من رومة إلى فلورنس

لما اعتزمنا السفر إلى مدينة فلورنس ركبنا عجلة من الفندق حين كانت الساعة الرابعة والنصف مساءً، ولما وصلنا إلى محطة رومة وأردنا الدخول لركوب القطار حجزوا بعض حقائبنا، وهذه أول مرة فيها تصدَّوْا لنا في سفرنا فأخذوا الحقيبة الكبرى، وجعلوها طردًا بعد أن دفعنا أجرتها ست عشرة ليرة، ثم انتظرنا في القطار حتى وافت الساعة الخامسة والنصف. وكان هذا اليوم من أشد الأيام التي رأيناها في رومة، إذ كانت الأعاصير شديدة والجو مجلَّلًا بالغيوم، فانتظرنا منه شرًّا وفيرًا ومطرًا غزيرًا. وقد قام القطار من المحطة، التي لا تضارع محطة القاهرة فخامة وسعة وعظمة، يخترق أرضًا ليست خصبة بل كلها تلال ووهاد ووديان ومزارع حقيرة، يرتعيها البقر الأبيض الذي يشوب بعض جلده الكدرة والخيول الحمراء وبعض الأغنام، فتارة يعلو بنا وتارة ينحطُّ وأخرى يجتاز نفقًا وطورًا يسير بين تلَّيْن عظيمين يكاد القطار يحف جوانبهما.

وإذا نظرت إلى الأرض من بُعد لا تجد بها جزءًا مدحورًا، بل جُلُّها تلال ووهاد وجبال تكسو سطوحها الأشجار الكثيفة، والوديان تجري بها مياه الأمطار نقطع فجاجها على قناطر معلَّقة فوق مجاريها، فيحدث من كل هذا منظر بهيٌّ ترتاح إليه النفس وتُسَرُّ منه العين. ولو سَرَّحت نظرك في عمرانها لوجدت القرى الجميلة منتثرة على سفوح الجبال وفوق التلال وفي بطون الوديان، لها طرق ممهَّدة جميلة تحفها من جانبيها الأشجار الباسقة، فيُخيَّل إليك أن القاطن بها لا يشكو مرضًا ولا علة، تنتشر بها المصابيح الكهربائية ليلًا في طرقاتها وشوارعها فتُحدِث منظرًا بديعًا. ولو وُجِدت هذه القرى مع مناظرها وتلالها وجبالها في بلادنا، لكانت مصيفًا شهيًّا تُشَدُّ إليه الرحال من كل صوب وحدب.

ولو ضاهيت قرانا بها لوجدت البون شاسعًا والفرق عظيمًا؛ هذه بؤرة القاذورات، ومسرح الجراثيم القتَّالة والأمراض، وعنوان التأخر في الصحة والانحطاط، بعيدة كل البُعد عن كل معدات النظافة، شوارع ضيقة وأزقَّة قذرة وأكوام من الأوساخ والأقذار متراكمة أمام المنازل وفوق السطوح وفي كل ناحية سلكت. أما تلك فهي عنوان الرقي والحضارة، شُيِّدت على نظام بديع وترتيب جميل، تكاملت فيها شروط الصحة، تحف بها الحدائق من كل جانب، وتعلو نوافذها الأزهار والأشجار الجميلة ذات الرائحة الزكية، يشتهي الإقامة بها كل إنسان من غير أن يشعر بسآمة ولا ملل.

وبعد أن سار القطار بنا نحو ساعتين في تلك المناظر والمشاهد الجميلة قصف الرعد وزمجر، ولمع البرق وأنذر، فأعقبهما هطول الأمطار التي كانت تكثر في طرقات القطار فتتسرب إلى الحُجَر والسقفُ من فوقنا يَخِرُّ والبرد آخذ في الشدة، فأمسينا في شتاء وبرد قارس.

ولو كان القطار مزدحمًا بالركاب لأصبحنا في حالة ضيق وعناء، لأنا كنا ننتقل من المكان المبلل إلى الجفاف.

ولقد عجبت كثيرًا لحكومة متمدينة من شأنها أن تسهر على راحة الأمة تهمل حالة السكك الحديدية إلى هذه الدرجة الممقوتة، فلا تحتاط لمنع تسرب الأمطار من سقف المركبات على الراكبين مع علمها بكثرة حدوث الأمطار في بلادها. وقد كان القطار بعد أن يقطع شوطًا كبيرًا يقف على محطات لا تضارع محطات بنها وطنطا وكفر الزيات وغيرها، بل كلها قرى صغيرة ليست ذات قيمة خالية من كل أسباب الراحة، فلا تجد فيها من الباعة غير بائعي الخبز المحشوِّ بلحم الخنزير (سندوتش) فإذا جاع المسافر فلا يجد ما يمسك به رمقه، ولقد ظمِئت فبحثت عن ماء فلم أحصل إلا على زجاجة ماء معدني بعد انتظار كبير من محطة إلى أخرى، وهذا الماء المعدني لم أعتَدْ شربه فكنت أتجرعه ولا أكاد أسيغه، ولكن:

إذا لم تكن إلا الأسنة مركبًا
فما حيلة المضطر إلا ركوبها

وتوجد مركبة أكل في كل قطار إلا أنها لا تُفتَح إلا في مواعيد تناول الطعام، فالحصول على شيء منها متعسِّر في غير تلك المواعيد.

وقد أخذ المطر يزداد شيئًا فشيئًا حتى انهال علينا من فوقنا ومن تحت أرجلنا فابتلَّت ملابسنا، فوقفنا في ناحية من المركبة تفاديًا من الخطر وماء المطر. وما زلنا كذلك حتى وصلنا إلى محطة فلورنس في الساعة الثانية عشرة ليلًا، فقابلَنا مندوبو الفنادق على المحطة فاخترنا أن ننزل في فندق «أنجلو أمريكان»، فركبنا عجلة سارت بنا في شوارع هادئة ساكنة قد بلَّلها المطر فأمست لامعة بديعة المنظر، حتى وصلنا إلى الفندق، فقابلَنا أحد المستخدمين بنشاطه فتسلم حقائبنا بعد أن نقدنا الحوذي ثماني ليرات، وأصعدنا في الرافعة إلى الطابق الثاني وأدخلنا حجرة جميلة الشكل مفروشة ببساط جميل، فغسلنا وجوهنا ونمنا مستريحين إلى الصباح. وبعد أن استيقظنا من النوم وتناولنا طعام الإفطار، قصدنا مدير الفندق لنعلم منه مقدار أجرة المبيت وقيمة طعام اليوم، فأخبرنا أنها ست وسبعون ليرة. وقد كنا قرأنا في الجرائد أنها لا تزيد عن خمس وخمسين ليرة فأخبرناه بذلك، وما زلنا به حتى أجابنا إلى طلبنا خاليًا من ضريبة الحكومة والخدم وهي عشرة في المائة لكل منهما. والفندق جميل جدًّا ومن أعظم الفنادق في فلورنس من حيث الموقع والأجر والطهي، ولذا تجده دائمًا غاصًّا بالسائحين خصوصًا الأمريكان الذين لا يخلو منهم مكان. وجميع حُجَره مفروشة بالأبسطة الفاخرة، وأسرَّته غاية في الجمال والنظافة، بها صنبوران أحدهما للماء البارد والآخر للساخن، وأثاثها من أفخر الأثاث. وبه ردهة واسعة جدًّا، تزينها عدة أشجار جميلة ومعزف تعزف عليه الأمريكيات ويرقصن على نغماته الشجية. وبه مكان مخصص لمطالعة الجرائد والمجلات وآخر لكتابة الخطابات، وغير ذلك مما يريح السائح ويسر نفسه ويشرح صدره. وخَدَمه غاية في النظافة والنشاط، يلبون دعوة الداعي بنشاط ولطف. ومما يستحق الذكر أن أخلاق أهل فلورنس تخالف أخلاق أهل نابلي لما فيهم من اللطف والذوق والهشاشة، وليس لهم جفاء أهل رومة ولا فظاظة أهل نابلي، وأصحاب الحوانيت منهم يقابلون الزائرين بوداعة ويعرضون عليهم سلعهم بهمة ونشاط ورغبة، ويريحون الشاري ويبحثون عن رغبته بدون ملل.

(١) فلورنس

هذه المدينة واقعة في سهل منبسط، ولذا تجد شوارعها وطرقاتها مستوية ليس بها ارتفاع وانخفاض كشوارع رومة، ممتدة من الشمال إلى الجنوب بين جبلين قد كُسِيت سفوحهما وقممهما بالأشجار الباسقة.

يشقها نهر أرنو فيشطرها شطرين عظيمين، تزين شواطئه المباني الفخمة والقصور المشيدة والأشجار الظليلة، وماؤه هادئ الجريان، يعبره الإنسان خائضًا في بعض نواحيه، ويربط أجزاء المدينة بعضها ببعض عدة قناطر مقامة عليه تقابل كل شارع قنطرة يعبر عليها إلى الجهة الأخرى.

ومن أبهى القناطر وأحسنها قنطرة شُيِّدت عليها المباني من ناحيتها، يمر وسطها شارع جميل فُتِحت فيه حوانيت كثيرة مُلِئت بالنفائس والجواهر والحجارة الكريمة، لأن السائحين يعبرونها ليروا بعض الآثار في الجهة الأخرى، فيعرض أهل فلورنس نفائسهم فيشترون منها ما يروقهم.

ويسمي الإيطاليون هذه المدينة «فلورنس الجميلة»، وهي جديرة بهذا الوصف لأنها من أجمل مدن إيطاليا، بها كثير من الدور الفاخرة التي تنافس فيها أسرياء أهل إيطاليا قديمًا، فظهرت فيها آيات الزخرف والزينة والرسم والتصوير والنقش، ولأرباب الفن فيها من مثَّالين ونحَّاتين ومصورين ذوق مشهور، بها قبر المصور الشهير «ميشل أنج» أكبر أساتذة الرسم والنحت.

وقد نبغ من أبنائها كثير من تلاميذه، يقصدها أولو الفن والعرفان من جميع أنحاء المسكونة، لمشاهدة ما تحويه دورها من معجزات التصوير والتمثيل واتخاذها نموذجًا حسنًا ينسجون على منواله.

ولقد يشاهد المتجوِّل فيها من بُعْد جبال الألب العظيمة، تتقدمها تلال وهضاب عظيمة على مقربة من المدينة، وهي الضواحي التي اشتُهِرت عنها، بها قصور الأغنياء والموسرين من أهل فلورنس والأجانب خصوصًا الإنكليز فإنهم يقصدون هذه الضواحي في أيام عطلتهم. ومن أحسن ما يُرى في هذه الضواحي تمهيد الشوارع في هذه التلال العظيمة بحالة معوجَّة حلزونية بحيث يسهل فيها سير العجلات، فيرى السائر فيها مناظر بديعة منوعة من صفوف الأشجار وتنسيقها والأزهار وترتيبها التي لا نظير لها في مدن إيطاليا.

وخارج هذه المدينة متنزه جميل مستطيل الشكل يُسمَّى «كاشيني» به كثير من الأشجار والأزهار، يجتمع به خلق كثير لاستنشاق الهواء النقي، وتصدح فيه الموسيقى ظهر كل يوم.

وبالمدينة من الطرف الآخر متنزه غُرِست أشجاره وأزهاره على تل عالٍ يصعد إليه الإنسان في شوارع وطرق معوجَّة بعضها فوق بعض، تمكِّن الراجل والراكب أن يسير فيها حتى يصل إلى قمتها بعد دوران كبير، وتصعد إلى نهاية هذا التل المركبات الكهربائية. وقد ركبنا قطارًا من قطر الترام فسار بنا بين خمائل وحدائق غنَّاء، أغصان أشجارها المشتبكة تكوِّن فوق رءوسنا سقفًا من الخضرة، فالسائر فيها تحفه الأشجار والأزهار كأنها تداعبه وترحِّب بقدومه. وما زلنا سائرين مسرورين من هذه المناظر الجذابة حتى وصلنا إلى أعلاه، فألفينا فيه ميدانًا متسعًا يُسمَّى «ميشل أنج» تمثاله قائم في وسطه غاية في الإبداع، وقد أُخِذت صورتنا الشمسية فيه.

ومن هذا الميدان أشرفنا على جميع منازل فلورنس، وهنا يسرك منظرها الجميل، وقد يتهيأ للناظر تحديدها والإحاطة بجميع منازلها وضواحيها فترى منظرًا جميلًا بديعًا تقف أمامه ذاهلًا. ومما يزيد الجمال والبهاء كثرة الحدائق والأزهار والأشجار التي تصعد متدرجة من أسفل التل إلى أعلاه، والمنازل المنتشرة هنا وهناك على قمته وسفحه تشبه كثيرًا منازل سويسرا فوق سفوح الجبال وقممها. وللمنظر أثر في النفس لا يقوى الواصف على وصفه، فإنه آية في الغرابة والإبداع، ولم أشاهد منظرًا مثله إلا في نابلي وسويسرا، فإن المباني منتشرة فيه بيضاء كالحمائم الحائمة.

ويمكن أن يقال إن ضواحيها من أحسن المصايف في العالم يصح أن يقصدها كل عليل ليستنشق هواءها الجميل، وقد دعاني جمال المنظر أن أنزل من هذا الميدان راجلًا فاتَّبعت طرقه المتعرجة الجميلة المحاطة بالأشجار والأزهار، فإذا هي من أبهى ما يكون. ويزيد جمال فلورنس جمال ضواحيها، فإنها من أحسن ما اكتحلت بمرآه العين.

(١-١) أهم آثار فلورنس ومتاحفها

متحف بيتي

أول زيارة ابتدأنا بها في مدينة فلورنس متحف قصر بيتي الملكي، وهو من أجمل القصور التي رأيتها، يفوق من جهة الزخرف والزينة والنقوش قصر الملك بمدينتي نابلي ورومة. وهذا القصر شيده تاجر قديم ذو ثروة طائلة عقب حديث دار بينه وبين محدثيه في فخامة القصور وزخرفها، فحلف ليبنينَّ قصرًا لا نظير له في إيطاليا، فشيده وزخرفه وزيَّنه ونسَّقه حتى فاق جميع قصور الملوك في رومة. وقد تم بناؤه في القرن الرابع عشر، وهو الآن ملك الحكومة ينزل الملك الحالي في جناح منه حين زيارته مدينة فلورنس. وإن ما حواه هذا القصر من آيات الحسن والجمال لمما يدهش الناظر.

figure
قصر بيتي مع الكنيسة بفلورنس.

وقد زرناه في يوم كثير الأمطار في جمع كبير من سياح الأمريكان وغيرهم، دخلناه من باب كبير يحرسه جنديان الفاشست، والداخل إليه يدفع ثلاث ليرات، ويأخذ ورقة تسوِّغ له الزيارة، ثم صعدنا إلى الطبقة العليا وهي أهم ما فيه. تحوي حُجَره بدائع ونفائس الفن وشيئًا كثيرًا من الصور الزيتية ترمز إلى حالة دينية أو سياسية أو حربية أو زراعية. وجميع سقوفه مغشَّاة بالذهب، وفيه عدة دُمًى منوَّعة محكمة الصنع بالغة من الإتقان كل مبلغ، وكل حوائطه مغطاة بالصور التاريخية من الجدار إلى السقف، وهي غاية في الإبداع والقيمة الفنية، وكلما انتقلنا من حجرة إلى أخرى أخذنا العجب لكثرة ما فيها من الصور الغريبة والأشكال البديعة، وكان في أكثر حجره رسام أو رسامة من عشاق الفن، وكلٌّ مكبٌّ على رسم بعض صوره البديعة، وبعضهم يبيع للسائحين ما يريدون من الصور، وأغلب المشترين من الأمريكان الذين يتفاخرون باقتناء الصور والتماثيل. وسقف كل حجرة من حجره قبوٌ تزينه التماثيل الداخلة والخارجة فيه، وكل حجرة تُسمَّى باسم مأخوذ مما بسقفها من النقوش الخيالية؛ فالأولى تُسمَّى قاعة المشتري، والثانية قاعة آلهة الخصب، وهكذا.

وأغلب هذه الصور للرسام الذائع الصيت «روفائيل»، وقد تفنن في رسم عشيقته الجميلة التي هام بحبها زمنًا طويلًا، ويقال إن حبها من الأسباب التي قرَّبت أجله فمات عن سبع وثلاثين سنة بلغ فيها من إتقان الرسم ما لم يبلغه رسام قبله ولا بعده. وقد أحصى بعضهم صور هذا المتحف فبلغت نحو خمسمائة.

وكل صورة من صوره لها دليل يشرح تاريخها وما رُمِز إليها من المعاني الخيالية أو الحقيقية، وإن هذا القلم الضعيف ليعجز كل العجز عن وصف ما أبرزته يد الإنسان من بلوغ درجة الإعجاز في الزخرف والزينة والتصوير.

ولا أبالغ إذا قلت: إذا أراد الإنسان أن يقف على ما حواه هذا القصر الفخم، فلا يتسنى له ذلك إلا أن يحضر بنفسه ليشاهد ما لم يقوَ إنسان على وصفه مهما أُوتِي من سلامة ذوق وحصافة عقل وفصاحة لسان وحُسن بيان.

قصر بلانس فيكيو (القصر القديم)

figure
القصر القديم بفلورنس.

بُنِي هذا القصر القديم في القرون الوسطى، وهو آية في الفخامة والعظامة، شيدته أسرة قديمة حكمت فلورنس عدة أجيال. دخلنا فيه بعد أن دفع كل واحد منا ثلاث ليرات، وبعد أن صعدنا على درجات سلم من الرخام قابلتنا حجرة كبيرة جدًّا مستطيلة الشكل، مرتفعة السقف، حيطانها وسقوفها محلَّاة بالصور الزيتية، وأكثر هذه الصور تدل على ما كان لهذه الأسرة من الشأن الأكبر في الحروب وتغلبها على أعدائها بعد اشتباكها معهم في عدة معارك ووقائع هائلة. ومع ارتفاع هذا السقف فإن أبوابها واطئة جدًّا لا تناسب ضخامة هذا البناء، وهي تشبه كثيرًا الأبواب في المنازل الإنكليزية.

ومما يُلاحَظ أن سقفها قائم على الكتل الخشبية كما كانت الحالة قديمًا، وهي تدل على القدرة والعظمة والأبهة، وفي نهايتها الشرقية عند مدخلها تجد بناء مرتفعًا قليلًا عن سطح الحجرة. ودخلنا حجرة أخرى بديعة الشكل والجمال والزخرف عُلِّق على حيطانها ألواح من الخشب رُسِم عليها أشهر أنهار العالم ومن جملتها نهر النيل العظيم، وقد ارتاحت نفوسنا كثيرًا لرؤيته وسُرِرنا لمشاهدته، وقد رُسِمت أفرع الدلتا وترعها بحالة تخالف هيئته الآن، ويظهر أنه رُسِم بحالة تشبه حالته عند قدماء المصريين.

ثم صعدنا إلى حجر كثيرة، بها أثاث وكراسيٌّ مما كانت تستعمله هذه الأسرة، وكذا عدة صناديق للنقود، وأشياء كثيرة منوعة غاية في الجمال والقيمة التاريخية والفنية. وفي حجرة صغيرة مظلمة تضاء بالشمع صورة السيدة مريم والسيد المسيح، وهما آية في الحسن والجمال، يراهما الناظر من بُعد كأنهما حقيقيتان. وفيها صور ورموز يعجز الإنسان عن إدراك معناها.

وقد أدى بنا المطاف إلى حجرة كبيرة واسعة على شكل دائرة، مقاعدها تشبه مقاعد البرلمان المصري، أمام كل مقعد منضدة مكسوة بالمخمل الأخضر وُضِعت عليها محبرة وقلم وفي نهايتها عدة منصات عالية، يظهر أنها كانت تُستعمَل للاجتماع العام للنظر في شئون الأمة وأحوالها، ومنها كانت تصدر الأحكام، وهي مستعملة اليوم للاجتماع وإلقاء الخطب في الأمور الهامة، وكل أرضها مفروشة بالبساط الأخضر، والناظر إليها يأخذه العجب لفخامتها وزخرفها وعظمتها مما يدخل في القلب الرهبة والجلال.

وبناء هذا القصر يشبه بناء قصور المماليك بمصر، لأن به عدة دهاليز صاعدة ومتعرجة ودواخل في الحيطان وخوارج، وحجره ليست في استواء واحد، بل منها ما يُصْعَد إليها بعدة درجات، ومنها ما ينحدر إليها بعدة درجات كذلك، ومنها الواسعة والضيقة ومرتفعة السقف وواطئته. وغالب الحجر بها عدة تماثيل لعظماء هذه الأسرة العريقة في المجد والحكم وهي عائلة «ميديسي».

ولقد رأينا ساعته القديمة العجيبة، التي يقصدها الناس من كل الجهات ليروها، وُضِعت داخل إطار في واجهة القصر، وهي تدق دقات عظيمة مستمرة من أول أن وُضِعت قديمًا إلى ذلك الحين، ولم يطرأ عليها خلل حتى الآن.

(٢) أهم آثار فلورنس ومتاحفها

بعد أن متعنا النظر بتحفه الجميلة ومبانيه الضخمة، خرجنا منه وسرنا حتى وصلنا إلى ميدان واسع يحوي ثلاث بنايات فخمة شهيرة في فلورنس، وهي:
  • (١)

    الدومو: وهي كنيسة جميلة غاية في الفخامة، ما رأيت كنيسة مزخرفة من الخارج بأنواع النقوش والتماثيل والدواخل والخوارج والطلاء البهي والألوان الزاهية مثل كنيسة الدومو الشهيرة، أما باطنها فلا يشبه ظاهرها في شيء فهو خلوٌّ من الزخرف والزينة. وتمتاز عن بعض الكنائس بارتفاع سقفها الشاهق. وهي مقامة على حنايا ضخمة جدًّا تنتهي بقبو مرتفع، وبها نوافذ كبيرة كلها بالزجاج الملون الجميل كالزجاج الذي يُستعمَل في المساجد القديمة عندنا، رُصَّت عليه عدة صور دينية. قبتها عالية جدًّا تقترب في الارتفاع من قبة كنيسة ماري بطرس برومة، وتكتنفها قبتان عظيمتان أقل منها قليلًا. وقد دُفِن في هذه الكنيسة عدة رجال عظماء لهم الأثر البيِّن في نهضة إيطاليا علميًّا واقتصاديًّا وحربيًّا، وغيرهم من العلماء والفلاسفة الذين عاد فضلهم على العالم أجمع.

  • (٢)

    البرج: بجوار كنيسة الدومو برج عالٍ جدًّا يبلغ ارتفاعه أربعة وثمانين مترًا، مبانيه من نوع مباني كنيسة الدومو رسمًا وشكلًا وزخرفًا وزينةً وطلاءً. ولم أقوَ على الصعود فيه لأني قد تعبت كثيرًا من الصعود والنزول في رؤية المتاحف والآثار هذا اليوم. وهذا البرج مع الكنيسة يعطيان منظرًا جميلًا يؤثر في النفس.

  • (٣)

    كنيسة المعماد: أمام كنيسة الدومو في هذا المعبد كنيسة المعماد. شُيِّدت من الخارج بالرخام الأبيض الجميل، وهي واطئة البناء، ليس بها من الزخرف والزركشة شيء يُذكَر، ولكن يحفها الجلال والإعظام، يظهر أنها قديمة البناء. وهي على شكل دائرة عظيمة. ولم ندخلها لأنها كانت مقفولة.

(٣) مكتبة أسرة ميديسي الشهيرة

هذه المكتبة لأسرة عريقة في المجد والشرف حكمت رومة زمنًا طويلًا، وهي جزء من كنيسة شيدتها هذه الأسرة. قصدنا زيارة هذه المكتبة الذائعة الصيت، فدخلنا باب الكنيسة فوجدنا الصلاة قد أُقِيمت فيها، فوقفنا زمنًا طويلًا لنرى كيفية الصلاة ونظامها عندهم، فألفينا القوم غاية في التخضع والتبتل، وأغلب المصلين من الطاعنين في السن، بينهم فتيات صغيرات. ولما انتهت الصلاة طفنا أنحاء الكنيسة فإذا هي من أعظم الكنائس. وقد ضربت صفحًا عن وصف كنائس فلورنس إلا كنيسة «الدومو»، لأني ذكرت كثيرًا من أوصافها في رومة. ثم صعدنا من باب داخل الكنيسة إلى الطبقة العليا، فرأينا ما بهر عقولنا وحيَّر ألبابنا، رأينا مقاعد تشبه مقاعد جلسات المحاكم، وأمامها حاجز منبسط من الخشب وُضِع عليه الكتاب مفتوحًا، ومغطًّى بلوح من الزجاج حتى يتمكن الزائر من رؤية خطه ونظامه وزينته. يبلغ عرض هذه الردهة نحو عشرة أمتار تقريبًا في طول الثلاثين، وقد رُتِّبت على صفين متقابلين، بينهما طريق يمر فيها الزائر فيرى الكتب على يمينه ويساره في قماطرها، غاية في الإبداع وحُسن الخط والقصص الموضحة بالرسوم الجميلة. ثم خرجنا من هذه إلى عدة حجر فيها كتب نفيسة مذهبة، محلًّى أغلبها بصور غاية في الإتقان تدل على مهارة مصوريها. وما زلنا ندخل في حجرة ونخرج منها إلى أخرى حتى متعنا النظر بجمال هذه الكتب مع الاستغراب والإعجاب.

وأكثر هذه الكتب مخطوطة بالخط الجيد ظاهرها يدل على أنها من أنفس الكتب قيمة، وعلى أن هذه الأسرة كان لها القدح المُعَلَّى في اقتناء الكتب والتفنن في جمعها وحفظها حتى بقيت محفوظة سالمة إلى الآن، يتمتع بما فيها من الذخائر والنفائس الإيطاليون وخصوصًا أهالي فلورنس.

(٤) بيت دانتي

تطلعت أنفسنا بعد ذلك إلى زيارة بيت دانتي الشاعر الإيطالي المشهور، فسرنا ننتقل في الشوارع والأزقة حتى وصلنا إليه بعد الجهد والتعب فألفيناه في زقاق من أزقة فلورنس، وهذا المنزل متوسط البناء له بابان في زقاقَين. فأول شيء يراه الزائر لوح رخام في أعلى بابه كُتِب عليه هذه العبارة: «إن الشاعر دانتي وُلِد في هذا البيت»، وقد وجدنا الباب موصدًا فطرقناه ففُتِح، وقابلنا رجل يعرف اللغة الإنكليزية فسار أمامنا حتى أوصلنا إلى الحجرة التي كان قد أعدها لجلوس أسرته حين اشتغالهم بصناعة الحرير، وهي حجرة مرتفعة السقف قد جُدِّدت أغلب حوائطها، لا تزيد على خمسة أمتار في أربعة، وهي الآن تُستعمَل لتعليم الصناع فن الطباعة. وقد وجدنا فيها مجلدًا كبيرًا نُقِلت فيه قصائده المشهورة بالتصوير الشمسي، وهي بخط يده. وقد بُنِي في بعض الحجر أجزاء من السقف الأصلي، تحتوي على عدة نقوش ورسوم جميلة. والبيت كله يحوي خمس حُجَر وفناء صغيرًا، وقد أخبرنا الدليل أنه كان يحتوي على حجر أكثر من هذه ولكنها تهدمت. ويدخله كثير من السائحين لرؤية منزل هذا الشاعر الكبير الذي أدخل التحسين والرقة والذوق على اللغة الإيطالية، فالأدب الإيطالي مدين له بهذا التطور الكبير في أساليب تلك اللغة وتراكيبها.

figure
كنيسة سان كروسي وتمثال دانتي بفلورنس.

(٥) قصر الخديو إسماعيل باشا

لما علمنا بأن الخديو إسماعيل باشا له قصر فخم في فلورنس كان يسكنه أيام منفاه، اعتزمنا زيارته بلهفة وشوق، فصرنا نسائل الناس عنه حتى عثرنا عليه رقم ٩٥ شارع «برج بيتي». فلما وصلنا إلى الباب وأردنا الدخول أخبرنا الخادم بأن الدخول ممنوع لأنه مسكون، فتلطفنا به فسمح لنا بمقابلة رجل بيده الأمر فأخبرناه بقصدنا فمنع أولًا فعرَّفناه أننا مصريون ويهمنا جدًّا رؤية هذا القصر فسمح لنا. فصعدنا سلمًا عريضًا من الرخام الجميل كلها مفروشة حتى وصلنا إلى الطبقة الثانية، ففتح لنا حجرة كبيرة غاية في الأبهة والعظمة حوائطها محلَّاة بالصور البديعة والنقوش الذهبية الغريبة، سقفها مزيَّن بعدة صور كأعظم قصور العظماء في إيطاليا، وما زلنا نخرج من حجرة وندخل في أنفس منها حتى أتينا على آخره ونحن بين الدهشة والعجب. ويحوي حديقة كبيرة قد نُسِّقت بها الأشجار والأزهار الجميلة البديعة تكتنف القصر من جهتيه الشرقية والشمالية، وهو الآن تسكنه جمعية تخدم الإنسانية وتساعد الفقراء والبائسين.

وقد كان إسماعيل باشا اشتراه من رجل يقوم بخدمة الإنسانية أيضًا، ويظهر أن إسماعيل باشا كان موفَّقًا للحصول على النعيم والترف والرفاهية في العيش حتى في منفاه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤