النشوء … والانحناء!

استيقظت البنت الغندورة وهي آخر عكننة وآخر كلضمة، سألتها: مالك؟ قالت: سودت عيشتي وعكننت مزاجي وجعلتني مرة أرثي لحالكم، ومرة أخرى أحسدكم على ما أنتم فيه! قلت: ترثين لحالنا؛ مفهوم، تحسديننا على ما نحن فيه؛ هذا هو الذي يغيظ حضرتنا، فأنا لا أرى أي شيء نُحسد عليه، إلا إذا كان حسدك من باب … حسدوا البيه على طول شنبه! قالت: بالعكس، لقد صورت لي بلادكم على أنها صحراء حولها صحراء، وبيدٌ دونها بيد؛ على رأي حضرتكم، يتخللها جزر هي الجنة بعينها، وكالجنة ليس فيها جرائد تصدع الرأس، ولا إذاعات تقلق المزاج، ولا تليفزيونات تثير غضب الحليم.

قلت: بالعكس يا خواجاية؛ ففي بلادنا صحف بعدد شعر رأسك، ولدينا إذاعات شغالة طول النهار وطول الليل، وخارج منها مزازيك وأصوات عَمال على بطال.

وعندنا التليفزيونات مصابة بإسهال الحلقات، وبعض هذه الحلقات دخل التاريخ من أوسع باب، حلقات المرأة اللي أكلت دراع جوزها، ورجل بين امرأتين، ورجل واحد وثلاث رحلات، ولكن قمة هذه الحلقات كانت بعنوان: امرأة واحدة وثلاث رحلات، وحصلنا على الأوسكار مرة بحلقات خنجر في الظلام، ولدينا أفلام بعدد الحصى في الصحراء، وعندنا أبطال سينما مصابون بالسل، ولكنهم على الشاشة يضربون كل أبطال الملاكمة؛ من أول تايسون مرورًا بمحمد علي كلاي وانتهاء بجولويس، وأغلب أفلامنا تحمل عناوين جذابة تخطف الأبصار والألباب: تعاليلي يا بطة، دكتور الحقني … الحقني يا خويا الحقني.

•••

وفي بلادنا كل امرأة صوتها مسرسع؛ مطربة، وكل مخمور يتردد على مواخير شارع الهرم؛ سمِّيع … ومن جدة إلى رأس الخيمة تقطعها الطائرة في ساعتين، وهي نفس المسافة من لندن إلى روما، ولكن على امتداد هذه المساحة من بلادنا، لدينا عشر محطات تليفزيون ملونة و١٣ محطة إذاعة تغطي كل القارات، وست محطات للأقمار الصناعية.

شهقت البنت وانزعجت، وقالت: إذن عندكم برنامج للفضاء؟ قلت: عندنا فضاء ليس بعده فضاء، ولدينا فراغ من هنا وإلى يوم القيامة.

قالت: وعندكم مركز لإطلاق الصواريخ بالطبع!

قلت: صواريخنا على قفا من يشيل، ونطلق اسم الصواريخ على السجائر الملفوفة بالحشيش.

قالت: غريبة … ما دامت عندكم هذه النهضة المباركة والبنطلونات الهيلانكة، فلماذا لا يقوم إعلامكم بتقديمها للعالم وتعريفها للكون؟

قلت: في الواقع إعلامنا لا يهتم كثيرًا بالخارج، ولكن اهتمامه الحقيقي بالداخل، والذي وضع الحجر الأساسي في نهضة إعلامنا هو فيلسوف الإعلام في هذا العصر الحميري، وهو دكتور وحاكم وقادر وخبير من خبراء الهلسفكيشن، وهو رجل معجزة بكل المقاييس لأنه خبير إعلام، مع أن شهادة الدكتوراه تبعه كانت من تفسير عبارة: لا تين ولا عنب زيك يا مشمش!

وهو في الأصل تلميذ للفيلسوف الإغريقي الشهير عمر الجيزاوي صاحب النظرية الفلسفية الشهيرة: اتفضل شاي لا أنا متشكر، كما أنه تلقَّى العلم على يد شاعر جاهلي مشهور صاحب المعلقة الخالدة «اسأل دموع عنية، اسأل مخدتي»، هذا الرجل المعجزة استطاع يومًا ما أن ينتج مسرحية كل خمس دقائق، وأن يصدر كتابًا كل ربع ساعة، وأن يخرج فيلمًا كل ليلة خميس! وهو في الحقيقة كان سر انتصار العصر الحميري في حرب الأيام الستة، والفضل في الانتصار كان لفلسفته العميقة التي تقول: إن الإعلام مجرد عوعوة ووعوعة وهلضمة وفتَّح عينك تاكل ملبن يا صاحب الحظ والنصيب!

وكان الدكتور إياه صاحب فكرة نشر الأخبار التي تركز على ضيوف بلادنا الكبار، وتسلط الكاميرا على الطائرة وهي في الجو، ثم الطائرة وهي في الأرض، ثم خروج الضيف وصحبه الكرام، ثم مشية الإوزة على البساط الأحمر، ثم استقبال الضيف بالأحضان والقبلات، ثم تقديم الزهور والورود والريحان، ثم مصافحة جميع المستقبلين من أول رئيس الوزراء إلى شيال الشنط في المطار، ثم تطارد الضيف في سيارته وأمامه الموتسيكلات تصرخ كما ذئب مجروح في ظلام الليل، ثم دخول الضيف إلى قصر الضيافة، وتظل تدور خلفه وهو يأكل ويشرب وهو يدخن، ولا تفارقه إلا عندما يرتدي جلبابه لينام!

ضربت البنت على صدرها بشدة وقالت: إذن لا توجد أخبار في نشرة الأخبار!

قلت: بل هناك الكثير من الأخبار.

تصريحات للوزير ومقابلات البيه المأمور مع البيه الغفير، ثم درجة حرارة الجو في رأس الخيمة وفي الدوحة وفي كفر الدوار وفي طبرق وفي الجزائر وفي تطوان.

قالت البنت: وأخبار العالم؟ قلت: ما لنا نحن والعالم! وما الذي يهمنا فيه؟ لقد اكتفينا بما لدينا، وما لدينا هو أهم الحوادث والأخبار.

قالت: إن رجلًا مثل هذا هو فلتة من فلتات العصر، لو كان في بلاد غير بلادكم لكرَّموه ومنحوه الهدايا والجوائز والإكراميات.

قلت: الحمد لله لأننا فعلنا نفس الشيء، وهو الآن يتربع على قمة المجالس الكونية المتهندسة.

قالت: إذن هو خبير في الهندسة!

قلت: بالطبع … والدليل على ذلك أنه يعتقد أن أبا العلاء المعري هو من كتَّاب الأدب المكشوف، ويؤمن بأن الجزائر هي مكان لإنتاج الفجل، والسبب أن باعة الفجل … في بعض أجزاء من بلادنا ينادون عليه: «فجل الجزائر يا ورور».

قالت البنت، وقد هاجت وساحت: يا سلام عليك! ما أخبثك يا حماري الحمار، تنقلني إلى عوالم غريبة ودنيا عجيبة وتجعلني أصعد وأهبط في غمضة عين! ولكن خبرني هل الشاعر الجاهلي إياه ترك لكم تراثًا تعتزون به؟

قلت: بالطبع … لقد ترك لنا ديوانًا واحدًا ولكن بثلاثة أسماء … ففي عهد الملك أصدر ديوانه بعنوان: الملك الصالح، فلما ذهب الملك وجاءت الثورة أعاد الشاعر طبع ديوانه، ولكن تحت عنوان: الثورة المباركة، فلما خفَتَ صوت الثورة وأفل نجمها أعاد الشاعر طبع ديوانه للمرة الثالثة، وفي هذه المرة كان بعنوان: الصحيح في التصحيح.

قالت البنت مندهشة: ولكنها عبقرية فذة أن يصدر الشاعر ديوانًا واحدًا في ثلاثة عهود مختلفة.

قلت: في الواقع العهود مختلفة ولكن الموضوع واحد، فالشاعر مدَّاح … مدح الملك والثورة والتصحيح بقصيدةٍ واحدة، وكان بيت القصيد فيها قوله:

وخير الحق أنك من هواء
وكل العاملين لكم سواء
ولو كانت ببطن الأرض دُور
لكانوا في الهوى أو في الهواء!

إن الشاعر بيَّاع، وقد باع بضاعته لكل الزبائن بعد أن أوهم كل زبون أن يبيعها له وحده، وهو هنا يسير على درب مواطن في بلادنا، ولا أذكر اسمه، يمتلك دكانًا لبيع الكباب في حي عابدين، كان اسم الدكان حاتي الملك، فلما ذهب الملك سماه حاتي الثورة، فلما ذهبت الثورة أطلق على الدكان اسم حاتي الانفتاح.

لقد تغيرت الأسماء لكنه يبيع نفس الصنف، ومع ذلك لم يكن الشاعر وحده في الميدان، بل هناك من هو أدهى وأمر.

قالت: هات ما عندك أيها الحمار قبل أن يطق لي عرق في نفوخي؛ فقد دوختني وراءك في مزايا العصر الحميري حتى كدت أطلب من الله أن يقلبني حمارة أهنأ بعيش الحمير.

قلت: بعض رجال الاقتصاد في بلادنا تولوا وضع أسس الاشتراكية، وأشرفوا على التأميم، وطبقوا الإصلاح الزراعي، وهم أنفسهم الذين وضعوا أسس الانفتاح وسنُّوا قوانينه.

قالت: عباقرة وأصحاب علم يضعون علمهم تحت أمر الشرعية وفي خدمتها.

قلت: لو كان الأمر كذلك لما جاءت سيرتهم في هذا المجال، ولكنهم أيامَ الاشتراكية كانوا أكثر حماسًا من الخواجة ماركس، وأكثر بطشًا من ستالين، وفي أيام الانفتاح أصبحوا أكثر انفتاحًا من ماركوس حاكم الفلبين، وأكثر عداءً للاشتراكية من شاه إيران، ولدينا مهندسون اشتركوا في بناء السد العالي وأشادوا بمناقبه وعدَّدوا منافعه، وكانوا هم أول من اقترحوا هدمه بعد ذلك، ولدينا من اغتنى أيام الاشتراكية ولعنوا سنسفيل جدودها عندما انقلب الميزان ومالت الريح.

قالت: وما العيب في ذلك؟ إن بعض الناس تؤمن بشيءٍ ثم تنقلب عليه عندما يكتشفون خطأهم، والرجوع إلى الحق فضيلة.

قلت: آه يا خواجاية! لم يكن هذا الموقف منهم رجوعًا إلى الحق ولكن رجوعًا عن الحق.

قالت: كيف؟ وما هو دليلك على ذلك؟

قلت: يا خواجاية، في بلادنا البعض منا يؤمن بنظرية: إن جاء الطوفان حُط ابنك تحت رجلك، ويؤمنون أيضًا بقول الشاعر:

مِلْ مع الريح إذا ما
لت وإلا فاحتمل

وما دام الاحتمال غير متوافر فالميل أسهل وأكسب، وهم مثل شجرة اللبلاب تميل مع الريح في كل اتجاه.

قالت: وشجرة اللبلاب تعيش رغم ضعفها، ولو أنها قاومت الريح لانكسرت، وهؤلاء الناس الذين يميلون مع الريح فلاسفة وحكماء.

قلت: الحقيقة يا خواجاية لا حكمة هناك ولا فلسفة، ولكنها سياسة: مشِّي حالك، وفتَّح عينك تاكل ملبن، وإن كان لك حاجة عند الكلب قل له: يا سيدي!

قالت البنت الفرنساوية: هذه حكمة عميقة لم أسمع قط مثلها، فإذا كان لك عند الكلب حاجة فكيف الحصول عليها إذا لم تقل له: يا سيدي؟! هل أنتم بوذيون؟

قلت: بل نحن في الحقيقة حوذيون.

قالت: لم أفهم مرادك.

قلت لها: الحوذي، أيتها الست الخواجاية، هو عربجي الحنطور، وهو يؤجر حنطوره لمن يشاء، وبشرط أن يفعل ما يشاء؛ إذا كان سكران يعربد كما يشاء، إذا كان صالحًا يتمتم بسم الله كما يشاء، والعربجي منبسط ومنشكع في الحالتين وآخر مزاج، ليس له أن يرفض أو يحتج؛ فهو يؤجر حنطوره فقط، وللمستأجر حق استغلاله كما يشاء، وما على العربجي إلا هز رأسه؛ علامة الموافقة والانسجام.

قالت: ولكنك لم تحدثني بما فيه الكفاية عن إعلامكم، لقد هربت من الموضوع كما تهرب العرسة من الثعبان.

قلت: لأن الموضوع شائك وخطير وكفيل بإدخال الهمِّ على القلوب والألباب.

قالت: بالعكس أريد أن أسمع.

قلت: كل عمدة على قطعة أرض من بلادنا لديه إذاعة لا شغل لها إلا الإشادة بحكمته والإفاضة بوصف عبقريته، وأنه هو وحده صمام الأمن والأمان، وهو وحده الولي صاحب الكرامات والمعجزات، إذا نطق بحديث أذاعته على مدار اليوم عشر مرات، ليس الحديث وحده، ولكن الحديث وصدى الحديث وتعليقات الدوائر السياسية على الحديث، واهتمام كل الدوائر بالحديث وما وراء الحديث.

قالت البنت الفرنساوية: يا له من عمل رائع! الإذاعة تشغل نفسها بالحديث، وما وراء الحديث، والصدى الذي تركه الحديث، والأثر الذي أحدثه الحديث، ما الخطر من وراء ذلك؟

قلت: بعض مشايخ بلادنا ينسون أنفسهم أحيانًا فيتحدثون فيما لا يعرفون؛ كنت في إحدى نواحي بلادنا ذات يوم، وإذا بي أسمع حديث شيخها في الإذاعة أكثر من عشر مرات في اليوم، وكان الحديث عن الحرب والسلام وتشابك المصالح واختلاف المقاصد والغايات، ولم يقل الشيخ شيئًا حول الموضوع، وكل ما نطق به عشر كلمات، كررها ألف مرة، وكان هذا هو الحديث كل الذي أحدث أثرًا في العالم — على حد قول الإذاعة — ولا الأثر الذي تركته قنبلة هيروشيما على سير الحرب بين أمريكا واليابان، عشر كلمات فقط نطق بها الشيخ: «الله سبحانه وتعالى هو يخلق الإنسان، والإنسان ما بيده شيء خالص.» إذا سأله المراسلون عن العلاقة بين الشرق والغرب قال العمدة: «الله سبحانه وتعالى هو يخلق الإنسان، والإنسان ما بيده شيء خالص.» يسألونه عن مصير البروسترايكا التي يرفع شعارها جورباتشوف، يقول: «الله سبحانه وتعالى يخلق الإنسان، والإنسان ما بيده شيء خالص.» يسألونه عن غزو أمريكا لبنما فيرد: «الله سبحانه وتعالى يخلق الإنسان، والإنسان ما بيده شيء خالص.» يسألونه عن الانتفاضة في أرض فلسطين والنهاية التي يتوقعها للمشكلة، فيقول: «الله سبحانه وتعالى يخلق الإنسان، والإنسان ما بيده شيء خالص.»

قالت البنت الفرنساوية وقد فتحت فاها دهشًا وإعجابًا: إن حديثًا مثل هذا ينبغي ترديده في اليوم أكثر من مائة مرة، ويبقى الاهتمام بأثره في أنحاء العالمين، ورصد ردود الفعل من حوله، فحديث مثل هذا هو غاية في الحكمة وآية في الكمال.

قلت: كيف يا خواجاية؟ اشرحي لي.

قالت: إن الرجل صاحب الحديث لا يريد أن يفصح عن رأيه بصراحة، ولكنه يلجأ إلى الإشارة دون الإثارة، ويكتفي بالتلميح دون التصريح، وترك كل شيء لإرادة الله سبحانه وتعالى؛ يسألونه عن الانتفاضة فيجيب: الله سبحانه وتعالى يخلق الإنسان، والإنسان ما بيده شيء خالص، ومعناها ببساطة: أن الله هو الذي خلق الانتفاضة، وما دامت الانتفاضة من خلق الله، فلا بد هي مستمرة بإذنه ومنتصرة بمشيئته.

قلت: لا، لقد بدت عليك أعراض العصر الحميري يا خواجاية، وتحتاجين الآن إلى إجازة لتخرجي إلى الشارع الأوروبي لتعيشي فيه فترةً؛ لترجعي إلى أصلك وتنتظمي في صفك، فأنا أخشى الآن أن تتحولي إلى أتان من فصيلتنا، وقد تحتاجين فيما بعد إلى عملية جراحية؛ لكي تعودي إلى صنف البني آدمين.

قالت: أهكذا أنت حانق وحاقد! والحنَق يذهب بالعقل، الحُمق يطمِس على القلب؛ ولذلك فأنت لا ترى شيئًا جميلًا في بلاد الحمير، مع أنني أكثر شوقًا الآن للسفر إليها، والعيش في ربوعها، والرحرحة على رمال صحراواتها، والبلبطة في مياه البِرَك والخلجان.

قلت: خير وبركة! لقد كسب العصر الحميري حمارة جديدة، وسيكون يوم دخولك العصر الحميري عيدًا قوميًّا على مستوى الأمة؛ لأن دخولك يثبت النظرية التي يقوم عليها مجتمعنا؛ وهي نظرية النشوء والارتخاء.

قالت: لم أفهم.

قلت للبنت الخواجاية: هل تعرفين دارون؟

قالت: طبعًا؛ إنه أعظم فلاسفة العصر.

قلت: وتسمعين عن نظريته؟

قالت: طبعًا؛ نظرية النشوء والارتقاء.

قلت: آه! هنا مربط الفرس.

قالت: كيف؟

قلت للست الخواجاية: دارون هذا مفلس ثقافة ومعرفة، وهو بالنسبة لكم فيلسوف الفلاسفة، ولعلك يا ست يا خواجاية تلاحظين أن فلسفة وفلاسفة تتكون منها نفس الحروف التي تتكون منها كلمات مفلس وإفلاس، وهو بالقطع كتب نظريته قبل أن يرانا، ولو أنه رآنا ما استطاع أن يعرف حقيقتنا. ونظرية أخينا دارون خاطئة من أساسها؛ لأنه أقامها على نظرية النشوء والارتقاء باعتبار أن كل نوعٍ ينشأ في البداية ثم يرتقي؛ هذه سُنة الكون عند عمنا دارون، لكن سنة الكون عندنا تختلف … فمثلًا نحن في البداية كنا بني آدمين من أحسن طراز، وأجدادنا ضربوا أعظم إمبراطوريتين في التاريخ؛ الفرس والروم، واستطاعوا أن يحكموا العالم المسكون وقتئذٍ، وامتدت إمبراطوريتهم من فرنسا إلى الصين، وأشاعوا في أرجائها العدل والرحمة، أضاءوا في جنباتها مشاعل العزة والنور، ومن مدارسهم تعلَّم الغرب، ومن معاهدهم خرجت الموسيقى والفلسفة وعلوم الهندسة والطب، وأجدادنا هم الذين اخترعوا أدب الرحلات، وهم الذين وضعوا علم الجغرافيا، وهم أول من وضع خريطة للعالم المعروف في زمنهم، وعساكرهم هم الذين حموا العالم من جنس التتار، وكان لنا خليفة يحكم نصف المعمورة، ويشتغل بيديه، ويحمل عمله على كتفيه ويدور به في الأسواق، وكان يأكل من ربحه الصغير؛ مع أنه كان يملك أغلب خزائن الأرض.

وكانت بدايتنا، أيتها الست الخواجاية، نبيًّا مرسلًا من السماء ما أعظمه! وما أكرمه! حذرنا ذات يوم بكلمات مضيئة: إنما هلكت الأمم من قبلكم؛ لأنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الفقير أقاموا عليه الحد.

وكان لدينا علماء امتد سيف الحاكم لرقابهم، لكنهم رفضوا أن يتفوهوا بكلام غير الحق، وكان لدينا بطل مشهور في بلادكم اسمه صلاح الدين، قاتلكم بالسيف وانتصر عليكم، وسر انتصاره أنه كان يضرب بسيف العدل، وبينما كنتم تعلِّقون الصليب على راياتكم، كان هو يحمل الله في أعماقه.

قالت البنت الفرنساوية وقد مسَّتها نشوة كأنها أصابتها عشوة: هل هكذا كان حالكم أيام زمان؟

قلت: وأكثر من هذا يا خواجاية! هل أذكر لك كوكبة الفرسان العظام؛ من أول سعد بن أبي وقاص وعمرو بن العاص وأبو عبيدة بن الجراح وخالد بن الوليد وموسى بن نصير وطارق بن زياد وصلاح الدين والظاهر بيبرس وعلي بك الكبير ومحمد بك أبو الدهب ومحمد علي وجمال عبد الناصر؟

قالت: هل قلت محمد بك أبو الدهب؟

قلت: نعم.

قالت: هل كان صاحب دكان في الصاغة؟

قلت: بل كان قائدًا عظيمًا؛ قلبه من ذهب، وسيفه من ذهب، ما دخل معركةً إلا وانتصر، ما دخل معركةً ضد جيش إلا وفرمه في المفرمة.

قالت: وما علاقتكم بكل هؤلاء الرجال العظام؟

قلت: كانوا بعض إنتاجنا ونماذج من بعض رجالنا، ولكننا للأسف الشديد كلما تطورنا تأخرنا؛ ولذلك نحن الذين أثبتنا خطأ نظرية دارون النشوء والارتقاء … لأن ما ينطبق علينا هو نظرية النشوء والارتخاء، أو النشوء والانحناء، أو النشوة والانفتاء … هل تعرفين الانفتاء؟

قالت البنت المتعالمة: لا، لم أسمع به بعد.

قلت: إذن هل تسمعين عن الانفتاح؟

قالت: نعم، وأعرف أن في بعض أجزاء بلادكم حركة انفتاح على وِدْنُه.

قلت: عفارم عليكِ يا خواجاية، الانفتاء هو الانفتاح، لكن بلغة الست والدتنا عليها رحمة الله، وأنا شخصيًّا كنت غاوي كورة وأنا طفل، وكنت ألعب بالكورة أحيانًا وبالحجارة في أغلب الأحيان، وكان حذائي ينفتح ويتمزق، وكانت أمي تصرخ في وجهي: كده! أهي الجزمة انفتئت؛ أي: انفتحت! والحمد لله هكذا نحن انفتأنا؛ أي: انفتحنا، وربنا هب لنا من لدنك رحمةً إنك أنت الوهاب.

قالت البنت وقد داخت وساخت: ولكن يا مضروب هذه نظرية جديدة، تستطيع أن تنال عنها الدكتوراه من فرنسا.

قلت: لا داعي للدكترة في هذا العصر؛ وخصوصًا ولدينا جامعات تمنح الدكتوراه للسادة الوزراء المحافظين، ولدينا دكاترة ليس لهم حصر.

قالت: إذن أنت يائس!

قلت: بل أنا بائس.

قالت: وما العمل؟ قلت: العمل!

سهل وبسيط.

قالت: كيف؟

قلت: على مهلِك يا خواجاية، فما زال حبل الكلام ممتدًّا، وكما أنه أيضًا طويل، فدعينا نأخذ قسطًا من الراحة اليوم ثم نبدأ حديثنا في الغد.

قالت: إذا جاء علينا الغد فأنا أشعر الآن أنني أكاد أحلِّق في الفضاء، وأطير وأظل أطير حتى أحط في بلاد الحمير.

قلت: يا مرحبًا بك في بلاد الحمير.

١ / ٥ / ١٩٩٠م

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤