صفحة من التاريخ

يرفع الستار عن غرناطة في القرن الخامس الهجري وعليها ملك اسمه باديس ابن حبوس بن ماكسين الصنهاجي ويلقب بالمظفر (٤٢٩–٤٦٥).

وصنهاجة قبيلة من قبائل البربر كثيرة العدد منتشرة بالمغرب، لا يكاد قطر من أقطاره يخلو منهم، وهم يتفرعون إلى بطون كثيرة، وكان لهم بالمغرب دولتان كبيرتان: دولة بني زيري بتونس، وقد أخذوا ملكهم من يد الفاطميين بالمغرب، ودولة الملثمين بالمغرب الأقصى وسُموا الملثمين؛ لأنهم يتلثمون ولا يكشفون وجوههم، وكثير من الصنهاجيين يبدو لا يعرفون حرثًا ولا زرعًا ولا فاكهة، وأموالهم الأنعام، وغذاؤهم اللحم واللبن، ولا يعرفون الخبز إلا أن يمر بهم بعض التجار فيأخذون منهم بعض الحبوب والدقيق، وكانوا وثنيين لم يسلموا إلا بعد فتح الأندلس، وهم أهل بأس وشدة، دوخوا الصحراء وجاهدوا من بها من أهل السودان، وحملوهم على الإسلام.

كان باديس هذا طاغية جبارًا بعيد الهمة شره السيف شجاعًا سفاحًا حازمًا مجرمًا مرهوب الجانب، هجم على غرناطة وملكها وتضخم به عمرانها؛ أمنت رعاياه في عهده من أن يعدو عليها عاد أو يطمع فيها عدو، فكانت مرهوبة الجانب من الخارج وإن كانت مصابة به وبحكامه في الداخل، وكان له وزير يهودي اسمه صموئيل بن نجدلا، حرّفه العرب إلى إسماعيل بن نغديله.

كان صموئيل هذا أو إسماعيل آية في الذكاء والدهاء والمكر وحسن التدبير وسعة الثقافة، عرف إلى العبرية العربية، فقرأ الكتب وحذق اللسان العربي والدين الإسلامي والفلسفة والرياضة والنجوم، وكان جمّاعًا للكتب، يقرؤها ويدعو إلى قراءتها، ويرضى ملكه بكل أنواع الرضا، حتى صار يكتب عنه كتبه مستفتحًا بالحمد لله وبالصلاة على رسوله محمد ، مزكيًّا للإسلام ذاكرًا فضائله، كما يريد سيده وكما يحب الناس، وهو في ثنايا ذلك يمكن لسلطانه وسلطان جنسه ولكن في تحفظ وتؤدة.

ومات صموئيل سنة ٤٥٩ فبكاه اليهود بكاء مرًا وحملوا نعشه وجزعوا لفقده.

وكان له ابن اسمه يوسف، كان جميلًا أعده أبوه ليخلفه، فعلّمه وأدّبه ومرّنه على أعمال الوزارة حتى حذقها، وجعله في خدمة ولي العهد بلكين بن باديس؛ فلما مات صموئيل خلفه ابنه يوسف وزيرًا لباديس، ولكن لم يكن يوسف كأبيه صموئيل دهاء، وإن كان مثله علمًا وذكاء. كان أبوه يسخو تمكينًا لسلطانه، ولكن ابنه كان يجمع المال تأييدًا لجاهه، وكان أبوه يمكن لليهود سرًا، فكان ابنه يؤيدهم جهرًا، وكان أبوه يؤيدهم في تحفظ، فأيدهم ابنه في غير تحفظ، وكان أبوه متواضعًا تواضع الدهاء، فجاء ابنه يعتز بالكبرياء، وكان أبوه يتظاهر باحترام الإسلام، فتظاهر ابنه بعداء الإسلام.

فتجمع الرأي العام في غرناطة على كراهيته وإن اختلفت أسباب الكراهية؛ هؤلاء يكرهونه لاستخراج الأموال منهم، وهؤلاء لكثرة توليته اليهود على مصالحهم، وهؤلاء لإفراطه في التجسس عليهم، وهؤلاء لقدحه في دينهم.

ثم ظهر على المسرح الشيخ الإلبيري وهو إبراهيم بن مسعود. كان فقيهًا أديبًا ورعًا زاهدًا، وكان يسكن غرناطة ويتولى بها بعض الأعمال، فسعى به يوسف ابن صموئيل إلى باديس فغضب عليه وأخرجه من غرناطة فسكن البيرة وانقطع بها إلى العبادة، وأخذ يقول شعر سهلًا في الزهد والندم والتوبة وذكر الله، فينتقل إلى غرناطة فيتناقله الناس ويلهجون بإنشاده ويترنّمون به أمام الجنائز وعلى المآذن وفي مجالس الوعظ، وحزَّ في نفسه ما فعل اليهودي معه، وما كان من سلطة اليهود، فأنشأ قصيدة هزت الرأي العام في غرناطة، وتجاوبت معه وعبرت عن مشاعره، فكانت النار في الهشيم يقول فيها١:
ألا قل لصنهاجة أجمعين
بدور الزمان وأُسد العرين
مقالة ذي مِقَة مشفق
يعد النصيحة زُلفى ودين
لقد زل سيدكم٢ زلة
تقرُّ بها أعين الشامتين
تخيَّر كاتبه كافرًا
ولو شاء كان من المؤمنين
فعزّ اليهود به وانتخوا
وتاهوا، وكانوا من الأرذلين
ونالوا مناهم وحازوا المدى
وقد كان ذاك وما تشعرون

•••

أباديس أنت امرؤ حاذق
تصيب بظنك نفس اليقين
فكيف خفي عنك ما يعبثون
وفي الأرض تضرب منا٣ القرون

•••

وكيف يتم لك المرتقى
إذا كنت تبني وهم يهدمون
وكيف استنمت إلى فاسق
وقارنته وهو بئس القرين
وقد أنزل الله في وحيه
يحذر عن صحبة الفاسقين

•••

وكيف انفردت بتقريبهم
وهم في البلاد من المبعدين
على أنك الملك المرتضى
سليل الملوك من الماجدين
وأن لك السبق بين الورى
كما أنت من جلة السابقين

•••

وإني حللت بغرناطة
فكنت أراهم بها عابثين
وقد قسموها وأعمالها
فمنهم بكل مكان لعين
وهم يقبضون جباياتها
وهم يخضمون وهم يقضمون
وهم يلبسون رفيع الكسا
وأنتم لأوضعها لابسون
وهم أمناكم على سركم
وكيف يكون أمينًا خؤون
ويأكل غيرهم درهمًا
فيُقصي، ويدنون إذ يأكلون

•••

ورخم قردهم داره
وأجرى إليه نمير العيون
وصارت حوائجنا عنده
ونحن على بابه قائمون
ويضحك منا ومن ديننا
فإنا إلى ربنا راجعون
ولو قلت في ماله إنه
كمالك كنت من الصادقين

•••

وكيف تكون لنا همة
ونحن خمول وهم ظاهرون
ونحو الأذلة من بينهم
كأنا أسأنا وهم محسنون
فلا ترض فينا بأفعالهم
فأنت رهين بما يفعلون
وراقب إلهك في حزبه
فحزب الإله هم المفلحون

عمل القصيدة في إلبيرة فسافرت إلى غرناطة فحفظتها القلوب وتداولتها الألسن وكان صباح، وكان مساء، وكان هياج.

ثم أُسدل الستار على مأساة من أفجع المآسي في غرناطة.

١  هذه القصيدة لم ترد في نفح الطيب، ولا في الإحاطة، ولا فيما بين أيدينا من كتب الأندلس وإنما عثر عليها الأستاذ دوزي فنشرها في الجزء الأول من نشرة «البحوث التاريخية والأدبية لإسبانيا في القرون الوسطى» سنة ١٨٤٩.
٢  بريد «باديس».
٣  في الأصل «منها».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤