في الأدب العربي (٣)

الشك قبل اليقين

مما عرف عن خصائص النهضة الحديثة الأوربية أنها طلعت على الناس بأسلوب جديد في البحث هاجمت به الأسلوب القديم، وهو التسليم بالمقدمات تلسيمًا لا يعلو إليه الشك، والاعتماد كل الاعتماد على القياس المنطقي، فالمقدمات تُؤخذ قضايا مسلَّمة، والبحث كل البحث في القياس وشكله وشروط الاستنتاج منه، فثار قادة النهضة على هذا النمط وصرخوا يطلبون الشك في المقدمات وبحثها وعدم التسليم بها حتى تُمتحن وتُجرب، وعدم التعصب في كل أشكاله، سواء كان تعصبًا لعقيدة اعتقدها أو دم انتسب إليه، أو قول فيلسوف كبير قاله، أو ميل شخصي يتفق مع مزاج الباحث، أو نظم ألّفها وتأثر بها أو نحو ذلك. فالباحث يجب أن يشك أولًا ليستيقن أخيرًا. والشك أصل من أصول البحث ويجب أن يسبق اليقين.

وكان من أسبق واضعي هذا المنهج والملحّين في النداء بالشك «فرنسيس بيكون»، ومن أقواله اللطيفة في ذلك:

لم أجد نفسي صالحة لشيء صلاحيتها لدراسة الحقيقة، ذلك أني منحت عقلًا له من النشاط والمرونة ما يمكنه من إدراك وجوه الشبه بين الأشياء، وله من الرزانة ما يعينه على تعرف وجوه الخلاف بينها، ولأني مُنحت رغبة في البحث، وصبرا على الشك، وغرامًا بالتفكير، وبطأ في الجزم، واستعدادًا للفحص، وعناية بالترتيب، ولأني خُلقت وليس لي ولع بالجديد ولا إعجاب بالقديم، وأكره كل أنواع الخداع.

فليَ طبيعة تألف الحقيقة ولها بها اتصال وثيق.

وجاء «ديكارت» فشكَّ وتعمق في الشك وقال: «أنفقت ما بقي من عهد الشباب في الارتحال، أزور الملوك في قصورهم، وأنخرط في سلك الجيوش، وأبادل الحديث رجالًا من ذوي المناصب المتفاوتة، والطبقات المتباينة، وأجمع من التجربة ألوانًا شتى، وأغوص بفكري فيما أصادف من تجارب لعلي أستفيد علمًا جديدًا».

وقال: «إن الحواس بطبيعة تركيبها لا تؤتمن على ما تنقله إلينا من علم، فليس لنا بد من الشك في أحكام العقل وفي الآثار الحسية معًا، لا نستثني من هذه أو تلك شيئًا، حتى ما يبدو منها بديهيًّا لا يحتمل الشك فالعالم ملئ بأنواع المادة، ولكن الحواس أنبأتنا بوجود الطبيعة، بكل ما فيها، والحواس غاشة خادعة١».
«ثم إننا نعتقد في النوم أمورًا، ونتخيل أحوالًا، ونحسب لها ثباتًا واستقرارًا، ثم نستيقظ فنعلم أن ما رأيناه أثناء النوم كان حلمًا، فما المانع من أن تكون تصوراتنا في اليقظة كلها خيالات لا حاصل لها؟ وليس هناك أمارات يقينية يمكن أن نميّز بها اليقظة من النوم بوضوح وجلاء٢».
وقال: «لاحظت أنني منذ سنواتي الأولى قد تلقيت طائفة من الآراء الخاطئة على أنها صحيحة، ومن ذلك حكمت أنه يجب أن أخلص نفسي من الآراء التي تلقيتها في الماضي، وأن أعاود البحث من أساسه إذا أردت إقامة شيء ثابت راسخ في العلوم٣».

«ولكن مهما شككت وأمعنت في الشك فستبقى لي حقيقة واحدة تبقى أمام الشك الجارف، وهي أن هناك ذاتًا تشك، فمهما ألححت في الشك فلن أشك في أني أشك».

ومن هذه النقطة بدأ تفكيره٤ وأفاض في الشك على أنه منهج في البحث٥.

•••

وفي الأدب العربي صفحات رائعة من هذا القبيل لعل أروعها صفحة الإمام الغزالي في حيرته العلمية وشكه وتحريه للحق، وسبقه لديكارت في لفتاته، وتسجيل ذلك كله تسجيلًا دقيقًا مُفصَّلًا في كتابه «المنقذ من الضلال» يقول: «لم أزل في عنفوان شبابي منذ راهقت البلوغ قبل بلوغ العشرين إلى الآن، وقد أناف السن على الخمسين أقتحم لجة هذا البحر العميق، وأخوض غمرته خوض الجسور، لا خوض الجبان الحذور، وأتوغل في كل مظلمة وأقتحم كل ورطة، وأتفحص عن عقيدة كل فرقة، وأستكشف أسرار مذهب كل طائفة، لأميز بين محق ومبطِل، ومتسنن ومبتدع، لا أغادر باطنيًّا إلا وأحب أن أطلع على بطانته، ولا ظاهريًّا إلا وأريد أن أعلم حاصل ظهارته، ولا فلسفيًّا إلا وأقصد الوقوف على كنه فلسفته، ولا متكلمًا إلا وأجتهد في الإطلاع على غاية كلامه ومجادلته، ولا صوفيًّا إلا وأحرص على العثور على سر صوفيته، ولا متعبدًا إلا وأترصد ما يرجع إليه حاصل عبادته، ولا زنديقًا معطلًا إلا وأتجسس وراءه للتنبه لأسباب جرأته في تعطيله وزندقته».

«وقد كان التفطن إلى درك حقائق الأمور دأبي وديدني من أول أمري، وريعان عمري، غريزة وفطرة من الله وضعتا في جبلتي، لا باختياري وحيلتي، حتى انحلت عني رابطة التقليد، وانكسرت علي العقائد الموروثة على قرب عهد سن الصبا، إذ رأيت صبيان النصارى لا يكون لهم نشوء إلا على التنصر، وصبيان اليهود لا نشوء لهم إلا على التهود، وصبيان المسلمين لا نشوء لهم إلا على الإسلام، وسمعت الحديث المروي عن رسول الله حيث يقول: «كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه» فتحرك باطني إلى معرفة حقيقة الفطرة الأصلية، وحقيقة العقائد العارضة بتقليد الوالدين والأستاذين، والتمييز بين هذه التقليدات، وأوائلها تلقينات، وفي تمييز الحق منها عن الباطل اختلافات، فقلت في نفسي: إنما مطلوبي العلم بحقائق الأمور، فلا بد من طلب حقيقة العلم ما هي؟ فظهر لي أن العلم اليقيني هو الذي ينكشف فيه المعلوم انكشافًا لا يبقى معه ريب، ولا يقارنه إمكان الغلط والوهم».

«ثم علمت أن كل ما لا أعلمه على هذا الوجه، ولا أتيقنه هذا النوع من اليقين، فهو علم لا ثقة به ولا أمان معه، وكل علم لا أمان معه فليس بعلم يقيني».

«ثم فتشت عن علومي فوجدت نفسي عاطلًا من علم موصوف بهذه الصفة إلا في الحسيات والضروريات، فقلت: الآن بعد حصول اليأس لا مطمع في اقتباس المشكلات إلا من الجليات، وهي الحسيات والضروريات، فلا بد من إحكامها أولًا … فأقبلت بجد بليغ أتأمل في المحسوسات والضروريات وأنظر: هل يمكنني أن أشكك نفسي فيها، فانتهى بي طول التشكيك إلى أن لم تسمح نفسي بتسليم الأمان في المحسوسات أيضًا، وأخذ يتسع الشك فيها ويقول: من أين الثقة بالمحسوسات وأقواها حاسة البصر، وهي تنظر إلى الظل فتراه وافقًا غير متحرك، وتحكم بنفي الحركة ثم بالتجربة والمشاهدة بعد ساعة تعرف أنه متحرك، وأنه لم يتحرك دفعة بغتة، بل على التدريج ذرة ذرة، حتى لم تكن له حالة وقوف، وتنظر إلى الكوكب فتراه صغيرًا في مقدار دينار، ثم الأدلة الهندسية تدل على أنه أكبر من الأرض في المقدار؛ هذا وأمثاله من المحسوسات يحكم فيها حاكم الحس بأحكامه، ويكذِّبه حاكم العقل ويخوِّنه تكذيبًا لا سبيل إلى مدافعته، فقلت: قد بطلت الثقة بالمحسوسات أيضًا. فلعله لا ثقة إلا بالعقليات التي هي من الأوليات كقولنا العشرة أكثر من الثلاثة، والنفي والإثبات لا يجتمعان في الشيء الواحد، والشيء الواحد لا يكون حادثًا قديمًا، موجودًا معدومًا، واجبًا محالًا».

«فقالت المحسوسات: بم تأمن أن تكون ثقتك بالعقليات كثقتك بالمحسوسات؟ وقد كنت واثقًا بي فجاء حاكم العقل فكذبني، ولولا حاكم العقل لكنت تستمر على تصديقي؟ فلعل وراء إدراك العقل حاكمًا آخر إذا تجلى كذب العقل في حكمه، كما تجلى حاكم العقل فكذب الحس في حكمه، وعدم تجلي ذلك الإدراك لا يدل على استحالته! فتوقفت النفس قليلًا وأيّدت إشكالها بالمنام، وقالت: أما تراك تعتقد في النوم أمورًا، وتتخيل أحوالًا، وتعتقد لها ثباتًا واستقرارًا، ولا تشك في تلك الحالة فيها، ثم تستيقظ فتعلم أنه لم يكن بجميع متخيلاتك ومعتقداتك أصل وطائل، فبم تأمن أن يكون جميع ما تعتقده في يقظتك بحس أو عقل — هو حق بالإضافة إلى حالتك، لكن يمكن أن تطرأ عليك حالة تكون نسبتها إلى يقظتك كنسبة يقظتك إلى منامك …»

«فلما خطرت لي هذه الخواطر وانقدحت في النفس حاولت لذلك علاجًا فلم يتيسر، إذ لم يكن دفعه إلا بالدليل، ولم يمكن نصب دليل إلا من تركيب العلوم الأولية، فإذا لم تكن مسلمة لم يمكن ترتيب الدليل، فأعضل هذا الداء ودام قريبًا من شهرين أنا فيهما على مذهب السفسطة بحكم الحال لا بحكم المنطق والمقال، حتى شفى الله من ذلك المرض وعادت النفس إلى الصحة والاعتدال، ورجعت الضروريات العقلية مقبولة موثوقًا بها على أمن ويقين، ولم يكن ذلك بنظم دليل وترتيب كلام، بل بنور قذفه الله في الصدر، وذلك النور هو مفتاح أكثر المعارف. فمن ظن أن الكشف موقوف على الأدلة المحررة فقد ضيّق رحمة الله الواسعة».

هذه النبذة القيمة أرجو أن تقرأها مرة واثنتين وثلاثًا قبل أن تسمع تعليقي عليها.

هذه صفحة رائعة للغزالي في ملاحظة نفسه، وإمعانه في الشك في كل ما تعلم وما تلقن.

لقد رفض بادئ بدء التقليد في العقائد، ورأى أنه ليس أساسًا صالحًا للعلم، فكل ذي دين يقلد أهل دينه، فإذا زعم أن دينه هو الحق بناء على هذا التقليد، فأهل الأديان الأخرى يستطيعون أن يقولوا مثل قوله، وإذا جاز أن يكون التقليد شعار العجزة والعامة فلا يصح أن يطمئن إليه الخاصة وأصحاب العقول القوية، فإن هؤلاء إنما يجب أن يعتمدوا على العلم اليقيني.

وما العلم اليقيني؟

يعرفه الغزالي بأنه «العلم الذي ينكشف به المعلوم انكشافًا لا يبقى معه ريب ولا يقارنه إمكان الغلط والوهم».

على هذا الأساس استعرض الغزالي ما تعلّمه من صغره وفي شبابه وشيخوخته فلم يجد فيها ما يصح أن يتصف بهذا الوصف؛ لأن أقصى ما يصح أن تستمد منه معلوماتنا ثبوتها هو المحسوسات والأوليات العقلية، وكلاهما لا يصح أن يُستند عليه، فالحواس خداعة من غير شك، والأوليات العقلية يعتريها الشك أيضًا إذ من المحتمل أن تكون الحالة عقلية، كحالة النائم، يعتقد بثبوتها مدة نومه، فإذا استقيظ بددها الانتباه، فما الذي يمنع أن تغشى الإنسان حالة أخرى ينظر فيها إلى العالم من زاوية جديدة، فيرى فيها أن حالة اليقظة كذلك مزيفة. ونظير هذا ما يحدث للصوفية، فإنهم يرون أن حالة اليقظة خداعة كخداع الحواس.

فأين الحق إذن؟

في هذا الطور — كما يحدثنا عن نفسه — أصبح سوفسطائيًّا لا يؤمن بشيء، ويشك في كل شيء.

هذا العقل القوي النهم المخلص، أراد أن يتثبت من موقفه، فاستعرض كل المعارف في زمانه لعله يجد فيها ما يطمئنه. فقال:
«ابتدأت بعلم الكلام، فحصّلته وعقلته، وطالعت كتب المحققين منهم، وصنّفت فيه ما أردت أن أصنف، فصادفته علمًا وافيًا بمقصوده غير واف بمقصودي لقد أحسنوا الذب عن السنة، والنضال عن العقيدة المتلقاة بالقبول من النبوة … ولكنهم اعتمدوا في ذلك على مقدمات تسلموها من خصومهم، واضطرهم إلى تسليمها إما التقليد أو إجماع الأمة، أو مجرد القبول من القرآن والأخبار، وكان أكثر خوضهم في استخراج مناقضات الخصوم ومؤاخذتهم بلوازم مسلماتهم، وهذا قليل النفع في حق من لا يسلم — سوى الضرورات — شيئًا أصلًا. فلم يكن (علم) الكلام في حقي كافيًا، ولا لدائي الذي كنت أشكوه شافيًا٦».

وبعد أن فرغ من علم الكلام اتجه إلى الفلسفة لعله يجد فيها طلبته فقال: «إني بعد الفراغ من علم الكلام ابتدأت بعلم الفلسفة، وعلمت يقينًا أنه لا يقف على فساد نوع من العلوم من لا يقف على منتهى ذلك العلم حتى يساوي أعلمهم … ثم يزيد عليه ويجاوز درجته، وإذ ذاك يمكن أن يكون ما يدعيه من فساده حقًا، ولم أر أحدًا من علماء الإسلام صرف عنايته وهمته إلى ذلك … فأطلعني الله على منتهى علومهم في أقل من سنتين، ثم لم أزل أواظب على التفكر فيه بعد فهمه قريبًا من سنة، أعاوده وأردده وأتفقد غوائله وأغواره».

وقد استخلص بعد البحث، أن فروع الفلسفة هي:
  • (١)
    رياضيات: وهذه أمور برهانية لا سبيل إلى مجاحدتها بعد فهمها ومعرفتها.
  • (٢)
    ومنطقيات: وهي النظر في طرق الأدلة والمقاييس، وهذه أيضًا لا تُنكر، غاية الأمر «أنهم يجمعون للبرهان شروطًا يعلم أنها تورث اليقين لا محالة، لكنهم عند الانتهاء من المقاصد الدينية ما أمكنهم الوفاء بتلك الشروط، بل تساهلوا غاية التساهل».
  • (٣)
    وطبيعيات: «وهي البحث عن عالم السماوات وكواكبها وما تحتها من الأجسام المفردة كالهواء والماء، والتراب والنار٧، والمركبة كالحيوان والنبات والمعادن وأسباب تغيرها واستحالتها وامتزاجها»، وذلك يضاهي بحث الطب عن جسم الإنسان وأعضائه الرئيسية والخادمة. وكما أنه ليس من شرط الدين إنكار علم الطب، فليس من شرطه أيضًا إنكار ذلك العسلم (علم الطبيعيات)، إلا في مسائل معينة ذكرناها في كتاب «تهافت الفلاسفة».
  • (٤)
    وأما الإلهايات: ففيها أكثر أغاليطهم. فما قدروا على الوفاء بالبراهين على ما شرطوا في المنطق، ولذلك كثر الاختلاف بينهم فيها ثم استرسل في بيان أغاليطهم ناظرًا فيها نظرة دينية.
  • (٥)
    ثم السياسيات، والأخلاقيات: وهذه لم يطل البحث فيها؛ لأنها مبنية على التجارب والمصالح، وعنده أن كلام الفلاسفة فيها حتى أرسطو وأمثاله مستمَد من أصول الدين الأولى.

والذي نلاحظه على نقده الفلسفة، أنه كما عاب الفلاسفة بعدم تقيدهم الشديد بقوانين المنطق، وقع هو في مثل هذا الخطأ، فلم يتقيد بما وضعه هو من أصول الشك والنقد، بل نظر إليها من خلال الدين. ولعل عذره أنه وضع كتاب «المنقذ من الضلال» بعد مروره في دور الشك واطمئنانه إلى الدين بما شرح الله به صدره.

•••

ثم انتقل إلى تعاليم الباطنية لعله يجد فيها الحق فلم يطمئن إليها وخاصة في بناء تعاليمهم على نظرية «الإمام المعصوم» وتبيّن له بعد البحث والتحري أن «ليس معهم شيء من الشفاء المنجي من ظلمات الآراء».

وأخيرًا وجّه همته إلى التصوف فاطمأن إليه وقال إنه أدرك بالذوق والسلوك ما لم يدركه بالبحث والنظر، وبه أدرك ثلاثة أصول: إيمان يقيني بالله وبالنبوة وباليوم الآخر. ورأى أن قصر الإيمان على منطق العقل تقصير، وأن وراء قضايا المنطق شعورًا ووجدانًا هو الذي يصح أن يُطمأن إليه في باب الدين.

هذه هي المراحل التي قطعتها نفس حائرة، وعقل مستنير هائم بالحقيقة متحر للحق، دقيق النظر لخطرات الفكر، مسجل لذلك في دقة وأمانة. لم يجد الغزالي في المنطق والمعقولات ومسلك المتكلمين والفلاسفة منقذًا من الضلال، فالدين لا يمكن أن ينال من هذا الطريق، ووجود الله وصدور الأفعال عنه، كما يقول: «أمور لا تتسع لها القوى البشرية»، إنما تدرك بالكشف والذوق والعاطفة وانشراح الصدر، وهذا هو ما وصل إليه بعض الفلاسفة أمثال ديكارت وباسكال٨.

ومما أعجبني في منهج الغزالي في البحث، تأكيده الشديد لوجوب التحرر من الاعتماد على معرفة الحق بالرجال مهما عظموا وطارت شهرتهم، وقد سماها بيكون «الأوهام المسرحية»، ويعني بها الأوهام التي انحدرت إلينا من مذاهب الأقدمين وعقائدهم وأقوالهم، ومثّل لذلك بما إذا قلت إن الشمس تدور حول الأرض، مستدلًا على ذلك بقول بطليموس.

وقد قال الغزالي قبله قولته اللطيفة في منهجه: «إن عادة ضعفاء العقول أن يعرفوا الحق بالرجال لا الرجال بالحق، وقد قال علي بن أبي طالب: «لا تعرف الحق بالرجال بل اعرف الحق تعرف أهله». والعارف العاقل يعرف الحق ثم ينظر في نفس القول، فإن كان حقًا قبله سواء كان قائله مبطلًا أو محقًا، بل ربما يحرص على انتزاع الحق من أقاويل أهل الضلال عالمًا بأن معدن الذهب الرغام، ولا بأس على الصراف إن أدخل يده في كيس القلاّب٩ وانتزع الإبريز الخالص من الزيف والبهرج، وإنما يزجر عن معاملة القلاّب القروي دون الصيرفي البصير، ويُمنع من ساحل البحر الأخرق دون السباح الحاذق، ويُصد عن مس الحية الصبي دون المعزم البارع».

•••

وقبل هؤلاء كلهم تنبّه المتكلمون وعلى رأسهم الجاحظ إلى قيمة منهج الشك والتفت التفاتة لطيفة إلى التفرقة بين الخاصة والعامة؛ فالعامة أسرع إلى تصديق كل ناعق، يغرهم القائل ويغرهم صاحب الحنجرة القوية ويغرهم التهويش. أما الخاصة فيعتمدون على المنطق، فلا يصدقون إلا ببرهان، ويتوقفون بالشك حتى يقوم الدليل؛ وفرق بين مواضع يصح فيها الشك، ومواضع لا يصح فيها، فعاب من أجرى الشك في كل الأمور، وحكى أن العلماء أجمعوا على أن الشك درجات، واختلفوا في أن اليقين درجات.

وأنا من رأي من يقول: إن اليقين أيضًا درجات.

قال الجاحظ: «اعرف مواضع الشك وحالاتها الموجبة لها لتعرف بها مواضع اليقين والحالات الموجبة له، وتعلَّم الشك في المشكوك فيه تعلمًا، فلو لم يكن في ذلك إلا تعرف التوقف ثم التثبت، لقد كان ذلك مما يحتاج إليه».

ثم اعلم أن الشك طبقات عند جميعهم، ولم يجمعوا على أن اليقين طبقات في القوة والضعف …

وقال أبو إسحاق (النظّام) نازعت من الملحدين الشاك والجاحد فوجدت الشكاك أبصر بجوهر الكلام من أصحاب الجحود، وقال: الشاك أقرب إليك من الجاحد، ولم يكن يقين قط حتى كان قبله شك، ولم ينتقل أحد عن اعتقاد إلى اعتقاد غيره حتى يكون بينهما حال شك …

والعوام أقل شكوكًا من الخواص؛ لأنهم لا يتوقفون في التصديق والتكذيب، ولا يرتابون بأنفسهم؛ فليس عندهم إلا التصديق المجرد، أو التكذيب المجرد، وألغوا الحال الثالثة من حال الشك التي تشتمل على طبقات الشك».

وسمع رجل ممن قد نظر بعض النظر تصويب العلماء لبعض الشك، فأجرى ذلك في جميع الأمور حتى زعم أن الأمور كلها يُعرف حقها وباطلها بالأغلب١٠.

وبعد، فهذه بعض صفحات قيمة من الأدب العربي في منهج البحث.

١  انظر قصة الفلسفة الحديثة.
٢  ديكارت للدكتور عثمان أمين.
٣  نفس المصدر.
٤  قصة الفلسفة الحديثة.
٥  انظر فصل الشك في كتاب ديكارت للدكتور عثمان أمين من ص ١٤٠–١٦١.
٦  المنقذ من الضلال.
٧  هذا ما كان يُعتقد في زمنه.
٨  انظر المقدمة التي وضعها الأستاذان جميل صليبا وكامل عياد لطبعة كتاب المنقذ من الضلال التي نشرها مكتب النشر العربي بدمشق.
٩  لعله يريد به «مزيف النقود».
١٠  كتاب الحيوان للجاحظ جزء ٦ ص ٣٥ وما بعدها من طبعة الحلبي التي نشرها الأستاذ عبد السلام هارون.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤