وقت. وفي كل تلك الأدوار لم يعاملها «سارتر» أفضل مما كان «روسو» يعامل «تيريز» بل ربما أسوأ. لم يكن مخلصًا لها، ولا تجد في سجلات الأدب حالاتٍ كثيرة أسوأ من ذلك من زاوية استغلال المرأة. وتُعتبَر تلك الحالة هي الأكثر غرابة لأن «دو بوفوار» كانت من رائدات الحركة النسوية طوال حياتها. في سنة ١٩٤٩م كتبَت أول بيان حديث للحركة النسوية «الجنس الثاني» وكان توزيعه جيدًا في جميع أنحاء العالم.29 من كلماته الافتتاحية: «إنها لا تولد امرأة … وإنما تصبح امرأة» وهي صدى واع لافتتاحية «روسو» في «العقد الاجتماعي». كانت «بوفوار» في الواقع هي سلف الحركة النسوية، ويجب اعتبارها — عن حق — الراعي الأول لها، ولكنها في حياتها كانت تخون كل ما تدافع عنه. وليس واضحًا كيف استطاع «سارتر» أن يفرض عليها تلك السيطرة التامة، حيث إنها لم تكتب عن تلك العلاقة بأمانة … ولا هو حاول. عندما الْتقَيا كان هو الأكثر قراءةً واطلاعًا وقدرة على تقطير قراءاته وتحويلها إلى مونولوجات حوارية لم تستطع أن تقاومها. كانت سيطرته عليها ذات صبغةٍ فكرية ولا يمكن أن تكون ذات طابعٍ جنسي. كانت عشيقته معظم سنوات الثلاثينيات ولكنه توقف عن ذلك في مراحل معينة، ويبدو أن العلاقة الجنسية بينهما لم تكن موجودة في الأربعينيات، كانت توجد فقط في حال عدم وجود البديل الأفضل!

كان «سارتر» نموذجًا مثاليًّا لما كان يُسمَّى بالشوفينية الذكورية في الستينيات. كان هدفه هو أن يصنع لنفسه في الكبر جنة الطفولة الباكرة التي كان مركزها وسط تعريشة معطرة بحب النساء المعجبات به.

كان يفكر في النساء بأسلوب الانتصار والغزو، يقول في «الغثيان»: «كانت كل نظرية من نظرياتي فعل غزو وامتلاك، وكنت أعتقد أنني بفضلها سوف أغزو العالم ذات يوم.» كان يريد كل الحرية لنفسه. وكتب: «كنت قبل كل شيء أحلم بتأكيد هذه الحرية ضد النساء.»30 وعلى عكس غواة النساء المجربين لم يكن «سارتر» يكرههن، بل كان في الحقيقة يفضلهن على الرجال، ربما لأنهن كن أقل ميلًا للجدل معه. كتب: «أفضِّل أن أتحدث أتفه الأشياء مع امرأة عن الحديث عن الفلسفة مع «آرون».»31 كان يحب كتابة الرسائل لهن، وبالعشرات يوميًّا. لم يكن يراهن كأفراد بل كعلامات انتصار يضيفها إلى حزام قنطوره١ أما محاولاته للدفاع عن سياسته في الغزو وتبريرها فلا تضيف سوى طبقة من الرياء. وهكذا كان يقول «إنه يريد أن يقهر امرأة تمامًا كقولك إنك تريد أن تقهر حيوانًا متوحشًا»، ولكن ذلك «كان لمجرَّد أن يحولها من وضعها الوحشي إلى وضع المساواة بالرجل» أو بالنظر إلى غزواته الباكرة كان يفكر في «عمق الاستعمار في ذلك كله».32 ولكن لا يوجد دليل على أن أفكارًا كتلك حدث أن جعلَته يبتعد عن صيدٍ محتمل، كانت فقط للتاريخ!

عندما أغوى «سيمون دو بوفوار» في البداية لخَّص لها فلسفته الجنسية. كان صريحًا حيث قال لها عن رغبته أن ينام مع نساءٍ كثيرات وأن عقيدته كانت «السفر، تعدد النساء، الشفافية».

في الجامعة كان أحد الزملاء قد لاحظ أن اسمها كان يشبه الكلمة الإنجليزية «Beave» والتي تقابل في الفرنسية كلمة «القندس» أو «السمور» «Castor». بالنسبة ﻟ «سارتر» كانت هي دائمًا «كاستور» أو حضرتك «Vous» لم يخاطبها أبدًا ﺑ «أنت» «Tu».33 يشعر المرء أحيانًا أنه كان يعتبرها حيوانًا جيد التدريب. كتب عن سياسته «لتأكيد» حريته ضد النساء: «قبلَت كاستور تلك الحرية وحافظت عليها.» أفهمها أن هناك نوعَين من النشاط الجنسي (Sexuality): «الحب الضروري» و«الحب العارض»، والثاني ليس مهمًّا لأنه يتم مع أطرافٍ مؤقتة.34
أما حبه لها فكان من النوع «الضروري» … الدائم. كانت هي المركز ولم تكن طرفًا من الأطراف. وبالطبع كانت لديها الحرية لكي تمارس نفس السياسة. كان يمكن أن يكون لها «أطرافها» هي الأخرى طالما أن «سارتر» يبقى هو المركز بالنسبة لها ويظل حبها الضروري، وكلاهما لا بد أن يُظهر الشفافية. وكانت تلك أيضًا كلمةً أخرى أو تسمية أخرى للعبة المثقفين المفضلة «المصارحة» الجنسية التي قابلناها عند «تولستوي» و«رسل». يقول «سارتر» إن كلًّا منهما كان عليه أن يخبر الآخر بما ينوي عمله، وكما كان متوقعًا أدَّت سياسة الشفافية أو المصارحة في النهاية إلى إضافة طبقاتٍ أخرى من التخفي ربما أكثر سُمكًا. حاولَت «دو بوفوار» أن تمارسها ولكن آلمها أنه كان يقابل أخبار علاقاتها بلامبالاة. لقد ضحك مثلًا عندما وصفَت له كيف حاول «آرثر كوستلر» إغواءها، كما كتبَت في كتابها عن النخبة المثقفة. هذا إضافةً إلى أن الذين استدرجوا إلى سياسة المصارحة لم يحبوا ذلك دائمًا. أهم علاقةٍ طرفية عندها وربما حب حياتها كان الروائي الأمريكي «نلسون ألجرين»، عندما كان في الثانية والسبعين وكان حبهما قد أصبح مجرَّد ذكرى، أعطى «ألجرين» مقابلة صحفية عبَّر فيها عن غضبه لأنها فضحَت ما كان بينهما، وقال إن ذكرها ذلك في كتابها كان شيئًا سيئًا رغم أنها أعطَته اسمًا آخر. ولكنها في الجزء الثاني من سيرتها الذاتية «ربيع العمر» لم تحدد اسمه فقط، وإنما اقتبسَت من رسائله إليها بحيث لم يكن أمامه سوى أن يعترف: «يا للجحيم! إن الرسائل الغرامية يجب أن تظل شأنًا خاصًّا»، «لقد دخلتُ مواخير في جميع أنحاء العالم كانت النساء فيها يغلقْن الأبواب سواء في كوريا أو الهند، ولكن هذه المرأة فتحت الباب على مصراعيه ودَعَت كل الناس والصحافة للفرجة».35 كان «ألجرين» غاضبًا لسلوك «دو بوفوار» لدرجة أنه أُصِيب بذبحةٍ صدرية بعد انصراف الصحفي الذي كان يحاوره ومات في نفس الليلة.
«سارتر» أيضًا كان يمارس المصارحة ولكن في حدود. في محادثاته ورسائله كان يخبرها بالنساء والبنات الجدد: هكذا: «هذه هي المرة الأولى في حياتي التي أنام فيها مع امرأةٍ سمراء … رائحة … مشعرة … زغب أسود في مستدق ظهرها … جسد أبيض … لسان مثل الزمارة لا يتوقف عن … يتغلغل في أعماق حلقي …»36 ومن المؤكد أنه لا توجد امرأة مهما كانت مركزيتها في علاقةٍ ما تتمنى أن تقرأ شيئًا مثل ذلك عن إحدى منافساتها. عندما كان «سارتر» في «برلين» سنة ١٩٣٣م ولحقَت به لفترةٍ قصيرة كان أول شيء يقوله لها أن له عشيقةً جديدة «ماري فيل»، ومثل «شلي» كان لديه ميل طفولي أن يوافق الحب القديم على الحب الجديد ويرتضيه. ولكن «سارتر» لم يكن يقول كل شيء، كان قد أعطاها خاتم زواج تلبسه عندما كانت تعمل مدرسة في «الروين» في الثلاثينيات أو عندما عاشت معه في «برلين»، وكانت تلك أقرب المناسبات لفكرة الزواج.

كان لهما لغتهما الخاصة، وكانا يسجلان في الفنادق باسم السيد والسيدة «أورجاناتيك» أو السيد والسيدة «مورجان هاتيك» المليونير الأمريكي، ولكن لا يوجد أي دليل على أنه كان يريد أن يتزوجها أو أنه أعطاها الخيار لعلاقةٍ أكثر رسمية. كما أنها لا تعرف أنه عرض الزواج على كثير من علاقاته الطرفية في ظروفٍ عدَّة.

وواضح أن الحياة التي عاشاها معًا كانت تسير ضد ميولها وعلى غير رغبتها. لم تستطع «دو بوفوار» أن توطِّن نفسها على قبول عشيقاته برباطة جأش. كانت مستاءة من «ماري فيل»، وأكثر استياءً من التي تلَتها … «أولجا كوزاكيفتش»، والأخيرة كانت إحدى شقيقتَين («واندا» … الأخرى أصبحَت أيضًا عشيقة له) وإحدى تلميذات «دو بوفوار» لكي يزداد الطين بلة. كانت «دو بوفوار» تكره علاقته ﺑ «أولجا» جدًّا لدرجة أنها وضعَتها في روايةٍ لها … «الضيف» وقتلَتها.37 وتعترف في سيرتها الذاتية: «تضايقتُ من «سارتر» لأنه خلق هذا الموقف، ومن «أولجا» لأنها استغلَّته»، وردَّت على ذلك «لم يكن لدي النية أن أتنازل عن تلك المنزلة الممتازة التي كنت أحتلها دائمًا … وهي أن أكون في قلب قلب الكون».38 ولكن أي امرأة تشعر بالاضطرار لأن تشير إلى حبيبها بأنه «قلب قلب الكون» لا يمكن أن تكون في وضعٍ قوي يمكِّنها من إيقاف انحرافه عنها. كل ما فعلَته هو أنها حاولَت أن تتحكم في انحرافاته بشكلٍ من المشاركة. كان الثلاثة: «سارتر» و«سيمون» و«الأخرى» — التي كانت غالبًا إحدى تلميذاته أو تلميذاتها — يشكِّلون أضلاع مثلث، و«بوفوار» في موضع الإشراف عليه. كان اصطلاح «التبني» هو المستخدَم دائمًا. في أوائل الأربعينيات كان «سارتر» قد أصبح مشهورًا بإغواء تلميذاته، وفي نقدٍ عدائي لمسرحيته «جلسة سرية» كتب الناقد «روبرت فرانسيس»: «مَن منا لا يعرف السيد «سارتر» إنه مدرس فلسفة غريب الأطوار متخصص في دراسة الملابس الداخلية لتلميذاته.»39 ولكن حيث إن «سيمون» كانت تقوم بالتدريس لبناتٍ «أفضل»، كانت معظم ضحايا «سارتر» من بينهن. بل يبدو أنها كانت قريبة — أحيانًا — من دَور القوَّادة، ولأنها كانت مملوءة بالرغبة في ألا تكون مستبعدة من مجال حبه، عقدَت صداقاتٍ حميمة مع البنات، إحداهن كان اسمها «ناتالي سوروكين» ابنة روسي في المنفى وكانت أفضل تلميذات «دو بوفوار» في «ليسيه موليير» في «باسي» التي كانت تقوم بالتدريس بها أثناء الحرب، في عام ١٩٤٣م اتهم والد الفتاة «سيمون دو بوفوار» رسميًّا باختطاف ابنته القاصر، وهي مخالفةٌ جنائية كبيرة تمخضَت عن حكمٍ بالسجن. وبعد تدخُّل من أصدقاء مشتركين أُسقطَت التهمة الجنائية، ولكن «سيمون» مُنعَت من التدريس في الجامعة، كما سُحِب منها الترخيص بالتدريس في أي مكان في «فرنسا» طوال حياتها.40

أثناء الحرب كانت «سيمون» أقرب إلى أن تكون زوجةً فعلية له؛ تطبخ وتخيط الملابس وتغسل وتدبِّر أموره المالية، ولكن في نهاية الحرب وجد نفسه غنيًّا فجأة، محاطًا بالنساء اللائي جذبهن بريقه الثقافي وشهرته الواسعة.

كانت سنة ١٩٤٦م أفضل سنوات صولاته وجولاته النسائية، وهي التي كانت بالفعل نهاية علاقته الجنسية ﺑ «سيمون»: «في مرحلةٍ باكرة نسبيًّا — كما يقول «جون ويتمان» — قبلَت «سيمون» ضمنًا بدور الزوجة القديمة المتقاعدة جنسيًّا على الهامش بين حريمه».41 كانت تزمجر بسبب «الأموال التي ينفقها عليهن»،42 وكانت تلاحظ بقلق أنه كلما تقدم في السن كان يميل إلى البنات والنساء الأصغر سنًّا (١٧-١٨ سنة)، وكان يتكلم عن «التبني»، بالمعنى القانوني، أي أن يرِثن حقوق نشر أعماله. وكانت هي تقدم لهن النصح والتحذير كما كانت تفعل «ويجل» مع بنات ونساء «برخت» رغم أنها لم تكن تتمتع بنفس الوضعية القانونية للمرأة الألمانية.

كان «سارتر» يكذب عليها باستمرار. عندما كان في زيارة ﻟ «أمريكا» في ١٩٤٦م، ١٩٤٧م، ١٩٤٨م كان يصلها تقريرٌ مفصَّل عن علاقته المتقدة بسيدةٍ اسمها «دولوز»، وبينما كان يقول لها إنه قد «سئم تلك العاطفة المرهقة» كان في الحقيقة يعرض عليها الزواج. ثم كانت هناك «ميشل» زوجة «بوريس فيان»؛ «البيضاء كالعسل»، و«واندا» الجميلة شقيقة «أولجا» و«إيفيلين راي» الممثلة الشقراء الغريبة التي كتب لها دورًا في آخر مسرحياته «سجناء ألطونا»، كما كانت هناك «آرليت» التي كانت في السابعة عشرة عندما التقطها — أكثر مَن كانت تكرههن «سيمون» — و«هيلين لاسيثيو تاكيس» الفتاة اليونانية الصغيرة. وفي وقتٍ ما في أواخر الخمسينيات كان يقيم علاقة مع أربع عشيقات في وقتٍ واحد: «ميشيل» و«آرليت» و«إيفيلين» و«واندا» بالإضافة إلى «سيمون» وكان يخدعهن جميعًا على نحوٍ أو آخر.

أهدى كتابه «نقد العقل الجدلي» (١٩٩٠م) علنًا إلى «سيمون»، ولكنه طلب من ناشره «جاليمار» أن يطبع نسختَين سرًّا مع إهداء إلى «واندا». وعندما صدرَت «سجناء ألطونا» أخبر كلًّا من «واندا» و«إيفيلين» أن الكتاب كان مُهدى لها.

أحد أسباب كراهية «سيمون» لأولئك الشابات هو أنها كانت تعتقد أنهن يشجعْنه على حياة الإسراف والتطرف، ليس في الجنس فقط وإنما في الكحول والمخدرات. أنجز «سارتر» كمًّا كبيرًا من الكتابة والأعمال الأخرى بين عامَي ١٩٤٥–١٩٥٥م، ولكي يستطيع ذلك كانت كمية ما يتعاطاه من كحوليات ومخدرات تتزايد باستمرار. أثناء زيارة له ﻟ «موسكو» سنة ١٩٤٥م سقط من فرط الشراب وحملوه إلى المستشفى، ولكنه بمجرَّد أن يفيق من سكره كان يكتب مرةً أخرى ثلاثين أو أربعين صفحة في اليوم ويتعاطى غالبًا أنبوبةً كاملة من حبوب «الكوريدران» لكي يواصل، (وهو عقارٌ سُحِب من الأسواق في سنة ١٩٧١م لخطورته) ويبدو أن كتاب نقد العقل الجدلي قد كُتِب تحت تأثير الكحول والمخدرات، تقول «آني كوهين سولال» كاتبة سيرته أنه عادةً ما كان يشرب ربع جالون من النبيذ أثناء غداء قد يستمر ساعتَين سواء في «ليب» أو «كوبول» أو «بالزار» أو أي مأوًى مفضَّل. وتحسب له الجرعات التي يتعاطاها يوميًّا في تلك الفترة بأنها تحتوي على: علبتَي سجائر، عدَّة حشوات من التبغ الأسود للبايب، ربع جالون من الكحول (وهي بشكلٍ أساسي الويسكي والفودكا والنبيذ والبيرة)، ٢٠٠ مليجرام من الأمفيتامين و١٥ جرامًا من الأسبرين، كمية كبيرة من المسكنات … وهذا كله بالإضافة إلى الشاي والقهوة.43

والحقيقة أن «سيمون» لم تكن منصفة في معاملتها للعشيقات الصغيرات. كنَّ جميعًا يحاولن إصلاحه، وكانت «آرليت» — وهي أصغرهن — هي الأكثر حرصًا على ذلك لدرجة أنها انتزعَت منه ذات يوم تعهدًا مكتوبًا بأنه لن يقرب «الكوريدران» ولا التبغ ولا الكحول … ولكنه أخل بذلك التعهد في الحال!

ولأنه كان معظم الوقت محاطًا بالمعجبات — رغم نكده — كان للرجال في حياته وقتٌ قليل. توالى على العمل في السكرتارية معه أكثر من رجل، كان بعضهم ذا قدراتٍ عالية مثل «جان كاو»، كما كان يحيطه باستمرارٍ مجموعة من المثقفين الشباب من الذكور، ولكن هؤلاء جميعًا كانوا يعتمدون عليه ماديًّا سواء في الإنفاق عليهم أو رعايتهم، أما الذي لم يكن ليستطيع هضمه طويلًا فهو ذلك النوع من المثقفين الذكور الذين كانوا في مثل سنه أو مستواه، الذين يستطيعون الرد على أطروحاته في أي وقت، والتي غالبًا ما كانت طنانة وغير دقيقة. كان «نيزان» قد قُتِل قبل أن تحدث قطيعةٌ بينهما، ولكنه تشاحن مع الآخرين جميعًا: «ريموند آرون» (١٩٤٧م)، «آرثر كوستلر» (١٩٤٨م)، «ميرلوبور» (١٩٥١م)، «كامو» (١٩٥٢م)، وأولئك فقط هم الأشهر. كانت خصومته مع «كامو» عنيفة مثل خصومة «روسو» مع «ديدرو»، و«فولتير» و«هيوم»، أو «تولستوي» مع «تورجنيف». وعلى عكس الحالة الأخيرة لم تسؤ الأمور.44
ويبدو أن «سارتر» كان يغار من وسامة «كامو» — التي جعلَته جذابًا بالنسبة للنساء — ومن قدرته وأصالته كروائي. كانت رواية «الطاعون» التي نُشرت في يونيو ١٩٤٧م قد أحدثَت أثرًا كبيرًا بين الشباب وبِيع منها ٣٥٠٫٠٠٠ نسخة في وقتٍ قصير، وبعد نقدٍ أيديولوجي لها في «الأزمنة الحديثة» استمرَّت الصداقة بينهما ولكن على نحوٍ غير مريح. وعندما انحرف «سارتر» ناحية اليسار أصبح «كامو» أكثر استقلالية وكان على نحوٍ ما يحتل نفس مكانة «جورج أورويل» في بريطانيا تقريبًا؛ وضع نفسه ضد كل الأنظمة السلطوية وأصبح يرى «ستالين» شريرًا بنفس مستوى «هتلر». و«كامو» مثل «أورويل» — بعكس «سارتر» — كان يعتقد أن الناس أهم من الأفكار. تقول «سيمون دو بوفوار» أنه قال لها فيما بينهما في سنة ١٩٤٦م: «الشيء المشترك بيني وبينك هو أن الأفراد عندنا أهم من أي شيءٍ آخر. نحن نفضل المحسوس على المجرَّد، والناس عن الأفكار، ونقدم الصداقة على السياسة.»45

ربما كانت «سيمون» مقتنعة بذلك في داخلها، ولكن عندما جاءت القطيعة الأخيرة بسبب كتاب «كامو»: «الإنسان المتمرد» (١٩٥١-١٩٥٢م) انحازت بالطبع لمعسكر «سارتر».

وجد «سارتر» وكهنته في «الأزمنة الحديثة» أن الكتاب هجوم على الستالينية فقرروا التصدي له على مرحلتَين. في المرحلة الأولى صدَّر «سارتر» كاتبًا شابًّا في التاسعة والعشرين هو «فرانسيس جانسون» ليكتب عن الكتاب، وقال في اجتماع التحرير أنه «سيكون الأشد قسوة ولكنه على الأقل سيكون مهذبًا»، ثم عندما رد «كامو» كتب «سارتر» نفسه هجومًا طويلًا وسيئًا يتناول «كامو» شخصيًّا: «لقد تملكَتك دكتاتوريةٌ مظهرية عنيفة، مدعومة ببيروقراطية غريبة تتظاهر أنها تحكم بناء على قانونٍ أخلاقي»، وأنه كان «يعاني من كبرياءٍ جريح»، وقد انغمس في «معركة مع كاتبٍ صغير» … «إن جمعك بين الغرور الكئيب وعدم تحملك للنقد كانا دائمًا لا يشجعان الناس على مواجهتك بالحقيقة دون تزويق».46 في ذلك الوقت كان اليسار كله وراء «سارتر»، وسبَّب الهجوم ضررًا بالغًا ﻟ «كامو» وربما أذاه — كان رجلًا سريع التأثر — وكان أحيانًا يصاب بالاكتئاب بسبب القطيعة مع «سارتر»، وفي أحيان أخرى كان يراه إنسانا مهرجًا «رجل ما زالت أمه تسدد عنه ضريبة الدخل».

إن عدم قدرة «سارتر» على الحفاظ على صداقة أي شخص من مستواه الثقافي أو الفكري قد يساعد على فهم عدم ترابط وتماسك أفكاره السياسية وطَيشها أحيانًا، والحقيقة أن «سارتر» لم يكن حيوانًا سياسيًّا بطبعه، وفي الحقيقة أيضًا أنه لم يعتنق أية آراء ذات أهمية قبل الأربعين، وبمجرَّد أن فارق أمثال «كوستلر» و«آرون» — كلاهما كان قد نضج سياسيًّا في أواخر الأربعينيات — أصبح «سارتر» يمكن أن يمنح تأييده لأي شخص وأي شيء.

في سنة ١٩٤٦-١٩٤٧م وبعد أن أصبح واثقًا جدًّا من مكانته بين الشباب، كان مترددًا في اختيار الحزب الذي يؤيده، ويبدو أنه كان يعتقد أن من واجب المثقف الأخلاقي أن يساند «العمال»، والمشكلة أن «سارتر» لم يعرف ولم يبذل أي جهد ليقابل «أي عمال» غير سكرتيره اللامع «جان كاو»، والذي كان من أصلٍ بروليتاري ولكنه كان يعتبره من العمال.

أليس من واجبه إذن أن يساند الحزب الذي يسانده معظم العمال؟ في الأربعينيات ﺑ «فرنسا» كان ذلك يعني «الشيوعيون» ولكن «سارتر» لم يكن ماركسيًّا، بل إن الماركسية في الحقيقة كانت هي النقيض للفلسفة شديدة الفردية التي كان يبشر بها.

ورغم ذلك لم يستطع أن يدين الحزب الشيوعي أو الستالينية أواخر الأربعينيات، وهو أحد أسباب خلافه مع «آرون» و«كوستلر».

كتب تلميذه السابق «جان كابابا» — وكان قد أصبح مثقفًا شيوعيًّا بارزًا — يقول: «إنه حيوانٌ خطر يحب أن يلهو بالماركسية؛ لأنه لم يقرأ «ماركس» ومعلوماته عنها قليلة.»47
الخطوة الإيجابية الوحيدة له أنه ساعد على تنظيم حركة معارضة للحرب الباردة بين اليسار غير الشيوعي في فبراير ١٩٤٨م باسم: التجمع الثوري الديمقراطي (RDR)، كان يُسمِّيها «الدولية العقلية»، تهدف إلى تجنيد مثقفي العالم، وموضوعها الوحدة الأوروبية. وفي كلمة له في يونيو ١٩٤٨م كان ينادي: «يا شباب أوروبا سوف يخلق هذا الجيل الجديد الديمقراطية.»48
ولو أن «سارتر» حقيقة كان يريد أن يلعب بالورقة الأوروبية ويصنع التاريخ لكان قد دعم «جان مونيه» الذي كان يرسي أُسس التحرك الذي سوف يتجه إلى الوحدة الأوروبية بعد ذلك بعشر سنوات، ولكن ذلك كان يعني الاهتمام الكبير بتفاصيل اقتصادية وإدارية كثيرة، الأمر الذي كان «سارتر» يراه مستحيلًا. وبالضبط كما رآه رفيقه في تنظيم اﻟ (RDR) «ديفيد روسيت»: لا فائدة منه «ورغم بُعد نظره كان يعيش في عالمٍ منعزل تمامًا عن الواقع.»
يقول «روسيت»: «كان منغمسًا جدًّا في اللعب بالأفكار وتحريكها، ولكنه كان قليل الاهتمام بالأحداث الفعلية.» «كان «سارتر» يعيش الوهم.» عندما عقد أول مؤتمرٍ عام للحزب في يونيو ١٩٤٩م لم يجدوه في أي مكان. كان في المكسيك مع «دولوز» يحاول إقناعها بالزواج منه. انتهت اﻟ (RDR) ببساطة وحول اهتمامه المتذبذب إلى حركة «جاري ديفز» العبثية: «مواطني العالم». كان الروائي المستقل والكاثوليكي الساخر «فرانسوا مورياك» يقدم نصائحه العلنية ﻟ «سارتر» مرددًا كلمات صديقه «روسو» الساخرة: «على فيلسوفنا أن يستمع إلى صوت العقل ويترك السياسة ويدرس الرياضيات».49
ولكن «سارتر» بدلًا من ذلك تبنَّى قضية «جان جينيه» اللص الشاذ، ذلك المحتال الذي كان يروق للجانب الساذج من طبيعة «سارتر» والذي كان يبحث عن بديلٍ للإيمان الديني. كتب عن «جينيه» كتابًا ضخمًا وغريبًا (٧٠٠ صفحة) كان في حقيقته احتفالًا بالتناقض والفوضى والانحلال الجنسي. وفي رأي العقلاء من أصدقائه كانت تلك هي النقطة التي توقَّف عندها «سارتر» بدل أن يكون مفكرًا منهجيًّا جادًّا، وتحول إلى مثقف إثارة.50 والغريب أن «سيمون» التي كانت أكثر عقلانية والتي كانت تبدو وتلبس وتفكر مثل مُدرِّسةٍ قديمة لم تستطع أن تفعل الكثير لإنقاذه من تلك الحماقات، إلا أنها كانت حريصة على الاحتفاظ بحبه وبمكانها في بلاطه وكانت تشعر بالقلق لإسرافه في الشرب والمخدرات، ولكي تحتفظ بثقته كانت تشعر أنها لا بد أن تستمر معه، لذلك كانت تمثِّل الصدى بالنسبة له أكثر منها ناصحةً أمينة وأخذَت العلاقة بينهما هذا الشكل، كانت تدعم أحكامه السيئة وتدشن حماقاته؛ فهي مثله أيضًا لم تكن حيوانًا سياسيًّا، وفي وقتٍ ما كانت تُدلي بنفس الهراء عن الأحداث العالمية.

في سنة ١٩٥٢م حسم «سارتر» تردده بشأن الحزب الشيوعي وقرر أن يسانده، وكان ذلك من منطلقٍ عاطفي وليس عقلانيًّا، وقد وصل إلى هذا القرار عبر تورطه في حملتَين دعائيتَين للحزب.

قضية «هنري مارتن» الذي كان جنديًّا في البحرية وسُجن لرفضه المشاركة في الحرب الهندية الصينية، وعملية القمع الوحشية التي قام بها للتمرد الذي نظمه الحزب الشيوعي ضد القائد الأمريكي لحلف شمال الأطلنطي الجنرال «ماثيو ريدجواي».51

وكما كان يرى كثيرون في ذلك الوقت؛ فإن حملة الحزب الشيوعي للإفراج عن «مارتن» أدَّت إلى أن تحتفظ السلطات به في السجن أطول مما قرروا، ولكن الحزب الشيوعي لم يعبأ بذلك — فقد كان اعتقاله يخدم أغراضهم — ولكن «سارتر» كان يجب أن يكون أذكى من ذلك.

وينكشف لنا تفكيره السياسي من اتهامه لرئيس الوزراء «أنطوان بيناي» — أحد قدامى البرلمانيين المحافظين — بأنه كان يقيم دكتاتورية.52

لم يُبدِ «سارتر» أبدًا أي اهتمام أو معرفةٍ حقيقية — دعك من الحماس — للديمقراطية البرلمانية، ولم يكن أبدًا يقصد بكلامه عن الحرية أن يكون للمرء صوتٌ انتخابي في مجتمعٍ متعدد الأحزاب … ولكن ماذا كان يقصد إذن؟ وهو سؤالٌ الإجابة عنه أكثر صعوبة.

لم يكن هناك أي معنًى منطقي بالمرة لأنْ ينحاز «سارتر» إلى الشيوعيين في سنة ١٩٥٢م، في نفس الوقت الذي كان الشيوعيون الآخرون يتركون فيه الحزب الشيوعي جماعات لأن جرائم «ستالين» كانت موثقة ومنشورة في أنحاء الغرب، هكذا وجد «سارتر» نفسه يقف على رأسه فلزم صمتًا مُريبًا إزاء جرائم «ستالين»، وكان دفاعه هذا الصمت تناقضًا صارخًا مع البيان الذي نشره في «الأزمنة الحديثة»: «بما أننا لم نكن أعضاء في الحزب أو عاطفيين مجاهرين، فلم يكن من واجبنا أن نكتب عن معسكرات العمل السوفيتية، كنا أحرارًا في أن نبقى بمنأى عن الجدل حول طبيعة ذلك النظام، طالما لم تقع أي أحداث ذات طبيعة اجتماعية».53 هكذا كان يقول ويجادل ولكن بصوتٍ خافت.
كما أجبر نفسه على الصمت إزاء المحاكمات التي عُقدَت في «براغ» ﻟ «سلانسكي» وغيره من الشيوعيين اليهود التشيك، والأسوأ من ذلك أنه ارتضى لنفسه أن يكون دبًّا يمثِّل في ذلك المؤتمر العبثي الذي عقدَته حركة السلام الشيوعية العالمية في «فيينا» في ديسمبر ١٩٥٢م، وكان معنى ذلك الإذعان ﻟ «فاداييف» الذي كان قد وصفه ﺑ «ابن آوى» وﺑ «الضبع» عندما قال أمام الوفود إن أهم ثلاثة أحداث في حياته كانت: الجبهة الشعبية في ١٩٣٦م والتحرير و«هذا المؤتمر» — وهي كذبةٌ واضحة — ولا تقل عن إلغاء عرض مسرحيته القديمة المعادية للشيوعية «الأيدي القذرة» في «فيينا» بأوامر من زعماء الحزب الشيوعي.54

وبعض الأشياء التي كان يفعلها أو يقولها خلال السنوات الأربع التي أيد فيها الحزب الشيوعي تستعصي على التصديق، فهو مِثل «رسل» يذكرنا بتلك الحقيقة المؤلمة في قول «ديكارت»: «لا شيء مغرق في العبث أو عصيٌّ على التصديق لم يؤكده فيلسوفٌ ما.»

في شهر يوليو ١٩٥٤م وبعد زيارة ﻟ «روسيا» أعطى مقابلة استمرَّت ساعتَين لمراسل من «الليبراسيون»، وتُعتبَر أكثر الشهادات بؤسًا ومذلة عن الدولة السوفيتية من جانب مفكرٍ غربي مهم منذ رحلة «برنارد شو» سيئة الذكر في أوائل الثلاثينيات.55
قال «سارتر» إن المواطنين السوفيت لا يسافرون إلى الخارج لا لأنهم ممنوعون، بل لأنهم لا يحبون ترك بلادهم الرائعة … كما أكد «… المواطنون السوفيت يوجهون النقد لحكومتهم أكثر وبأشد مما نفعله»، بل كان يقول: «هناك حريةٌ تامة للنقد في الاتحاد السوفيتي.» وبعد سنواتٍ طويلة كان يعترف بهذا الكذب: «لقد كذبتُ بعد زيارتي الأولى للاتحاد السوفيتي في سنة ١٩٥٤م، وربما تكون «الكذب» كلمة صعبة في الحقيقة، ولكن الذي حدث هو أنني كتبت مقالًا قلت فيه بعض الأشياء الودية والمجاملة عن الاتحاد السوفيتي لم أكن أومن بها، وقد فعلتُ ذلك لأنني اعتبرتُ أنه ليس من اللياقة أن تسيء إلى مضيفك بمجرَّد أن تعود إلى بلدك، وكذلك لأنني لم أكن أعرف بالفعل أين أقف بالنسبة للاتحاد السوفيتي وأفكاري الخاصة.»56 وكان ذلك اعترافًا غريبًا من «الزعيم الروحي لآلاف الشباب» هذا إلى جانب ما فيه من تضليل وزيف، حيث إن «سارتر» كان منحازًا إلى مبادئ الحزب الشيوعي في ذلك الوقت بكل طواعية ووعي، ورحمة به لا بد أن نسحب الغطاء على بعض أفعاله وأقواله في الفترة من ١٩٥٢–١٩٥٦م.
وعند هذا التاريخ الأخير كانت سمعة «سارتر» العامة سواء في «فرنسا»، أو خارجها قد تدهورَت، ولم يكن من الممكن أن يلاحظ هو ذلك، تلقَّى أنباء الغزو السوفيتي للمجر بارتياحٍ شديد، ووجد في ذلك سببًا — أو على الأقل عذرًا — للقطيعة مع «موسكو» والحزب الشيوعي، وجد في الحرب الجزائرية التي كانت في بدايتها — خاصة بعد عودة «ديجول» للسلطة — سببًا جيدًا لاستعادة مكانته بين اليسار المستقل خاصة الشباب، وكانت هذه المناورة حقيقية، وحققَت بعض النجاح. كانت الحرب الجزائرية جيدة بالنسبة له، كما كانت الحرب العالمية الثانية. وعلى العكس من «رسل» لم ينجح في أن يجعل السلطات تلقي القبض عليه رغم محاولاته المستميتة. أقنع بعض المثقفين في سبتمبر ١٩٦٠م بالتوقيع على بيان يؤكد «حق العصيان (بالنسبة للمدنيين والعسكريين) ورفض المشاركة في الحرب الجزائرية»، كان يمكن أن تسجنه حكومة الجمهورية الرابعة، ولكن في عهد الخامسة كانت الأمور أكثر تعقيدًا حيث كان يسيطر عليها اثنان من ذوي الثقافة والفكر: «ديجول» نفسه، و«أندريه مالرو». قال «مالرو»: «من الأفضل أن نترك «سارتر» يزعق: «يحيا الإرهاب» في ساحة الكونكورد عن أن نلقي القبض عليه ونزعج أنفسنا.» أما «ديجول» الذي كان يتذكر قضايا «فرانسوا فيلون»، و«فولتير»، و«رومان رولان» فقال للحكومة إن من الأفضل عدم التعرض للمثقفين «أولئك الناس سببوا متاعب كثيرة في زمنهم، ولكن من الضروري أن نظل على احترامنا لحرية التفكير والتعبير طالما أن ذلك لا يتعارض مع قوانين الدولة والوحدة الوطنية».57

قضى «سارتر» معظم وقته في الستينيات في الأسفار إلى الصين و«العالم الثالث»، كان الجغرافي «ألفريد سوفي» هو الذي اخترع هذا الاصطلاح ولكن «سارتر» هو الذي نشره.

وأصبح هو و«سيمون» شخصيتَين مألوفتَين، تظهر صورهما مع زعماء آسيا وأفريقيا وهو يرتدي بدل وقمصان العالم الأول، وهي «ثياب المعلمات المحبوكة وتعطيها الحيوية تنورات وأوشحة عرقية»، وما كان يقوله «سارتر» عن الأنظمة التي كانت توجه إليه الدعوة لزيارتها لم يخرج عن الثناء الذي كان يكيله ﻟ «روسيا ستالين»، ولكنه كان مقبولًا إلى حدٍّ ما.

قال عن «كوبا كاسترو»: «البلد الذي خرج من الثورة الكوبية بلد ديمقراطي.» وعن «يوغوسلافيا تيتو»: «فلسفتي وقد تحققت.» وعن «مصر عبد الناصر»: «حتى الآن كنت أرفض أن أتكلم عن الاشتراكية فيما يتعلق بالنظام المصري، والآن أدرك أنني كنت مخطئًا.»

كان شديد الحماس في مديحه للصين بقيادة «ماو»، وكان صاخبًا في إدانة «جرائم الحرب» في «فيتنام»، وشبَّه «أمريكا» بالنازية (ولكنه آنذاك كان يشبِّه «ديجول» بالنازي ناسيًا أن «الجنرال» كان يحاربهم بينما كانت مسرحياته هو تُعرَض في «باريس» المحتلة).

كان «سارتر» و«سيمون دو بوفوار» ضد أمريكا على طول الخط: في سنة ١٩٤٧م وبعد زيارةٍ لها كتبَت «سيمون» مقالًا في «الأزمنة الحديثة» جاء حافلًا بالأخطاء الهجائية الفادحة في أسماء الأشخاص والأماكن، وكانت تؤكد فيه أن الأغنياء فقط هم المسموح لهم بدخول المحلات في الشارع الخامس، وكانت كل معلوماتها غير صحيحةٍ تقريبًا، فكان مثار سخرية وتفنيد من «ماري مكارثي».58 والآن في الستينيات كان «سارتر» يقوم بدورٍ قيادي في محكمة جرائم الحرب التي أقامها «رسل» في «ستوكهولم»، ولكن شيئًا من كل ذلك النشاط الفارغ لم يكن له أي أثر في العالم. بل كان يفسد أثر أي شيءٍ جاد كان عليه أن يقوله. إلا أنه كان هناك جانب أكثر فسادًا في النصح الذي كان يقدمه «سارتر» للمعجبين به في العالم الثالث. رغم أنه شخصيًّا لم يكن رجُل أفعال إلا أنه كان يشجع الآخرين على الفعل، وكان الفعل — يعني العنف — من تشنيعات «كامو» الموجعة عليه أنه كان رجلًا يحاول أن يصنع التاريخ وهو جالس في مقعده.
أصبح نصيرًا للمُنظِّر الأفريقي «فرانز فانون» الذي لا بد أن يُسمَّى بمؤسس التمييز العنصري الأفريقي الأسود الحديث، وكتب له مقدمة إنجيله عن العنف: كتاب «معذبو الأرض» (١٩٦١م) وهي مقدمة أكثر تعطشًا للدماء من الكتاب نفسه. كتب «سارتر» يقول: إن الرجل الأسود «عندما يقتل إنسانًا أوروبيًّا فهذا يعني أنه يضرب عصفورَين بحجرٍ واحد، إنه يدمر الإنسان الذي يضطهده، كما يدمر في نفسه الإنسان المضطهد في ذات الوقت»، كان ذلك تحديثًا للوجودية: تحرير الذات من خلال القتل. كان «سارتر» هو الذي اخترع ذلك التكنيك اللفظي (المأخوذ من الفلسفة الألمانية) عندما عرَّف النظام القائم ووصفه بأنه «عنيف»؛ (العنف المؤسسي)، وبذلك يبرر القتل كوسيلةٍ لقلبه. كان يؤكد: «المشكلة الأساسية بالنسبة لي هي رفض النظرية التي تقول إن اليسار لا ينبغي أن يواجه العنف بالعنف.»59 لاحظ أنه لا يقول: «المشكلة»، بل «المشكلة الأساسية»، وحيث إن كتاباته كانت منتشرة على نطاقٍ واسع خاصة بين الشباب فقد أصبح الأب الروحي الأكاديمي لكثير من الحركات الإرهابية التي بدأَت تظلم المجتمع منذ أواخر الستينيات وما بعدها، ولكن الذي لم يتنبأ به والذي كان لا بد أن يراه أي إنسانٍ عاقل، هو أن معظم العنف الذي كان يمنحه دعمه الفلسفي لن يكون من قِبل السود تجاه البيض وإنما تجاه سودٍ آخرين، وبمساعدته ﻟ «فانون» على إشعال أفريقيا فقد ساهم في الحروب الأهلية والمذابح الجماعية التي اجتاحت تلك القارة منذ منتصف الستينيات وإلى الآن. أما تأثيره على جنوب شرق آسيا حيث كانت حرب «فيتنام» تقترب من نهايتها فكان أكثر ضررًا. كانت الجرائم البشعة التي ارتُكِبَت في «كمبوديا» من أبريل ١٩٧٥م وبعد ذلك والتي تضمنَت وفياتٍ ما بين خُمس إلى ثُلث السكان، من تدبير مجموعةٍ من مثقفي الطبقة المتوسطة الفرانكفونيين، تُعرف باسم «أنجكاليو» أو المنظمة العليا، وكان بين قادتها الثمانية خمسة مدرسين وأستاذ في الجامعة وموظف ورجل اقتصاد، وكانوا جميعًا قد درسوا في «فرنسا» في الخمسينيات، ولم يكونوا أعضاء في الحزب الشيوعي فقط ولكنهم أيضًا كانوا قد استوعبوا أفكار «سارتر» عن الفعالية الفلسفية و«العنف الضروري» … وكانت تلك المذابح الجماعية بنات أفكاره أو أطفاله الأيديولوجية!
أفعال «سارتر» الخاصة في السنوات الخمس عشرة الأخيرة من حياته لم تُضِف كثيرًا، ومثل «رسل» تقريبًا حاول مستميتًا أن يظل في الواجهة. في ١٩٦٨م انحاز إلى الطلاب كما كان شأنه منذ اشتغاله بالتدريس، ولكن الذين خرجوا من أحداث ١٩٦٨م بصورةٍ حسنة كانوا قلةً قليلة (كان «ريموند آرون» استثناءً مهمًّا في «فرنسا»).60 ولذلك لا يستحق أداء «سارتر» هنا أن يوجَّه إليه لومٌ كبير. في مقابلةٍ مع راديو «لوكسمبرج» وجَّه التحية لمتاريس الطلاب: «العنف هو الشيء الوحيد الباقي أمام الطلاب الذين لم ينضووا في منظومة آبائهم بعد … وحتى الآن فإن الطلاب يمثِّلون القوة الوحيدة المضادة للمؤسسة في بلادنا الغربية المترهلة، ومن شأنهم أن نقدم لهم النصح في هذا الخصوص.»61 وكان ذلك تصريحًا غريبًا من رجلٍ أمضى ثلاثين عامًا ينصح الشباب ماذا يفعلون! كانت هناك حماقاتٌ أخرى، كان يقول للشباب: «إن أهم شيءٍ في عملكم أنه يحوِّل الخيال إلى قوة.» وكانت «سيمون» على نفس الدرجة من الحماس … من بين الشعارات المتهورة التي كان الطلاب يكتبونها على جدران «السوربون» كان يعجبها شعار «المنع ممنوع»، كما هبط «سارتر» بمستواه لكي يُجري مقابلة مع الزعيم الطلابي «دانيل كوهين» — الذي لم يستمر طويلًا — وينشرها على حلقتَين في «نوفيل أوبرزر فاتير». كان يشعر بأن الطلاب «على حقٍّ مائة بالمائة» طالما أن النظام الذي كانوا يحاولون تحطيمه هو «سياسية الجبن … دعوة للقتل». كرَّس أكثر من مقال للهجوم على صديقه السابق «آرون» الذي لم يكن في ذلك الوقت مشغولًا بتلك الحماقات.62

ولكن «سارتر» لم يكن بقلبه في هذا الهذر، كانت حاشيته من الشباب هم الذين يدفعونه ليكون له دورٌ نشط. عندما ظهر يوم ٢٠ مايو في مدرج «السوربون» ليخطب في الطلبة، بدا رجلًا مسنًّا مرتبكًا وسط الأضواء الساطعة والدخان، وكانوا ينادونه ﺑ «جان بول» وهو شيءٌ لم يكن يجرؤ عليه أحد من كهنته قبل ذلك.

لم يكن للكلمة التي ألقاها معنًى مهمٌّ وأنهاها بقوله: «أترككم الآن … أنا مرهق، وإن لم أتوقف الآن، فقد أنتهي إلى قول أشياء بلهاء.» وعندما ظهر للمرة الأخيرة أمام الطلاب في ١٠ فبراير ١٩٦٩م كان شديد الارتباك حين سلموه في يده قبل أن يبدأ كلامه توجيهًا وقحًا من زعماء الطلبة: «سارتر … أوضح … اختصر … لدينا أشياء كثيرة نريد مناقشتها وإقرارها»، كان ذلك نوعًا من التوجيه لم يعتد على تلقِّيه ولا كان يقدر على اتباعه.63 في هذا الوقت كان قد أصبح لديه اهتمامٌ جديد. وهو مثل «تولستوي» و«رسل» كانت فترات اهتمامه بالأشياء لا تستمر طويلًا. لم يدم اهتمامه بحركة الطلاب أكثر من سنة، وربما أقل. بعد ذلك جاءت محاولةٌ قصيرة — أيضًا — ولكنها أكثر شذوذًا وهي «الانحياز للعمَّال» الذين كتب عنهم كثيرًا ولم يفهمهم أبدًا طوال حياته. في ربيع ١٩٧٠م جرَت محاولةٌ متأخرة من قِبل اليسار المتطرف لتطبيق ثورة «ماو» الثقافية العنيفة في أوروبا. كانت الحركة تُسمَّى «اليسار البروليتاري» ووافق «سارتر» على الانضمام إليها وأصبح — نظريًّا — رئيس تحرير صحيفتها «قضية الشعب»، وكان ذلك أساسًا لكي يمنع الشرطة من مصادرتها. كانت أهدافها شديدة العنف حتى بذوق «سارتر» — طالبَت بسجن مديري المصانع وجلد نواب البرلمان — ولكنها كانت خيالية وطفولية ومعادية للثقافة. وفي الحقيقة لم يكن ﻟ «سارتر» مكان فيها، ويبدو أنه شعر بذلك فكان يقول: «لو كان عليَّ أن ألتحم بهؤلاء الثوار فمن الضروري أن يدفعوني أمامهم على كرسي له عجَل. وسوف أكون عقبة في طريقهم.» ولكنه كان مدفوعًا بواسطة الشباب، وفي النهاية لم يستطع أن يقاوم إغراءات المظهر السياسي.
وهكذا اعتادت «باريس» على منظره الغريب وهو في السابعة والستين (وهو الذي كان «ديجول» يناديه ﺑ «الأستاذ العزيز» رغم ضيق «سارتر» به) يبيع صحف الكتابة الفجة في الشوارع ويوزع المنشورات على المارة المتضجرين. وقد التُقطَت له صورة على هذا النحو في «الشانزليزيه» في ٢٦ يونيو ١٩٧٠م مرتديًا «سويتر» أبيض وسترة رياضية وبنطلونًا واسعًا. حاول أن يجعلهم يلقون القبض عليه ولكنهم أطلقوا سراحه بعد أقل من نصف ساعة، وفي أكتوبر أعاد الكرَّة فوقف على أحد براميل الزيت أمام مصنع «رينو» في «بيانكور» يخطب في عمَّال السيارات، بعدها ظهر تقرير في «لورور» يقول بسخريةٍ شديدة إن «العمال لم يكن لهم علاقة به وإن التجمع الذي كان حوله كان عبارة عن مجموعة صغيرة من الماويين الذين جاء بهم».64

بعد ١٨ شهرًا، عاد مرةً أخرى إلى أحد مصانع «رينو» وفي هذه المرة هرَّبوه إلى الداخل لكي يتضامن بإضرابه عن الطعام، ولكن أفراد الأمن اكتشفوه وطردوه. ولا يبدو أن تكون جهوده قد أثارت أي اهتمام بين عمَّال صناعة السيارات، فجميع شركائه كالعادة كانوا من بين مثقفي الطبقة المتوسطة ولكن بالنسبة للرجل الذي فشل في «الفعل»، والذي لم يكن رجل «فعل» على أي نحو، كانت «الكلمات» دائمًا هناك.

ولهذا كان من المناسب أن يُسمَّى ذلك الجزء الخاص من سيرته الذاتية بهذا العنوان. كان شعار «سارتر»: «لا يجب أن يمر يومٌ دون كتابة»، وكان ذلك عهدًا حافظ عليه. كان يكتب بسهولةٍ شديدة أكثر من «رسل»، ويستطيع أن يكتب ما لا يقل عن عشرة آلاف كلمة في اليوم، كان معظمها هزيلًا أو طنانًا أو يخلو من مضمونٍ واضح. وقد تحققتُ من ذلك بنفسي في «باريس» عندما كنت أترجم مناظراته في أوائل الخمسينيات: كانت جيدة عندما تقرأها بالفرنسية، ولكن عندما تعبِّر عنها بمصطلحات أنجلوساكسونية تنهار على الفور. لم يكن «سارتر» يهتم بنوعية ما يكتب. عندما كان يكتب ﻟ «سيمون دو بوفوار» في سنة ١٩٤٠م راح يفكر في كمية الكلمات التي وضعها على الورق. واعترف: «كنت دائمًا اعتبر الكمَّ ميزة.»65 والغريب أنه في العقود الأخيرة من حياته كان «فلوبير» يلح عليه، وهو كاتبٌ شديد الحساسية، خاصة عندما كان الأمر يتعلق بالكلمات، وكان يراجع أعماله بمثابرةٍ أقرب إلى الهوس! أما الكتاب الذي أنجزه «سارتر» أخيرًا عن «فلوبير» فجاء في ثلاثة أجزاء ووصل إلى ٢٨٠٢ صفحة … كثير منها لا يُقرأ! كتب «سارتر» أعمالًا كثيرة بعضها ضخم، وأخرى لم ينتهِ منها رغم أنه كان يستخدم مادتها في أعمالٍ أخرى؛ مجلدٌ ضخم عن الثورة الفرنسية، وآخر عن «تنتوريتو»، وآخر ضخم وهو سيرته الذاتية، العمل الذي ينافس في طوله كتاب «شاتوبريان»: «ذكريات لقبر آخر» والمعروف أن «الكلمات» جزء منه.
كان «سارتر» يعترف أن الكلمات هي كل حياته: «لقد استثمرتُ كل شيء في الأدب. وأعرف أن الأدب بديل عن الدين.» كما يعترف بأن الكلمات كانت تعني بالنسبة له أكثر من حروفها ومعانيها، إنها كانت حية: «كنت أشعر بصوفية الكلمات. وشيئًا فشيئًا، الْتهم الإلحاد كل شيء فعريت الكتابة وعلمنتها … وكلي شك، عدت إلى الكلمات محاولًا أن أعرف ماذا يعني الكلام، أنكب على نفسي ولكني أشعر أمامي بموت الحلم، وبوحشية جميلة، بالإغراء الدائم للرعب.»66
كتب ذلك في ١٩٥٤م وكان ما يزال أمامه ملايين الكلمات ليكتبها! فماذا يعني ذلك كله؟ ربما يعني القليل! كان «سارتر» دائمًا يفضِّل أن يكتب كلامًا فارغًا، عن عدم الكتابة بالمرة، وهو كاتب يؤكد ملاحظة «دكتور جونسون» الخشنة: «الرجل الفرنسي لا بد أن يتكلم سواء كان يعرف شيئًا عن الموضوع أم لا.»67 وكما قال هو نفسه: «الكتابة عادتي مثلما هي مهنتي.» وكانت نظرته تشاؤمية عن أثر ما يكتب: «كنت لعدَّة سنواتٍ أعتبر قلمي سيفي، والآن أدرك كيف أننا بلا حولٍ ولا قوة: لا يهم! أنا أكتب وسوف أواصل كتابة الكتب.» كان أيضًا كثير الكلام ولدرجة الملل، وأحيانًا كان يتكلم رغم أنه لا أحد يستمع إليه. هناك صورةٌ قلمية ذكية له في السيرة الذاتية للمُخرِج السينمائي «جون هستون» في ١٩٥٨-١٩٥٩م، عندما كانا يعملان معًا في فيلمٍ عن «فرويد». جاء «سارتر» ليقيم في منزل «هستون» في «أيرلندا»، ويصفه بأنه كان «رجلًا أشبه ببرميلٍ صغير، كأقبح ما يكون الكائن الحي، وجهٌ منتفخ وفي نفس الوقت مليء بالندوب، أسنانه صفراء، أحول وجاحظ العينين»، ولكن خاصيته الأساسية كانت كلامه الذي لا يتوقف. «لم يكن ما بيننا حوارًا، كان هو الذي يتكلم بلا توقف ولا يمكن أن تقاطعه، قد تنتظر أن يأخذ نفَسه ولكنه لا يفعل. تتدفق الكلمات منه مثل الشلال». كان «هستون» في غاية الدهشة وهو يراه يسجل بعض كلماته وهو يتكلم، وأحيانًا كان يترك الغرفة غير محتمل لذلك الدفق من الكلام، ولكن صوت «سارتر» كان يلاحقه في أرجاء البيت ومن على البعد، وعندما يعود يجده مستمرًّا في الكلام.68 وفي النهاية كان هذا الإسهال الكلامي هو الذي قضى على جاذبيته كمحاضِر. عندما ظهر كتابه عن «الديالكتيك» دعاه «جان واهل» لإلقاء محاضرة عنه في كلية الفلسفة، بدا «سارتر» في السادسة وهو يقرأ مخطوطة في ملف كبير «بصوتٍ ميكانيكي سريع»، لم يرفع عينيه عن النص. كان مستغرقًا تمامًا، بعد ساعةٍ أصاب الملل الجمهور وكانت القاعة مزدحمة بالجلوس والوقوف، بعد ساعة وثلاثة أرباع الساعة كان الإرهاق قد بلغ بالجمهور مبلغه، فكان البعض ينام على الأرض، يبدو أنه كان قد نسي أن أحدًا هناك. في النهاية اضطُر «واهل» أن يشير إليه بالتوقف، وفجأةً حمل أوراقه وانصرف دون كلمةٍ واحدة.69 ولكن كان هناك دائمًا البلاط الذي يستمع إليه، وبالتدريج كان هذا البلاط يقل عددًا مع تقدُّم «سارتر» في العمر.
كوَّن «سارتر» ثروةً كبيرة في أواخر الأربعينيات وأوائل الخمسينيات، ولكنه بددها بنفس السرعة التي كونها بها. كان لا يهتم بالمال. عندما كان طفلًا كان يأخذ من كيس أمه ما يريد … ببساطةٍ شديدة! وعندما كان مدرسًا كان هو و«سيمون» يقترضان ويقرضان بحريةٍ شديدة. تقول: «كنا نقترض من أي شخص.»70 وكان يقول: «للنقود خاصية التلاشي التي أحبها، أحب أن أراها تتسرب من بين أصابعي وتختفي.»71 كان لهذه اللامبالاة جانبها الإيجابي.
وعلى خلاف كثير من المثقفين والمشاهير منهم خاصة، كان «سارتر» كريمًا حقًّا بالنسبة للنقود. كان يجد متعة في أن يدفع حساب المطعم أو المقهى لأناس وربما لا يعرفهم. كان يدعم القضايا، قدم ﻟ RDR أكثر من ثلاثمائة ألف فرانك (أكثر من مائة ألف دولار بسعر التحويل في سنة ١٩٤٨م)، كان سكرتيره «جان كاو» يقول عنه إنه «كريم لدرجةٍ غير معقولة».72

أحيانًا كانت ليبراليته وروحه المرحة هما أفضل جوانب شخصيته، ولكن نظرته للمال كانت غير مسئولة.

كان يدَّعي أنه خبير بأمور الأملاك والضرائب والعوائد، وفي لقائه الوحيد مع «هيمنجواي» سنة ١٩٤٩م لم يناقشا سوى هذا الموضوع، وهو حديث كان يروق ﻟ «هيمنجواي».73 ولكن ذلك كان لمجرَّد الاستعراض! تقول «كلود فوكس» التي عملَت سكرتيرة له خلفًا ﻟ «جان كاو»: «كان يرفض وبإصرار أن يكون له علاقة بالنقود ويرى في ذلك مضيعة للوقت، إلا أنه باستمرار كان في حاجة إليها … لكي ينفقها ولكي يساعد الآخرين.»74 ونتيجة لذلك تراكمَت عليه ديونٌ كثيرة للناشرين وكان مُطالَبًا بمبالغ كبيرة لضريبة الدخل بسبب تأخره في الدفع. كانت أمه تدفع عنه ضرائبه — سرًّا — (من هنا كانت سخرية «كامو») ولكن مواردها كانت محدودة، وفي نهاية الخمسينيات واجه مصاعب مالية شديدة لم يستطع أن يخلع نفسه منها، ورغم دخله الضخم والمستمر كان مدينًا ومفلسًا. شكا ذات مرة أنه كان لا يستطيع أن يشتري لنفسه حذاءً جديدًا. وكانت هناك قائمة بأسماء يدفع لها رواتب أو تتلقى مساعدات، كان هؤلاء هم بلاطه الخارجي، أما النساء فكن البلاط الداخلي، في أواخر الستينيات تناقص العدد لأن موقفه المالي كان ضعيفًا، كما تقلص البلاط الخارجي. في السبعينيات كان قد أصبح شخصًا يستحق الشفقة … كبير السن، عجوزًا قبل الأوان، أعمى فعلًا، دائم السكر، قلقًا بسبب المال، غير واثق من أفكاره.

تسلل إلى حياته شابٌّ يهودي جاء من القاهرة اسمه «بن ليفي» كان يكتب باسم «بيير فيكتور». كانت أسرته قد هربَت من مصر أثناء أزمة السويس (١٩٥٦-١٩٥٧م) وكان بلا هوية. ساعده «سارتر» وحصل له على إذن بالإقامة في «فرنسا» واتخذه سكرتيرًا.

كان لدى «فيكتور» مَيل للغموض والسرية، يضع نظارة سوداء وأحيانًا لحية مستعارة وكانت آراؤه غريبة ومتطرفة، وكان كثيرًا ما يفرضها على السيد.

كان اسم «سارتر» يظهر على بيانات ومقالاتٍ غريبة يكتبانها معًا.75 وكانت «دو بوفوار» تخشى أن يتحول «فيكتور» إلى «رالف شوينمان» آخر، وكان استياؤها شديدًا عندما تحالف مع «آرليت»، أصبحَت تكرهه وتخشاه كما كانت «سونيا تولستوي» تكره «تشيرتكوف» وتخشاه، ولكن «سارتر» في ذلك الوقت كان قد أصبح غير قادر على الحماقات العلنية.

ظلَّت حياته الجنسية متنوعة، ووقته موزعًا على الحريم. كان يقضي إجازاته هكذا: ثلاثة أسابيع مع «آرليت» في المنزل الذي امتلكاه معًا جنوبي «فرنسا»، أسبوعان مع «واندا» وغالبًا في إيطاليا. عدَّة أسابيع على جزيرةٍ يونانية مع «هيلين». وبعد ذلك شهر مع «سيمون دو بوفوار» وغالبًا في روما. وفي «باريس» يتنقل بين الشقق المختلفة التي تعيش فيها نساؤه. وفي كتابها الصغير «وداعًا سارتر» وصفَت «سيمون» سنواته الأخيرة بقسوةٍ بالغة: عدم قدرته على التحكم في نفسه، سكره (والذي كان يساعد عليه تهريب البنات الويسكي له)، الصراع للاستيلاء على البقية الباقية من ذهنه، كان لا بد أن يكون موته راحة لهن جميعًا (عندما حدث ذلك في مستشفى «بروسياس» في ١٥ أبريل ١٩٨٠م)، وفي سنة ١٩٦٥م كان قد تبنى «آرليت» في السر كابنته، ولذا ورثَت كل شيء بما في ذلك تركته الأدبية وتربعَت على ما نُشر منها بعد موته.

أما بالنسبة ﻟ «سيمون» فقد كانت تلك هي الخيانة الأخيرة: سقط «المركز» مهزومًا أمام أحد «الأطراف».

عاشت بعده خمس سنوات، الملكة الأم لليسار الفرنسي المثقف … ولكن بلا أطفال أو ورثة!

والحقيقة أن «سارتر» — مثل «رسل» — فشل في تحقيق أي نوع من الترابط أو التماسك في أفكاره بالنسبة للسياسة العامة، وفي النهاية فشل، مثل «رسل» أيضًا.

كان لا يمثِّل أي شيء أكثر من رغبةٍ غامضة في أن ينتمي لليسار ومعسكر الشباب. السقوط الفكري ﻟ «سارتر» والذي كان يبدو فيما بعدُ أنه فلسفةٌ حياتية مثيرة كان كبيرًا. ولكن هناك دائمًا قطاع من الجمهور المثقف الذي يحتاج إلى قادةٍ مفكرين مهما كانوا قاصرين. رغم كل شناعات «روسو» إلا أنه حصل على تكريمٍ كبير في حياته ومماته.

وهذا «سارتر» … وحشٌ مقدس آخر، تنظم له «باريس» الثقافية جنازةً عظيمة. أكثر من خمسين ألف شخص معظمهم من الشباب يسيرون وراء نعشه إلى مقابر «مونبارناس» بعضهم تسلق الأشجار لكي يرى جيدًا … وأحدهم سقط فوق النعش مباشرة.

تكريمًا لأي قضية جاء كل هؤلاء؟ أي عقيدة؟ أي حقيقةٍ مشرقة عن الإنسانية كانوا يحاولون أن يؤكدوا بذلك الحضور الجماهير الضخم؟ كلنا يتساءل!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤