المجنون … وليلاه

استيقظت البنت الفرنساوية من النجمة، وهزتني ولكزتني، ثم سحبتني من الفراش، وقالت: انهض عليك اللعنة، لا بد من اللحاق بالعصر الحميري قبل أن يلحقه الفناء، فلو أنه قُضي عليه، فسأقتل نفسي على الفور، وستكون أنت المسئول عن كل الأضرار التي ستصيب بنتًا مثلي، طموحة وجذابة، وفي انتظار ابن الحلال.

قلت للبنت الفرنساوية وأنا أتساءل: ومن قال لك إن العصر الحميري سينتهي؟

قالت: أنت … ألم تقل لي إن الحرب ستقوم وإذا قامت الحرب فستقضي على صنف الحمير، ولن يكون لهم أثر على ظهر الأرض؟

قلت: على كل حال الحرب لم تنشب بعد، وحتى إذا نشبت الحرب فلن تقضي على صنف الحمير؛ فالحمير كثير وإنتاجهم وفير، وهم لا يتوالدون، ولكنهم ينقسمون؛ ولذلك هدِّئي من روعك وحطِّي في بطنك بطيخة صيفي، وكوني على ثقة من أننا سنحصل على حمير في كل زمان، فنحن رغم ضعفنا وخيبتنا وهواننا على الناس، إلا أننا إنتاج متميز، فنحن من تقاوي فريدة ليس لها نظير.

قالت: أفهم من ذلك أنك لا تريد أن تأخذني إلى العصر الحميري!

قلت: بالعكس، بل أنا شديد الرغبة في الذهاب بك إلى هناك، ولكن في عصرنا الحميري كل شيء بأوان، وكل أمر مرهون بزمن، وما هو مكتوب على الجبين لازم تراه العين، وتجري جري الوحوش وغير رزقك ما تحوش، وما دام مكتوبًا على جبينكِ أنك ستشاهدين العصر الحميري، وتقضين فترة مع صنف الحمير، فأنت بإذن واحد أحد ومن غير مقاطعة، سيكون لك حظ مشاهدة العصر الحميري.

قالت: ولكن هذه اتكالية وانهزامية وتراخٍ من جانبكم واعتماد على المجهول.

قلت: ميزتنا في العصر الحميري أننا نعتمد على المجهول وعلى المعلوم أيضًا، وستجدين في العصر الحميري علماء ذرة، وستجدين في الوقت نفسه مجاذيب يتصلون بِالْجان، ويعرفون الأخبار من خلال اتصالهم بالعفاريت.

قالت: إذن ليس لديكم أدباء ولا حركة تنوير، ولا شعراء يستلهمون الوحي من الطبيعة، ولا فلاسفة يقلِّبون الأمر على كل الوجوه، ثم يخرجون في النهاية بسؤال.

قلت: بل لدينا حركة تنوير سبقت حركة التنوير في أوروبا؛ في يوم كان عندنا الفراهيدي وابن الهيثم وابن بطوطة وابن خلدون، وكان لدينا المتنبي وأبو العلاء المعري، وكان لدينا الحلاج وبشار بن برد الذي ضربوه بالسياط حتى مات، ثم ألقوا بجثته في نهر دجلة، وكان لدينا المتمرد أبو نواس، الذي خاف من بطش مباحث الخليفة فادَّعى العربدة والجنون، مع أنه كان ثائرًا قبل أن يعرف الناس الثورة، وكان لدينا أئمة حاربوا الظلم ووقفوا ضد بطش السلطان؛ الإمام الشافعي الذي مد رجله في مواجهة الوالي؛ لأنه لا يمد يده، والإمام أبو حنيفة الذي يتنازل عن حريته حتى لا يتنازل عن عقيدته. وبعد عصر التنوير دخل الحمير في نفقٍ مظلم، ثم جاء عليهم عصرٌ آخر أشرقت فيه شمس المعرفة، وجاء رفاعة رافع الطهطاوي والجبرتي والشيخ العطار وشهبندر التجار المحروقي وشيخ الثوار البصير سليمان الجوسقي، وأحمد القرداتي الذي كان يسرح بقرد في حواري القاهرة، والذي كان همزة الوصل بين ثوارها ضد جيش نابليون، ثم جاء علي مبارك والشيخ البشري ومحمد بك البابلي، والشاعر شوقي والشاعر حافظ والمعمم لطفي المنفلوطي وعلي محمود طه الفنان، والدكاترة زكي مبارك صديق ليلى المريضة بالعراق، والضاحك الساخر إبراهيم عبد القادر المازني، وصاحب العين المقفولة والعقل المفتوح الدكتور طه حسين، وأبو الأدب توفيق الحكيم، وصاحب نوبل عمنا الكبير نجيب محفوظ.

قالت البنت الفرنساوية مندهشة ومنتفشة: تقول لديكم في العصر الحميري أديب حصل على جائزة نوبل!

قلت: نعم، وحصل عليها بجدارة واقتدار، وهو في فقه الرواية، وباعتراف الكل، أعظم من شتاينبك، وفي المنولوج الداخلي أقدر من جيمس جويس، وفي السرد أحرف من تنسي وليامز، وهو بالنسبة لألبرتو مورافيا خطوة إلى الأمام.

قالت البنت الفرنساوية: وكيف استطاع كاتب من العصر الحميري أن يصل إلى هذا المقام؟

قلت: هذا سرنا في العصر الحميري ومأساتنا أيضًا، لقد كان لدينا منذ وقت قريب ناقدٌ لو ظهر في أمريكا أو فرنسا، لأقيمت له في الشوارع تماثيل، ولكنه عاش عندنا ومات مطاردًا ومذعورًا، إلا في فترات قليلة في حياته، ومر في حياتنا مرور السياح، ولم يستطع رغم عبقريته وذكائه معرفة ما يدور بالضبط في الشارع الذي يقع خلف منزله، ومات لويس عوض مجهولًا من أغلب الناس، بينما المجد والفلوس والشهرة كانت من نصيب سليم عبد الجبار.

قالت البنت الفرنساوية: ومن هو سليم عبد الجبار؟

قلت: إنه عضو في شيء اسمه اتحاد الكُتاب؛ وهو اتحاد يضم عددًا من الكُتاب أضعاف عدد العائدين من العراق والكويت، وبعضهم ينشر اسمه ويكتب تحت اسمه «عضو اتحاد الكتاب»، وبعضهم يضيف إليها عنوان سكنه، وأحيانًا رقم تليفونه، وأحيانًا استعداده لتوصيل القصص والمقالات للمنازل بالمجان، وستجدين في كل تاريخنا مفارقات غريبة. الفلوس ستكون من نصيب هؤلاء، والفقر من نصيب الموهوبين، وسيتصدر هؤلاء المراكز والمناصب، وسيُحرم أصحاب الفنون وأصحاب العقول، وسيكسب علي برعي عشرة أضعاف ما ربحه نعمان عاشور، وسيعيش علي عويس أفضل مائة مرة من يوسف إدريس، وسيسقط كاتب مثل فيليب جلاب من الإجهاد؛ لكي يدفع أجرة المسكن وثمن الطعام والهندام، وسيشيخ لطفي الخولي قبل الأوان، وسيسكت عمنا أحمد بهاء الدين عن الكلام؛ بينما سيظهر بالتليفزيون كلَّ مساء من لا يجيد القراءة ولا الكتابة، ولا يعرف الفرق بين الألف وعمود النور، ولن يقع بصرك على صلاح حافظ في أي مكان؛ بينما ستقابلين على كل مأدبة، أو في كل حفلة، أصحابَ الأصوات الغليظة والأقلام الغبية، أدعياء الثقافة، محترفي الفشور، خريجي مدرسة روايات الجيب ومجلة المختار.

لقد كان لدينا يا خواجاية في يوم من الأيام؛ عبقري لم تلد النساء مثله، عبقري يدعى سيد درويش، بدأ حياته عامل بناء، ثم احترف قراءة القرآن، واشتغل بالتلحين والغناء، ولم يكن للحمير ثروة موسيقية من قبله، وكل ثروتهم الموسيقية التي حصلوا عليها من بعده؛ حصلوا عليها من فضله، ومع ذلك تركوه يموت في شرخ الشباب؛ بينما استطاع نصاب موسيقي اسمه الدكتور جوزيف فوقي أن يحصل من الإذاعة على نصف مليون؛ ثمنًا لموسيقاه، مع أن الكل كان يعلم أنه كان يؤلف الموسيقى على سلالم الإذاعة، وكان يقوم بتسميعها للمؤدين داخل استوديو التسجيل وهو ينقر بأصابعه على ترابيزة المذيع.

وكان لدينا هرمان؛ أحدهما يُدعى أم كلثوم، والآخر يدعى عبد الوهاب، الأولى كانت مطربة لم تخلق السماء حنجرة في جمال حنجرتها، ولم تفتل الأقدار حبالًا صوتية من نوع حبالها. أما عبد الوهاب فقد تربَّع على العرش أغلب فترات القرن العشرين، ومع ذلك عندما ماتت كوكب الشرق قُدرت ثروتها بأربعة ملايين جنيه حميري، وكل خمسة جنيهات من النوع الحميري تساوي جنيهًا من النوع الإسترليني، كما أن ثروة عبد الوهاب لا تتعدى هذه الحدود.

في المقابل، كان هناك فنان خارج العصر الحميري يُدعى الفيس بريسلي، مات في الأربعين من عمره، وخلَّف وراءه ثروة تقدر بثلاثة عشر ألف مليون دولار، مع أن ثروة العصر الحميري تفوق كل الثروات.

وفي العصر الحميري، كان لدينا قارئ صوته نغمة من نغمات السماء، عاش ومات في حي البغالة، كان يحضر مآتم الفقراء قبل الأثرياء، وعندما مات الشيخ محمد رفعت لم يكن في بيته إلا حفنة من الجنيهات؛ بينما يوجد الآن قارئ اسمه البشير عنتر لا يعرف أصول القراءة ولا يجيد فن التلاوة، ومع ذلك فهو لا يقرأ إلا إذا تناول أربعة أكياس؛ كل كيس فيه ألف محبوب، أما عشاؤه فلا بد أن يكون وزة محمرة وفطيرة مشلتتة وبرام رز معمر بالحمام.

قالت البنت الفرنساوية منزعجة: ولكن كيف يمكنه القراءة بعد ابتلاع كل هذه الكمية من الطعام؟

قلت: إنه لا يقرأ إلا بعد ابتلاعها، كما أن عشاءه لن يكون مقصورًا على الوزة المحمرة والفطيرة المشلتتة والأرز المعمر بالحمام، ولكن لا بد من وجود حلة البالوظة، ثم البطيخة الشلين في الصيف، ثم قفص البرتقال في الشتاء، ثم يشرب دستة كازوزة من نوع الاسباتس؛ لكي يتكرع ويطرد الغازات، وهو الآن صاحب عمارة على النيل، وعمارة في المهندسين، وعمارة في مدينة نصر، وعمارة على كورنيش الإسكندرية؛ بالإضافة إلى عدد من الشاليهات في المعمورة والعجمي ومارينا وشاطئ أبو التلات؛ بينما عمنا الشيخ رفعت عاش ومات في بيته المتواضع في شارع البغالة على مقربة من السيدة زينب وسيدي علي زين العابدين؛ جلبًا للبركة وهدوء البال.

قالت البنت الفرنساوية وقد سرحت وشطحت: عرفت الآن لماذا الحرب حتمية في بلادكم.

قلت: ليه؟

قالت: لإصلاح الخلل الذي يهدد جهدكم ويدفع بالذيول إلى المقدمة، ويجرجر الرءوس إلى الخلف.

قلت: واهمة أنت وعبيطة يا خواجاية! قلت لك ألف مرة إن مقاييس بلادكم لا تصلح للتطبيق في العصر الحميري، والحروب ستعود بنا أكثر إلى الوراء، وستجعل من الذيول أئمة ومن الأئمة مجرد كومبارس.

قالت: لا، غير معقول.

قلت: معقول ونص، فبعد حرب ١٩٤٨م التي ظهرت فيه الأسلحة الفاسدة، وانكشف فيها المجتمع الحميري، فإذا به مليء بالثقوب والثغرات، وكان لا بد حسب نظريتك أن تتولى الحرب تغييره إلى الأفضل، ولكن التغيير حدث إلى الأسوأ؛ قام أول انقلاب عسكري في العصر الحميري في مكان يقال له دمشق من ضواحي العصر الحميري، وقضى الانقلاب العسكري على الديمقراطية الهزيلة التي كانت هناك.

وعرف العصر الحميري بعد الحرب نموذج الجنرالات الذين يظهرون بوفرة في جمهورية الدومونيكان وجمهورية شركة الموز في جواتيمالا، وجمهورية شركة القنال في بنما، وجمهورية شركة التليفونات في السان سلفادور. ثم جاءت حرب ١٩٥٦م وثبت من خلالها أن القيادة العسكرية غير مؤهلة وليست على مستوى المسئولية، وبدلًا من تغييرها ثبَّتوها في أماكنها وأعطوها كل السلطات. ثم كانت الخيبة الكبرى في حرب ١٩٦٧م، وانهزمت جيوش العصر الحميري كلها أمام جيش المرتزقة والصياع، ولعلها كانت الحرب الوحيدة التي حصل خير من بعدها؛ غيَّروا القيادة ودفعوا إلى الصفوف الأمامية أصحاب المواهب وأصحاب الكفاءة؛ ولذلك كان الأداء رائعًا في حرب أكتوبر، ولكن المعجزة التي صنعها العسكريون بدَّدها السياسيون، وعدنا خلفًا در من جديد؛ انقسم المجتمع إلى قسمين بحجة الانفتاح والانبطاح؛ قسم الذين عبروا، وقسم الذين هبروا.

أما الذين عبروا، فقد بذلوا الدم، وأما الذين هبروا، فقد جمعوا ما تيسر من الأموال بالرغم من عدم رؤية أحد منهم على المعابر وقت الحرب، أما الذين عبروا فقد تاهوا في الزحمة واختفوا في الظلام. وأصبح للعصر الحميري أبطال من نوع جديد؛ البطل توفيق عبد الحي الذي كان بطلًا في التايكوندو، وصاحب الرقم القياسي في بيع الفراخ الفاسدة والسمك المعفن، ووسيلته في ذلك شركة اسمها أراك، لا أراك الله مكروهًا في عزيز لديك. والبطل رشاد عثمان الذي أوصاه الوالي بأن يأخذ باله من إسكندرية، فأخذ باله في أسنانه وهات يا استيلاء على أراضي، وهات يا هبر في فلوس، وكله في سبيل التنمية الشعبية. والبطل الحاج عصمت السادات، صاحب الكرامات والحيازات والشقق والموتيلات، الذي استولى على الشنابر المسحوبة على البارد والشنابر المسحوبة على الساخن، وهات يا بيع في السوق السوداء. والبطل الحاج محمد لطفي المليونير الثري، الذي برَّر تضخُّم ثروته بأنه عمل في ليبيا لمدة عام وبمرتب قدره مائة دينار في الشهر! ولذلك يا خواجاية إذا قامت الحرب، فسيدخل العصر الحميري بالتأكيد في متاهات جديدة، وستسوء أحوال الجميع أكثر، وقد يعودون من جديد إلى الصحراء والخيام، وصيد البر والبحر، وغزوات القبائل، والفخر بالأصول والأنساب.

قالت: يا لها من عيشة حلوة! وأتمنى لو عشتها معهم إذا عادت تلك الأيام.

قلت: الصحراء هي سخرية الطبيعة من الأقدار، وفي الصحراء لا مكان للخديعة أو الكذب أو الزيف أو البهتان؛ فكل شيء مكشوف وواضح وعلى عينك يا تاجر، لا يستطيع أحد في الصحراء أن يدعي الثراء؛ لأنه لا توجد في الصحراء بنوك، مالك على جسمك أو داخل بيت الشعر، أو سارح في حالك داخل الصحراء، وفي الصحراء لا يستطيع أحد أن يدعي الشجاعة؛ لأن الصحراء واسعة ومكشوفة، وسيراك الجميع لحظة نشوب المعركة إذا أخذت ذيلك وهربت كالفار الجربان، الصحراء هي الصدق وهي الشرف وهي أسمى مراحل الحياة.

هكذا كانت الصحراء في عصرنا الأول، وأخشى الآن إذا عدنا إلى الصحراء، أن نعود بكذبنا وغشِّنا وخداعنا وقيمنا البالية التي تهرأت من كثرة الاستعمال، وأخشى أن نعود إليها ومعنا أبطالنا الجدد؛ توفيق عبد الحي، ورشاد عثمان، وعصمت السادات، ومحمد لطفي.

قالت: وماله! على الأقل يبنون بيوتًا، ويفتحون منافذ لبيع اللحم الفاسد والسمك المعفن، ويقيمون في الصحراء سوقًا سوداء!

قلت: في هذه الحالة سأتركك تذهبين لوحدك إلى العصر الحميري الجديد، أما أنا فبريء منهم إلى يوم الدين.

قالت البنت الفرنساوية: لا وألف لا، رجلك على رجلي، وقدمك قبل قدمي، ورحلتنا ستكون معًا، وقد نصبح يومًا ما مثل المجنون وليلاه.

قلت: انخمدي ونامي فورًا أيتها الخواجاية، فأنا ألمح في عينيك الآن أنك ستصبحين حمارة في وقت قريب إن شاء الله.

١ / ١١ / ١٩٩٠م

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤