الفصل الأول

تعريف العبقرية

هوميروس، وليوناردو دا فينشي، وشكسبير، وموتسارت، وتولستوي، وجاليليو، ونيوتن، وداروين، وماري كوري، وأينشتاين. ما القاسم المشترَك بين هذه الشخصيات المشهورة على مستوى العالم في مجالَي الفنون والعلوم؟ بالإضافة إلى حقيقة أن عمر إنجازاتهم قرن أو يزيد، ربما سيردُّ معظمنا على هذا السؤال بإجابة كالتالية: جميع هذه الشخصيات العشر أحدثَتْ بأعمالها تغييرًا دائمًا في طريقة رؤية الإنسانية للعالم، وتمتَّعَ كلٌّ منها بما نسميه: العبقرية. لكن لما كانت الضرورة تفرض علينا أن نكون أكثر دقة، نرى أنه من الصعب صعوبة ملحوظة أن نحدِّد مَن هو العبقري، لا سيما من بين أبناء عصرنا.

على الرغم من شهرة بابلو بيكاسو وتأثيره لا تزال مكانته كعبقري محل جدل، كما هي الحال بالنسبة لمكانة فيرجينيا وولف مثلًا في مجال الأدب. وفي العلم، على الرغم من أن ستيفن هوكينج كثيرًا ما يُعَدُّ عبقريًّا معاصرًا يضارع أينشتاين في نظر الجمهور العام، فهو لا يحظى بالقدر نفسه من القبول من جانب علماء الفيزياء الذين يفهمون عمله تمام الفهم؛ فهو لا يشكِّل لهم سوى واحدٍ من نجوم مجال علم الكونيَّات.

والعبقرية بطبيعة الحال فردية وفريدة، إلا أنها ذات طابع مؤثر، سواء بالنسبة لعامة الناس أو المتخصصين. فأفكار داروين لا يزال ينشد قراءتَها كلُّ عَالِم أحياء، ولا تزال مستمرة في توليد أفكار وتجارب جديدة في جميع أنحاء العالم. وكذلك هي نظريات أينشتاين بالنسبة لعلماء الفيزياء. ولا تزال مسرحيات شكسبير وألحان موتسارت وإيقاعاته تؤثِّر في أناس من لغات وثقافات بعيدة كل البعد عن إنجلترا وطن الأول، وعن النمسا وطن الثاني. قد يظهر عباقرة «معاصرون» ويختفون، لكن فكرة العبقرية لن تَبْرَحنا أبدًا. وكلمة عبقري هي الصفة التي نُطْلِقها على نوعية العمل الذي يتجاوز حدودَ الاتجاه السائد والشهرة والمكانة المرموقة؛ أي: ليس المرتبط بفترة زمنية بعينها. فالعبقرية تتجاوز بطريقة أو بأخرى وقتَ ظهورها ومكانَه.

يعود أصل كلمة عبقري بالإنجليزية «جينياس» genius للعصور الرومانية القديمة؛ ففي اللغة اللاتينية تُستخدَم كلمة جينياس لوصف الروح الحارسة (الحامية) لشخص أو مكان أو منشأة، وهلم جرًّا، الأمر الذي ربط هؤلاء الأشخاص بقُوى القَدَر وإيقاعات الزمن. ومثلما هي الحال بالنسبة لكلمة «دايمون» daimon اليونانية — التي تعني أيضًا الروح الحارسة — كان يُعتقَد أن جينياس أو الروح الحارسة تُلازِم المرءَ من المهد إلى اللحد، كما عبَّرَ عن ذلك الشاعرُ هوراس في أبيات له تَعُود للقرن الأول قبل الميلاد، قائلًا: «هي الرَّفِيقُ الذي يوجِّه نَجْمَ مَوْلِدِنا، رب الطبيعة البشرية، وهي فانيةٌ مع كل فَرْد، وتختلف في السِّيماء، أبيض وأسود.» ويرى هوراس أن تلك الروح وحدها هي مَن تحدد لماذا قد يختلف شقيقان كل الاختلاف من حيث الشخصية وأسلوب الحياة. لكن كلمة جينياس لدى الرومان لم تكن بالضرورة مرتبطة بقدرةٍ أو بإبداعٍ استثنائيٍّ.
لم تكتسِب كلمةُ العبقرية معناها الرئيسيَّ المُعاصِرَ والمختلِفَ اختلافًا واضحًا عن أصلها إلا مع بزوغ عصر التنوير؛ إذ باتَتْ تُشِير إلى: الفرد الذي تبدو عليه قدرات استثنائية عقلية أو إبداعية، سواء كانت هذه القدرات فطرية أو مكتسبة (أو كلا الأمرين معًا). فالشاعر هوميروس رغم ما يحظى به طوال ألفيَّتَيْن من إجلال وتوقير بصفته شاعرًا فذًّا مُلْهَمًا لم يُطلَق عليه أنه «عبقري» إلا بحلول القرن الثامن عشر. لكن هذا الاستخدام الحديث مستمَدٌّ من الكلمة اللاتينية «إينجينيوم» ingenium (ليس من كلمة «جينياس») التي تعني «قدرة طبيعية» أو «مَقْدِرة فطرية» أو «موهبة»، وباتت الكلمة تُستخدَم على نطاق واسع في عام ١٧١١، حينما نشر جوزيف أديسون مقالًا عن «العبقرية» في مجلته حديثة التأسيس «ذا سبيكتاتور». كتب أديسون يقول: «ما من شميلة يتكرر أن يُوصَف بها الكُتَّاب جميعًا أكثر من شميلة العبقرية.» وأضاف:

سَمِعْتُ عن كثير من ناظِمِي القصائد المتواضعين الذين يُوصَف الواحد منهم بأنه عبقري بارع. وما من مؤلِّف ملحمي فاشل على وجه البسيطة إلا ويعتقد معجَبوه أنه شديد العبقرية، أما الهواة في مجال تأليف المسرحيات التراجيدية فنادرًا ما لا يشيد شخص أو آخَر بأي منهم باعتباره عبقريًّا مذهلًا.

في أواسط القرن الثامن عشر اقترح صامويل جونسون في مجلته الدورية «ذا رامبلر» تعريفًا عصريًّا على نحو جليٍّ لكونه يركِّز على العبقرية باعتبارها هدفًا يمكن بلوغه من خلال الاجتهاد والتفاني. يقول جونسون:

… [بما] أن العبقرية، أيًّا ما كانت، كالنار الكامنة في الحجر الصوان لا تنشأ إلا بقدح الحجر بما يناسبه من مواد، فإن من واجب كل إنسان أن يختبر قدراته كي يعلم ما إذا كانت لا تتوافق مع تطلعاته، وبما أن أولئك الذين يُعجَب هو ببراعتهم لم يكتشفوا قُوَّتَهم تلك إلا من خلال الاجتهاد، فإن كل ما يحتاجه هو أن يشرع هو الآخَر في الاجتهاد الذي سبقه إليه هؤلاء وبالحماسة نفسها، وحينئذٍ يكون من المنطقي أن يأمل في أن يحقِّق نجاحًا مماثلًا.

لم يمضِ وقت طويل حتى أشار الرسَّام جوشوا رينولدز صديق جونسون في محاضراته عن فن الرسم إلى أن «منتهى طموح كل فنان أن يُعتقَد بأنه رجل ذو عبقرية.» لكن في عام ١٨٢٦، أشار الناقد ويليام هازليت في مقاله «هل العبقري على وعي بقدراته؟» إلى أن «ما من رجل عظيم بحق حَدَثَ قطُّ أنْ ظنَّ في نفسه أنه عبقري … ومَن يَصِل إلى العظمة بمعاييره الخاصة، فلا بد أنه كان يضع في ذهنه دائمًا معاييرَ شديدةَ الانخفاضِ للعظمة.» فالفنان بيكاسو على سبيل المثال صرَّحَ قائلًا: «حينما أكون منفردًا بنفسي لا يَسَعُني أن أعتبر نفسي فنانًا؛ فالفنانون العظماء بالمعنى الحرفي للكلمة هم: جوتو، ورمبرانت، وجويا.»

بَدَأَتِ الدراسةُ العلميةُ للعبقرية بنشر كتاب «العبقرية المتوارثة: بحث في قوانينها ونتائجها» عام ١٨٦٩، من تأليف قريبِ تشارلز داروين فرانسيس جالتون، مؤسِّسِ علم النفس، الذي أجرى بحوثًا مفصَّلة عن حياة الأشخاص المرموقين وخلفياتهم وإنجازاتهم وأقاربهم، الأحياء منهم والأموات. لكن من المثير للاستغراب أن كتاب جالتون يكاد يخلو من أي إشارة إلى «العبقرية»، ولا يحوي أي محاولة لتعريفها، ولا يظهر في الفهرس أي إدخال لها (على عكس «الذكاء»). وحينما نشر جالتون طبعةً ثانيةً عام ١٨٩٢، أبدى شيئًا من الندم على اختيار العنوان وتمنَّى أن يكون بمقدوره أن يغيِّره إلى «القدرة المتوارثة»، فكتب في تمهيده الجديد للطبعة الثانية: «من جانبي لم تكن لديَّ أدنى نية لاستخدام كلمة العبقرية على أي نحو فني، بل لمجرد التعبير عن قدرة فائقة على نحو استثنائي. فهناك قدر كبير من الغموض بشأن استخدام كلمة العبقرية. ومع أن كثيرًا من الشباب يُنعَتون بهذه الصفة من جانب معاصريهم، فنادرًا ما يستخدمها كتَّاب السِّيَر الذين لا يتفقون دائمًا فيما بينهم.»

fig1
شكل ١-١: لوحة «تمجيد هوميروس» للفنان جان أوجست دومينيك آنجر، عام ١٨٢٧.1

لا يزال هذا الالتباس مستمرًّا، ولو أن سنوات القرن العشرين شهدَتْ بعضَ التحسُّن في فهم مكونات العبقرية وأنماطها. كتب المؤرخ روي بورتر في مقدمته لكتاب «العبقرية والعقل» الذي ضمَّ مجموعةَ «دراسات أكاديمية عن الإبداع والطباع» وحرَّره عالم النفس أندرو ستيبتو ونُشِر عام ١٩٩٨، يقول: «كنت دائمًا حذرًا من محاولات التعميم المتعلقة بالعبقرية … يبدو أنه لا يوجد قاسم مشترك في هذا الشأن إلا الخروج عن المألوف … مع ذلك، … لا يسعني كمؤرخ إلا أن أنبهر بالعبقرية.» ينعكس هذا الالتباس في اختلاف قامات الشخصيات التي تناولها الكتاب، والتي لا يشكِّل العباقرة الذين لا سبيل للجدل بشأن عبقريتهم كموتسارت وأينشتاين سوى حفنة قليلة منهم. في الواقع لا يمكن أن يكون هناك إجماع حول تعريف يميز العبقريَّ من غير العبقري. ورغم أن هناك أشخاصًا بعينهم قد يتمتعون باعتراف واسع النطاق بعبقريتهم، تظل الكلمة نفسها عَصِيَّة على التعريف الدقيق. والواقع أن هذه الإشكالية تشكِّل جزءًا من جاذبية العبقرية التي تجذب الأكاديميين الذين يدرسون العبقرية بقدر ما تجذب «كل إنسان» كما يقول صامويل جونسون.

fig2
شكل ١-٢: بابلو بيكاسو، عام ١٩٠٤. كيف نقرِّر ما إذا كان الشخص عبقريًّا أم لا؟2

ربما كان القرن الحادي والعشرين أكثر افتتانًا بالعبقرية حتى من عصر جالتون الفيكتوري الذي «ازدهر» فيه العباقرة من أمثال الشاعر تينيسون — كما تقول فيرجينيا وولف — «بشعرهم الطويل، وقبعاتهم السوداء الضخمة، وأرديتهم وعباءاتهم.» إن عباقرة الفن والعلوم — محور هذا الكتاب — مثل ليوناردو ونيوتن يأسرون مخيِّلَة جيل بعد آخَر. وهكذا الحال بالنسبة للعبقرية العسكرية والسياسية التي تميَّزَ بها نابليون وتشرشل وغاندي، «وعبقرية الشر» لهتلر وستالين وماو. كما يُغدَق الوصف بالعبقرية أيضًا إغداقًا سخيًّا على الصفوة في أنشطة متعددة كالشطرنج، والرياضة، والموسيقى. يُضاف إلى ذلك أن هذا الشرف قد لا يُمنَح فقط بل ويُسحَب أيضًا من جانب الخبراء والجماهير، وهو ما اكتشفه الفنان البريطاني المعروف المتخصص في الفن التركيبي داميان هيرست والحائز على عدة جوائز. تعهَّدَ هيرست ردًّا على مقالات نقدية هدَّامة عن أول مَعارِض لوحاته عام ٢٠٠٩؛ بأن يواصل الرسم ويُجوِّد فنَّه، وقال: «أنا لا أؤمن بالعبقرية، لكني أؤمن بالحرية. وأظن أن أيَّ شخصٍ قادرٌ على ذلك، أي شخص بمقدوره أن يصبح مثل رمبرانت … من خلال الممارسة، يستطيع المرء أن يرسم لوحات عظيمة.»

لا شك أن جالتون، الذي صكَّ عبارةَ «الطبع في مقابل التطبُّع»، لم يكن ليتفق مع هذا القول؛ فقد كان عضوًا ذكيًّا ذكاءً استثنائيًّا من عائلة داروين؛ إذ كان جدُّه لِأُمِّه إراسموس داروين جدَّ تشارلز داروين لأبيه، وكان نَشْرُ قريبه تشارلز داروين كتابه حول الانتخاب الطبيعي «في أصل الأنواع» عام ١٨٥٩ هو ما أقنَعَ جالتون بأن الذكاء الفائق والعبقرية متوارثان بالضرورة. كان جالتون يصنِّف قدرات «الأشخاص النابهين» في الماضي والحاضر — الإنجليز بصفة خاصة، لكن ليس على سبيل الحصر — ويتقصَّى ظهور النباهة في العائلات آمِلًا بذلك أن يُثبِت فرضيته، وهو ما يتضح بجلاء من الكلمات الافتتاحية للفصل الأول في كتابه:

أسعى أن أُبيِّن في هذا الكتاب أن قدرات الإنسان الطبيعية تُرَدُّ إلى الوراثة، وتخضع لنَفْس القيود التي يخضع لها التكوين والخصائص الفيزيائية للعالم العضوي بأَسْرِه.

للحصول على بياناته حول النباهة، طرَحَ جالتونُ الافتراضَ المنطقيَّ والمُثيرَ للجدل أيضًا، بأن الشهرة مؤشر دقيق على القدرة الفائقة. ثم حلَّل سجلات الإنجازات والأمجاد المسجَّلَة في ثلاثة مصادر مطبوعة: الدليل المعاصر المهم عن سِيَر حياة بعض الأشخاص «رجال العصر»، وصفحات النعي المنشورة في جريدة «تايمز» في عام ١٨٦٨، وصفحات النعي المنشورة في إنجلترا والتي تعود لأعوام سابقة. ولو كان جالتون يؤدِّي عملَه في يومنا هذا لكان بالقطع حلَّلَ قوائمَ الفائزين بجائزة نوبل أيضًا. انطلاقًا من هذا الأساس قدَّمَ تعريفًا اعتباطيًّا للشخص «النابه» بأنه ذلك الذي بلغ مكانةً لم يبلغها سوى ٢٥٠ شخصًا من بين كل مليون إنسان؛ أي: ما يعادل شخصًا واحدًا من بين كل أربعة آلاف. (وجادَلَ عن هذا الرقم جدلًا شعريًّا، انطلاقًا من أن الرقم ٤٠٠٠ قد يكون عدد النجوم التي يمكن أن تُرَى بالعين المجردة في أكثر الليالي الزاهرة المضاءة بالنجوم؛ إذ يقول: «ومع ذلك نشعر أنه من قبيل التميُّز الباهر بالنسبة لأي نجم أن يُعَدَّ الأكثر سطوعًا في السماء».) أما الشخص «اللامع» — وهو أكثر ندرة بكثير من الشخص النابه — فهو واحد من بين كل مليون شخص، أو حتى من بين ملايين عديدة من الأشخاص. «إنهم أشخاص يَبكيهم القطاعُ النابه من الأمة حينما يموتون، ويحظون — أو جديرون بأن يحظوا — بجنازة جماهيرية، ويُصنَّفون في العصور المستقبلية بأنهم شخصيات تاريخية.» وكما ذكرنا من قبلُ، لم يقدِّم جالتون تعريفًا يحدِّد مَن هو «العبقري».

والجزء الأكبر من كتاب «العبقرية المتوارثة» يتضمن محاولة جالتون رد أصول أولئك الذين عرَّفهم بأنهم «لامعون» والذين عرَّفهم بأنهم «نابهون» إلى عائلات. فهو يبدأ بفصل عن «قضاة إنجلترا بين عامَيْ ١٦٦٠ و١٨٦٥»، ثم ينتقل عَبْرَ فصول الكتاب من فئة إلى أخرى؛ مثل: «الأدباء»، و«العلماء»، و«الموسيقيين»، و«رجال الدين»، و«علماء كامبريدج الأعلى مقامًا». ويختتم بفئة «لاعبي التجديف»، و«مصارعي المناطق الشمالية». من الواضح أن فكرة العبقرية بالنسبة لجالتون (كما هي بالنسبة لكل مَنْ لَحِقَهُ من الباحثين) لم تكن تعني شيئًا إلا إذا وُظِّفَتْ في مجال معين؛ كالعبقرية في مجال الموسيقى، والعبقرية في مجال التجديف.

ادَّعَى جالتون بعد مقارنة نتائجه التي حصل عليها في مختلف المجالات أن هذه النتائج تدعم فرضيته الوراثية لكنها لا تؤكدها، فقال: «إن النتيجة العامة هي أن نسبة النصف تمامًا من الرجال اللامعين لديهم قريبٌ نابِهٌ واحد أو أكثر.» كانت أعلى النِّسَب في اللامعين الذين ينحدرون من عائلة نابهة — ٠٫٨ — موجودة في أوساط كبار القضاة (٢٤ من بين ٣٠ وزيرًا للعدل)، والعلماء (٦٥ من ٨٣)، وكانت أدنى النِّسَب — ٠٫٢-٠٫٣ — موجودةً بين رجال الدين (٣٣ من ١٩٦) والموسيقيين (٢٦ من ١٠٠)، مع متوسط عام لجميع المجالات بلغت نسبته ٠٫٥. لكن جالتون اعترف أن تحيزه الشخصي كان من السهل أن يؤثِّر على اختياره للشخصيات اللامعة وكذلك النابهة. فبالنسبة للعلماء، ما من شك في أن عوز نيوتن الواضح للأقارب المفكِّرين المثقفين سواء في أسلافه أو في أحفاده سبَّبَ إزعاجًا لجالتون؛ مما دفَعَه لِأَنْ يُضِيفَ حاشيةً مطولة وغير مُقْنِعة تحاول إيجاد أمارات على النباهة في عائلة نيوتن. لكن أشد ما يثير الاستغراب أن جالتون لم يُورِد في كتابه ذِكْرَ بعض ذائِعِي الصيتِ من كبار العلماء الإنجليز، ومنهم: عالم الرياضيات جورج بول، والكيميائي جون دالتون، والفيزيائي مايكل فاراداي، والفلكي إدموند هالي، وعالم الطبيعيات جون راي، والمعماري كريستوفر رين. كان إغفال ذكر فاراداي — أشهر العلماء المرموقين في العصر الفيكتوري — تحديدًا يَشِي على نحو خاص بطبيعة توجُّه جالتون؛ وذلك لأنَّ هذا العالِمَ كان ابنًا لحدَّاد متواضع، الأمر الذي كان لِيَنْتَقِص من متانة الفرضية التي يَطْرَحُها الكِتَابُ.

رغم النتيجة التي توصَّل لها جالتون عن ارتفاع نسبة القدرة المتوارثة في العلماء، تُظهِر دراسةٌ معروفةٌ عن السِّيَر الذاتية لكبار علماء الرياضيات بعنوان «عظماء الرياضيات»، أعَدَّها عالِمُ الرياضيات إريك تمبل بيل، ونُشِرَتْ لأول مرة عام ١٩٣٧ مدى محدودية دور القدرة الرياضية المتوارثة في حالات مَن حقَّقوا أعلى مستويات الإنجاز. كان بعض كبار علماء الرياضيات ينحدرون من أصول متواضعة؛ فنيوتن ليس سوى ابن فلاح أجير، وكارل فريدريش جاوس ابن بستاني، وبيير-سيمون لابلاس كان أبوه موظَّفًا في أبرشية وتاجِرَ عصائر فاكهة. البعض الآخَر منهم انحدر من أصول تتمتع بخلفية مهنية. لكن من بين علماء الرياضيات الثمانية والعشرين الأهم على مرِّ العصور والذين تحدَّث عنهم بيل، بدءًا بزينو في القرن الخامس قبل الميلاد، والذين توافرَتْ لديه معلومات عن أسلافهم، لا يكاد يَظْهَر أيُّ أثرٍ لإنجاز رياضي حقَّقه أيٌّ من آباء هؤلاء العلماء أو أقاربهم.

ورغم أن العائلات النابهة التي تناولها جالتون جديرة بالاهتمام، فإنها بالتأكيد ليست دليلًا على أن العبقرية متوارثة؛ وذلك لأن ثمة عيبًا أساسيًّا يشوب تحليله: إن معاييره للعبقرية (التي، بالطبع، لم يعلنها على الإطلاق) ليست صارمة بما فيه الكفاية؛ مما سمح بإدراج كثير من المتفوقين الذين قد يكون تميُّزهم جديرًا بالاعتبار، لكنه مع ذلك أضعف من أن يُعتبَر عبقرية. يمكن القول إن كتاب «العبقرية المتوارثة» أقرب إلى قائمة الشرف الملكية البريطانية منه إلى جائزة نوبل. (أما حول ما إذا كانت جائزة نوبل معيارًا جيدًا في تمييز العبقرية، فهذا ما سنأتي على تناوله في الفصل العاشر.) وحينما يتحدَّث جالتون عن توارث «القدرات الطبيعية للإنسان» في كتابه، يبدو أن ما كان يعنيه حقًّا هو الموهبة، لا العبقرية. وكما يتفق معظم علماء النفس الآن، فإن الأدلة التي تشير إلى توارث الموهبة جديرة بالاعتبار — رغم أنها لا تكاد تكون دامغة مثلما ادَّعَى جالتون — في حين أن الأدلة على توارث العبقرية ضئيلة أو لا وجود لها.

إن تمييز الموهبة عن العبقرية محفوف حتمًا بالصعوبة؛ نظرًا لأن أيًّا من المصطلحين ليس له تعريف يحظى بإجماع واسع النطاق أو طريقة للقياس. لذا فإن السؤال الأوضح الذي ينبغي طَرْحُه هو ما إذا كانت الموهبة والعبقرية تشكلان مقياسًا متدرجًا متصلًا، أم أنهما منفصلتان؟ بعبارة أخرى، سيصبح السؤال كما يلي: هل ينبغي أن نَقِيس مقدار العبقرية فنصنِّف العباقرة على أنهم أكثر عبقريةً أو أقل عبقريةً، بدلًا من أن نكتفي بوصف الشخص بأنه عبقري؟ علماء الفيزياء عمومًا يرون أن أينشتاين أكثر عبقريةً من مُعاصِرِه نيلز بور مثلًا (الحاصل على جائزة نوبل هو الآخَر). ويشعر الفنانون الشُّعورَ نَفْسَه حيال بيكاسو إذا ما قُورِن بمُعاصِره جورج براك. ويَشِيع الشعورُ نَفْسُه وسط الملحنين حيال موتسارت إذا ما قُورِن بمعاصره (وأحد معجبيه المتحمسين) جوزيف هايدن.

وتُلْقِي تصنيفاتُ الملحِّنين بعضَ الضوء على هذه القضية؛ فخلال القرن العشرين صنَّف علماءُ النفس باقةً متنوعة من الملحنين، وذلك بأن طلبوا من عازِفِي الأوركسترا والباحثين في الموسيقى تصنيفَ بعض الملحنين تبعًا لأهميتهم، بالإضافة إلى جدولة مدى تكرار تقديم أعمال كل ملحِّن. في عام ١٩٣٣ قُدِّم لأعضاء أربع فرق أوركسترالية أمريكية مرموقة قائمة تضم ١٧ من أسماء أشهر الملحنين الكلاسيكيين، مضافًا إليهم اسما ملحنَيْن معاصرَيْن شهيرَيْن؛ وذلك لصنع نقطة مرجعية. جميع أعضاء الفرق الأوركسترالية الأربع وضعوا بيتهوفن على رأس القائمة، في رقم ١، ووضعوا الملحنَيْن المعاصرَيْن (إدوارد ماكدوال وفيكتور هربرت) في أدنى مرتبتين ١٨ و١٩. وقلَّدوا أيضًا يوهان سبستيان باخ، ويوهانس برامس، وموتسارت، وريتشارد فاجنر، وفرانتس شوبرت مراتب متقدمة، بينما وضعوا إيدفارد جريج وسيزار فرانك وجوزيبي فيردي وإيجور سترافينسكي في مَراتِبَ متأخرةٍ. في المتوسط، جاء برامس في المرتبة الثانية، وموتسارت في الثالثة، وفاجنر في الرابعة، وباخ في الخامسة، وشوبرت في السادسة. (مما يُثِير الدهشةَ أن جورج فريدريك هاندل لم يكن ضمن التسعة عشر ملحنًا الذين ضمَّتْهم القائمة.) وقد أَسْفَرَ استطلاعُ رأيٍ مُماثِل، لكنه ضمَّ أسماءَ ١٠٠ ملحِّنٍ هذه المرة، وأجاب عليه أعضاءُ الجمعية الأمريكية لدارسِي الموسيقى عام ١٩٦٩، عن ترتيبٍ مماثِلٍ لترتيبِ استطلاعِ عام ١٩٣٣، غير أنَّ باخ احتلَّ هذه المرة المرتبةَ الأولى، وجاء بيتهوفن في الثانية، وظلَّ موتسارت في الثالثة (وجاء هاندل في المرتبة السادسة). في نفس الوقت تقريبًا عام ١٩٦٨ أظْهَرَ استطلاعُ رأيٍ ثالث — كان يعتمد هذه المَرَّة على مدى تكرار تقديم أعمال كل مؤلف — أن مؤلَّفات موتسارت هي الأكثر تقديمًا، تليها مؤلَّفات بيتهوفن، ثم مؤلَّفات باخ، ثم فاجنر، ثم برامس، ثم شوبرت. بنفس هذا الترتيب؛ لذا فإنه يوجد ثمة أساس يدعم الاعتقاد بأن «الذوق يتشكل بالتعود.» على حدِّ تعبير استطلاع الرأي الذي أُجرِي عام ١٩٦٩.

fig3
شكل ١-٣: فرانسيس جالتون مؤسِّس البحث العلمي في مجال العبقرية، التُقِطت له هذه الصورة وهو متخذ وضعية المجرم، حينما كان في زيارة لمعمل تحديد الهوية الجنائية الرائد في باريس عام ١٨٩٣.3

بَيْدَ أن الأمر الأكثر إثارةً للاهتمام قد يتمثَّل في النتيجة الكاملة لاستطلاع عام ١٩٣٣، حينما طُلِب من كل موسيقي أن يقارن بين كل ملحن من الملحنين التسعة عشر وبقية نظرائه في القائمة، وأن يعيِّن أفضليته؛ وبهذا تسنَّى قياسُ تصنيف الملحنين وتمثيلُه على النحو الصحيح في رسم بياني يعبِّر عن تراجع الأفضلية مع تزايد المرتبة من ١ إلى ١٩، فظهر الخط البياني يهبط تدريجيًّا من بيتهوفن إلى جريج (قبل أن يهبط مندفعًا إلى ماكدوال وهربرت). اتسم الهبوط في معدل تقديم مؤلَّفات المائة ملحن الذين ضمَّهم استطلاعُ عام ١٩٦٨ بأنه تدريجي هو الآخَر — من موتسارت في المرتبة الأولى، وحتى جوزيبي تارتيني في المرتبة المائة — من دون أي هبوط ملحوظ. من شأن الهبوط الحاد في معدل تقديم مؤلَّفات الملحنين أن يدل على وجود انفصال بين العبقرية والموهبة، إلا أننا لم نعثر على مثل هذا الهبوط.

إذا كانت الموهبة مكوِّنًا ضروريًّا من مكونات العبقرية — لازمة لها، وموازية لها، لكنها لا تكفي وحدها لصنعها — فمِمَّ تتكون الموهبة إذن؟ هل هي قدرة متوارثة؟ أم شغف؟ أم عزم وتصميم؟ أم قدرة على المثابرة على الممارسة؟ أم سرعة استجابة للتوجيه؟ أم أنها مزيج من كل ما سبق؟

تشكِّل العلاقة بين القدرة المتوارثة والممارسة الطويلة أكثرَ جوانب الموهبة إثارةً للجدل. فمن الصعب أن نَفْصِل المؤثرات الجينية عن تلك البيئية. صحيح أن هناك سبعة أزواج من الآباء والأبناء قد فازوا بجائزة نوبل في العلوم، بَيْدَ أنه من المستحيل أن نحدِّد إلى أي مدى كان العامل الوراثي مسئولًا عن نجاح الابن. فبالإضافة إلى وجود جينات مشتركة، عَمِلَ ويليام براج ولورانس براج معًا بالفعل (ومن ثَمَّ تشارَكَا الفوز بجائزة نوبل)، وآجي بور عَمِلَ طوال عقود في معهد الفيزياء النظرية الذي كان يرأسه والِدُهُ نيلز بور، بينما تلقَّتْ آيرين جوليو كوري تدريبًا مكثَّفًا منذ وقت مبكر في مختبر والدتها ماري كوري. ولعل عدم وجود أزواج من الآباء والأبناء وسط الفائزين بجائزة نوبل في مجال الأدب (والذين يُسَلَّم بأنهم أقل عددًا بكثير من حائزِي نوبل في مجال العلوم)؛ حيث يكون التدريب فرديًّا في الأغلب، يوحي على الأقل بأن التدريب قد يكون أكثر أهميةً للنجاح من الموهبة المتوارثة.

ويُمثِّل موتسارت مثالًا مُقْنِعًا على هذه الصعوبة؛ فقد كان ابنًا لموسيقيٍّ له قَدْرُه، هو عازف الكمان ومعلِّم الموسيقى والملحن ليوبولد موتسارت، وكان له أيضًا أقارب موسيقيون في عائلته من جهة والدته؛ لذا فمِمَّا لا شكَّ فيه أنه وَرِثَ شيئًا من الموهبة الموسيقية، لكنه في الوقت نفسه خاض شوطًا فريدًا من التدريب على يَدَيْ والدِه — وهو مشجِّع قويٌّ ومعلِّم مُلْهَم — الذي ظل يوجِّه حياتَه لِمَا يزيدُ على عقدَيْن من الزمن. لكن توجد طريقة للتمييز بين تأثير جينات عائلة موتسارت والتدريب العائلي الذي لا يتوفَّر عادةً؛ فأخت موتسارت الكبرى ماريا آنا، المشهورة باسم نانرل — والتي كانت تكبره بأربع سنوات ونصف — والتي شاركتْه بالطبع نِصْفَ جيناته، كانت عازفةَ بيانو موهوبةً هي الأخرى منذ نعومة أظفارها، ومرَّتْ أيضًا بتدريب مكثَّف على يَدَيْ ليوبولد بصحبة أخيها، وما إنْ شَبَّ الصغيران عن الطَّوْق حتى اصطحبهما الوالِدُ في جولة في قصور ملوك أوروبا ومُدُنها الكبرى في الفترة من عام ١٧٦٣ إلى ١٧٦٦؛ حيث حقَّق ثلاثتُهم شهرةً واسعةً. لكن نانرل لم تتجه للتلحين مثل أخيها، فما سبب ذلك؟

التفسير البديهي لن يكون شافيًا؛ فالنساء في القرن الثامن عشر كان يُسمَح لهن بالتفوق في مجال الموسيقى، وإن لم يكن ذلك مسموحًا في العديد من المجالات الأخرى، وهو ما حقَّقَتْه جملةٌ منهنَّ، ومن ثَمَّ ما من سبب معقول كان لِيَدْفَع ليوبولد الطَّمُوحَ إلى تحجيم نانرل إبَّان سنوات مراهقتها في ستينيات القرن الثامن عشر، قبل وقت طويل من وفاة والدتها في ريعان شبابها (والتي اضطرتها إلى مرافقة والدِها كثيرِ المطالب). العالِمُ النفسيُّ أندرو ستيبتو الذي أعد دراسة مهمة عن مؤلَّفات موتسارت الموسيقية كتب يقول: «أرى أن السبب وراء عدم تقدُّم نانرل لما هو أكثر من العزف، هو أنها كانت تفتقر إلى القدرة على تأليف موسيقى بديعة.» وأضاف:

توجد أدلة قوية تدعم الافتراض القائل بأن الاختلاف بين إمكانيات الشخصين جاء نتيجةً لقدرتهما البيولوجية. من ناحية أخرى، من المفروغ منه أن إبداع موتسارت ما كان ليتفتح ويزدهر لولا الرعاية الكبيرة التي قدَّمَها ليوبولد.

لقد كانت قدرة موتسارت الموسيقية بادية الوضوح بالنسبة لوالده (وأخته) إبَّان مرحلة الطفولة، وهو ما حدث في حالات الكثير من الموسيقيين الناجحين وبعض الملحنين. هذه الحقيقة أَضْفَتْ مصداقيةً على وجهة النظر الشائعة — والغالبة في وسط معلِّمي الموسيقى — التي ترى أن الموهبةَ فطريةٌ بالضرورة؛ يُولَد بها المرء ولا يَسَعُه أن يكتسبها، ولو أنه يستطيع (ويتعيَّن عليه) أن يشحذها إذا أراد أن يتخذ منها مهنةً له. وهكذا يردِّد الناس في أحوال كثيرة أن شخصيةً ما يعرفونها تُجِيد العَزْفَ على آلة موسيقية؛ لأنها تتمتع بموهبة فطرية. كيف يعرفون أنها تتمتع بالموهبة؟ هذا أمر واضح. لأنها تُجِيد العزف إجادةً بالغةً!

ومع ذلك، لم تقدِّم مئاتُ الدراسات التي أجراها علماءُ النفس على مدى عقودٍ أدلةً دامغةً على فطرية الموهبة. صحيح أنه ما مِنْ شَكٍّ في أن هناك أدلةً على دَوْر الوراثة في الذكاء (انظر الفصل الرابع)، لكن العلاقات التي تربط بين الذكاء بوجه عام ومختلف القدرات الخاصة — كإجادة العزف على آلة موسيقية مثلًا — قليلةٌ، ولم يَحْدُث أنْ حُدِّدَتْ جينات «تُنْتِج» مواهِبَ في مجالات بعينها، على الرغم من أن البحث في هذا الأمر لا يزال جاريًا. يُضاف إلى ذلك أن ما ظهر للعيان خلال القرن المنصرم من تحسُّنٍ مذهل ومؤكَّد في معايير الأداء، في الرياضة والشطرنج والموسيقى وبعض المجالات الأخرى، قد حدث بوتيرة شديدة السرعة بدرجة تستبعد عَزْوَه إلى حدوث التغيرات الجينية التي قد تتطلب مرور آلاف السنين. وبدلًا من التركيز على دَوْر الجينات فقط، تُشِير دراساتُ علماء النفس حول مسألة الموهبة إلى أهمية العوامل الأخرى التي ذكرتها سابقًا: الشغف، والتصميم، والممارسة، والتوجيه.

في إحدى الدراسات، جَرَى تصنيفُ طَلَبَةٍ في إحدى مدارس الموسيقى إلى مجموعتَيْن بناءً على تقييم معلِّميهم لقدراتهم؛ أي: ملاحظة المعلِّمين لموهبة كل طالب. كان هذا التصنيف محاطًا بالسِّرِّية؛ كي لا يُؤثِّر على تقييم أداء الطلاب في المستقبل. وبعد عِدَّة سنوات حقَّقَ أعلى درجات الأداء أكثرُ مَنْ تمرَّنوا من الطلبة خلال فترة الدراسة، بصرف النظر عن الفئة التي سَبَقَ أن أدرجَهم معلِّموهم ضِمْنها. وفي دراسة أخرى أجراها العالِمُ المتخصِّصُ في علم نفس الموسيقى جاري ماكفرسون، وجَّهَ للأطفال قبل بدء أولى دروسهم في الموسيقى سؤالًا بسيطًا، أَلَا وهو: «في اعتقادك، إلى متى ستظلُّ تعزف على آلتك الموسيقية الجديدة؟» وكانت خيارات الإجابة كما يلي: طوال العام الحالي، أم على مدار سنوات المدرسة الابتدائية، أم حتى سنوات المدرسة الثانوية، أم مدى الحياة. وبناءً على إجاباتهم صنَّف ماكفرسون الأطفالَ (في سِرِّية أيضًا) إلى مجموعات ثلاث، موضِّحًا درجات تفاوت الالتزام من قصير الأجل ومتوسط الأجل إلى طويل الأجل، ثم قاس قدر المران الذي يحصل عليه كل طفل أسبوعيًّا، وقدَّمَ تصنيفًا آخَر من ثلاث مجموعات: منخفض المران (٢٠ دقيقة أسبوعيًّا)، ومتوسط المران (٤٥ دقيقة أسبوعيًّا)، ومرتفع المران (٩٠ دقيقة أسبوعيًّا). وحينما مثَّل الأداءَ الفعليَّ للأطفال في رسم بياني، كان الفرق بين المجموعات الثلاث مذهلًا. لم يقتصر الأمر على أن الملتزمين التزامًا طويل الأجل، كانوا أفضل أداءً مع انخفاض قدر مرانهم من الملتزمين التزامًا قصير الأجل مع ارتفاع قدر مرانهم (يبدو أن آباءهم يجبرونهم على التمرن بكثرة!) بل كانت الفئة الأولى أفضل أداءً بمعدل ٤٠٠٪ من الفئة الثانية، حينما حصل أطفالها أيضًا على قدر مرتفع من التمرين.

وتقدِّم بحوثٌ علميةٌ حديثةٌ أدلةً واضحةً على ما يُحْدِثه المرانُ الجادُّ من تأثيرات فسيولوجية؛ فدماغ الإنسان مطواع ويتغير بفعل التمرين. إحدى أشهر الدراسات التي نُشِرت عام ٢٠٠٠ وأجراها إليانور ماجواير وزملاء له، استخدَمَتِ التصويرَ بالرنين المغناطيسي الوظيفي لدراسة منطقة الحُصين في أدمغة سائقِي سيارات الأجرة في لندن، فوُجِد أن دأبهم على تمرين ذاكرتهم المكانية قد زاد من حجم هذه المنطقة زيادةً ملحوظةً مقارَنَةً بحجمها في أدمغة المجموعة الضابطة. يُضاف إلى ذلك أن مدى الزيادة في الحجم ارتبط بعدد السنوات التي قضاها السائق في ممارسة هذه الوظيفة.

تناولَتْ دراساتٌ أخرى فئةَ الموسيقيين. نُشِرَتْ إحداها عام ٢٠٠٥ واستخدمَتْ تقنية أخرى للتصوير بالرنين المغناطيسي تُعرَف باسم «التصوير الممتد الانتشار»، الحساسة للتغيرات التي تَحْدُث في المادة البيضاء في الدماغ لا الرمادية، لفحص أدمغة عازفي بيانو محترفين. كان فريدريك أولن المبتكرُ الرئيسيُّ لهذه الآلية عازفًا بارعًا لآلة البيانو، فضلًا عن كونه عالمًا في علم الأعصاب ومهتمًّا بتأثير الممارسة الموسيقية على المادة البيضاء. اكتشف أولن أن المايلين — وهي المادة الدهنية البيضاء التي تغلِّف محاور الموصلات العصبية (ألياف عصبية تشبه الخيوط) في أدمغة البالغين، شأنها شأن المادة العازلة اللدنة التي تغلِّف الأسلاك الكهربية — تزداد سُمْكًا شيئًا فشيئًا من خلال الممارسة، فتزداد إشارةُ «التصوير الممتد الانتشار» قوةً. وكلما زادت ممارسة عازف البيانو على مَرِّ الزمن، ازدادَتْ لديه مادة المايلين ثخانةً، وقلَّتِ المحاور العصبية ارتشاحًا وازدادَتْ كفاءةً، وتحسَّنَ نظام الاتصالات في مشابك المخ العصبية وعصبوناته.

ويعتقد عالم الأعصاب دوجلاس فيلدز أن:

من المؤكد أن المادة البيضاء ضرورية ضرورة رئيسية بالنسبة لأنواع التعلُّم الذي يتطلب الممارسةَ لفترات طويلة والتكرارَ، فضلًا عن التكامل بين المناطق المنفصلة إلى حدٍّ كبيرٍ من قشرة الدماغ. فالأطفال الذين ما تزال مادة المايلين تنمو داخل أدمغتهم يتفوقون كثيرًا على أجدادهم من حيث سهولة اكتسابهم مهارات جديدة.

ومن ثَمَّ، فإن التمرن على ما يبدو يسهم إسهامًا كبيرًا في تحسين قدرة الدماغ على أداء مهام معينة؛ مثل: العزف على البيانو، أو لعب الشطرنج أو التنس. لكن بطبيعة الحال تكون نشأة الدماغ وتطوُّره خاضعةً لتوجيه مجموعة جينات الفرد الوراثية، كحال كل أجزاء جسمه الأخرى، ومن دون أي تأثير لأي قرارات إرادية. الأمر الذي يُعِيدنا مجدَّدًا للإشكالية المعقَّدَة بشأن العامل الوراثي أو الفطري في الموهبة.

وبما أن هذا الأمر لم يُحسَم حتى الآن، فإن أفضل ما يمكن تقديمه هو على الأرجح التحليل الذي استنتجه اثنان من علماء النفس وعالمة موسيقى؛ هم: مايكل هاو، وجون سلوبودا، وجين ديفيدسون. الذين درسوا معًا كافة المؤلَّفات العلمية التي كُتِبت حول موضوع الموهبة. وفي عام ١٩٩٨ توصَّلوا إلى الاستنتاجات المتحفظة التالية: «إن الفروق الفردية في بعض القدرات الخاصة ربما تُعزَى بالفعل في جزء منها إلى أصول وراثية.» وإنه «توجد بالفعل بعض السمات التي لا يتمتع بها سوى أقلية من الأفراد، ومن ثَمَّ يمكن القول إن الموهبة لها وجود على هذا النحو المحدود للغاية.» لكنهم بوجه عام زعموا أن «الأسس التي تدعم فكرةَ فطريةِ الموهبة قد تكون ضئيلةً أو معدومةً.» وأن انتشار هذه الفكرة في التعليم (لا سيما تعليم الموسيقى) يُنْتِج التأثير المرفوض الذي يَدْفَع إلى التمييز ضد الأطفال البارِعين، والذي لولاه لأصبح هؤلاء الأطفال بالغين «موهوبين». يتفق بعض علماء النفس مع هذه الآراء، لكنَّ آخرين منهم يختلفون معها اختلافًا قويًّا.

إن العبقرية أكثر تعقيدًا حتى من الموهبة؛ وذلك لأن تعريفها وقياسها ما يزالان عالِقَيْن في لُجَّة الحُجَج التي عارضَتْ كتابَ «العبقرية المتوارثة» لجالتون. من السخف إنكار وجود العبقرية ونحن أمام إنجازات أشخاص مثل دا فينشي ونيوتن، لكن من السخف أيضًا الإصرار على أن العبقرية لا علاقة لها على الإطلاق «بالموهبة العادية»، مثلما تشهد على ذلك حالة جون باردين، (الوحيد) الذي فاز بجائزة نوبل مرتين في الفيزياء، والذي ظل يعمل في مجال الفيزياء بلا انقطاع لكنه لم يكن عبقريًّا في نظر نفسه أو في نظر فيزيائيين آخَرين. ورغم أن العبقرية على ما يبدو لا تُورَّث أو تُنقَل على الإطلاق، يبدو أنها — مثل الموهبة — أصلها وراثي في جزء منه في كثير من الحالات؛ مثل حالات: ليوبولد وموتسارت، أو إراسموس وتشارلز داروين. لكن على عكس الموهبة، تنجم العبقرية عن تكوين فريد من جينات الوالدين والظروف الشخصية للمرء. وبما أن العبقري لا يَنقل أبدًا كامِلَ مجموعةِ الجينات التي يملكها إلى أبنائه — فهو مسئول عن نسبة النصف فقط من جينات ولده — الذين تختلف ظروفُهم الشخصيةُ حتمًا عن ظروف الوالد العبقري، فإن هذا التكوين لا يتكرر أبدًا في الأبناء؛ وبالتالي من غير المستغرب ألَّا تُتوارَث العبقرية في الأُسَر، بينما يحدث في بعض الأحيان أن تُتوارَث الموهبة.

هوامش

(1) Louvre Museum. © Luisa Ricciarini/TopFoto.
(2) © akg-images.
(3) From Karl Pearson, The Life, Letters and Labours of Francis Galton, Vol. II (1924).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤