الحنجوري … والباطنية

قالت البنت الكركورة: عليك اللعنة! حمار وخبيث! جحش ولئيم! شوقتني إلى العصر الحميري ثم تتخلى الآن عني، وتنصحني بالصبر الجميل! لماذا لا تصحبني الآن وعلى الفور في جولة في أنحاء العصر الحميري؟ فأنا أتحرق شوقًا إلى رؤية هذا العالم الجميل!

قلت للبنت الكركورة: المسألة ليس فيها خبث أو لؤم، المسألة ببساطة أنك تستطيعين السفر إلى العصر الحميري بمفردك، ولكن ذهابي معك سيكون مغامرة خطيرة قد تنتهي بنا إلى ما لا يُحمد عقباه.

قالت البنت: ألست أنت من أبناء العصر الحميري؟

قلت: بل محسوبك من الحمير المعدودين.

قالت: وأين المشكلة الآن؟

قلت: هذه هي المشكلة … فلو أنك ذهبت وحدك لفتحوا لك الأبواب والنوافذ أيضًا.

ولكن وجود حمار مثلي معك يعقد المشكلة، ويجعل منها جريمة أمن دولة بالتأكيد؛ فوجودي معك يجعلني هدفًا لقسم مكافحة الجواسيس، فبالرغم من عشق النظم الحميرية للأجانب، إلا أن الاتصال الفردي بهم يصبح جريمة، وفي العصر الحميري كل مواطن خائن حتى لو ثبت العكس!

قالت البنت الفرنساوية: لا بد أن لديكم أسرارًا تخافون عليها وتحرصون على أن تبقى في الحفظ والصون!

قلت: عندنا طبعًا ما نحرص عليه؛ لدينا قاعدة الصواريخ عابرة القارات في أم القوين، ولدينا قاعدة الغواصات الذرية في أم درمان، وعندنا محطة إطلاق الأقمار الصناعية في أم خنان، وعندنا أيضًا بلاوي متلتلة وأسلحة مولولة في بني مزار وبني سليم وبني غازي.

قالت البنت الكركورة: إذن حكوماتكم عندها حق في منعكم من الاتصال بالأجانب؛ فأسرار خطيرة مثل هذه الموجودة في أم خنان وأم درمان؛ لا بد من الحفاظ عليها كنور العين.

وسكتت البنت الخواجاية وقالت: ما رأيك لو ذهبنا في جولة إلى العصر الحميري ونحن آخر حصانة وفي المضمون؟

قلت: وكيف؟

قالت: نتزوج … ونسافر زوجًا وزوجة، وعندئذٍ نضمن الأمان والاطمئنان.

قلت للبنت الفرنساوية: مصيبة العبد في حضرتك أنك لن تفهمي العصر الحميري حتى لو سُمح لك بالعيش فيه عشرة أعوام، إن الزواج لن يمنع وقوع الكوارث … وربما كان سببًا في الموت حرقًا أو رجمًا بالحجارة.

قالت: ليه؟

قلت: أولًا أنا رجل مسلم وسأدخل الجنة بإذن الله، وزواجي من امرأة مثلك ترتدي الميني جيب، وتدلدل نصف صدرها، وتكشف عن معظم ساقيها؛ سيثير ثائرة المسلمين الذين يولون وجوههم شطركم، وسيحكمون على العبد لله بأنني مرتد وأستحق الحرق بالنار.

سألتني البنت: وهل كل الناس في العصر الحميري مِن هؤلاء؟ أجبتها: لا … إنهم في الحقيقة أقلية، ولكن أصواتهم عالية، وأيديهم طويلة، وخناجرهم مسمومة، وحكمهم نافذ لا يقبل أي نقض أو استئناف، قالت: ما داموا أقلية نستطيع البعد عنهم ونقيم مع المثقفين وأصحاب العقول.

قلت: إذا فعلنا ذلك نكون كالهاربين من الرمضاء للنار؛ المثقفون الحمير حالهم أعجب وسلوكهم أغرب، إذا شاهدَنا هؤلاء الذين يولون وجوههم شطر موسكو فسيقولون: هذا ليس عقد زواج، ولكنه عقد شركة لإنتاج خدمات تآمرية لخدمة الطبقة البورجوازية ولتحقيق أهداف الإمبريالية.

قالت البنت وهي تكاد من شدة الضحك تتشقلب: ولكن الآن وبعد عمك جورباتشوف لم يعد أحد يستعمل هذه اللغة الحنجورية.

قلت: أنا أعلم ذلك وأنتِ أيضًا؛ حتى في موسكو قِبلة العالم الحنجوري سارت المظاهرات تهتف بسقوط لينين، وتطالب بنبش قبر ماركس، ولكن دراويش الماركسية في العصر الحميري لا يزالون مخلصين للعهد الذي قطعوه على أنفسهم.

قالت: غريبة! لو كان الأمر اقتصر على المظاهرات في موسكو، لقلت: ناس عندهم مبادئ ومعهم العذر؛ فالمبادئ يختلف حولها الناس؛ ناس معها وناس ضدها، ولكن الذي حدث لم يكن خلافًا على المبادئ، لقد كان إنكارًا للمبادئ وثورة عليها؛ والدليل على ذلك أن الروس الشيوعيين اللينينيين الماركسيين يقفون الآن في طوابير أطول من طابور الجمعية الاستهلاكية؛ لكي يحصلوا على قطعة هامبورجر من مكدونالد الأمريكي، ويشفطوا شفطة من مشروب الكولا بتاع العم سام. وبعد سقوط شاوشيسكو في رومانيا صارت بيوت الدعارة في بوخارست تنافس في الكم والكيف بيوت الدعارة في ستوكهولم، وبعد أن أصاب التغيير ألمانيا الشرقية تضاعف عدد المتعطلين، وأصبحت الغالبية العظمى من المتسولين، وشحَّ الطعام في الأسواق وارتفعت الأسعار، ومع ذلك لم يرتفع صوت واحد ينادي بالعودة إلى أيام الحزب الشيوعي الألماني، وإن كانت هناك أصوات ارتفعت تطالب بالعودة إلى أيام هتلر، والناس في ألبانيا هربت من الحدود عرايا بلابيص، وبعض الهاربين هددوا بالانتحار إذا أعادوهم إلى بلادهم، فهل لا يزال في العصر الحميري أحد يدافع عن النظم الشيوعية؟

قلت: للأسف يا خواجاية، في الراية كتب الحناجرة، نسبة إلى الحنجوري، يهاجمون الحمير أمثالي الذين هاجموا الظاهرة، وقالوا إن السبب في الخيبة ليس الماركسية، ولكنها النظم التي حكمت باسمها، وإن بعض عملاء الإمبريالية والرأسمالية الذين زرعتهم المخابرات المركزية الأمريكية داخل الأحزاب الشيوعية؛ تمكنوا في النهاية من الانحراف بالمسيرة الماركسية إلى هذه النهاية المفجعة. وقال السادة الحناجرة: إن البروسترويكا هي عملية نقد ذاتي على مستوى عالٍ، وإنها تستهدف إعادة البناء لمصلحة العمال والشغِّيلة، ومن أجل بناء الحنشكوني في سبيل خيركاسوني، وللسماح بالتقابل المتضامن على طريق الوعد المتزامن.

قالت البنت الفرنساوية: يقولون من أجل بناء الحنشكوني في سبيل خيركاسوني. وخيركاسوني كما تعلم كابتن اشترك في كأس العالم، فما علاقة كأس العالم بكأس الأمم الشيوعية؟

قلت للبنت الفرنساوية: أصدقاؤنا فرع الحنجوري من الحزب الباطني أيضًا، وهم لا يهتمون كثيرًا بالمعنى الظاهر، ولكنهم يهتمون على نحو خاص بالمعنى الباطني، والمعنى الباطني في الحقيقة أهم بكثير من المعنى الظاهر للأفهام؛ ولذلك اختاروا جازكاسوني بالذات، أولًا لأنه لعيب شهير للغاية، وثانيًا لأنه كان السبب في إحراز الهدف القاتل في مرمى فريق مصر، والذي كان السبب في حرمان العالم الثالث من بطاقة إلى الدور الثاني. وقالت: لأن جازكاسوني أحاطوه قبل المباريات بدعاية جعلت منه أعظم لعيب في العالم.

وقالت الدعاية: إنه أعظم من بوشكاش، وأحرف من بيليه، وأخطر ألف مرة من دستيفانو، وأكثر لياقة ومهارة من مارادونا، ولكن أداء جازكاسوني في مباريات الكأس لم يؤكد هذا الزعم؛ كان لعبه «مش بطال» مثل غيره من الكباتن، واستخدم العنف بدل المهارة، فحصل على انذارين وطردوه من الملعب، وجلس على الدكة إلى جانب المدرب في المباراة الحاسمة على المركز الثالث بين إنجلترا وإيطاليا. وقف بعد المباراة يبكي كما بكت خالتي بهانة بعد أن مات زوجها في حادث جرار على الطريق الزراعي.

قالت البنت الفرنساوية وقد نفد صبرها: من وصفك أيها الحمار لجازكاسوني تأكد أنك تابعت كأس العالم وعرفت خباياها، ولكنك لم تكشف لي عن العلاقة بين جازكاسوني وما حدث في الدول الشيوعية، ولماذا خلط الماركسيون تبعكم بين البروسترويكا وجازكاسوني؟

قلت: الأمر يا خواجاية في غاية البساطة؛ الماركسيون تبعنا لعبوا مع العالم الشيوعي دور الإعلام مع جازكاسوني، قالوا إنه أعظم نظام وأبدع نظام وأجدع نظام، وإن المواطن في النظام الشيوعي أفلت بجلده من كل أمراض العصر؛ فهو يأكل طعامًا صحيًّا وإن كان بلا طعم، وهو ينام مبكرًا ويستيقظ مع العصافير المغردة؛ لأن لديهم في الوطن الشيوعي أشغالًا لا بد من إنجازها، وفعاليات لا بد من إبرازها؛ ليس لمصلحة الفرد، ولكن لمصلحة الشعب، وقالوا: إنهم هناك نجوا من خبل العصر وجنونه، فلا موسيقى روك أند رول، ولا أفلام جنس، ولا رسم سيرالي الذي هو شخبطة رسمها ذيل حمار!

وقالوا: إن المرأة في المجتمع الماركسي كرامتها مصونة وعفتها في الحفظ والصون؛ ولذلك لم تجد عاهرة واحدة في العالم الشيوعي، ولكن … إذا حدث لقاء وعناق والذي بالي بالك، بالإنسانية الفياضة المترامية على مدد الشوف، وتأكيد على أن الرجل والمرأة متساويان في الحقوق وفي الواجبات.

قالت البنت الفرنساوية وقد أرعشت حاجبيها دهشة واستنكارًا: ولماذا كل هذه اللغة الطويلة؟ لماذا لم يشرحوا الأمر للناس على الفور؟ خصوصًا أن الناس لا تعرف جازكاسوني هذا الذي لعب بعض المباريات في كأس العالم.

قلت: يا خواجاية، كل شيخ وله طريقة، وهؤلاء السادة الحمير إياهم يتبعون الطريقة الباطنية.

قالت البنت الفرنساوية تسأل: الباطنية نسبةً إلى علم الباطن؟

قلت: بل نسبة إلى حي الباطنية، وهو حي عريق وشهير في القاهرة المعزية، وسكَّانه يبيعون للناس المزاج والخيال والأسلوب الحنجوري المبطوني؛ خصوصًا أن الصنف المتداول في الباطنية من النوع المضروب. وبعد أول نفَس يشده الباطني يخلط على الفور بين الخيال والواقع، ويبدأ الباطني في استخدام لغة الحنجوري، فيقول مثلًا: مساء الهنجفة؛ بدلًا من مساء النور. والهنجفة كلمة مركبة من كلمتين: ها … ونجف، أما اﻟ ها، فهي كناية عن المستقبل، يقول الرجل: ها … ناكل، ها … نشرب، ها … نسافر؛ أي: إنها إشارة إلى فعلٍ قادم.

أما النجف فأنتِ تعرفين وظيفته، وهي التنوير بشدة وتكثيف الأضواء في مساحة محدودة، وهكذا تجدين أن المعنى واحد وإن اختلفت الصياغة.

قالت: يا سلام … إنه علم غويط وعريض، وهي نظرة إلى ما وراء الهيلولة، ونفاذ إلى ما وراء الغيب.

قلت: هي بالضبط كذلك؛ ولذلك أيضًا لجأ بعض الماركسيين من صنف الحمير، الذين أَثْروا من عمليات كهربائية مشبوهة في بلاد العصر الحميري، إلى إنشاء حزب أطلقوا عليه حزب التنوير.

السذَّج يتصورون أنهم يقصدون تنوير الأمة للابتعاد عن طريق الغمة وسلوك الطريق الصحيح، بينما أصحاب الحزب يقصدون الكهرباء التي كانت قدم السعد عليهم ووش الخير.

أما مدعي الناصرية الكهربائي، فقد خرج من الكهرباء إلى المركز العربي للثقافة والمباحث .

قالت البنت الفرنساوية: وما علاقة الثقافة بالمباحث؟

قلت: في الحقيقة هناك علاقة وثيقة بينهما؛ فالمباحث هنا لا تعني جهاز الشرطة الذي نعرفه، ولكنها تعني البحث العلمي المبرمج على أسس بحثية ودراسات مبنية وملوخية بالتقلية.

قالت البنت الفرنساوية: لقد تركت موضوعنا ودخلت في موضوع آخر.

قلت: بالعكس، إن المواضيع كلها مترابطة، وسكك أبو زيد كلها مسالك، وأحزاب الكهرباء كلها شيوعية أو ناصرية أو أمريكية؛ تثبت أن المبادئ كلها عظيمة، ولكن الذين ينتحلونها يكونون أحيانًا من أرذل أنواع الناس؛ عمك هونيكر في ألمانيا الشرقية عاش مثل السلطان يلبغا المهندار، كان لديه قصور وحمامات سباحة وبنات في عمر الورد، وعمك جيفكوف بتاع بلغاريا كان ولده يلعب القمار في لندن ولا عمك الشيخ عجنون بن شنكح والنصاب الناصري عبد الحميد بن سنفريد؛ أثرى بقدر تلاعبه بالمبادئ، وجمع من الفلوس مليون ضعف عدد كلمات الأحاديث النارية التي أدلى بها للجرائد، وسرق حتى من محلات ماركس أند سبنسر بلندن، وكتبت بعض الصحف العربية أن التهمة من تدبير الأعداء والصهاينة، مع أن ابن سنفريد حرامي ابن حرامية ومسجل خطر في جميع أجهزة الأمن العام. المهم أن الانهيار عندما حدث في العالم الماركسي، قال الحمير تبعنا: إنها حركة تطهير تتم من الداخل لمصلحة الاشتراكية والطبقة العاملة الفتية، فلما اتضح للجميع أن المسألة هي انهيار كامل للنظام وإفلاس كامل للنظرية، لم يسكتوا ولم يكفُّوا.

بعضهم كتب يقول: إن الاستبطان الاستغلاقي المتعانق مع الحواشي والشواشي كان لا بد أن يُقهر أو يتقهقر!

وبعضهم جن جنونه واتهم جورباتشوف بأنه دسيسة أمريكية وعميل للمخابرات المركزية، وأنه قابض فلوس من جهاز كنتاكي فرايد تشيكن للفراخ المشوية! ولا يزال الحبل على الجرار، والرفاق يضربون أخماسًا في أسداس، ولا يعرفون كيف يتصرفون بعد أن حدث الزلزال ووجدوا أنفسهم بين الأنقاض .

قالت البنت الفرنساوية وهي تكاد تبكي: إنه موقف صعب، صدِّقني، ربما كانوا سذجًا آمنوا بإله ثم اكتشفوا فجأة أنه صنم لا يضر ولا ينفع، ولو كنت أنت مكانهم لحدثت لك نفس الديخوخة، وربما أصابتك نفس الشيخوخة، وربما لطمت على خديك بالشبشب من إنتاج إيف سان لوران.

قلت: عندك حق يا خواجاية؛ فهؤلاء الرفاق تبعنا أشبه بوكيل شركة سيارات، وهو نازل إعلانات عمَّال على بطال على حلاوة الصنعة، ودقة الأداء، وانسياب الخطوط، وسعة الصالون، ودقة المحرك، وقوة الأضواء، ومتانة الكاوتشوك، ثم فجأة أفلس المصنع نفسه وقال في حيثيات الإفلاس: لقد كانت البضاعة سيئة والصناعة أسوأ، وكانت السيارة إذا سارت توقفت، وإذا توقفت تمزقت، وإذا تمزقت تناثرت، ولكن الناس كانت تركبها وتحمد الله؛ ليس لأنها جيدة، ولكن لأن وراء كل راكب مخبرًا يمسك بخناقه ويكتم أنفاسه، ويجبره على أن يهتف مجبورًا: يا سلام!

قالت البنت الفرنساوية: الله يخيب حضرتك! هؤلاء الرفاق هل علينا خطر من الاتصال بهم إذا ذهبنا إلى هناك؟ هل هناك في بلاد الحمير من نخشى لقاءهم معًا غير أصحاب اللحى وأصحاب الحنجوري؟

قلت: ذهابك وحدك إلى بلاد العصر الحميري أسلم وأكسب، وربما عادت عليك الزيارة بخير وتصبح زيارة وتجارة؛ لأنهم هناك يحبون اللحم الأبيض، ويعشقون الشعر الأصفر، ويغرقون في بحر العيون الزرق.

قالت: عليك اللعنة، إنني باحثة ولست غانية، وأنا أهدف إلى البحث ولا أهدف إلى الخبص، وذهابي مع الضرورة ضرورة حتى أرى بعينيك المعمصتين، وأشم بأنفك المسدودة، وأتذوق بلسانك الذي هو مثل المبرد المسنون.

قلت: على كل حال لقد مضى بنا الليل، فهيا إلى النوم، وغدًا يا صغيرتي … يوم آخر!

١ / ٨ / ١٩٩٠م

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤