كل يوم … وتغيب

قالت البنت الكركورة وقد بدا عليها الغضب والخصام: أعتقد أنك تكذب عليَّ، وأنك كنت تحكي لي طوال الوقت عن عالمٍ ليس له وجود.

قلت للبنت الغضبانة: ولماذا تعتقدين مثل هذا الاعتقاد؟

قالت: وعدتني كثيرًا أن تأخذني معك إلى العصر الحميري الذي تنتمي إليه، ولكنك في كل مرة تعتذر عن السفر معي إلى هناك، وحاجة من اثنين: إما أنك كذاب ولا وجود لشيء اسمه العصر الحميري، وإما أنك هارب من هناك وتخشى أن تعود مرة أخرى.

قلت للبنت الزعلانة: أما عن العصر الحميري فهو موجود وعامر وعال العال، وبعض أهله هاجوا وماجوا وهجموا على آخرين، والحرب شغالة الآن في العصر الحميري، والجميع في حالة طوارئ، وإذا نشبت الحرب فسيكون الدم للرُّكب، والقتلى بمئات الألوف.

بالإضافة إلى العُمْي والعور والعُرج والكتَّع، هؤلاء بالتأكيد سيتحولون إلى متسولين.

قالت البنت مندهشة: ولماذا قامت الحرب؟

قلت: لا أحد يعرف؛ ففي عصر الحمير لا أحد يسأل عن السبب؛ لأن السؤال عيب، وهو أيضًا قلة الأدب؛ كما أنه مذلة!

قالت: على فرض أن السؤال كما تقول، فهل يمنع هذا أن أعرف لماذا نشبت الحرب في العصر الحميري؟ أليس الجميع سواءً؟ قلت: نعم، ولكن بعض الحمير لها حوافر ولها أسنان، فهجمت على غيرها، وهذه الحمير الحصاوي سبق لها دخول الحرب ولمدة طويلة، وخرجت من الحرب مضروبة ومعطوبة، ومع ذلك احتفلت بالنصر، وانطلقت الزغاريد وانطلقت الصواريخ، وغنى الجميع للمجد الذي بلغوه.

قالت البنت وقد شردت بعيدًا: تقول انهزموا واحتفلوا؟

قلت: نعم، انهزموا واحتفلوا، ثم ذهبوا للحرب من جديد!

قالت: أمَّا حكاية ليس لها مثيل، وما داموا انهزموا، فلماذا يحاربون من جديد؟

قلت: لأن الذين حاربوهم في البداية كانوا من نوع الحصاوي أيضًا، فعضُّوهم ورفسوهم وبهدلوهم وجعلوهم عبرة للآخرين، وكان لا بد للحمير المغلوبين أن يبحثوا عن نصر سهل، فهجموا على حمير من النوع الوديع واجتاحوهم في ساعات، وسبَوا حريمهم، ونهبوا متاعهم؛ وحصل لهم انبساط عظيم.

قالت البنت مذهولة: واحتفلوا بالنصر أيضًا!

قلت: هذه المرة لا … فالنصر لم يتم بعد، ويبدو أنه لن يكون له وجود؛ ففي العصر الحميري فتوَّات آخرون هبوا لنجدة الحمير الطيبين، والآن يحتشد الحمير على كل الجبهات ويستعدون لإطلاق النار.

قالت البنت وهي تخبط على صدرها: أما حمير بصحيح، إنهم عندما يبدءون في إطلاق النار فسيقتلون أنفسهم، ويخربون بلادهم، لماذا لا يهاجمون إلا جنسهم؟ ولماذا لا يحاربون الذئاب التي تأكل الحمير؟

قلت: آخر حرب للحمير ضد الذئاب كانت منذ حوالي عشرين عامًا، بعد ذلك تفرغوا للحرب ضد أنفسهم، ومنذ ذلك الحين كلما ظهر زعيم من صنف الحمير، فإنه يتصدى للحرب ضد الذئاب في الإذاعة؛ أحيانًا يهددهم بالنسف، وأحيانًا يتوعدهم بالخنق، ولكنه لا يفعل أكثر من ذلك، وكان الحمير سعداء بهذا النوع من القتال؛ فيتظاهرون عقب كل تهديد، ويهتفون للزعيم الذي يقود المعركة في الإذاعة، ويرفعون صورته فوق الأعناق، ولكن عندما يحارب الحمير ضد بعضهم البعض فهم يحاربون في الواقع، ويستخدمون كل الأسلحة؛ من الدبابة إلى الأظافر والأسنان.

قالت البنت وقد اندهشت وانبهشت: وفي أي منطقة تدور الحرب الآن بين الحمير في العصر الحميري؟

قالت: تدور الحرب الآن في منطقة كانت منذ عشر سنوات هي أغنى مناطق العالم، وكان كل أصناف الحمير يقصدونها للعمل والرزق، ويقصدها أيضًا ألوف من صنف النمور والضباع والذئاب والبقر والجاموس؛ للتجارة والزيارة والعمل، وكانت الحياة فيها سهلة، والمشاكل قليلة، والرزق وفيرًا، والسوق مفتوحة، والاستهلاك على وِدنه، والسعادة والطمأنينة ترفرف على الجميع، كان ذلك منذ عشر سنوات بالتحديد، ثم فجأة نشبت الحرب بين الحمير واستمرت ثماني سنوات، وخلال سنوات الحرب الطويلة حارب الحمير بعضهم بالدبابة وبالمدفع وبالصواريخ وبالغازات السامة وبالحِراب وبالسيوف وبالمطاوي، وقتلوا على الجانبين أكثر من مليون ونصف مليون حمار في عمر الورد، ومسحوا مدنًا بأكملها من على الخريطة، وخسروا مائة مليار دولار كانت كفيلةً بتحويل بلاد الحمير كلها إلى جنة، وتحويل صنف الحمير إلى أسود.

قالت البنت وهي تكاد تبكي من الغيظ: وكيف انتهت الحرب؟

قلت: انتهت بعد أن داخ الحمير على الجانبين، وأفلس الجانبان حتى لم يعُد معهما ما يشتريان به الخبز، فوقف القتال لأنه لم يعُد في مقدور المقاتلين أن يتحركوا.

قالت البنت تستفهم: وتفرغ الحمير بعد الحرب للتعمير والإنشاء؟

قلت: بل تفرغوا لشيء آخر أغرب من الخيال، ففي أيام الحرب صرخ الحمير من صنفنا يطلبون النجدة من الحمير الأشقاء، وزحف أكثر من مليون حمار تلبيةً لنداء الاستغاثة، وحلوا محل الحمير العساكر؛ في المصانع وفي الحقول وفي المتاجر، وعندما انتهت الحرب عند الحدود انتقلت إلى الداخل؛ راحوا يقتلون الحمير الضيوف الذين هبوا لنجدة الحمير الأشقاء؛ ضربوهم واستولوا على ممتلكاتهم، ثم قتلوهم شر قتلة، وحتى جثثهم اختفت عن الأنظار.

قالت البنت وهي تصرخ كالمجنونة: ولكن ليه؟

قلت: بلا سبب؛ لأنها عادة قديمة عند صنف الحمير كان من المفروض اختفاؤها منذ أربعة عشر قرنًا؛ ففي الزمن القديم كان الحمير من فزارة إذا غضبوا من الحمير من بني تميم، هاجموا مضاربهم ليلًا، وسبوا نساءهم وغلمانهم، وقتلوا رجالهم، واستولوا على ما لديهم من خيل وإبل وبغال وحمير.

قالت البنت مقاطِعة: ولكنك تقول إن هذا السلوك كان ينبغي أن يختفي منذ أربعة عشر قرنًا.

قلت: بل إنه اختفى بالفعل فترةً طويلة من الزمان عندما جاءنا رسول برسالة من السماء، دعانا إلى ترك أخلاق الجاهلية والتمسك بأخلاق الإسلام؛ أن نكون إخوة بدلًا من أن نكون أعداء، أن تكون سيوفنا ضد أعدائنا وليس ضد أشقائنا، أن نمتنع عن سفك الدماء إلا دفاعًا عن النفس، بعد هذه البعثة السماوية اتحدت السيوف ضد العدو، وتحولت القبائل إلى أُمة، ودعوا الآخرين إلى رسالة السماء، ونشروها بالفعل من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب، ومن أقصى الجنوب إلى أقصى الشمال، وأضافوا لتراث البشرية علومًا جديدة، وكشفوا عن عوالم كانت مجهولة، وكانوا سادة الغابة عندما كانت الوحوش الكاسرة تسكن في الكهوف والمغارات، ولكنهم فجأة عادوا إلى طباعهم القديمة، وتفرقوا بعد أن كانوا متحدين، وتنازعوا بعد أن كانوا متفقين، وحتى المخترعات الحديثة حوَّلوها إلى أدوات لأهدافهم الصغيرة.

قالت البنت: مثل ماذا؟

قلت: الإذاعة مثلًا، اختراعها كان بهدف إشاعة المعرفة وإذاعة الأخبار ونشر الموسيقى والفنون على الملايين، ولكن الإذاعة في العصر الحميري تُستخدم للهجوم على حمير آخرين، وبعض الحمير يدَّعون أنهم تقدميُّون، ويتهمون حميرًا آخرين بأنهم رجعيون، والحمير التقدميون يريدون نشر التقدمية في العصر الحميري، فإذا لم يكن بالكلام ﻓ … بالسلاح.

وقالت البنت وهي تشد شعرها: وهل هناك تقدميون بالفعل في العصر الحميري؟

قلت: مجرد كلام وهلفطة وضحك على الدقون، فالحمير التقدميون يحفظون بعض العبارات، ويتكلمون ببعض الرطانات، ويرفعون شعارات ليس لها على أرض الواقع وجود، وهم في الحقيقة أكثر رجعية من الرجعيين. والحمار في ظل النظم التقدمية محروم من الكلام، ومحروم من التفكير، ومحروم من الاختيار، ومحروم من السفر، ومحروم من كل الحقوق التي من حق الحمار. الحق الوحيد الذي يمارسه هو التصفيق لقائد الحمير، وتعليق صورته على الجدران، وإبلاغ أجهزته بأي همسة أو لمسة يرتكبها الخلان والجيران.

قالت البنت: ولماذا أطلقوا على أنفسهم وصف التقدميين؟

قلت: ربما لأن كل حمار في ظل التقدمية من واجبه أن يتقدم بتقرير إلى المباحث عما يدور حوله من أحوال وما يتردد حوله من أقوال!

قالت: إذن هو موظف في المباحث!

قلت: أبدًا، هو متطوع لعمل الخير، وليس هناك أفضل من الإبلاغ عن المعارف والجيران.

قالت البنت: وتسمي هذا خيرًا؟

قلت: عيبك كما قلت لكِ ألف مرة من قبل أنك لن تعرفي العصر الحميري مهما بذلت من محاولات، إن ما تتصورين أنه شر بالنسبة لبلادك؛ هو خير بالنسبة لأهل العصر الحميري، فالذين يبلغون عنهم ينتزعهم الزبانية على الفور من الدار للنار، والسعيد منهم من يموت على الفور فيتخلص من عذاب كل يوم؛ ولذلك فالإبلاغ عادةً يكون عن الأصدقاء، وهي خدمة يقدمها الصديق لصديقه لكي يتخلص من الحياة!

قالت البنت وهي تبكي: وهل الحياة سيئة إلى هذا الحد عند الحمير التقدميين؟

قلت: إذا قلنا سيئة فنحن نكذب، وإذا قلنا شاقة فنحن لا نقول الحقيقة؛ فالسوء والمشقة مستوى من الحياة له شكل وله حدود، أما الحياة عند التقدميين الحمير فليس لها مثيل، ولا يوجد وصف يليق بها في كل القواميس.

قالت البنت وقد بدأت تلطم؛ كما النساء في العصر الحميري القديم: هل تشْبه الحياة عند الحمير التقدميين الحياة عند شاوشيسكو مثلًا؟

قلت: فين الحياة عند شاوشيسكو والحياة عند الحمير التقدميين؟ عند شاوشيسكو هناك حدود وهناك خطوط، هناك أعداء وهناك أصدقاء، هناك أنصار وهناك مناهضون، ولكن الحمار في ظل التقدميين العرب لا يعرف رأسه من رجليه، إذا عارض فهو هالك، وإذا أيَّد فهو هالك، وإذا قنع بالصف الخلفي فهو هالك، وإذا تقدم إلى الصف الأول فهو هالك، إذا هتف بسقوط الزعيم فهو هالك، وإذا هتف بحياة الزعيم فهو هالك، هو هالك في أي وضعٍ وعلى كل حال؛ ولذلك ستجدين في القسم التقدمي من العصر الحميري ابتسامات على شفاه الحمير وفي القلوب غصة، وستجدين العلاقات بين الجميع مقطوعة، والسهرات ممنوعة، ليس بأمر من أحد ولكنها ممنوعة بفعل الناس، وحتى لا يقوِّلك أحد ما لم تقله، ويستنطقك أحد ما لم تنطق به. وبعض أحزاب الحمير التقدمية قتلت من أعضائها أضعاف ما قتلت من أعدائها، وبعض الحمير التقدميين نبشوا القبور ومارسوا التعذيب على جثث المعارضين، ثم ألقوا بها بعد التعذيب في البحر؛ بدعوى أن جثث «الخونة» لا تستحق الدفن في تراب الوطن.

قالت البنت وقد بدأت تأكل في هدومها كالمجنونة: وماذا فعل هؤلاء الخونة؟ هل أرشدوا الأعداء عن أبواب المدينة السرية؟ هل قادوهم داخل المدينة؟

قلت: بل فعلوا ما هو أخطر من ذلك.

قالت: وهل هناك ما هو أخطر من ذلك؟

قلت: نعم … في العصر الحميري هناك ما هو أخطر من ذلك؛ لقد عارضوا أفكار الزعيم، وبعضهم سخر من الكتاب الذي قام بتأليفه.

قالت البنت: وهل الزعيم مؤلف أيضًا؟

قلت: في العصر الحميري إياه، عندما تصبح زعيمًا فكل شيء ممكن وكل شيء يجوز.

قالت البنت: ليس هذا سؤالي، ولكني أسأل، هل كان الزعيم يعمل بالتأليف قبل الزعامة؟

قلت: لا، هذه حالة طارئة جاءت بعد الزعامة.

قالت: التأليف ليس حالة ولكنه صناعة، لها صُناع وخبراء يعرفون أسرارها ككل صناعة في العالم، فكيف أصبح الزعيم مؤلفًا بعد الزعامة؟

قلت: في الحقيقة يا خواجاية، في العصر الحميري، عندما يصبح الأخ القائد أو الأخ العظيم أو الأخ الكبير أو الأخ الرئيس زعيمًا، يصبح هو الأول في كل شيء، هو المهندس الأول، وهو المعلم الأول، وهو الفلاح الأول، وهو المفكر الأول، وهو العسكري الأول، وهو المؤلف الأول، وكتابه سيكون أوسع الكتب توزيعًا، ليس في العالم الحميري فقط ولكن في العالم كله، وسيُترجم إلى كل لغات العالم حتى لغة هندوراس ولغة كوستاريكا، ونهار «أبوه» أزرق كل مواطن لا يقرأ الكتاب ويحفظه، وسيُرزق من وراء هذا الكتاب ويحفظه عشرات «المؤلفين» الأرزقية؛ الذين سيدبجون الصفحات عن أثر كتاب الزعيم في ثورات جنوب أفريقيا، وعن صدى الكتاب في حركات التحرير بأمريكا الجنوبية.

قالت البنت وهي تشهق: معنى ذلك أن سكان هذه البلاد قرءوا الكتاب وحفظوه!

قلت: بل إنهم لم يسمعوا حتى باسمه. صحيح أن ملايين النسخ وصلت إلى هناك، ولكنها بقيت في الحفظ والصون داخل سفارة الزعيم، وهذه السفارات نفسها هي التي ستكتب التقارير للزعيم بأن نُسخ الكتاب نفدت كلها، والناس تقف في طوابير، ولا طوابير الجمعية الاستهلاكية، تنتظر الطبعات الجديدة لكي تقرأ ثم تثور ثورةً على نهج ثورة الزعيم.

قالت البنت الأروبة: ولكن أليس هناك احتمال ولو ضئيلًا أن يصل إلى هذه السفارات مفتشون فيجدوا نسخ الكتاب مكدسة داخل الحجرات؟

قلت: إنهم لن يجدوا نسخةً واحدة على الإطلاق؛ لأن السفارات المدربة بعد أن يرسلوا التقارير للزعيم، يسارعون إلى بيع النسخ بالأقة، وهكذا يكسبون مرتين على قفا الكتاب، مرة يكسبون رضاء الزعيم التقدمي وعطاياه، ومرة يكسبون ثمن بيع الكتاب بالأقة، ويكسبون فوق ذلك تأييد باعة اللب والفول السوداني في أنحاء العالم!

ولدينا زعماء تقدميون آخرون ليس لهم كتب ولكن لهم أحزاب، وإذا سألت عن أهداف الحزب سيقولون لك: الوحدة النضالية الاجتهادية الفورية وغير الفورية؛ من أجل الصعود والنهوض والطرود أيضًا، وسيطلبون منك شد الحزام على البطن؛ بينما قادة الحزب التقدمي الوحدوي الاشتراكي يأكلون الكافيار في الصباح، والديوك الرومي في الغداء، والبط البكيني في المساء.

قالت البنت وكأنها اكتشفت سرًّا: عرفت الآن لماذا تدعو هذه الأحزاب إلى الاشتراكية.

قلت أسألها: ليه؟

قالت: لأن زعماء الحزب يتناولون أطعمة اشتراكية؛ فالكافيار، كما تعلم، من الاتحاد السوفيتي … والبط البكيني من الصين الشعبية!

قلت للبنت والغيظ يمزق كبدي: لن تفهمي العصر الحميري ولو أنفقتِ العمر في دراسته.

قالت البنت: ليه؟

قلت: لأن هذه الأحزاب ليست اشتراكية، ولكنها مشتراكية، وهي مشتراكية لأن كل أعضائها مشتركون في دفتر التليفون، ومشتركون في النوادي الرياضية، ومع كل منهم اشتراك في وسائل المواصلات! وهذه الأحزاب في الحقيقة أحزاب مشتراكية، ولكنهم يسمونها اشتراكية من باب الدلع والهزار.

قالت البنت وهي تصرخ: خيبة الله عليكم حمير بحق وحقيق! اشتراكيتكم إذن ليست كما نعرفها «من كل مواطن حسب قدرته، ولكلٍّ حسب حاجته».

قلت: اشتراكيتنا عكس ذلك على طول الخط؛ فهي «لكلٍّ حسب قدرته، ومن كلٍّ حسب نفوذه والظهر الذي يسنده»، وفي العصر الحميري مثل يقول: «يا بخت من كان النقيب خاله»، فما بالك بمن كان الزعيم خاله أو عمه أو صهره أو من ريحة الريحة. تصوَّري يا خواجاية هناك أبناء عم أنفقوا مليارات على القعدة والمزاج، وأبناء عم أنفقوا مليارات للحصول على معلومات.

قالت البنت: أما الذين أنفقوا الفلوس للحصول على المعلومات، فهؤلاء لا يمكن أن يكونوا من العصر الحميري؛ لأن الحصول على المعلومات هي آخر صيحة في هذا العصر، وبدون المعلومات لا يمكن لدولة أن تنهض أو تنمو وتستمر، فالمعلومات هي الأساس في السلم وفي الحرب، والدولة التي تملك معلومات أكثر هي التي لديها فرصة أكبر للنجاة.

قلت وأنا أكاد أخبط رأسي في الحائط: مستحيل أن تصبحي حمارة في أي يوم من الأيام؛ فالمعلومات التي لديكم ليست هي المعلومات التي لدينا.

قالت البنت الفرنساوية: المعلومات هي المعلومات في أي مكان وزمان.

قلت: ولكن العصر الحميري ليس في المكان أو الزمان؛ إنه يعيش في الهيلولة المطلقة، ويَسْبح في اللانهائي المتفشنخ، وابن العم التقدمي المشتراكي، بعد أن أنفق المليارات، وطاف بالمعمورة وبالمخروبة أيضًا، وتذوق كل أنواع البيض الأمارة والسُّمر السمارة، وبعد أن غنَّى: سوَّاح وماشي في البلاد سوَّاح، والخطوة بيني وبين حبيبي براح، وبعد كل الذي حصل والذي وصل عاد بمعلومات من النوع الحميري الممتاز؛ على رأس المعلومات أن عدد المؤمنين بأفكار الزعيم التي وردت في كتابه بلغ ٥ مليارات و٦٠٠ مليون و١٤٢ ألف نسمة.

قالت البنت وهي تكركر: وكيف أحصاهم هذا المضروب؟

قلت: جاء في تقرير الحمار إياه أن الحصر تم على طريقة حصر المساجين في السجون، وأنه اضطر من أجل ذلك إلى الطواف في الكرة الأرضية من حارة إلى شارع، ومن شارع إلى زقاق، ومن زقاق إلى ميدان، ومن ميدان إلى قرية، ومن قرية إلى كَفْر، ومن كفر إلى نجع، ومن نجع إلى مضارب، ومن مضارب إلى واحة، ومن واحة إلى غابة، ومن غابة إلى نزلة، ومن نزلة إلى دحديرة، ومن دحديرة إلى لاشيء! واضطر من أجل ذلك إلى استخدام كل أنواع المواصلات؛ طيارات وصواريخ ودبابات وسيارات وموتوسيكلات وجمال وحمير وأتوبيسات وأفيال؛ ولذلك طلب بدل سفر وبدل مواصلات مائة مليون دولار، وحصل عليها … كل دولار ينطح دولار.

قالت البنت وهي تشد شعر رأسها: وهل هذه كل المعلومات التي حصل عليها؟

قلت: لا … بالطبع، ولكنه حصل على معلومات أخرى بالتأكيد.

قالت: مثل ماذا؟

قلت: جاء في تقريره أنه بعد أن لف الكون، وعرف أحوال قبائل الزولو وقبائل الهون، اكتشف، بفضل الله، أن الأرض كروية! وأن الدنيا مقسمة قسمين، وعندما تكون الشمس ساطعة على قسم، يكون الظلام مخيمًا على القسم الآخر، وأكد أيضًا أنه اكتشف، بعد بذل الجهود وإنفاق النقود، أن الدنيا حظوظ ومزاجات، وأن الشمس تطلع كل يوم وتغيب!

قالت البنت الفرنساوية: يا له من عبقري، اكتشف ما لم يكتشفه أحد من قبل، ولم يقدر على اكتشافه أي جهاز من جهاز المخابرات في الشرق أو في الغرب، وهو عندما اكتشف أن الشمس تطلع كل يوم، وضع أصبعه على حقيقة كانت غائبة عنا، ثم أحدث انفجارًا خطيرًا عندما ختم اكتشافه بأن ذلك ينتهي دائمًا بالمغيب، فهي تطلع صحيح ولكنها تغيب، ولكنها لا تغيب إلا لكي تطلع، ولا تطلع إلا لكي تغيب. إن هذا العبقري هو وجودي في الحقيقة؛ لأنه اكتشف نظرية جديدة هي … أنا أطلع إذن أنا أغيب!

قلت: وتسمِّين هذه نظرية!

قالت: نظرية ونص، وهو ليس فيلسوفًا فقط، ولكنه ثوري ومناضل وعظيم، إنه أراد أن يؤكد لزعيمه أن كل شيء يقوم ليسقط، ويعيش ليموت، وينشأ ليزول؛ فالشمس تطلع كل يوم … وتغيب، ولكنها بعد أن تغيب تعود، وبعد العودة تغيب، فهي تغيب لتعود، وتعود لتغيب؛ وهكذا دواليك.

قلت: يا خواجاية، قد يكون وراء هذا الكلام فلسفة، وقد يكون في باطنه علم يخفى على الكثيرين، ولكن هذا الاكتشاف الرهيب ليس بفضل الأخ الحمار إياه، ولكنه اكتشاف قديم مضى عليه أكثر من ربع قرن من الزمان، وأول من اكتشفه للحقيقة والتاريخ هي خضرة الشريفة تلميذة زكريا الحجاوي، فهي أول من لعلع صوتها بأغنيتها الشهيرة: «والشمس تسطع كل يوم وتغيب، والبطن تحمل كل عام وتجيب … صعبان علي.»

هتفت البنت الفرنساوية: يا سلام! هذا معنى أعمق وعبارة أرشق، من هي خضرة الشريفة وأستاذها زكريا الحجاوي؟ وأين أراضيهما الآن؟

قلت للبنت الفرنساوية وقد هدني وغصني السغب … هذه قصة أخرى، فإلى الغد يا فرنساوية، وأسأل الله أن يهدِّك ويقطم وسطك … آمين يا رب العالمين.

١ / ٩ / ١٩٩٠م

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤