٣٠٠ مليون زلمة!

قالت البنت الفرنساوية وقد استيقظت من النجمة: احكِ لي أيها الحمار الصغير عن خضرة الشريفة وزكريا الحجاوي، هل هما من الأنتيكة في بلادكم؟ هل هما نوع من الأطلال والآثار؟

قلت: يا خواجاية، عمك زكريا الحجاوي كان على هيئة بشر، ولكنه في الحقيقة كان مصنعًا لإنتاج الصياعة، كان يحب الأرض لأنه عليها وُلد، وعليها مات، وعليها يُبعث إن شاء الله يوم القيامة، وكان يحب البشر، كل البشر، باعتبارهم أخوة أشقاء من صلب آدم، وبصرف النظر عن اللغة والدين واللون، وكان يحب الشجر ويحب الحجر، ويبلبط في الطين، ويتمرغ في التراب، ويستنشق في سرورٍ عرقَ الناس وروث البهائم.

كان يحب الطبيعة، أما خضرة الشريفة فهي فنانة مسرحها الحواري والشوارع، وهي تغني كلامًا يحتقره المثقفون إياهم؛ باعتباره من كلام السوقة والدهماء والعامة، وهي لا تفهم ما تقوله، ولكنها بالرغم من ذلك تقول بإحساس، شعور غريزي لديها؛ لأنها تغني مأساة الناس ومأساتها، وتلطم على الخدين في مأتم الإنسانية ومأتمها.

قالت البنت الفرنساوية: وهل لا يزال عمك زكريا وخالتك خضرة يعيشان في العصر الحميري؟

قلت: عمك زكريا مات يرحمه الله، وخالتك خضرة لا تزال تسرح في الموالد والأسواق، ولكن يمكنك اعتبار هذا الصنف من البشر أنتيكة في العصر الحميري، فالعصر تغير والحمير أيضًا. في زمن عمك زكريا الحجاوي، كان صنف الحمير طيبين، كان كل حمار يرضى بما قسم له الله، عود برسيم وحفنة شعير، وكان كل حمار يراعي خاطر جيرانه الحمير؛ إذا مات حمار في الشارع، ارتدى كل الحمير السواد، وأعلن كل الحمير الحداد، وإذا تزوج حمار في قرية، رقص كل الحمير وسهروا وغنوا وأكلوا وحمدوا الله على ذلك. الآن تغير العصر يا خواجاية، وتغير الحمير أيضًا، وستجدين في أنحاء العصر الحميري حمارًا ميتًا في شقة وحمارًا آخر يتزوج في الشقة المقابلة، اختلطت أحزان الحمير بأفراحها، وضاعت المعالم، وزالت الحدود. وفي العصر الحميري أجزاء تشبع حتى البطر، وأجزاء تجوع حتى الكفر، وستعثرين على حمار يقتل حمارًا آخر من أجل كبشة دولارات! وهناك حمار ينفق الملايين في ليلة على موائد القمار، وحمار يبحث عن عشائه في الزبالة، حمار ينام في قصر ولا قصر التيه، ومائة حمار مكدَّسة في حجرة تحت السلم. انتهى العصر الحميري الطيب، وبزغت شمس العصر الحميري القبيح، وأصبحت الحياة مصالح ومطامح، وصار الحمار الابن يقتل الحمار الأب للاستيلاء على الشقة، والحمار الحفيد يمزق جسم الحمارة الجدة للحصول على غويشة ذهب تحتفظ بها من أيام المجد القديم. الدولار هو سيد الموقف الآن، والحمير تبيع كل شيء من أجله.

قالت البنت الخواجاية: ولكنك لم تقل جديدًا، فنحن أيضًا في أوروبا نعيش في نفس الحالة ونعاني منها.

قلت: عيبك يا خواجاية أنك دائمًا تخلطين بين العصر الحميري وأوروبا.

قالت: وما الفرق؟

قلت: في أوروبا بشر، ولدينا حمير، وأنتم تعيشون في العصر النووي، ونحن نعيش في العصر الحميري، ومثل هذه العلاقات إذا ساءت عندكم، فلها ما يبررها، أما عندنا فليس لها مبرر على الإطلاق. وبعض فلاسفة أوروبا قالوا إن السلوك هو نتيجة علاقات الإنتاج في المجتمع، ونحن في العصر الحميري لا نزال نعيش في العصر الزراعي، ونحن نزرع الجعضيض والسريس والبرسيم والكنتالوب أيضًا، وصناعتنا هي علب كبريت مشط وحصير ملون وقلل قناوي، لم تتغير وسائل الإنتاج، ولكن تغيرت علاقات الحمير بعضها ببعض.

قالت البنت الخواجاية: أفهم من ذلك أنكم تأخرتم في وسائل الإنتاج، تقدمتم في سوء العلاقات.

قلت: بالضبط.

قالت البنت الفرنساوية: ولكن هذه معجزة.

قلت: أما عن المعجزات في العصر الحميري فحدِّثي ولا حرج؛ حياتنا نفسها معجزة، واستمرارنا في الحياة معجزة، وسلوكنا وتصرفاتنا كلها معجزات في معجزات، تصوَّري يا خواجاية أن لدينا حزبًا سياسيًّا اسمه حزب البعث الحميري، وهو قام على أساس بعث أمَّة الخير لتعود كما كانت أمة من البغال، قوية الاحتمال شديدة الصبر، واستطاع الحزب أن يسطو على الحكم في بلدين من بلاد الحمير، ولكنه في التجربة أثبت أنه ليس حزبًا للبعث ولكنه حزب للبأس؛ فالمسائل عنده بالعافية، تخلص من حلفائه بالعافية، ثم تخلص من أنصاره بالعافية، وتفنَّن في اختيار أنواع من العافية لم تخطر لأحد من قبل على بال، أصناف وألوان من العذاب تجعل من المرحوم هتلر مجرد هاوٍ مثل أسامة عرابي، وتجعل من حزب البعث مارادونا التعذيب، تصوري يا خواجاية، إذا وقع حمار في أيديهم نشروا عظامه بالمنشار، وإذا اعتدى أحدهم على الحزب بالقول أو الإشارة، فهو مقتول لا محالة، وقد تقولين ومالُه! واحد أخطأ وقتلوه، وأنا أيضًا موافق وليس لدي اعتراض، فكل مخطئ عليه أن يتحمل حتى ولو كان العقاب لا يتناسب مع الجريمة، ولكن ما رأيك يا خواجاية أن المخطئ لا يموت وحده، ولكنهم يقتلون معه الابن الرضيع والزوجة المريضة والجد الكسيح، وتدفع العائلة كلها ثمن خطأ ارتكبه فرد منهم، حتى البيت يصبح أثرًا بعد عين، حتى قبورهم مجهولة، ومن يستدل عليها يلقى حتفه على الفور، وأثبتت التجربة أيضًا أن حزب البعث تحوَّل في الحكم إلى حزب البحث؛ فكل مواطن مخبر، وكل عضو في الحزب شريط تسجيل، وكما تحول الحزب إلى حزب للبأس وحزب للبحث، تحول أيضًا إلى حزب للبخس، تصوَّري يا خواجاية أن عضو الحزب يرتقي فيصبح وزيرًا أو وكيلًا أو مديرًا، ولكن فجأة بقدرة قادر يتحول إلى غفير مراحيض، وإلى كنَّاس شوارع، وإلى مفتش مراجيح.

قالت البنت الفرنساوية وقد أرعشت حاجبها: ولماذا كل هذه الحكاوي أيها الحمار الصغير عن هذا الذي اسمه حزب البعث؛ الذي انقلب إلى حزب للبأس، ثم تغير إلى حزب للبحث، ثم صار حزبًا للبخس؟ ما علاقة هذا كله بالعصر الحميري الذي كنا نتحدث فيه؟

قلت: عيبك يا خواجاية أنك طالبة علم ومتعجلة؛ لأن طلب العلم يحتاج إلى صبر ولا صبر أيوب، ويحتاج إلى جلَد ولا جلد نلسون مانديلا.

قالت البنت الخواجاية وقد صاحت وناحت: الصبر في الشدائد ميزة، ولكن في الكلام الفارغ مسْخرة.

قلت: حتى في الكلام الفارغ الصبر مطلوب وصاحبه مُثاب، ألم تسمعي عن شفيق جلال؟ إنه مطرب في عصرنا، وهو لا يصبر فقط ولكنه يطلب من الصبر أن يصبر ويعلِّم الصبر أن يصبر.

قالت البنت الخواجاية: طيب! صبرنا، فماذا بعد؟

قلت: حديثي عن حزب البعث سببه أن حزب البعث الحميري هو علامة على عصرنا، وهو قام في البداية لتوحيد الحمير فمزَّقهم، وقام لبعثهم بغالًا أشداء صابرين، فتحولوا على يديه إلى حمير مجروحة ومبطوحة، سارحين في البراري؛ كل حمار وحده، وكل حمار يغني على بلواه. وهو في النهاية ارتكب جريمة العصر، فاجتاح شوية حمير غلابة وشردهم واعتدى عليهم، ولم تكن هذه هي جريمته الوحيدة، ولكن جريمته الكبرى أن هذا الحادث كشف القناع عن وجوه الحمير كلها فبانت على حقيقتها؛ الحمار التونسي وقف من المأساة عين في المخلاة وعين في الغدير، والحمار السوداني توصل إلى مبادرة تتيح قبض المعلوم وتناول المقسوم، والحمار الفلسطيني ضاع في الكازوزة، وصار كالمنبت لا أرضًا قطع ولا ظهرًا أبقى، والحمار المصري سلبوه تحويشة العمر وشلحوا متاعه عند الحدود، وضربوه على قفاه عند الجوازات، ويواجه الحمير اليوم موقفًا صعبًا لم يواجهوا مثله من قبل، والسبب في المأساة هو حزب البعث الحميري؛ الذي تحول إلى حزب للبأس وانقلب إلى حزب للبحث ثم صار حزبًا للبخس.

قالت البنت الفرنساوية: حتى على فرض أن ما تقوله هو الصح، فما علاقة هذا كله برحلتنا في ربوع العصر الحميري؛ نشاهد ونتفرج، ونلاحظ ونستفيد، ونخرج في النهاية ببحث تاريخي مفيد عن العصر الحميري وما جرى له وما جرى عليه؟

قلت: ولكن كيف الذهاب الآن وقد تقطعت السكك وتمزقت السبل، وأصبح التجوال في بلاد الحمير كالمشي على حبل مشدود، فالدبابات تسُدُّ الأفق، وطائرات الشبح تحجب الشمس، وصواريخ عين القط مشرعة كأسياف تنادي على عاصي الهوى: الله أكبر! وحاملات الطائرات تملأ البحر، ومدافعها مسلطة ومسددة على كل أنواع الحمير.

قالت البنت الفرنساوية وهي تضرب صدرها بيدها: تصبح كارثة لو قامت الحرب وتم إبادة جميع أصناف الحمير، وتصبح مصيبة لو انتهى العصر الحميري قبل أن نبحثه وندرسه.

قلت للخواجاية: لا تخافي ولا تحزني؛ عمر الحمير طويل وسرهم باتع، وقد تحدث معجزة في آخر لحظة؛ فتعود الأمور إلى ما كانت عليه آخر ألاجة وآخر هنجفة.

قالت: كيف؟

قلت: ربما يسقط حزب البعث فيرتاح منه الحمير البعثيون أولًا، وهؤلاء في الحقيقة مثل راكب الأسد يخيف به الناس وهو أكثر الناس خوفًا، وإذا كان حزب البعث قد قتل من الأعداء ألفًا، فقد قتل من الأنصار مليونًا.

قالت: وإذا لم يسقط حزب البعث؟

قلت: في هذه الحالة سيسقط صنف الحمير جميعًا، فلن نعثر في العصر الحميري إلا على فلول، وفي هذه الحالة لن يكون عمك زكريا الحجاوي وحده في المتحف، ولكن سيكون معه كثيرون، وسيلحق صنف الحمير بصنف الهنود الحمر، وسنحتاج عندئذ لخالتك خضرة الشريفة؛ لكي نسرح بها في أرجاء الكون لتندب العصر الحميري الذي مضى وانقضى، وسنحتاج عندئذ إلى مؤلف عبقري؛ لكي يضع كلمات موَّال يليق بالمناسبة.

قالت البنت الفرنساوية وقد سرحت وهامت: ألا يوجد في العصر الحميري مؤلفون من هذا المستوى؟

قلت: الآن أشك بعد أن مات مرسي جميل عزيز ومات عبد الفتاح مصطفى ومات فتحي قورة وسكت عمنا مأمون الشناوي، أشك الآن في وجود مؤلف في العصر الحميري يستطيع أن يكتب مثل هذا الموال، والحق أقول يا خواجاية، أنه كان لدينا في الماضي كثيرون من هذا النوع، أحدهم تنبأ بالطوفان الذي حدث أخيرًا، وقضى عمره كله يوصي الحمير ويعظهم ويرشدهم ويعلمهم، ولكن لا حياة لمن تنادي، وبالعكس، وانقلب الحمير ضده وسجنوه وطاردوه وطردوه وقطعوا عيشه وأذلُّوه وجردوه حتى من جنسية الحمير، وبالرغم من ذلك ظل مقيمًا على حبه لهم، وظل يرشدهم ويعظهم ويتمنى أن يراهم بغالًا أو أحصنة حتى آخر يوم من حياته.

قالت البنت الفرنساوية: وهل تنبأ فعلًا بما حدث لهم اليوم؟

قلت: تقريبًا.

قالت: وماذا قال؟

قلت: قال:

يا شرق فيك جو منور
والعقل ضلام
وفيك حرارة يا خسارة
وبرود أجسام
وتلتميت مليون زلمة
لكن أغنام
لا بالمسيح عرفوا مقامهم
ولا بالإسلام
وفيك بهايم تتكلم
وتقول يا سلام

شهقت البنت الفرنساوية وقالت: يا سلام! هذا شاعر حميري من الطراز الأول، ووصْفك لما يجري على أرض الحمير الآن يجعلني أتمسك بالسفر إلى هناك قبل أن تقوم القيامة، لا بد أن تبحث لنا عن طريقة الآن لكي نذهب إلى العصر الحميري ونتجول فيه؛ لأن الفرصة إذا فاتت فلن يكون هناك أي معنى لحياتي، وسأنتحر على الفور، خذني إلى العصر الحميري أرجوك! أتوسل إليك! قبل أن يندثر ويصبح تاريخًا، وحتى أكون شاهدة عليه وعلى العصر.

قلت: اهمدي الآن ونامي، وغدًا نبحث عن وسيلة، فغدًا يوم آخر.

١ / ١٠ / ١٩٩٠م

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤