في الأدب العربي (٦)

إمامان عاشقان

كلاهما نشأ في بيت علم، وكلاهما أُعد ليكون عالمًا دينيًا كبيرًا، وكلاهما شاءت المصادفة أن يكون ممن يتزعمون مذهب أهل الظاهر «وهو مذهب يرى التمسك بظواهر القرآن والحديث وتقديمها في التشريع على اعتبار المصالح والمعاني المعقولة، ولذلك ينكر القياس».

وأحدهما كان في بغداد والآخر في قرطبة.

وقد كانت حياة أمثالهما تتطلب تجاهل الحب، وعدم الوقوع في حبائله، وغض النظر وكبت النفس، وترك ذلك لأهل الخلاعة والأدب.

ولكن ماذنبهما وليس مرد العشق إلى الرأي فيملك، ولا إلى العقل فيدرك، إنما هو كما قال الشاعر:

ليس أمر الهوى يُدبر بالرأ
ي ولا بالقياس والتفكير
إنما الأمر في الهوى خطرات
محدثات الأمور بعد الأمور

لا تدرك الأبصار مداخله، ولا تعي القلوب مسالكه، وهو كما قال أبو وائل: إن لم يكن طرفًا من الجنون فهو عصارة من السحر، فسواء كان صاحبه فقيهًا أو ديِّنًا ورعًا أو داعرًا فاجرًا، فهو إذا مس قلبًا صرعه وأذله:

لقد كنت ذا بأس شديد وهمة
إذا شئت لمسًا للثريا لمستها
أتتني سهام من لحاظ فأرشقت
بقلبي ولو أسطيع ردًا رددتها

هما محمد بن داود الظاهري وعلي بن حزم، وكلاهما لم يكتم الحب ولم يخفِه، بل أظهره واعترف به وألَّف فيه.

فأما محمد بن داود فنشأ في بيت زهد وفقر، كان أبوه — داود الظاهري — ملء الدنيا علمًا وفضلًا، وإليه انتهت رياسة العلم ببغداد، ولكنه أبى أن يتكسب شيئًا بعلمه، فهو يعيش أحيانًا على النخالة وورق الهندبا، ويأبى كل الإباء أن يمد يده لمعونة أحد، ويرد بأنفة وشمم ألف درهم يقدمها إليه جار له موسر.

وهكذا نشأ الفتى «محمد» في هذا البيت الفقير النبيل، وكان له هذا النوع من المزاج الرقيق الحاشية، اللطيف الحس، المشبوب العاطفة، الذي يرى الجمال فيهيم به قلبه، ويذهب فيه لبه، ولا حول له في ذلك ولا حيلة، إنما هي فطرة فطر عليها تلمحها في رقة جسمه، وتقاسيم وجهه، وقرب دمعته، ومظاهر رحمته، يحسبه الخلي خورًا في الطبيعة وضعفًا في النفس، ولكن المحب لا يرضي عنه ضعفه بقوة، ولا عن حبه بسلوة.

قال الخلي: الهوى محال
فقلت لو ذقته عرفته
فقال: هل غير شغل قلب
إن أنت لم ترضه صرفته
وهل سوى زفرة ودمع
إن لم ترد جريه كففته
فقلت من بعد كل وصف:
لم تعرف الحب إذ وصفته

وعلى هذا كان العذريون، وكان المجنون وأمثال المجنون.

أدرك هذا المزاج محمد بن داود وهو في صباه، فعشق وهو في الكتَّاب، ثم شب فشب معه الحب، ولم يمنعه حبه أن يبرع في علمه؛ ومن أجل هذا لما مات أبوه — وعمر هذا الشاب خمس وعشرون سنة — رآه العلماء جديرًا أن يخلف أباه في كرسيه لعلمه وفضله وإمامته.

ومن عجائب القدر وأشد المحن أن يقع عشقه على فتى بغدادي من أجمل أهل زمنه، كان يبيع العطر، اسمه محمد بن جامع الصيدلاني، وكتما الحب حينًا ثم اشتهر فلم ينكراه واتضح فلم يخفياه، وكان إمامًا في الدين وإمامًا في العاشقين؛ فكان عشقًا عفيفًا لم يأخذ الناس عليه هفوة، ولا اطلعوا منه على زلة، وهو نفسه يصف عشقه فيقول:

أنزه في روض المحاسن مقلتي
وأمنع نفسي أن تنال المحرما
وأحمل من ثقل الهوى ما لو أنه
على جامد الصخر الأصم تهدما
ويظهر سري عن مترجم خاطري
فلولا اختلاس الطرف عنه تكلما

هو نوع من العشق غريب، هو صداقة بولغ فيها فكانت عشقًا، صداقة تأسست على الجمال فكانت غرامًا، وصادفت مزاجًا رقيقًا فصارت هيامًا، وخضعت لكل مظاهر العشق من وصل وهجر، وأرق وضنى وعذاب ودلال:

فواعجبا للدهر لم يخل مهجة
من الحب حتى الماء يعشقه الخمر

هو في أشد الحيرة بين حب يأمر، ودين ينهي، وقبلة تشتهي وورع يحول، له كل عذاب الهجر وقليل من لذة الوصل.

وكان محبوبه «محمد بن جامع» يقدر حبه وإخلاصه فيواسيه بزيارته وبماله وبالحديث إليه، ومع هذا كله فابن داود هائم في حبه، معذب في غرامه، أنطقه الحب بالشعر فكان شاعرًا رقيقًا وإن لم يخل شعره من أثر الفقه، فمن قوله:

يا يوسف الحسن تشبيهًا وتمثيلا
يا طلعة ليس إلا البدر يحكيها
من شك في الحور فلينظر إليك فما
صيغت معانيك إلا من معانيها

•••

أشكو عليل فؤاد أنت متلفه
شكوى عليل إلى إلف يعلله
سقمي تزيد مع الأيام كثرته
وأنت في عظم ما ألقى تقلله
الله حرم قتلى في الهوى سفها
وأنت يا قاتلي ظلمًا تحلله

•••

حملت جبال الحب فيك وإنني
لأعجز عن حمل القميص وأضعف
وما الحب من حسن ولا من سماحة
ولكنه شيء به النفس تكله

إلخ إلخ.

وأكسبه العشق رقة ولطفًا، فكان فقيهًا رقيقًا لطيفًا. اعتاد أن يدخل جامع بغداد من باب اسمه «باب الوراقين»، ثم هجر الدخول منه، فسُئل في ذلك فقال كنت داخلًا يومًا فرايت متحابين يتحادثان فتفرقا إذ رأياني، فآليت ألا أسير في مكان فرقت فيه بين محبين. وكان في مجلس فقهه فدفعت إليه رقعة ظنها أصحابه مسألة فقهية، فأخذها وكتب الرد في ظهرها، فإذا السائل ابن الرومي وقد كتب فيها:

يا ابن داود يا فقيه العراق
أفتنا في قواتل الأحداق
هل عليهن في الجروح قصاص
أم مباح لها دم العشاق

وإذا رد ابن داود عليها:

كيف يفتيكم قتيل صريع
بسهام الفراق والأشقياق
وقتيل التلاق أحسن حالا
عند داود من قتيل الفراق

لقد وقفته الظروف الاجتماعية موقفًا حرجًا، فطبيعته طبيعة غزلة، ولو طاوعها وجرى على هواها لكان فنانًا أديبًا، يهيم بالحسن كما ينبغي، ويقول في الجمال ما يشتهي، ولكان كالعباس بن الأحنف أو أبي نواس أو أبي تمام أو البحتري، اعتاد الناس — في أمثالهم — أن يطلقوا لهم حريتهم في الفعل والقول، فهم يهيمون في كل واد، ويسبحون في كل خيال، ويذهبون في كل فن، والناس يعجبون بما يجيدون ولو خالف أوامر الدين وأوامر الخلق، يقابلون بالاستحسان خمريات أبي نواس وغلمانياته، وغلمانيات المطيع بن إياس والبحتري وأبي تمام، ولا يرون في ذلك حرجًا في باب الفن وإن تحرج منه رجال الخلق والدين.

ولكن ابن داود وقع بين شقي الرحى، له طبيعة العزلين وحياة رجال الدين، هو مخلص لحبه، مخلص لدينه، والحب يدعوه لخلع العذار، والدين يدعوه للتزمت والوقار، فما أحرجه من موقف وما أشدها من حيرة! وليته عشق العشق الطبيعي، حب الجواري الحسان والحور العين، ولكنه وقع في حب غلام، وهو أبعد عن الدين وأقدح في سيرة المتقين، فكان في ذلك شأنه شأن معاكسة الظروف للطبيعة، فتجعل من الأديب طبيبًا ومن الطبيب أديبًا، ومن الفيلسوف نجارًا ومن الشاعر محاربًا.

ولما تيَّمه الحب تسلى بأن يؤلف كتابًا في العشق، فكان من أوائل ما ألّف في هذا الباب، وقد سماه «الزهرة» ومن حسن حظنا أن قد وصل إلينا جزء منه نحو نصفه.

لقد كان همه في هذا الكتاب أن يختار مما قيل في العشق من شعراء العصر الجاهلي إلى معاصريه من أمثال البحتري وابن الرومي، ثم قسَّمه قسمين، فقسم وهو الذي وصل إلينا — وزَّعه على خمسين حالة من أحوال العشق، عنون كل حالة بحكمة مسجوعة، مثل «من كثرت لحظاته دامت حسراته»، «من طال سروره قصرت شهوره»، «من كان ظريفًا فليكن عفيفًا»، «ما خلق الفراق إلا لتعذيب المشتاق»، «من وفَّى له الحبيب هان عليه الرقيب» وتحت كل عنوان من هذه العناوين يورد ما يناسبه من الشعر، وقد يقدم له بمقدمة نثرية في فلسفة الموضوع لم يكن أسلوبه فيها مشرقًا إشراقه في الشعر، وفي كثير من الأحيان يذكر لنفسه شعرًا في الباب، ولكنه لا يصرح بأن الشعر له، بل يقول: «قال بعض أهل هذا العصر، وقال بعض أهل هذا الزمان» — وإذ كان محدثًا تأثر بالمحدثين في تبويب الأبواب وجعل الأحاديث المتصلة بموضوع واحد تحت عنوان واحد، ولكنه عبَّر عنها تعبير أديب لا تعبير محدث — وهو متأثر أيضًا بالمحدثين في تنبيهه على اختلاف مذاهب الشعراء في الحب كاختلاف الفقهاء في الرأي؛ فمثلًا يعقد بابًا فيقول: «أشعار هذا الباب مضادة للأشعار التي قبلها؛ لأن في أشعار الباب الماضي تحريضًا للمحب على إظهار محبوبه على ما له في نفسه، ولومًا لمن كتم عن صاحبه ما يجده به وما يلقاه بسببه، وأشعار هذا الباب إنما هي تحريض على الكتمان وتحذير من الإعلان، والعلة في هذا إلخ».

وهو — إلى إطلاعه الواسع على شعر الشعراء — مطلع على ما نقل عن فلاسفة اليونان في العشق كبطليموس وجالينوس وأفلاطون حسبما ترجم منه في عصره.

ثم هو في اختياره رقيق الذوق جيد التقدير، ليس يقتصر على الإنشاد، بل يتبعه بالإنشاء، وشعره الذي ينشئه في الأبواب المختلفة رقيق لطيف وإن لم يخل من لمحات فقهية كقوله:

أريتني النجم يجري بالنهار فلا
فرقًا أرى بين إصباحي وإمسائي
أخفيت حبك حتى قد ضنيت به
فصار يظهر ما أخفيه إخفائي

وقوله:

وتزعم للواشين أني فاسد
عليك، وأني لست ممن عهدتني
وما فسدتْ لي — يشهد الله — نية
ولكنما استفسدتني فانهمتني
غدرت بعهدي عامدًا وأخفتني
فخفت ولو آمنتني لأتمنتني
إلى الله أشكو لا إليك فطالما
شكوت الذي ألقى إليك فزدتني

إلخ إلخ.

وله شخصية واضحة فيما يختار، وكثيرًا ما يحكِّم حبه فيما يعرضه من شعر، فهو يفضِّل قول القائل:

يقولون صبرًا يا يزيد إذا نأت
ويا رب لا ترزق على حبها صبرا

على قول المجنون:

فيا رب سو الحب بيني وبينها
كفاء فلا يرجح لليلى ولا ليا

وهو يرى خطأ الذين يقولون إن كثرة العذل تزيد الحب، ويرى أن العذل لا يزيد المحبة ولا ينقصها، وإنما هو يزيد في الإشفاق على المحبوب، ويتخوف أن يؤثر فيه العذل فيستمسك بحبه فيظن أنه زاد إلخ.

وكثيرًا ما يعلن استحسانه واستهجانه لما يروي، فيقول وقد لطف أبو تمام إذ يقول:

وإذا فقدت أخًا ولم تفقد له
دمعًا ولا صبرًا فلست بفاقد

وينقد البحتري نقدًا شديدًا في قوله:

لي خليل قد لجّ في الصرم جدا
وأعاد الصدود منه وأبدى

إلى أن يقول:

أغتدي راضيًا وقد بت غضبا
ن وأمسي مولى وأصبح عبدا
أتراني مستبدلًا بك ما عشـ
ـت بديلًا أو واجدًا منك ندا
حاش لله أنت أفتن ألحا
ظًا وأحلى شكلًا وأملح قدا

فينقده ابن داود في إعلانه أنه يتغير في هواه، فمرة يرضى ومرة يسخط، وهي حال خسيسة، والمحب الصادق إذا غضب فإنما يغضب ظاهره، وقلبه متيم أبدًا على حبه، كما ينقده في أنه بنى حبه على ما يستحسنه من قده وحسن صورته، وإذن فإذا تغير حسنه أو وجد من هو أحسن منه تركه، وليس ذلك شأن الحب الحق، فإنه يحبه لأنه هو هو، لا لحسن صورته ولا لأي سبب آخر. وهكذا يتم الكتاب.

ومزاج رقيق مثل هذا، وحب مضن كالذي رأيت، وحيرة شديدة بين حب القلب وتقاليد الحياة، قلما يسمح لصاحبها بعمر طويل وصحة طيبة. وقد سُئل في مرض موته: ماذا تشكو؟ قال: حب من تعلم صيرني إلى ما ترى. فمات شابًا في الثانية والأربعين من عمره سنة ٢٩٧. رحمه الله.

•••

أما الإمام ابن حزم فله شأن آخر، لئن اتفق هو وابن داود في إمامته وفقهه وعشقه فقد اختلف عنه في أشياء كثيرة:

فإن كان ابن داود نشأ في بيت زهد وفقر، فقد نشأ ابن حزم في بيت عز وجاه وغنى وثروة، فكان أبوه — أبو عمر أحمد — وزيرًا خطيرًا من وزراء المنصور ابن أبي عامر، وناهيك بالمنصور عظمة وقوة، وجبروتًا وأُبَّهة، وضخامة ملك، فكان وزراؤه صورة مصغرة منه.

لقد ولي الخلافة بالأندلس هشام بن الحكم وهو صبي، فاستبد المنصور بالملك، ونكَّل بكل رأس قوي، وأخضع كل شيء في الدولة لإرادته، وحذا حذو المشرق في الحجر على الخليفة، وترك الخليفة يلهو ويلعب في قصره، ولا يرونه. وأُحيط بكل صنوف اللهو وبكل مخرِّف دجال؛ فعنده ثمانية حمير كلها من نسل حمار العزيز، وعنده أخشاب كثيرة من خشب سفينة نوح، وثلاث من نسل غنم شعيب، وحوله المشعوذون من ذوي اللحية الحمراء، ومن تسمى بياسين واليسع، ونحو ذلك من غرائب الأسماء. أما الملك والسلطان وإدارة ما قل من الشئون وجل ففي يد المنصور بن أبي عامر، وكان المنصور هذا — إلى قسوته وجبروته وتنكيله بخصومه — عادلًا في الرعية حذرًا يقظًا لكل كبيرة وصغيرة، وكريمًا، قد حفل مجلسه بالعلماء والأدباء كصاعد بن الحسن البغدادي وابن شهيد وأمثالها — وقد أعاد للدولة هيبتها عند نصارى الأسبان، فأعاد الغزو بنفسه إلى دار الحرب، وغزا ستًا وخمسين غزوة لم تنتكس له فيها راية ولا فل له جيش، ووطئت أرجل جيشه بلادًا وأرضًا لم تطأها أقدام المسلمين من قبل، وكان طبيعيًّا أن تكثر السبايا من النساء الإسبانيات، فكانت توزع على الجيش الظافر، وتختار الصفايا للمنصور بن أبي عامر، وهو يهدي منها وزراءه ورجاله، فيهدي إلى ابن شهيد الأديب الشاعر — مرة — ثلاث فتيات من أجمل الفتيات، وقد امتلأت بيوت الأندلسيين بالرقيق من الإسبانيات والبربريات والصِّقِلِّييات وغيرهن، كما امتلأت بيوت المشرق بالفارسيات والروميات وأمثالهن.

وكن حلا لمن ملكهن، وبولغ في تعليمهن الغناء والأدب، فكان منهن في بيوت النبلاء المغنيات المتفننات والأديبات البارعات، كما كان شأن أمثالهن في العراق.

لهذا كان البيت الذي نشأ فيه ابن حزم بيتًا غنيًّا، فيه الخدم والحشم، والفتيات الجميلات من السبايا توزع على أفراد الأسرة فيكن ملك أيمانهم، وكان لأبيه البيوت الكثيرة للمشتى والمصيف تزخر بضروب الترف والنعيم؛ ومع هذا كله تثقف ابن حزم من صغره ثقافة واسعة صادفت استعدادًا جيدًا، حتى كان منه عالم الأندلس، وأوسع علمائها معرفة بالدين وأصوله، ومذاهب الفرق الدينية والحديث والتاريخ واللغة والأنساب، إلى الأدب والشعر، وهو يؤلف في كل ذلك، ويخلِّف من تآليفه نحو أربع مئة مجلد، وهو في تأليفه مجتهد لا مقلد، لا يتحرج من أن ينقد أكبر إمام ويخالفه ويقيم الحجة عليه — وقد شاهد زوال دولة بني عامر، والنكبة التي نكبت بها هي وأتباعها، وقد رُوِّع هو وأهله بهذه النكبة فأصيبوا في أنفسهم وأموالهم، فصبر على ذلك متجلدًا ثابتًا، يرى السلوة عن ذلك كله بما وفقه الله إليه من علم ودين.

ومن ألطف ما خلَّف لنا كتاب في العشق سماه «طوق الحمامة» ليس ككتاب «الزهرة» في منحاه ولا في عرضه — لقد كان ابن حزم أعمق معرفة بالنفس الإنسانية، يدل عليه خطراته اللطيفة في كلماته في «الأخلاق» وهو كثير التجربة دقيق التحليل النفسي، وقع في العشق وجرَّبه من صباه كذلك، ورأى من أصناف الفتيات والنساء ما لا يُعد، وسمع من أحاديث النساء والرجال في الحب ما لا يُحصى، وقرأ من أخبار الخلفاء الأندلسيين وأتباعهم الشيء الكثير في الحب والعشق، فوعاه كله وسلَّط عليه تحليله وقال فيه شعره، وحكى ما سمع وما رأى، فكان من ذلك كله «طوق الحمامة» — لم يجمع ما قيل من الشعر في الغزل ويختر منها كما فعل ابن داود، فذلك كما يقول متوافر في الكتب؛ ولكنه أراد أن يبتكر فيصف حالات النفس في الحب ويقول في ذلك شعره هو، فباب ماهية الحب و«من أحب من نظرة واحدة» و«من أحب صفة لم يستحسن غيرها مما يخالفها» و«طي السر» و«الإذاعة» و«الوصل» و«الغدر» و«الضنى» و«السلو» إلخ. وهو يدعم نظرته في كل باب بالأحداث التي حدثت له ولغيره، فيطلعنا من ذلك كله على أشياء قيمة في وصف الحياة الاجتماعية في عصره في الأندلس، وهو فيما يذكر عن نفسه وغيره صريح لا يمجمج، وإذا رأى تسمية الأشخاص ضارة بهم لا يذكر أسماءهم ويكتفي بذكر ما جرى لهم.

يحدثنا عن نفسه كثيرًا، فهو في مزاجه متئد رزين، فإن كان بعض الناس يحب من نظرة واحدة فهو يقول: «لا أحب إلا مع الزمن الطويل وبعد ملازمة الشخص لي دهرًا، وأخذي معه في كل جد وهزل»، وهو كذلك متئد في سلوه وتوقه «فما نسيت ودًا لي قط، وإن حنيني إلى كل عهد تقدم ليغصَّني بالماء ويشرقني بالطعام»، وهو مع اتئاده «عميق» «فما فارقني الإطراق مذ ذقت طعم فراق الأحبة، وإنه لشجى يعتادني وولوع وهمُّ ما ينفك يطرقني.. وإني لقتيل الهموم في عداد الأحياء، ودفين الأسى بين أهل الدنيا».

وللناس أذواق في حبهم وعشقهم ليست خاضعة لشروط الجمال، وربما كان ذلك راجعًا لأول عهدهم بالحب فيلازمهم «فإني أعرف من كان أول علاقته بجارية مائلة إلى القصر فما أحب طويلة بعد هذا، وأعرف أيضًا من هوى جارية في فمها فوه لطيف، فكان يتقذر كل فم صغير ويذمه، ويكرهه الكراهية الصحيحة، وعنّي أخبرك أني أحببت في صباي جارية لي شقراء الشعر فما استحسنت من ذلك الوقت سوداء الشعر ولو أنه على الشمس أو على صورة الحسن نفسه، وإني لأجد ذلك في أصل تركيبي من ذلك الوقت … وهذا العارض عرض لأبي، وعلى ذلك جرى إلى أن وافاه أجله، وأما جماعة خلفاء بني مروان ولا سيما ولد الناصر منهم فكلهم مجبولون على تفضيل الشقرة لا يختلف في ذلك منهم مختلف، وقد رأيناهم ورأينا من رآهم … فما منهم إلا أشقر نزاعًا إلى أمهاتهم»١.

ويصف هيبة المحبوب فيقول: «ولقد وطئت بساط الخلفاء، وشاهدت محاضر الملوك، فما رأيت هيبة تعدل هيبة محب لمحبوبه، ورأيت تمكن المتغلبين على الرؤساء، وتحكم الوزراء، وانبساط مدبري الدول، فما رأيت أعظم سرورًا بما هو فيه من محب أيقن أن قلب محبوبه عنده، ووثق بميله إليه، وصحة مودته له؛ وحضرت مقام المعتذرين بين أيدي السلاطين، ومواقف المتهمين بعظيم الذنوب مع المتمردين الطاغين، فما رأيت أذلَّ من موقف محب هيمان، بين يدي محبوب غضبان، قد غلبه السخط وغلبه عليه الجفاء، وكنت في الحالة الأولى أشد من الحديد وأنفذ من السيف، لا أجيب إلا الدنيِّة، ولا أساعد على الخضوع، وفي الثانية أذلُّ من الرداء وألين من القطن، أبادر إلى أقصى غايات التذلل لو نفع، وأغتنم فرصة الخضوع لو نجع، وأتحلل بلساني، وأغوص على دقائق المعاني ببياني، وأفتن القول فنونًا، وأتصدى لكل ما يوجب الترضي».

ويحكي فعل البين والفراق به، وعمق أثرهما في نفسه فيقول: «كنت أشد الناس كلفًا وأعظمهم حبًّا بجارية لي كانت — فيما خلا — اسمها «نعم» وكانت أمنية المتمني، وغاية الحسن، خَلْقًا وخُلُقًا وموافقة لي … وكنا قد تكافأنا المودة ففجعتني بها الأقدار، واخترمتها الليالي ومرُّ النهار. وسني حين وفاتها دون العشرين سنة، وكانت هي دوني في السن. فلقد أقمت بعدها سبعة أشهر لا أتجرد عن ثيابي ولا تفتر لي دمعة، على جمود عيني وقلة إسعادها — وعلى ذلك فو الله ما سلوتها حتى الآن، ولو قبل فداء لفديتها بكل ما أملك من تالد وطارف، وببعض أعضاء جسمي العزيزة علي مسارعًا طائعًا، وما طاب لي عيش بعدها ولا نسيت ذكرها ولا أنست بسواها».

وقصَّ علينا مأساة له ولأسرته ولمن أحب فقال: إنه أحبَّ جارية نشأت في داره، وكان إذ ذاك في سن الصبا، وكانت سنها ستة عشر عامًا، وهي غاية في حسن وجهها وعقلها وعفافها، تزدان بالمنع والبخل، ما لا يزدان غيرها بالسماحة والبذل، وكانت تحسن الضرب على العود إحسانًا جيدًا، فأحبها حبًا مفرطًا، وسعى عامين في أن تجيبه بكلمة فلم ينجح، وحدث في أيام عزه وجاه أبيه أن كان في بيتهم حفلة كبيرة من مثل التي تقام في دور الرؤساء تجمعت فيها الأقارب من رجال ونساء، وكان الزائرون يتنقلون من غرفة مشرفة على بستان الدار وعلى جميع قرطبة إلى أخرى، وابن حزم يتبعها في الغرفة التي تنتقل إليها فتهرب منه، ثم نزل النساء إلى البستان، وأخذت الفتاة تضرب على العود، وتغني بأبيات للعباس بن الأحنف:

إني طربت إلى شمس إذا غربت
كانت مغاربها جوف المقاصير

فكان ضرب عودها يتناغم مع ضربات قلبه.

ثم نُكبت أسرة ابن حزم بذهاب دولة المنصور بن أبي عامر وامتُحن أهله بالاعتقال والمراقبة والتغريم الفادح بالمال، ثم توفي والده وأُجلي أهله عن منازلهم، وخرج ابن حزم عن قرطبة وتغيَّب ستة أعوام ثم عاد إلى قرطبة سنة ٤٠٩ ونزل عند بعض أقاربه، فوجد هذه الجارية وقد تغيرت محاسنها حتى كاد لا يعرفها، وفنيت بهجتها وغاض ماؤها، لحرمانها من النعيم الذي كانت تعيش فيه، وعدم صيانتها التي كانت أيام جاه أبيه، وتبذّلها في الخروج لقضاء ما لا بد منه، وإنما النساء رياحين متى لم تُتعهد ذبلت، وحسنهن أقل من حسن الرجال احتمالًا.

ويحدثنا أنه نزل مرة أخرى عند قريبة له في قرطبة فوجد عندها من أقاربها فتاة كانت قد تربّت معه، فلم تتحجب عنه عند نزوله في الدار على جاري عادتهم، وكانت في غاية الحسن والملاحة والصباحة، فأقام في الدار ثلاثة أيام وكاد قلبه يصبو ويعاوده منسي الغزل، فامتنع من دخول تلك الدار خوفًا على لبِّه أن يذهب به الاستحسان.

ولقد عجب من نفسه أن يكتب مثل هذا الكتاب في الحب وهو في أوقاته الحرجة، وهذا الموضوع إنما يحسنه خلي البال فارغ القلب، فأما هو فكما يقول: ذهنه متقلب، وباله مشغول، وقلبه محطم، مما هو فيه من نبو الدار، والبعد عن الأوطان، وتبدل الأيام، وذهاب الوفر، والخروج عن الطارف والتالد، واقتطاع مكاسب الآباء والأجداد والغربة في البلاد، وذهاب المال والجاه والفكر في صيانة الأهل والولد، ومدافعة الدهر وانتظار الأقدار «لا جعلنا الله من الشاكين إلا إليه، والذي ترك أعظم من الذي أخذ، وكل عارية فراجعة إلى معيرها جعلنا الله من الصابرين».

شخصية كبيرة تلك التي تحتمل هذا الحب وضناه، وتحتمل هذه المحن كلها، من مصادرة مال، وتعذيب أهل، وغربة وطن، وذهاب جاه، ثم هو في هذا الجو الغائم القاتم يصفو ذهنه ويقبل على التأليف حتى في الحب، ويسمو بالعلم فوق السمو بالجاه، فيحفظ اسم ابن حزم المحب العالم ويموت اسم أبيه الوزير، ويعوّضه الله عن ماله وجاهه الذي فقد علمًا وذكرًا لا يُفقد. ولئن كان ابن داود يذوب حبًا ويتفانى عشقًا، فيكون كالزهرة اللطيفة لا صبر لها على الأعاصير وأحداث الزمان، فابن حزم محب قوي، يضطرب للحب ولكن يستطيع أن يصبر له ويتغلب عليه كما يستطيع أن يصبر على نوائب الدهر وأحداث الزمان، فإن فقد الحبيب عاش بذكراه، وإن فقد جاه المال خلق جاه العلم، وإن فقد دنيا النعيم خلق لنفسه دنيا الفكر والبحث والتأليف، ووجد فيها أكبر لذة وأفضل نعيم. اجتمع عليه ضنى الحب ولذعة الذكرى واضطهاد الدولة وتألب كثير من علماء وقته عليه؛ لأنه هاجم أئمتهم في جرأة وصرامة، حتى لقد شبهوا لسانه بسيف الحجاج اجتمع عليه كل ذلك فلم يأبه له، ولم يفتّ في عضده، حتى مات سنة ٤٥٦ عن نحو اثنين وسبعين عامًا. وقد ذُكر أن فيه خصلتين غلبتا عليه، وفاء لمن صادق أو أحب، وعزة نفس تؤثر الموت على الضيم.

لي خلتان أذاقاني الأسى جرعًا
ونغصا عيشتي واستهلكا جلدي
وفاء صدق فما فارقت ذا مقة
فزال حزني عليه آخر الأبد
وعزة لا يحل الضيم ساحتها
بذَّالة فيه بالأموال والولد

هذه ناحية من نواحي «طوق الحمامة» وهي دلالته على نفسية ابن حزم ومغامراته، وللكتاب نواح أخرى قيمة.

•••

ما العشق وما سببه؟

سؤال محير، والسؤال «بما» في الماديات عسير، فكيف في المعنويات؟ فإذا أنت سألت: ما الجمال، ما الحرية، ما العدل، ما المثل الأعلى؟ أعياك الجواب المقنع. ويزيد الأمر صعوبة في العشق أن نظرات الناس إليه مختلفة اختلافًا كبيرًا، فيسفل بعضهم أحيانًا حتى لا يرى في العشق إلا المتعة الوقتية، ويعلو بعضهم فيرى أنه فيض إلهي على القلب. ومن عهد اليونان إلى اليوم وتحديد العشق وسببه مُحاط بالغموض، فيروون عن أرسطو أنه عرَّفه بأنه «جهل عارض صادف قلبًا فارغًا»، ويُروى عنه أنه عرَّفه مرة أخرى بأنه «عمى العاشق عن عيوب المعشوق». ومن هذا الباب قول ابن سينا إنه «وسواس يجلبه المرء إلى نفسه بتسليط فكرته على استحسان بعض الصور». وهذه كلها تعريفات وضيعة، ولما سُئل الجنيد الصوفي عن العشق قال: «إنه ألفة رحمانية، أوجبها الله على كل ذي روح لتحصل به اللذة العظمى التي لا يقدر على مثلها إلا بتلك الألفة، وهي موجودة في الأنفس بقدر مراتبها عند أربابها». وسُئلت أعرابية عنه فقالت: «جلّ والله عن أن يُرى، وخفي عن أبصار الورى، فهو في الصدور كامن ككمون النار في الحجر، إن قدحته أورى، وإن تركته توارى».

وهكذا من تعاريف لا تُحصى تتجه اتجاهات مختلفة، وتحاول أن تصف ذاته فتصف أعراضه. وأصدق من هذا كله قول العاشق:

يقول أناس لو نعتَّ لنا الهوى
ووالله ما أدري لهم كيف أنعت
فليس لشيء منه حدٌّ أحدُّه
وليس لشيء منه وقت موقَّت

ويرى «ابن حزم» أن النفوس مختلفة في عالمها العلوي فما تناسب منها اتصل، وما تخالف منها انفصل، وهذا الاتصال هو الحب، وهو متأثر في هذا بالحديث المروي: «الأرواح جنود مجندة، ما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف».

ولكن ليس بضروري في رأيه أن يكون التشابه تامًا من جميع الوجوه، بل يكفي التشابه في نوع ما، ولا يتحاب اثنان إلا وبينهما مشاكلة في بعض الصفات، وكلما كثرت وجوه التجانس زادت المحبة وتأكدت المودة؛ وعلى هذا النحو جرى في شرح البغض والاستثقال، وحكى لنا حكاية عن بقراط أن رجلًا بغيضًا أحبه فارتاع بقراط لذلك، ظنًا منه أنه ما أحبه إلا لشبه بينهما في بعض الصفات.

والنفوس في رأي ابن حزم مختلفة في الاستعداد للحب؛ فمنهم من يحب من نظرة واحدة، وهذا النوع في نظره رديء رخيص، وهو ليس إلا حب الشهوة، إنما الحب الحق ما يأتي بطيئًا بعد طول العشرة ودقة الخبرة، ويدوم طويلًا. ومنهم من يحب سريعًا ويمل سريعًا، وضرب مثلًا لذلك أبا عامر محمد بن عامر «فقد كان أبو عامر هذا يرى الجارية فلا يصبر عنها، ويحيق به عن الاهتمام والهم ما يكاد أن يأتي عليه، حتى يملكها ولو حال دون ذلك شوك القتاد. فإذا أيقن بتصيرها إليه عادت المحبة نفارا، وذلك الأنس شرودًا والقلق إليها قلقًا منها، فيبيعها بأوكس الأثمان. هذا كان دأبه حتى أتلف فيما ذكرنا من عشرات ألوف الدنانير عددًا عظيمًا، وكان رحمه الله مع هذا من أهل الأدب والحذق والذكاء والنبل والحلاوة والتوقد، مع الشرف العظيم والمنصب الفخم والجاه العريض. وأما حسن وجهه وكمال صورته فشيء تقف الحدود عنه، وتكل الأوهام عن وصف أقله … وهكذا كان شأنه في عدم صبره على زي واحد وعلى صديق معين».

ومن الناس من ليس عنده استعداد للحب مطلقًا لا طويلًا ولا قصيرًا «كالذي أخبرني به عن نفسه أبو بكر محمد بن قاسم من ولد الإمام هشام بن عبد الرحمن ابن معاوية، أنه لم يحب أحدًا قط ولا أسف على إلف بان منه ولا تجاوز حد الصحبة والألفة إلى حد الحب والعشق منذ خُلق».

•••

وابن حزم سيء الظن بالطبيعة البشرية، وعلاقة الرجل بالمرأة والمرأة بالرجل، لا يكاد يصدق الحب العذري، ولا يؤمن بالعشق الأفلاطوني، ويرى أن الإنسان رُكب فيه طبيعتان متضادتان: إحداهما لا تشير إلا بالخير وهي العقل، والثانية لا تشير إلا بالشهوة وهي النفس «والوقوف عند حد الطاعة معدوم إلا مع طول الرياضة وصحة المعرفة»، «وإن لي قولًا لا أحول عنه، وهو أنه ما من رجل عرضت له امرأة جميلة بالحب وطال ذلك، ولم يكن ثم مانع إلا وقع في شرك الشيطان، وكذلك المرأة». وأداه هذا النظر إلى الاعتدال في تعريف الصالح والفاسد، فليس الصالح في نظره من لا يرد الشر بخاطره، ولا من لم يقع فيه، ولكن «الصالحة من النساء هي التي إذا ضُبطت انضبطت، وإذا قُطعت عنها الذرائع استمسكت، والفاسدة هي التي إذا ضُبطت لم تنضبط، وإذا حيل بينها وبين الأسباب التي تسهل (الشر) تحيلت في أن تتوصل إليه بضروب من الحيل، والصالح من الرجال من لا يداخل أهل الفسوق، ولا يتعرض للمناظر الجالبة للأهواء … والفاسق من يعاشر أهل النقص … ويتصدى للمشاهد المؤذية، ويحب الخلوات المهلكات. والصالحان من الرجال والنساء كالنار الكامنة في الرماد لا تحرق ما جاورها إلا بأن تحرك، والفاسقان كالنار المشتعلة تحرق كل شيء. ولهذا ما رأيت قط امرأة في مكان تحس أن رجلًا يراها أو يسمع حسها إلا وأحدثت حركة فاضلة كانت عنها بمعزل، وأتت بكلام زائد كانت عنه في غنية … وأما إظهار الزينة، وترتيب المشي، وإيقاع المزح عند خطور المرأة بالرجل واجتياز الرجل بالمرأة فهذا أشهر من الشمس في كل مكان». وقد أطنب في ذكر الأمثلة والوقائع والحكايات التي شاهدها وسمعها من الرجال والنساء لتأييد رأيه. ولذلك يرى أن العفة تحتاج إلى جهد كبير ورياضة طويلة وصبر شاق عسير؛ ومن هذا كله جاز لنا أن نعد ابن حزم في حبه وتأليفه في الحب من الواقعيين لا المثاليين.

•••

ثم له في هذا الكتاب (طوق الحمامة) تحليلات نفسية لطيفة في مواقف مختلفة؛ فهو يستعرض علامات الحب استعراض المجرب الخبير، ويعلل مثلًا اللذة بالمراسلة بحلولها بعض الشيء محل الرؤية «ولهذا نرى العاشق يضع الكتاب على عينيه وقلبه ويعانقه، وأعرف من كان يسقي الحبر بالدمع، ويقارضه محبوبه فيسقي الحبر بالريق».

ويصف الحالة النفسية عند الوصل فيقول: «والوصل حظ رفيع وسعد طالع، بل هو الحياة المجددة والعيش السني، ولولا أن الدنيا دار ممر ومحنة وكدر لقلنا: إن وصل المحبوب هو الصفاء الذي لا كدر فيه، والفرح الذي لا شائبة معه … ولقد جربتُ اللذات على تصرفها وأدركتُ الحظوظ على اختلافها، فما للدنو من السلطان ولا المال المستفاد، ولا الوجود بعد العدم، ولا الأوبة بعد طول الغيبة، ولا الأمن بعد الخوف، ما للوصل، لا سيما بعد طول الامتناع وحلول الهجر».

والناس أصناف في الوصل؛ فمنهم من يرى أن داوم الوصل يودي بالحب، وأما هو فيحدِّث عن نفسه «إني ما رويت قط من ماء الوصل ولا زادني إلا ظمأ» ثم يقول: إن الهجر أنواع: هجر يوجبه التحفظ من الرقيب، فحينئذ ترى الحبيب منحرفًا عن محبه مقبلًا بالحديث على غيره، معرضًا لمن يحب، فتراه حينئذ منحرفًا كمقبل وساكتًا كناطق، ومحبه أيضًا كذلك، وهذا الهجر أحلى من الوصل — وهجر يوجبه التذلل، ولا يكون إلا عن ثقة كلٍّ بصاحبه، فيُظهِر المحبوب هجرانًا ليرى صبر محبه، وهجر يوجبه العتاب لذنب يقع من المحب، وهذا فيه بعض الشدة، لكن فرحة الرجعة، وسرور الرضى، يعدل ما مضى، ثم هجر يوجبه الوشاة، ثم هجر الملل إلخ.

وهكذا يسير في تحليله لكل ما يعرض له من الوفاء والغدر والضنى والسلو والتعفف وعدمه إلخ.

•••

وإذا كان ابن داود يستشهد على كل باب بما ورد فيه من شعر الأقدمين والمحدثين، وأحيانًا بشعره هو؛ فقد سار ابن حزم على نهج آخر، وهو أنه ينشئ هو الشعر في كل حالة من حالات النفس التي يشرحها، ولا ينقل عن غيره إلا نادرًا، وشِعره في الجملة وسط، لا رائع ولا ردئ فيقول:

جرى الحب مني مجرى النفس
وأعطيت عيني عنان الفرس
ولي سيد لم يزل نافرًا
وربما جاد لي في الخلس
وكان فؤادي كنبْتٍ هشيم
يبيس رمى فيه رام قبس

ويقول فيما عرض له من النكبات والتجوال في الآفاق:

ولّى فولّى جميل الصبر يتبعه
وصرح الدمع ما تخفيه أضلعه
جسم ملول وقلب آلف فإذا
حل الفراق عليه فهو موجعه
لم تستقر به دار ولا وطن
ولا تدفأ منه قط مضجعه
كأنما صيغ من رهو السحاب فما
تزال ريح إلى الآفاق تدفعه
أو كوكب قاطع في الأفق منتقل
فالسير يغربه حينًا ويطلعه

ويقول:

هل لقتيل الحب من وادي
أم هل لعاني الحب من فادي
أم هل لدهري عودة نحوها
كمثل يوم مرَّ في الوادي
ظللت فيه سابحًا صاديًا
يا عجبا للسائح الصادي
ضنيت يا مولاي وجدًا فما
تبصرني ألحاظ عوّادي
كيف اهتدى الوجد إلى غائب
عن أعين الحاضر والبادي
ملَّ مداواتي طبيبي فقد
يرحمني للسقم حسّادي

إلخ إلخ.

وفي كتاب «طوق الحمامة» ناحية أخرى، وهي دلالته على الحالة الاجتماعية الأخلاقية في الأندلس في عصر ابن حزم كما يصورها الكتاب.

•••

فالجواري الرقيقات ملأت البيوت، وكان للمنصور بن أبي عامر أثر كبير في التوسع في هذا لكثرة ما غزا وكثرة ما سبى، فغزواته التي زادت على الخمسين كانت كلها موفقة، وكان من أثر التوفيق كثرة الأسرى من الرجال والنساء، حتى قال بعض الناس فيه يوم مات «مات الجلاب» يريد جلاب الأسرى والسبايا. والسبايا توزع على الأسر من طريق الهبة أو من طريق البيع في الأسواق، وكان هذا النظام متبعًا عند المسلمين والأسبان على السواء.

فنتج من هذا كله امتلاء البيوت، وخاصة بيوت الطبقة الوسطى والعليا بالإماء، وكان بيت ابن حزم مملوءًا بهذا النوع كما يحدثنا، إذ كان أبوه وزيرًا للمنصور بن أبي عامر، وكانت المملوكات توزع على أفراد الأسرة، فكان ابن حزم نفسه يملك بعض الجواري ويعشق غيرهن.

وكان لهذا كله أثر كبير في الحياة الاجتماعية والأدبية، فلعبت عواطف الحب دورًا هامًا، ونطق الشعراء بمشاعرهم، وعبَّروا عنها تعبيرات دقيقة، حتى إن ابن حزم نظم شعره في كل حالة يصفها ويشعر بها من نفسه أو من غيره، وابن شهيد يهديه ابن أبي عامر ثلاث فتيات من أجمل الفتيات فيقول فيهن شعره، فكثر القول في الغزل والحب، وماجت الحياة الأدبية بذلك كله، وخلقت معان جديدة وأفكار ومشاعر لم تكن من قبل، تُصاغ صياغة أدبية يدل عليها شعر «طوق الحمامة»، وتُعلِّم الإماء فنون الغناء والأدب كما كان الحال في الشرق؛ فهذه أمة ابن حزم تغني بشعر العباس بن الأحنف، كما أتقن الأسبان استخدامهن جواسيس على المسلمين يبلغنهم أدق أمورهم، فكان ذلك من أسوأ الوسائل لهزيمة المسلمين.

ووُجدت النساء الخبيرات بالعشق وأفانينه، فلما تقدمن في السن كن مرجع ابن حزم وأمثاله في حكاية تجاربهن وقصصهن. ويخبرنا ابن حزم أنه أصغى إليهن وروى عنهن بعض ما كتب.

ثم استتبع هذا كثرة المولدات من الأجناس المختلفة، وصهر ذلك كله في بوتقة الطبيعة لتخرج منه جمالًا صافيًا يثير الأدباء والفنانين. وكان ابن حزم رقيق الحس ذكي الفؤاد دقيق العقل، يُحسِن النظر في الأحوال الاجتماعية ويستنتج منها نتائج قيمة، كما تشهد بذلك كلماته في الأخلاق، فلما استخدم ذلك في العشق صوَّره وصوَّر أهل زمانه وفنونهم في الغرام تصويرًا دقيقًا؛ نظمًا ونثرًا.

وكان من نتائج هذا كله فساد الأسر، لكثرة الأحرار والرقيق في البيت الواحد، ووجود الأبناء المختلفي الأمهات؛ فهذا أمه بربرية وهذا أسبانية وهذا صقلبية، والغيرة شائعة في جميع الأمهات في الأسرة الواحدة، وهن يرضعن هذه الغيرة لأبنائهن فيكون ذلك مثارًا لعداوة الأقرباء وكثرة الفتن والثورات وانفصام العرى في البيت وفي البلدة وفي المملكة، وهذا ما كان في عصر ابن حزم وما بعده.

وقد كان الظن أن تكون كثرة الجواري في البيوت والأسواق مانعًا من الفجور والشذوذ، فالنفوس في مثل هذا النظام سهلة الارتواء. ولكن كان الأمر بالعكس في الشرق والغرب، في العراق والأندلس.

والنفس كالطفل إن تهمله شبَّ على
حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم

فيحدّثنا ابن حزم عن الرمادي الشاعر أنه كان مجتازًا باب العطارين بقرطبة فرأى جارية أخذت بجامع قلبه فجعل يتبعها، وكلما سارت في ناحية سار وراءها، ونهته فلم ينته، فسألها: أحرة هي أم مملوكة؟ فقالت: مملوكة. وما زال يضايقها حتى تخلصت منه بأن وعدته وعدًا أخلفت فيه. وكذلك تروى القصص المختلفة من هذا القبيل.

بل يحدثنا ابن حزم بما هو أشنع من ذلك وهو تفريط الرجل في عرض زوجته، فيقول: «لقد كنت أعرف رجلًا مستورًا إلى أن استهواه الشيطان» فأحب غلامًا واستباح في هذا عرضه، فيقول ابن حزم:

أباح أبو مروان حُرَّ نسائه
لِيبلغَ ما يهوَى مِن الرشأِ الفرد

إلخ …

ويُذكر أنه كان في مجلس عند بعض المياسير فرأى بين بعض من حضر ومن كان بالمجلس أمرًا أنكره، وغمزًا استبشعه، وخلوات الحين بعد الحين، وصاحب البيت كالغائب أو النائم، فنبّهه ابن حزم بالتعريض فلم ينتبه، وحركه بالتصريح فلم يتحرك. وقال ابن حزم في ذلك شعرًا، وعزم ألا يعود إلى هذا المجلس إلخ.

•••

ثم صورة أخرى اجتماعية يدل عليها الكتاب وهي تفكك الدولة بعد ابن أبي عامر، فقد حجر على الخليفة هشام وأسقط حرمة الخلافة من نفوس الناس، فلما أراد أحد أحفاد ابن أبي عامر تحويل الخلافة إليه ثار الناس واضطرب أمرهم، وكانوا كعقد انفرط، فلا الخلافة موقرة ولا من حلّوا محل الخلفاء يستطيعون ضبط الأمور، وكان ابن أبي عامر قد قتل كل رأس صالح للقيادة، فكان هذا بدء تضعضُع الدولة وانحلال البلاد وتغلَّب الأسبان عليها بلدًا بعد بلد؛ تلمح هذا في شكوى ابن حزم مما أصابه هو وأهل بيته وأصدقاءه من اضطهاد ومصادرة أموال وتشريد؛ لأنهم كانوا من أتباع الدولة العامرية، فلا أمن في النفوس ولا الأموال، ويحكي أنه ألّف كتابه «طوق الحمامة» والنفس مضطربة، والبلاد هائجة، والناس مشردون، والأيام متبدلة، والأموال مصادرة، والأحوال قلقة إلخ.

•••

ثم هو واسع الإطلاع على دخائل قصور الخلفاء بما شاهد وصادق من الطبقة الراقية، وما سمع من أبيه وأصدقاء أبيه مما كان يجري في القصور من دخائل، وقد أشار إلى ذلك كثيرًا. ولكنه كان في روايته لهذه الأحداث مع الأسف متحفظًا سياسة وديانة، وأحيانًا يقول فيما يروي: «حدثني الوزير أبي رحمه الله». ويقول: «رأيت هشامًا المؤيد، ومحمدًا المهدي، وعبد الرحمن المرتضي وأولادهم وإخوتهم ودخلت عليهم، وجالست عبد الملك بن مروان بن عبد الرحمن بن مروان ابن أمير المؤمنين الناصر». فهذا كله مكَّنه من معرفة واسعة بهذه الطبقة، فيخبرنا عن رحلات لبعض الأمراء كانت بسبب حوادث عشق، وأنّ بعضهم ذهب عقله بسبب الحب، فإذا وصل من ذلك إلى حادث دقيق كنى وستر ولم يستجز التصريح وقال: «اغتفر لي الكناية عن الأسماء، فهي إما عورة لا نستجيز كشفها، وإما أن نرعى في ذلك صديقًا ودودًا أو رجلًا جليلًا، وبحسبي أن أسمِّي من لا ضرر في تسميته، ولا يلحقني والمسمى عيب في ذكره، إما لاشتهار لا يغني عنه الطي، وإما لرضى من المحتقر عنه بظهور خبره وقلة إنكار منه لفعله».

وفي الكتاب نواحٍ أخرى قيمة نكتفي منها بهذا القدر.

١  انظر الكتاب القيم «ابن حزم» للأستاذ سعيد الأفغاني.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤