الفصل الخامس

كنت أقوم بتقطيع البصل إلى شرائح لتجهيز وجبة من لحم الخنزير حين جاء جراهام في السادسة، فنهضت أفتح الباب والسكين في يدي المبللة.

كنت سأتناول عشائي بالخارج كما قررت هذا الصباح لكن رائحة يدي الكريهة حالت دون ذلك … التقط جراهام جريدتي من فوق حصيرة الباب وأدركت من حركات فمه الطويل أنه فهم ثم قال وهو ينظر إلى الجريدة: لقد نجح الأمريكان أيضًا فأرسلوا رجلًا يمشي في الفضاء … انظري.

لم أستطع الإمساك بالجريدة فأدرت رقبتي لمشاهدة صورة المخلوق الجنيني المعتم المتصل بعجلة مظلمة عن طريق شيء كالحبل السُّري وقلت: أتمنى لو أن صور الجريدة باللون الأبيض والأسود بدلًا من الألوان حيث تكون الرؤية أفضل … إن الصورة هكذا تشبه أشياء بوبو الكوميدية.

أغلقت باب المطبخ ثم اختفيت داخل الحمام لأغسل يدي بينما دخل جراهام حجرة المعيشة وراح يقرأ عناوين الجريدة الفرعية وبعض مقتطفات من تقرير طويل بصوت عالٍ: «طلبوا منه كثيرًا أن يعود إلى سفينة الفضاء، لكنه بدا مستمتعًا خارجها … الأمر المختصر بهجر الفروسية … لا مزيد من الكعك المحلَّى … قطع فطائر رقيقة وصغيرة من الطراز الجنوبي تتسبب في مشكلة غير ذات أهمية.»

أجبت ببعض التعليقات وأنا أداعب أظافري وأضحك، لكن الرائحة لم تفارق يدي فعدت إلى حجرة المعيشة وسكبت العطر فوق يدي حين كان جراهام جالسًا فوق مقعده المعتاد ولم يكن بمقدوري، وربما لم يكن ضروريًّا، أن أشرح له سبب اعتذاري عن العشاء بالخارج، خاصة وأن رائحة البصل لا تزال تطاردني كلما تحركت يدي نحو وجهي.

بادرني بالقول: لقد جئت سيرًا على الأقدام ولم أستغرق سوى خمس وعشرين دقيقة.

– لا أعتقد ذلك، فهناك منحدر على طول الطريق، وعلى أية حال فإنك لن تستطيع العودة بنفس الطريقة … هل تتذكر ذلك اليوم في عيد الفصح عندما تعطلت سيارتي وعدت من عندك إلى منزلي سيرًا على الأقدام؟

– متى حدث ذلك؟ … ولماذا لم أصطحبك في سيارتي؟

– كنت قد أعطيتها لرفيقك في المجلس القانوني العالمي، ألا تتذكر؟

– أوه … نعم … إنه «باتن» … والآن سأحتسي شرابًا قبل أن يحل الظلام وأبدأ رحلتي الصعبة الطويلة.

– لا داعي للعجلة؛ إذ يمكنني أن أعود بك في سيارتي، سأستغرق وقتًا في ارتداء ملابسي.

ابتسم وقال: أوه … شيء جميل.

نهض وتناول زجاجة الويسكي من خزانة الكئوس والأطباق، إنه يمدني بزجاجات الويسكي الذي لا أستطيع شراءه، ثم توجهت لإغلاق أبواب الشرفة، حيث غابت الشمس وأصبح الجو باردًا، وكانت صورة غروب الشمس الرومانتيكية ما تزال في إطارها فوق الحائط، فبدت الحجرة بلون أسمر فاتح.

قال: شيء رائع.

– لقد اعتدت على ذلك.

ظل ينظر متأملًا فلم أستطع إغلاق الأبواب حتى ينتهي من تأملاته وكأنني مرشدة في متحف حتى قال: ومع ذلك فإنني أحب الأبقار والعشاق حين يصعدون مرتفعات «فريدا جولد».

إنه يحتفظ برسومات شاجال في حجرة نومه كما تحتفظ النسوة بأعمال ماري لورنسين في حجرات نومهن، فلماذا لا يحدث ذلك في حجرة المعيشة؟ … لا بد أنها رؤية خاصة أو طريقة حياة خاصة لا تناسب الإنسان العادي، وربما غير مسموح له بها، وأيًّا ما كان الأمر فإن جراهام لم يكن شغوفًا بشاجال أو مهتمًّا بأعماله حتى قدَّم له شخص غني هذه اللوحة المعلقة في حجرة النوم.

قلت: فلنفترض أنها وقعت!

قال بطريقة متسامحة كما يفعل معي أحيانًا: إذن فهي ليست جميلة.

اعترضت قائلة: إن الجمال شيء نسبي.

ابتسم لطريقة حديثنا هذه التي نمارسها أحيانًا وكان يطلق عليها محادثات التلاميذ.

– الحقيقة ليست هي الجمال.

– إنها ليست كذلك تمامًا.

أغلقت الأبواب، لكنني لم أستطع شد الستائر عن آخرها، فجلس جراهام حاملًا الكأس في يده بعد أن تحرك بمقعده في مواجهة المنظر.

كنت قد توقفت عن ملاحظة غروب الشمس إلا قليلًا، لكن اهتمامه جعلني أنتبه، فالمرء يعاود اهتمامه بسماع قطعة موسيقية لم يعد يسمعها حين يجد شخصًا يهتم بسماعها.

حدقت في الألوان كما كان يحدق وقلت: سيكون الأمر فظيعًا لو أنها سقطت.

– كيف تبدو لك؟

– لم أستطع رؤية العشاق أو آلات الكمان أو الأبقار.

هبط الظلام وبدا إشعاع أحد النجوم في السماء كأنه شظية من الزجاج. وكعادته دائمًا حين لا يناسبه كلامي قال: لقد أصبت.

هكذا شأن الناس الذين يعرفون بعضهم البعض كما أعرف جراهام ويعرفني، حيث يستغرق الحديث وقتًا طويلًا دون اعتبار لأهمية الحديث أو نوعيته، فالأمر لا يختلف إذا كان متعلقًا بالشئون السياسية أو بتبادل الحكايات عن الأصدقاء أو التخطيط لقضاء إجازة، لكن المهم هو التواجد وإعادة تقسيم الأدوار التي اختار أحدهما أن يقدمها للآخر الذي يستنبطها بدوره لإظهار الوفاء، لكنني امرأة ذكية وملعونة لا يملك أدوات التعامل معها؛ إذ إن العلاقة مع امرأة من نوعي تعني الموافقة ضمنًا ليس فقط على المساواة في الذكاء، وإنما أيضًا على الإحساس العام المعاصر … إنه غالبًا ما ينظر في الاتجاه المعاكس كلما أمسكت بزمام المناقشة بطريقة أفضل منه، وفي العام الماضي بأوروبا تناقشنا حول الرسم والمباني التي شاهدناها معًا كما نفعل دائمًا على مائدة العشاء في منزله أو في شقتي حين نتحدث في الشئون السياسية، وكان يتملقني بينما أسعى أنا لشد انتباهه ناحيتي وبعد أن أصابنا الارتباك وبدلًا من قوله المعتاد: «لقد أصبت» قال هذه المرة: كيف ترين علاقتنا؟

لم أعرف ما أقوله، لكن سؤاله كان هادئًا ومجردًا وليس من نوع الأسئلة التي يقوم فيها المحامي باستجواب الشاهد، ثم فشل كلانا في قدرته على التحكم … واصلنا حديثنا ولكن دون الاقتراب من تشخيص حالتنا الحقيقية التي سيطر عليها الظلام.

قلت: أجد صعوبة في التحديد … أعني … كيف … ماذا بوسعي أن أقول؟ … هذا هو عصرنا … أليس كذلك؟

كان يصغي بجدية وتعاطف وأنا أستطرد: كنت أقود سيارتي اليوم صباحًا على سبيل المثال عبر الشجيرات المتناثرة، وكانت شمس الصباح الشتائية وتسع سنوات من عمري وعمر ماكس … ذلك الصباح الذي كانت فيه لحياتنا تطلعات مختلفة للمستقبل تشبه دوي الطائرات البعيدة في السماء التي كنت أسمعها من معسكر تدريب القوات الجوية المجاور لبيتي أثناء الحرب … نفس الصباح الذي عشت فيه هنا وكان ماكس في السجن ولم أكن أرملة … كنا نكبر ونلتحق بالوظيفة ونتزوج ونصلي للمسيح الأشقر في كنيسة البيض ونقدم ملابسنا القديمة للمربية.

لقد سألتني جدتي العجوز قائلة: ماذا حدث؟

وأثناء قيادتي للسيارة عبر الأشجار الصغيرة قاصدة بوبو تذكرت ماكس وإنصاته للبط الذي لم يستطع أن يفهم منه أي شيء.

كان رجل ما يسير بالقرب في الخلاء، فتوقفت وقلت لجراهام: ماذا سوف يقولون عنه في التاريخ بالله عليك؟

قال: لقد قرأت كتابًا يشير إلى تاريخنا على أنه العالم البرجوازي الزائل … كيف ترين ذلك؟

شعرت بشيء يتحسس جلدي مثلما تفعل الرياح عند اصطدامها بالماء ثم ضحكت … إن بعض الكلمات أحيانًا تساعد في تعميق هذا الشعور.

– احتضار جميل … لكنه تعريف سياسي ليس جيدًا.

– نعم، لكن الكاتب الألماني الشرقي يعني ما هو أكثر من ذلك … إنه يعني الفنون والاعتقادات الدينية والتكنولوجيا والاكتشافات العلمية وممارسة الحب وكل شيء.

– باستثناء العالم الشيوعي.

– لا … ليس حقيقيًّا فإنه جزء من الظاهرة التاريخية كلها.

رغبت في انصرافه فقدمت له كأسًا أخرى وقلت: هل كنت تعمل بعد الظهر أم أنك استسلمت للنوم؟

ابتسم ابتسامة جوفاء كتلك التي ترتسم فوق فم الراهب حين يختلق بعض الحكايات عن الحياة خارج الدير، وكنت أعرف أنه لم ينم بعد الظهر رغم المجهود الذي بذله في ممارسة الحب معي ليلة أمس، وإنما كان يكتب في حجرته ويسجل كلامًا بصوته على الدكتافون كذلك الذي كنت أسمعه وكأنه شخص يقوم بالصلاة.

لاحظت بالقرب من البيت الذي تقيم فيه جدتي علامة السهم والرمح المنتشرة فوق حائط الجسر، لكنني لست مندهشة لأن نفس العلامة موجودة في أرجاء المدينة أيضًا، ولقد أخبرني جراهام في الأسبوع الماضي أنهم حكموا على فتاة بيضاء شابة بثمانية عشر شهرًا لأنها رسمت هذه العلامة وهذا الرمز، لكنهم يحكمون على الرجال والنساء السود في كيب بثلاث سنوات عقابًا على نفس الشيء.

قلت: أتعتقد أنه من المناسب استخدام هذا الرمز؟ ومن هو صاحب الفكرة؟

إنه الرمز الخاص بالمقاومة الذي ظهر لأول مرة في إحدى المحاكمات السياسية منذ زمن ليس ببعيد، ولديَّ اعتقاد أنهم يرغبون في إيجاد رمز آخر بدلًا من ذلك الذي اخترعه أحد المخبرين.

ضحك وقال: لا أعتقد أن المخترع كانت لديه أية دوافع كما أن وكالات الإعلان التي تصوغ الشعار ليست لديها أية دوافع ولا تؤمن بما تفعل … أليس كذلك؟

– أعتقد هذا، لكنه أمر غريب يثير التساؤل، وإلا فلماذا يكون الشعار هكذا؟

التزمنا الصمت لحظة فكر فيها كلانا بماكس، ولكن لم يكن ثمة ما يقال عن ماكس غير أن فكرة موته أو حياته ظلت تلاحقنا مثلما يلامس الماء قدم المرء عند شاطئ مظلم في الليل.

سألني جراهام: هل وصلت الزهور إلى جدتك؟

أخبرته كيف أنها صرخت عندما رأت الزهور عند مدخل الباب، ولم تشأ أن تضعها بالداخل، فقال: شيء طبيعي أن تخاف من الموت.

ربما بالإضافة إلى أنها تكره الأشياء الطبيعية ولا تتحمل الطقس البارد أو رؤية الشعر الرمادي، خاصة بعد أن أصابتها الشيخوخة منذ سنتين أو ثلاث سنوات مضت، وربما قبل ذلك، حيث اعتادت منذ خمسة عشر عامًا أن تقضي الشتاء هنا وترحل إلى إنجلترا في الصيف، لكنها الآن لا تستطيع عمل ذلك.

نهض فجأة وهو يحتويني بنظراته وكانت الدهشة تعتريه وربما الضيق، ثم قال لإنهاء المحادثة: أيمكنك الآن اصطحابي بالسيارة؟

لم يفهم جراهام أن المرء حين يوشك على الموت فإنه يريد إحساسًا بالاكتفاء كذلك الذي يحدث عند تناول الطعام.

ذهبت معه بسيارتي إلى منزله، وعند مدخل البوابة طبق من البرونز اللامع مكتوب عليه اسمه، وفوق الباب الخشبي الأمامي يوجد فانوس حديدي.

نزل من السيارة فسارعت بالسؤال: هل لك أن تتناول العشاء معي غدًا؟

كنا في حالة من اللامبالاة وعدم القدرة على التفكير، فعدت مسرعة وكأنني خفاش خارج من الجحيم، وقد شعرت بمهارة ممتعة في القيادة عند الملفات كما يحدث لي عندما أشرب شرابًا قويًّا على معدة خاوية.

قلت لنفسي: يجب التخلص من رائحة البصل وتناول حمام قبل السابعة والنصف.

ثم تراجعت قائلة: أو قبل الثامنة، وإذن فهناك متسع من الوقت.

كان «لوقا فوكاس» هو القادم … لقد اتصل بي في المعمل يوم الخميس، وقال: كيف الأحوال يا رجل؟ هل بمقدوري أن أزورك يوم السبت، خاصة وأنني قريب من هنا؟ هل يناسبك هذا التوقيت؟ … إنني موجود لمدة قصيرة لكنني سأعود كثيرًا.

إننا لا نستخدم أسماءنا في المحادثات التليفونية لكن لوقا اعتاد على مناداتي بكلمة «رجل» كما ينادي الزنوج بعضهم البعض.

– حسنًا، سوف أحضر.

– في حوالي السابعة والنصف.

لست أدري لماذا وافقت على زيارته، وأتمنى ألا يضعني في قائمة زياراته لأنني أريد أن أكون وحيدة … ربما أكون قد افتقدت وجوههم السوداء بعد أن نسيت مذابح المنزل الخلفي وخيبات الأمل وسوء التفاهم، لكننا عشنا أوقاتًا طيبة كالتي كان يجلس فيها «وليام زابا» مع آخرين يوم الأحد تحت شجرة المشمش طوال اليوم بينما يأتي «سبيرز» ويتحدث معي وأنا أجهز لهم الطعام.

عادت إليَّ ذكرى تلك الأيام وكأنني لم أعشها، وشعرت كما لو أنني استيقظت فجأة لأجد نفسي في مكان غريب، ورغم ذلك فلقد عرفت فيما بعد أن كل الأشياء لم تكن جيدة، وأن الصداقة لم تكن من أجل الصداقة فقط كما يحدث بين البيض.

همست لنفسي: ينبغي أن أتفرغ لعملي وللعلاقة التي تربطني بجراهام، ويجب أن أعترف بحظي لأنني لا أمتلك القدرة على المخاطرة بالمضي في نفس الطريق الذي سلكه ماكس.

لم يكن «لوقا» أحد أفراد المجموعة القديمة، لكن رفيقه «ريبا» يعرف ماكس، وقد حضر كلاهما عندي ذات مرة … إنهما ينتميان إلى هذا المكان، لكنهما يعيشان في باسوتولاند بعد أن حصلا على حق المواطنة بطريقة ما من الإدارة البريطانية، وكان ريبا يعمل مقاولًا للنقل والمباني ولديه شاحنة قديمة ينقل بها مواد البناء بين ماسيرو وجوهانسبرج بدون قيود ويستخدمها في نقل السياسيين إلى الاتجاه الآخر للمشاركة في المعارك الانتخابية حتى حدود بيشوانا لاند.

ذات ليلة منذ خمسة عشر شهرًا جاء ريبا إلى شقتي في منتصف الليل حين تعطلت شاحنته، وكان برفقته شابان … لم يكن يملك المال الكافي لإصلاح الشاحنة ولم أكن أعرفه تمامًا، فلقد قابلته مرة واحدة فقط مع ماكس، لكنني أعطيته الثمانية الجنيهات الوحيدة التي أمتلكها، وانتابني الخوف من فكرة أن يكون الأمر كله مجرد فخ للبوليس، وخفت أكثر ألا يكون كذلك، ثم قلت لنفسي: كيف لشخص مثلي ألا يساعد الأفارقة؟!

كان أحد رفيقيه شابًّا بدينًا ذا وجه ناعم أسود يوحي بأنه من أفريقيا الغربية، وله عينان كبيرتان تشعان فوق جلده الأسود وتشبه العيون الملونة لشعب غرب إيطاليا القديمة … إنه لوقا.

أما ريبا الصغير فقد كانت رأسه مثبتة بين أكتافه إلى الوراء مثل الرجل الأحدب، وكان فكه كبيرًا وفمه مفتوحًا بانتباه وضحكته هادئة تذكرني دائمًا بفرس النهر حين يفتح فمه كي تسارع الطيور بتنظيف أسنانه.

كان كلاهما جذابًا، لكنني لم أستطع أن أثق فيهما تمامًا، ولم أحلم أبدًا أن يرد لي ريبا النقود، غير أنني تلقيت خطابًا مسجلًّا عبر فيه عن شكره العميق، ووقَّعه في النهاية قائلًا: «رفيقك في النضال: ريبا شبيز».

منذ تلك الليلة راح لوقا يعاود الظهور من وقت لآخر ويشرح لي تفسيراته بين زيارة وأخرى، ثم يحدثني عن ريبا وسر اختفائه قائلًا: إنه مشغول جدًّا بأعماله، وربما حر جوهانسبرج الشديد هو الذي يمنعه.

ماذا يحدث؟ … ليس من شأني على أية حال، فكلاهما من رجال المنظمة السياسية الأفريقية، لكن الحكومة العنصرية البيضاء لا تفرق بين تلك المنظمة وبين رجال المؤتمر الوطني الأفريقي الذين كنا نساندهم أنا وماكس ومعظم اليساريين البيض من الليبراليين لوقوفهم ضد العنصرية وعدم رفضهم لنا ومناقشاتنا معهم … إن رجال كلا التنظيمين كانوا معرضين للسجن وحقيقة انتماء البعض إلى كلا المنظمتين لم يعد مثار شكوك.

كنت أكتفي بعمل الوجبات السريعة في المطبخ، والتي لا تتطلب مهارة كبيرة، مثل عمل البيض المقلي، ولا أطهو وجبة جيدة إلا في وجود بوبو، خاصة وأن جراهام كان يدعوني على العشاء بأحد المطاعم، أو يكلف طباخه بعمل وجبة نتناولها في منزله، لكن لوقا فوكاس كان جائعًا حين جاء مع ريبا في تلك الليلة، ولم يكن أمامه سوى تناول الطعام البارد الذي أحتفظ به في الثلاجة أحيانًا، وهو عبارة عن لحم الخنزير بشرائح البصل، والذي لا يعد طعامًا جيدًا، لكنني أستمتع بالحصول على كل شيء جاهز.

فتحت زجاجة النبيذ الإسباني الأحمر التي تركها جراهام ليوم ما قد نتناول فيه شيئًا يستدعي شرابها، فالنبيذ شيء ضروري بالنسبة له مع الطعام الجيد وممارسة الحب، حيث إنه لا يستمتع بأحدهما منفصلًا عن الآخر … تناولت كأسًا وشربته في الحمام، فبدا الأمر جميلًا وأنا أقرأ الصحف وذلك التقرير الذي قرأه جراهام عن الفضاء، غير أنهم لم يذكروا شيئًا عن ماكس في الطبعة الأخيرة.

كنت أرتدي ملابسي قبل مجيء لوقا بوقت كافٍ دون أن أدري شيئًا عما سأفعله رغم وجود أشياء كثيرة ينبغي أن أقوم بها، لكن وقتًا يثير الارتباك كهذا لا يمكن عمل شيء فيه … حاولت استكمال الخطاب الذي بدأت في كتابته لكنني لم أستطع لأن روح الكتابة قد اختلفت، فأدرت التسجيل وصببت لنفسي كأسًا آخر من النبيذ … جلست وشعرت كما لو أنني فوق خشبة أحد المسارح الخالية من الجمهور، ثم أمسكت بكتاب كنت أقرأ منه في الصباح وأنا مستلقية فوق السرير وعند منتصف الصفحات كانت وفاة ماكس تتراءى لي فلا أفهم شيئًا، فألقيت بالكتاب جانبًا وعندئذٍ عدت إلى صوابي مرة أخرى.

كانت أصوات الناس في الخارج تتسلل إلى منزلي وصوت مذياع مزعج يتطرق إلى مسامعي مختلطًا بصوت أبواب السيارات وهي تنغلق بعنف، وكانت الأضواء منعكسة فوق مرتفعات فريدا جولد.

أبصرت أنبوبة صمغ فوق طفاية السجائر كنت قد استخدمتها منذ أيام قليلة في لصق نعل حذائي، فتذكرت رأس تميمة القرد الأفريقي المكسور الذي أحضرته لبوبو من ليفنجستون في طريق عودتي من أوروبا في العام الماضي، فتوجهت إلى حجرة النوم وقمت باللصق بعناية في محاولة لإعادتها إلى ما كانت عليه، غير أنها لم تصبح كذلك.

فكرت في شراء بعض الألبومات للاحتفاظ بصور بوبو الملقاة في دولاب الحمام داخل صندوق القبعات القديم، والتي ضاع معظمها مع صحفنا وأوراقنا الشخصية من جراء هجمات الشرطة المتكررة في كوخنا القديم والتي لم أستطع استردادها، وتحمست للفكرة وأنا أقول: صور بوبو في الألبوم مكتوب عليها التاريخ واسم المكان.

شعرت بالجوع فتناولت كأسًا أخرى من النبيذ، ثم سمعت طرقًا خفيفًا على الباب.

إن لوقا لا يدق الجرس.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤