في الأدب العربي (١)

طريقة في دراسة الأدب

قال ابن الحقيق:

إني إذا مالت دواعي الهوى
وأنصت السامع للقائل
واعتلج الناس بآرائهم
نقضي بحكم عادل فاصل
لا نجعل الباطل حقًا ولا
نرضى بدون الحق للباطل

وقال آخر، وقد دعاه عبد الملك بن مروان لقتال ابن الزبير فأبى:

فلست بقاتل رجلًا يصلي
على سلطان آخر من قريش
له سلطانه وعليَّ إثمي
معاذ الله من سفه وطيش

وقال أيمن بن خريم:

إن للفتنة هيطا١ بيِّنا
فرويد الميل منها يعتدل
فإذا كان عطاء فانتهز
وإذا كان قتال فاعتزل
إنما يوقدها فرساننا
حطب النار، فدعها تشتعل

هذه أشعار قيلت الأولى منها في صدر الإسلام، وقيلت الثانية والثالثة في العصر الإسلامي الأول والفتن مشتعلة، والناس تتوزعهم الأحزاب — كما هو شأننا اليوم — وكل يدعي الحق بجانبه، فإذا عجز اللسان عن الإقناع تكفّل السيف به.

وكان الناس ألوانًا كما نحن ألوان، وكل قطعة من هذه الأشعار تمثل لونًا من ألوانهم، بعض هذه الألوان زاه جميل، وبعضها قاتم وقور، وبعضها لماع زائف.

  • (١)

    فالقطعة الأولى تعرض لأجمل الألوان وأروعها وأحقها أن تكون مثلًا أعلى، يدعو هذا الشعر إلى أن الأهواء إذا اختلفت، والآراء إذا اشتبكت وتضاربت، يجب على الإنسان ألا يتجنب المعركة ولا يفر من الميدان، ولكن يبتعد عن الأهواء كلها، ويدرس الآراء كلها في دقة وإمعان، حتى يعرف صحيحها من باطلها، ولا ينخدع بزيفها، فإذا تبين له وجه الصواب أعلنه وأعلن التمسك به، فقضى بالرأي الذي يراه صوابًا وعدلًا وقاله قولًا فصلًا لا لبس فيه ولا إبهام ولا غموض ولا التواء.

    ثم هو لا يكتفي بالقول، فما القول إذا لم يُدعم بعمل؟ فلا يقر قراره حتى يكون الحق ويحل محل الباطل، ثم لا يكتفي بأنصاف الحلول، فإما الحق كله أو لا شيء غيره، فذلك قوله «ولا نرضى بدون الحق للباطل».

  • (٢)

    وثانية القطعتين وقعت على معنى جميل وقائلها لا يصطدم مع القائل الأول، ولكن يجاذبه، فهو يريد أن يقول: إنه لا يحب أن يقاتل من أجل انتصار شخص على شخص، ولا سيما إذا كان المقاتل مسلمًا والمقاتل مسلمًا، وهو قول إذا تُرجم إلى أقوالنا المعاصرة قيل إنه لا ينصر حزبًا ولا يقاتل حزبًا من أجل زعماء هذا وزعماء ذاك، ما دام الزعماء كلهم أبناء أمة واحدة، فالقتال في مثل هذا الموقف ليس قتالًا للحق ولكنه قتال للزعيم. وأنا أربأ بنفسي أن أقاتل لزعيم له الغنم وعليَّ الإثم، والقتال إن كانت نتيجته غنم شخص أيًّا كان، وخسارتي أيًّا كانت النتيجة، سفه وطيش؛ فذلك قوله:

    له سلطانه وعليَّ إثمي
    معاذ الله من سفه وطيش

    فإذا انضم إلى هذا المعنى السلبي ذلك المعنى الإيجابي في الأبيات الأولى وهو القتال للحق وفي سبيل الحق وفي نصرة الحق، لا للزعماء ولا للرؤساء فقد بلغ الغاية.

  • (٣)

    أما الأبيات الأخيرة فصاحبها شر الثلاثة. يقول: إذا أوقد الزعماء نار الفتنة فليوقدوها، ولا بأس بإيقادها، فكل فتنة تنتهي بمغانم، فإذا كان وقت القتال والتضحية فلأكن بعيدًا عن النار، أستمتع بمرآها ولكن بحيث لا تمسني لفحتها، وإذا كان وقت توزيع الغنائم والأسلاب ظهرت في الميدان وعلوت فوق هام المقاتلين والمضحين حتى أنال من المغانم أكبر نصيب.

    وقد عبر هذا الشاعر عن نفسية كل النفوس الشريرة في كل العصور، لا تسيرهم إلا شهواتهم، ولا يقدرون في الدنيا إلا مغانمهم، يريدون المغنم من غير تضحية، ويزعمون لأنفسهم الحقوق من غير أداء واجب، لا يراهم الرائي عند الغرم، ويتصدرون المحافل عند الغنم، الزعيم الحق عندهم هو من يظنون فيه أكبر مغنم لا أحق مطلب، ولا بأس عندهم أن يعلنوا أن خير زعيم اليوم هو من قالوا إنه شر زعيم أمس؛ لأن المغنم عنده اليوم ولم يكن عنده أمس، وأحكامهم على المسائل العامة تتقلب وتنعكس بين يوم وليلة تبعًا لإشاعات من يتولى الحكم ومن يعتزله، يحسب أمور الأمة كلها حسابًا دقيقًا على أساس كم يناله من النفع في هذه الحالة وكم يناله في تلك، ويضع هذا في كفه وذاك في كفة؛ وعلى هذا الأساس يصدر حكمه في نظم الحكم، وفي الوزارات التي تتولاه، وفي المشاريع التي تقدمها، فذلك قوله:

    فإذا كان عطاء فانتهز
    وإذا كان قتال فاعتزل

    فاللهم لا تكثر من أمثال هذا فينا.

  • (٤)

    وهناك نموذج رابع هو شر الجميع، فإن كان الأول يتحرى الحق وينصره، والثاني لا يقاتل لشخص ولا لزعيم فإن قاتل فإنما يقاتل لمبدأ، والثالث رجل نهّاز للفرص، يقبع، حتى إذا جاء وقت توزيع الأسلاب ظهر وطالب وغنِم. فهذا الرابع ليس كهؤلاء جميعًا، هو من نوع غير هذه كلها، هو لا يرتاح لهدوء الناس وطمأنينتهم، بل هو إذا نامت الفتنة أيقظها، وحرك العداوة والبغضاء بين الناس بما يخترع من أقاويل ويثير من كوامن، ويقول لهؤلاء ما يغضبهم ويقول لهؤلاء ما يثيرهم، ويحرف الكلام عن مواضعه ليبذر الشر، ويقول الناس ما لم يقولوا ليخلق الضغينة.

    حتى إذا تأججت النار واحتدم الغيظ واشتبك الخصوم في القتال نفض من ذلك كله يده، وزعم أنه لم يثر شرًّا ولم يدبر كيدًا، فكان كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكَ إِنِّي أَخَافُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِين، يحزن للطمأنينة إذا هي كانت، ويعمل للشغب ويفرح إذا هو كان، وكلما كثرت القتلى والصرعى ازداد غبطة وأمعن في التستر.

    ثم هو يهزأ بالذكر الحسن بعد الموت، والثناء على أفعاله إذا هو قُتل، فلا قيمة لشيء من ذلك كله عنده، وإنما القيمة كل القيمة في حياته سالمًا غانمًا.

    ذلك هو الفرار السلمي الذي يقول:

    وكتيبة لبستها بكتيبة
    حتى إذا التبست نفضت لها يدي
    فتركتهم تقص الرماح ظهورهم
    من بين منعقر وآخر مسند
    ما كان ينفعني مقال نسائهم
    وقتلت دون رجالها لا تبعد؟٢

هذه أصناف الناس في الفتن في كل زمان ومكان، وفي هؤلاء الشعراء جميعًا مزية الصراحة، فكل قد وصف نفسه أصدق وصف، على حين أن في الناس من الصنف الثالث أو الرابع ويزعم نفاقًا أنه من الصنف الأول أو الثاني. وعلى كل حال فليست تصلح أمة حتى يكثر فيها الأولون ويقل فيها الآخرون.

١  الهيط: الضجيج والجلبة.
٢  لبستها: خلطتها، ونقص: تكسر، والمنعفر الملقي في العفر وهو التراب، والمسند: المصروع أسند إلى ما يمسكه وبه رمق، ولا تبعد: لا تهلك وهي كلمة تقال ترحمًا على الميت.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤