الفصل الأول

قرأت البرقية وقلت: لقد مات.

رفعت بصري فأدركت من نظرات جراهام ميلز أنه يعرف ما أعني … كان ميلز قد التقى بزوجي الأول ماكس بضع مرات وسمع عنه كل شيء، كما أنه ساعدني في زيارته عندما كان في السجن.

مد يده إلى البرقية وقال بصوته العذب: كيف؟

قدمت له البرقية وقلت: لقد قتل نفسه.

قرأ جراهام ميلز: «تم العثور على ماكس غريقًا في سيارة بميناء كيب تاون.»

ثم قال: ومتى حدث ذلك؟

لم أكن أعرف شيئًا عن ماكس منذ أكثر من عام حتى إنه لم يتذكر عيد ميلاد بوبو في الشهر الماضي، فأجبت ببرود وغضب: الليلة الماضية وربما صباح اليوم.

أومأ جراهام برأسه في غضب وقال وهو يحدق بعيدًا عني: لم أتابع آخر الأخبار، وربما ينشرون الخبر في صحف الصباح.

كانت الصحف فوق المائدة تتوسط الأكواب المليئة بالقهوة إلى نصفها بجوار السجائر المشتعلة، وكان أحد أيام السبت التي لا أذهب فيها للعمل، والتي اعتاد فيها جراهام أن يأتي ويشاركني إفطاري المتأخر وقراءة الصحف كما يفعل المتزوجون القدامى … كانت صفحة الأخبار الخاصة بالأحداث الأخيرة والطارئة ملقاة بجوار إبريق العسل، فقمت بقراءتها غير أنني لم أجد شيئًا سوى بعض التفاصيل المملة عن أهداف مباراة الجولف الدولية الأخيرة.

قال جراهام بعد الاطلاع على البرقية مرة أخرى: لماذا؟ … إنها نهاية غير متوقعة لماكس.

شعرت باضطراب شديد وأجبت: بسببي!

لم يفارقني اضطرابي منذ اللحظة التي تسلمت فيها البرقية فلم أستطع الجلوس أو الوقوف في مكان واحدا، ولم يكن أمام جراهام إلا أن يتسلح بالصبر في مواجهة اضطرابي وغضبي، وقد أصابته الدهشة من اتهامي لنفسي وإحساسي بالذنب الذي يعلم الله أنه ليس ذنبي.

فكَّر جراهام في بوبو الذي يشير إليه دائمًا بالولد، وقال: ماذا عن الولد؟

لا يجب أن يفاجأ بالحادثة في صحف هذا المساء فهل أذهب إليه في المدرسة وأخبره بكل شيء؟

قلت: لا … سأذهب بنفسي، فهو ابني قبل كل شيء.

حاول جراهام بعقلية المحامي أن يذهب للولد بنفسه للتخفيف عنه؛ نحو مزيد لتأكيد علاقته بي، لكن ذلك ليس في صالح بوبو الذي قد ينظر إليه أو إلى أي صديق لي كأب، خاصة إذا انتهت هذه الصداقة.

ناولني كوبًا آخر من القهوة ثم أشار إلى مقعدي وقال: مزيد من القهوة قد يفيد.

تناولت قهوتي دون أن أجلس واجتاحتني رغبة قوية في سماع أي شيء صحيح من أي شخص، فبدوت وكأنني في حالة صراع غريب، ثم تساءلت: صراع مع من؟ … لا بد أن أذهب للولد هذا الصباح، ويجب أيضا أن أزور جدتي بعد ظهر اليوم.

قال جراهام الذي يعرف أنني لا أقوم بزيارة السيدة العجوز بانتظام: فلتفعلي ذلك غدًا.

أجبت: لا … فاليوم عيد ميلادها ولا أستطيع تأجيل الزيارة.

ابتسم وقال: كم عمرها الآن؟

قلت: في الثمانين تقريبًا.

عرفت معنى البرقية من طريقة صياغتها لكنني عاودت قراءتها مرة أخرى قبل الإلقاء بها في صينية الإفطار، ثم توجهت للحمَّام وتركت الماء يتدفق فوق رأسي وجسدي، وعندما خرجت لارتداء ملابسي كان جراهام يتصفح الجريدة باهتمام بالغ وهو جالس في الشمس أمام باب شرفتي المفتوح، وأثناء تجوالي في الشقة سمعته يتنهد … كان يرتدي سترة من الصوف الخشن يطيب له دائمًا أن يقضي بها عطلة نهاية الأسبوع، وقميصًا من الحرير الناعم، وكان له فك شاحب متجعد وعينان عميقتان تختفيان خلف نظارة سميكة وتوحيان بأن صاحبهما يعمل حتى وقت متأخر من الليل … كان فم جراهام كبيرًا وشفتاه ممتدتين يميل لونهما إلى الأزرق، وعندما كان يقف تحت ضوء الفناء مرتديًا زي المحامي كانت تغطي وجهه تلك النظارة السميكة وذلك الفم الكبير.

انتهيت من ارتداء ملابسي وأصبحت مستعدة للرحيل، فنهض جراهام للانصراف وقال: هل ستذهبين إلى عائلة شرويدرز في موعد الشراب بعد عودتك من عند الجدة … إنهم سيرحلون غدًا إلى أوروبا.

– لا أعتقد ذلك.

– ماذا ستفعلين إذن؟ هل ترغبين في تناول العشاء بمكان ما؟

– لا … لا أستطيع.

إن جراهام ليس شابًّا مراهقًا، وإنما هو في السادسة والأربعين من عمره، فلم تظهر عليه أي من علامات الضيق أو الاستياء، فتناول سجائره ومفاتيح سيارته وقبل أن يهم بالمغادرة قلت: هل بمقدورك أن تفعل شيئًا من أجلي؟ هل تستطيع الذهاب إلى بائع الزهور نيابة عني وتطلب منه إرسال بعض الزهور إلى السيدة العجوز؛ لأن المحلات ستكون مغلقة بعد عودتي من المدرسة؟

أشار برأسه موافقًا دون أن يبتسم ثم تناول قلمًا وكتب العنوان بخطه الجميل.

الطريق إلى المدرسة يؤدي إلى أخدود جوهانسبرج ذي التلال الكثيرة ويفضي إلى حقول الذرة والأرض المنبسطة المغطاة بمروج الأشجار … إنها بداية الشتاء ورياح صباحية تمتزج بضوء الشمس وتصطدم بالأشجار القليلة، فيستحيل لونها إلى سواد في مواجهة الأعشاب الشاحبة، وكان من اليسير أن يتنسم المرء رائحة عذبة خلفتها برودة الليلة الماضية … كانت شجرات الفلفل القديمة المتناثرة هنا وهناك تجعل المرء يشعر وكأنه في بيت داخل مزرعة، وكانت شجرة الأوكاليبتوس١ بتموجاتها القديمة وكذا أشجار السنط بأغصانها الكثيفة، ثم تلك الأكواخ الطينية المهجورة والدكان الهندي وشجرة الصفصاف المنتصبة بلونها الباهت إلى جوار شق في الأرض.

كل شيء كما هو وكل شيء كما كان منذ طفولة ماكس … نفس الطريق الذي عرفته في طفولتي ومشيت فيه مرارًا، ونفس الصباح الذي استيقظت فيه كثيرًا.

تسللت الشمس داخل سيارتي حتى اخترقت جفوني وكانت هي الأشياء ذاتها، الشمس، الأعشاب الشاحبة، الهواء النقي، والإحساس بماكس وبما حدث لنا معًا … أوه، كيف لهذا الصباح أن يظل كما هو؟! … إننا نعرف أن الوقت يمضي كلما تغيَّرت الأشياء، لكن الفضاء هنا متسع دائمًا، والشمس لا تتوقف عن الدوران، ولو أنني عشت في مكان آخر من العالم لما عرفت أن هذا الصباح الخاص إنما هو ظاهرة جغرافية طبيعية مثل سقوط الأمطار السنوي وضغط الجو المستمر.

نشأ ماكس وسط مزرعة أبيه الخاصة. وكان يخشى المروج حيث يقيمون الحفلات ويهتمون بتربية البط كأحد مظاهر التباهي، ولقد أخبرني ذات مرة أنه كان يسمع أصوات البط بين الأشجار أثناء عودته من الغابة دون أن يفهم ما يقوله البط.

كان أبوه عضوا في البرلمان، فرُحت أفكر في موته وفي الطريقة التي مات بها، ووجدت نفسي أردد بهدوء: طبعًا، لقد غرق بالسيارة في البحر كما أحرق ذات مرة ملابس والديه، ومثلما حاول منذ ثلاث سنوات أن ينسف مكتب البريد … لم أكن أتوقف عن اللعب مع ماكس في ذلك الوقت، لكنني لم أكن أيضًا أعرف، وهكذا انتابني هدوء ممتزج بالغضب عندما تلقيت البرقية وهمست لنفسي: آه لو كنت أعرف!

عرفت بعد قراءة البرقية أنني السبب، فكل شيء بيننا كان قد انتهى وتحطم، وكان الفشل يلاحق حياتنا معًا، ورغم محاولاتنا الجادة في الحفاظ على ما بيننا إلا أن الرياح اجتاحت كل شيء، وتفرَّقنا إلى ذرات بلورية.

انحرفت فجأة لأتجنب تصادمًا في الطريق، ثم عدت لهدوئي وبدوت كما لو أنني أعبر نقطة قريبة من شيء معين في نفسي … إنها الذاكرة التي تعود بنا إلى الطفولة وحرية الانطلاق، لكنني قلت: لقد مات ماكس.

كنت دائمًا أفعل ما أحب في صباحات أيام السبت، لكنني منذ أسابيع لم أفعل شيئًا سوى دعوة جراهام على الإفطار والعناية بشعري والذهاب أحيانًا لمحلات ضواحي المدينة دون ضرورة ما، وغالبًا ما كنا نلتزم بالبقاء في المنزل. ولا نخرج إلا قليلًا دون أن ننام معًا، ومع مرور الوقت أصبحت زيارات جراهام تقليدًا وصارت أمسياتي في الحانات والنوادي مع قوم لا أعرفهم جزءًا من العادة.

كانت أيام السبت أيضًا هي فرصتي النادرة لمشاهدة الذي لا يسمحون له بالخروج سوى مرتين في الشهر من أيام الأحد، ولم تكن المدرسة تشجع زيارة الوالدين بين هاتين المرتين، لكنني الآن أقود السيارة في طريقي للمدرسة، وقد أدركت أنني لم أشترِ شيئًا من أجل بوبو … أوه، ربما أستطيع اصطحابه إلى الخارج وعندئذٍ يمكنني أن أشتري له الشاي وبعض الكعك بالكريم من فندق المدينة القريب من المدرسة … إن تقديم الهدايا إلى بوبو — كما أرى — شيء هام وضروري، كنت أعرف أهميته في ملامح وجهه عندما أفتح سلة التفاح وعلبة الحلوى، وهكذا كانت طريقتي في محاولة سد النقص.

يجب ألَّا أبوح بأسبابي، وعله وحده أن يفهم … ليتني أستطيع أن أحفظه كما تحفظ إناث القردة صغارهن تحت أجسادهن، لكنني لا أستطيع أن أقدم له ضروريات الحياة ليحيا في ظل أب وأم وعائلة كما عشت أنا وماكس … أوه، من اليسير أن نوجِّه اللوم لآبائنا حين يصيبنا التعب، فنحن ننتمي إلى الجيل الذي يلقي بأعبائه على فرويد كما كان الجيل السابق يلقي بأعبائه على المسيح، ولكن ماذا عن كل أولئك السود الذين يتلقون الحسنات والعطايا وليس لهم قانون يقوم على حمايتهم … والذين لا يشعرون بأنفسهم ويجهلون أنهم ليسوا سوى خدم عندنا … ولا يملكون شيئًا يقدمون من أجله الشكر … أولئك المخدوعون بالحسنات الذين يتملكهم الجوع والأذى.

عندما يكبر بوبو سوف يواجهني بأسئلة صعبة لا أعرف نوعها، ولست على يقين من الطريقة التي سأخبره بها عن كل شيء، والتي قد تجعله بائسًا إلى الأبد، لكنني أرى أنه سيبحث عن سلامه في مكان آخر، بعيدًا عن ضواحي البيض الذين يحافظون على سلالتهم … أحمد الله أنه لم يولد في تلك الضواحي، فقد كان أحد الملايين من الأطفال الذين يتخلقون في السيارات والمزارع والحدائق والأزقة في كل أنحاء العالم، حيث إن حجرات المعيشة ذات الزهور والدوارق لا تعرف ممارسة الحب … إن حجرات النوم في ضواحي البيض لا تعرف سوى التأمل تمامًا كالشرفات.

كنا شركاء في الخطأ وقلت لماكس: أنت تنسى.

هز كتفَيه بضجر ثم غيَّر الموضوع كما يفعل دائمًا وقال: أتمنى أن يكون لي طفل يخلفني، فالطفولة عالم جميل وغير ملوث، والطفل يصيح كل الوقت وعندئذٍ ترين أشياء حقيقية كألوان الأحجار وقطع الأخشاب.

ها قد مضى أكثر من عام منذ شاهد بوبو للمرة الأخيرة حين أظهر حبًّا كبيرًا للولد وراح يلعب ويمزح معه مما أثار سعادتي، خاصة وأنه كان في المرات السابقة يصرخ فيه، فأجد نفسي مضطرة لحمله والمضي به في الشوارع.

قبل وصولي المدرسة بقليل كانت إحدى عربات الفاكهة عند جانب الطريق وبجوارها رجل أسود يقفز فوق النار وهو ممسك بعصا تلتصق في طرفها العلوي برتقالة … توقفت واشتريت بعض الفاكهة لبوبو.

أرض المدرسة فسيحة وتحيطها الأشجار من كل اتجاه، وهذا ما جعلني أختار هذه المدرسة لكي يجد بوبو فرصة للعب بعيدًا عن الحقول والممرات … كان ضروريًّا أن يلتحق بهذه المدرسة ذات البوابة الحديدية والاسم المكتوب بحروف تنتسب إلى مجموعة من اللغات الهندية الأوروبية … هذه المدرسة ذات قوالب الطوب المتراصة على هيئة صلبان مرتفعة في كل مكان.

إن المنظر العام للمدرسة يشعرني بالقمع ويصيبني بالخوف … دخلت من البوابة بحذر حيث يقف بعض الرجال السود بملابس نظيفة، والبعض الآخر مشغول بنظافة السور وزهور الحديقة الرئيسية أو تقليم الشجيرات وإزاحة أوراق الشجر، وأبصرت لافتة من القصدير على شكل يد تشير بالسبابة إلى مكان انتظار الزائرين … توقفت بالسيارة في المكان المحدد، وكانت الساعة تقترب من الحادية عشرة، فاجتاحني القلق من ذلك المكان الذي أراه دائمًا كالسجن … كانت صيحات الأولاد تتقافز عبر الملاعب والأركان الخلفية للمباني، وظلت هذه الصيحات الفرحة بالحياة تتصاعد خلف قوالب الطوب النظيفة وتتخلل الفراغ الغارق في الشمس.

صعدت السلالم البراقة وطرقت فوق الباب المطلي بالزيت طرقات قوية … فتح الباب شاب جديد ذو فك كبير وحضور جذاب، ثم صافحني برقة وقلة دراية بالنساء، وكان يرتدي بنطالًا قذرًا وضيقًا ويحكم ربطة العنق، ولم يكن من العسير معرفة أنه أحد خريجي إكسفورد أو كامبريدج الذين يعملون في أفريقيا ويضيفون إلى المناهج طابع العصر مثل ذلك الذي أخبرني عنه قائلًا: إنه يعزف على الجيتار ويعلم الأولاد وجهة النظر الأمريكية ضد القنابل وضد سياسة التمييز العنصري والأغاني الفلكلورية.

اصطحبني السيد الشاب إلى مكتب الناظر وطلب مني الجلوس حتى يذهب لاستدعائه من حجرة الأساتذة حيث يتناولون الشاي، فكان المكتب كما رأيته بضع مرات من قبل نظيفًا بطريقة تبعث على الاستفزاز، وتزينه مجموعة من صور أذرع وعضلات رياضية قوية، وله أرضية لامعة تغطيها سجادة ذات لون بني، أما صورة الناظر المقطوعة من مجلة المدرسة فلها إطار من الورق المقوَّى … إنه رجل لبق وإنسان كما يقول عنه الجميع.

رحب بي وأعرب عن سعادته لرؤيتي، فأزاح عن كاهلي القلق الناتج عن زيارتي في غير الأيام الرسمية … لا بد أنه أدرك أن ثمة شيئًا هامًّا جئت لأجله، لكنه لم يكن متعجلًا ولم يتوقف عن ابتهاجه وترحيبه، مما ساعدني في الاستعداد لبدء سرد قصتي، فأخبرته بوفاة والد بوبو وحدثته عن الطريقة التي مات بها … بدا الرجل مسيحيًّا طيبًا ومتفهمًا كما يحدث غالبًا في مثل هذه الظروف، رغم تظاهره بالانتباه الناتج عن عدم معرفته بأمثالنا من الناس، ثم حكيت له عن ظروف بوبو وعن الطلاق والاعتقال السياسي وموت ماكس الأخير، فعرف كل شيء، خاصة وأنه يتابع في الصحف أبحاث الكنيسة عن اللواطة والإجهاض، كما أنه متزوج من السيدة جيلنجر التي تدرس الفن بنفس المدرسة منذ ما يربو على خمسة وعشرين عامًا، ولقد عرفت أن ابنتهما تزوجت في العام الماضي بأحد طلبة المدرسة المتفوقين.

نهض من مكانه وسارع بفتح الباب ثم نادى على أحد الأولاد في الممر قائلًا: بريثويت، اذهب لإرسال بروس فان دن ساندت … هل تعرفه؟ … إنه في الصف الرابع.

– نعم سيدي … إنني أعرفه وأعتقد أنه في المكتبة.

سارع الولد لإحضار بوبو بطريقة تركت أثرها بين حواجب الناظر.

بروس فان دن ساندت … أوه … إنها إحدى المرات القليلة جدًّا التي أسمع فيها هذا الاسم والذي يسرني سماعه … إنه بوبو ابن ماكس الميت لكن اسمه يتردد بصوت عالٍ في أروقة المدرسة.

قال الناظر: ادخل.

ثم قال لي وهو يفتح باب حجرة الزائرين: من الأفضل أن تتحدثي إليه بمفردك. كنت راغبة في اصطحابه للخارج وتبادل الحديث معه ونحن نتجول بالسيارة، لكنني لم أستطع البوح برغبتي للناظر، فتساءلت بيني وبين نفسي: لماذا أخجل ببلاهة أمام أولئك الناس رغم كراهيتي لقيودهم وطريقة حياتهم؟

انتظرت قليلًا بقاعة الاستقبال حتى فتح بوبو الباب فملأ المدخل بحضوره، وكانت أذناه متوهجتين وفتحتا أنفه واسعتين وكأنه قد فرغ لتوه من الجري واللعب … حرك يديه وابتسم ابتسامة ميتة وقال: ماما؟ … لم يخبرني أحد بقدومك!

ثم عانقني وضحكنا كما يحدث دائمًا حين نلتقي ونسعد بوجودنا معًا بعيدًا عن المدرسة وعن أي شيء آخر.

سألني: كيف سمحوا لك بالدخول؟

لم أكن قد فكرت فيما سأقول، ولم يعد ثمة وقت للتفكير، فأمسكت بيده وأشرت بها ناحيتي بصعوبة، ثم قلت: جئت لأتحدث معك يا بوبو بشأن والدك ماكس.

كان بوبو صغيرًا أثناء محاكمة ماكس ودخوله السجن وعندما كبر قليلًا حكيت له عن كل شيء، فأبدى تفهمًا واضحًا، وصار من يومها متوقعًا للمتاعب في أي وقت. جلسنا سويًّا فوق مقعد صغير قديم كما يجلس العشاق في مواجهة بعضهما البعض فقال جيلي: شد جوربك إلى أعلى فأنت تجلس مع أمك.

شد بوبو جوربه المتهالك ثم قلت: لقد مات يا بوبو، وصلتني برقية هذا الصباح وسوف ينشرون الخبر في الصحف، فرأيت أن أخبرك بنفسي … لقد قتل نفسه.

أصابت بوبو الدهشة وتلاشت نضارة وجهه وقال: هل تعنين أنه انتحر؟

قلت: نعم … لقد قرر الانتهاء من كل شيء مرة واحدة وإلى الأبد، فاستقل سيارته في اتجاه البحر، وكما تعلم يا بوبو أنه لم يكن يخاف البحر وإنما كان يعشقه ويشعر وسط مياهه كأنه في بيته.

هز رأسه وظل ينظر نحوي بعينين جاحظتين، ولست أدري فيما كان يفكر غير أننا لم نتظاهر بالحزن على ماكس.

قال بوبو الذي لا يعرف ماكس جيدًا: لا أستطيع أن أتذكر ملامحه.

– لكنك رأيته منذ فترة لا تتعدى ثمانية عشر شهرًا.

– نعم … ويومها تعرفت عليه بصعوبة وكنت طوال الوقت أنظر إليه وأراه كما ترين شخصًا لأول مرة ثم لا تستطيعين تذكر ملامحه.

– لديك صورة له معنا تستطيع أن تجدها في خزانته داخل حقيبة الأوراق الجلدية … إنك تجلس بيننا في هذه الصورة مثل بقية الأولاد.

– أوه … نعم.

سادت فترة من الصمت ولم يعد ثمة ما يقال، ربما لأنه من غير الممكن قول كل شيء في وقت واحد وبخاصة في هذه الحجرة.

اشتريت لك بعض الفاكهة من الطريق ونسيت أن أحضر لك أي شيء من المدينة.

قال بذهول: شكرًا مام، ولكن اتركيها الآن فسوف أضعها في مكتبي بعد أن تنصرفي حتى لا يراها أحد.

ثم أضاف: فلنخرج قليلًا.

– هل مسموح لنا بالخروج؟

– أوه … الانضباط … من الصعب تخيل مثل هذا المكان، ولكنني على أية حال سأسأل مستر جيلنج.

أغلقنا باب حجرة الزائرين خلفنا وأنا أبتسم بقلق، وتوجهنا نحو حديقة المدرسة الخالية من الأولاد، ثم سرنا إلى الأمام والخلف ونحن نتبادل الحديث في أشياء تافهة كما يفعل الناس عند زيارة مريض بأحد المستشفيات.

حدثني بو عن رسالته التي طلب فيها حذاءً لكرة القدم وعن إمكانية إحضار لوبرت معه الأحد القادم، لكن الرسالة التي وصلتني من المدرسة كانت عن دروس الملاكمة، فأردت أن أعرف رأيه في ذلك.

دلفنا إلى داخل السيارة فقال بوبو بضيق: لماذا لا تتركين السيارة في المدينة يا ماما وتسيرين على الأقدام؟

ثم جلس إلى جواري وراح يتحسس مقبض الباب المفكوك وهو يفكر في كيفية تثبيته … كان بوبو يشعر داخل السيارة كأنه في بيته، فيسارع بالتقاط الصحف القديمة من فوق تابلوه السيارة ويقوم بالاطلاع عليها، كما لا يتوقف عن التفتيش في صندوق القفازات عن النعناع وهو يقلب تصاريح المرور.

قال: لا أعتقد أن ذلك كان مؤلمًا.

قلت: أوه … لا تقلق نفسك بذلك فقد كان طوال حياته مؤمنًا بما يفعل. أطرق رأسه وظل ينظر حواليه ثم اتجه ببصره نحوي دون أن يرفع رأسه وقال بدون تفكير: أشعر بالأسف لأنني لم أحبه.

حدقت فيه وقلت دون رغبة في خداعه: قد تسمع كلامًا بين الأولاد لكنه مات وهو على صواب حتى لو كانت طريقته خطأً … لقد حاول كثيرًا لكن شيئًا من محاولاته لم يتحقق ويكفي أنه لم يعش لينام فقط ويأكل … إنه لم يكن سعيدًا بتمرده على أهله وبني جنسه، وعلى أية حال فإن الفشل أفضل كثيرًا من عدم المحاولة، فهناك بعض الرجال الذين يعيشون بنجاح في هذا العالم لكنهم لا يملكون شجاعة المحاولة خوفًا من الفشل.

رفع بوبو الصغير بصره وقد شعر بالرضا ثم قال وهو يتنهد بقوة: كنا نعاني دائمًا من المتاعب بسبب السياسة … أليس كذلك؟

قلت: ليس صحيحًا أن كل شيء كان بسبب السياسة، فلقد تسببت وجهات نظر ماكس السياسية في كثير من المتاعب، لكن إقدامه على الموت لم يكن نتيجة مباشرة لأي شيء متعلق بالسياسة؛ لأنني أعرف أنه كان يعاني ورطة شديدة لم يستطع التعايش معها … إنه لم يقدر على الوفاء بالمتطلبات التي أخذها على عاتقه.

ثم أضفت بفتور، كما فعلت أنت حين عزمت على اللعب في الفريق الأول بينما لم تكن تليق إلا باللعب في الفريق الثالث.

هز رأسه ببطء وهو يتابع حديثي مثلما يفعل النبات عندما يتنفس، وأخيرًا كان عليه أن يقبل ما سمعه مني ولم يخبرني هذه المرة عما يقوله له الآخرون كما كان يفعل بغضب في المرات السابقة … إنهم يشوهون سمعتي لكنني أرغب دائمًا في سماع ما يقولون لأنني جديرة بالدفاع عن نفسي، أما بوبو فهو من جيل لا يعرف أسلحة الجيل الآخر.

أمسك بيدي وراح يقبلها برقة كما تعود أن يفعل وهو صغير، ولست أعرف لماذا كان يقبل ظهر يدي هذه المرة وخاصة الإبهام … كان بوبو قد توقف عن تقبيل يدي منذ خمس سنوات، فهل هو نوع من الارتباك أم أنه فقد حاجته لذلك؟!

سألني: ماذا ستفعلين اليوم؟ هل سيأتي جراهام؟

أجبت: لا أعتقد فلقد جاء هذا الصباح وتناول الإفطار معي.

– أعتقد أن جيلنج سيصلي على ماكس الليلة لأنه دائمًا يصلي على الموتى.

– الصلاة على روح ماكس ستقام في كنيسة المدرسة الصغيرة، ولن تكون هناك أية طقوس أخرى، وأتمنى ألا يصلي عليه أولئك الذين كان يعمل معهم، أو الذين قام بخيانتهم لأنه لم يكن بطلًا ولكن من يدري؟! … ربما صنع قنبلته الصغيرة من أجل حرية السود … إن الرجال البيض تناولوا الموضوع باستخفاف عندما لجأ إلى أحد الشهود الرسميين … ربما كان ماكس نوعًا من الأبطال يجب أن نتوقعه.

شعر بوبو بالضيق والقلق عندما أوشكت على الانصراف فقال: هل أدير لك السيارة؟

نسيت ما قد يثيره من متاعب إذا شاهده أحد فتحركت طواعية إلى المقعد الآخر بينما نزل بوبو من السيارة ودخل من الباب المجاور لعجلة القيادة ثم بدأ يقود السيارة في مكان انتظار السيارات.

قلت: كفى … قف.

ضحك ثم توقف، فأضفت: إلى اللقاء يوم الأحد وسوف تحضر معك … ما اسمه؟

– لوبرت.

– أعتقد أنني لم أقابله من قبل … وماذا عن ويلدون؟ ألا يريد أن يأتي أيضًا؟ إنه أحد الأولاد الذين يعيشون بعيدًا ويصعب عليه الذهاب إلى بلده في فسحات أيام الآحاد … هل تشاجرتما أو حدث شيء بينكما؟

– لا … لم يحدث شيء، لكنه بعد مباراة كرة القدم وبعد أن يصيبنا العرق يقول بأن رائحتنا مثل رائحة اﻟ Kaffirs:٢

ما زلت حتى الآن لا أعرف السبب وراء تسميتهم بهذا الاسم. إنه يتحدث عليهم وكأن تلك الرائحة لا تفارقهم أبدًا ثم ضحك وأحيانًا يشاركه كثير من الأولاد في رأيه وضحكاته.

ظل بوبو ينظر نحوي بوجه متجهم يوحي بالفزع والبحث عن إجابة غير ممكنة ثم قال: أحيانًا كثيرة أتمنى لو أن الله خلقنا مثل بقية الناس.

قلت: أي نوع من الناس؟

أجاب: أولئك الذين لا يبالون بأي شيء.

تجولت بنظراتي حول مباني المدرسة الشاحبة ثم تبادلنا القبلات.

وقلت: إلى الأحد القادم.

قال بهدوء: لا تتأخري.

ألقى بعلبة الورق من نافذة السيارة وانطلق مسرعًا فأبصرت شعره الكثيف وشعرت بثقة كبيرة في بوبو، ثم همست نفسي: إنه على ما يرام … سوف يكون على ما يرام رغم كل شيء!

١  الأوكاليبتوس eucalyptus: أشجار تستخدم أوراقها طبيًّا. (المترجم)
٢  Kaffirs: تعني الناطقين بلغة البانتو في جنوب أفريقيا. (المترجم)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤