زعماء الإصلاح الإسلامي في العصر الحديث: الشيخ محمد عبده

(١٢٦٦–١٣٢٣هـ/١٨٤٩–١٩٠٥م)

يعتمد نبوغ النابغ على عنصرين أساسيين: استعداده الفطري، أو بعبارة أخرى طبائعه الموروثة، وبيئته التي عاش فيها، كالشجرة الطيبة إنما تُنبِت نباتًا حسنًا إذا حسنت بذرتها، ووجدت من التربة والهواء والماء ما يصلح لها، فإن كانت البذرة سيئة فلا أمل في شجرة ممتازة، وكذلك إن حسنت البذرة وساء الغذاء.

وقوانين الوراثة في الإنسان في منتهى التعقد: ماذا يرث من أبيه؟ وماذا يرث من أمه؟ وماذا يرث من آبائه الأقربين؟ وماذا يرث من آبائه الأبعدين؟ كل هذا لا يزال غامضًا مع عناية علماء الوراثة بالبحث والتقصي.

على كل حال ورث «محمد عبده» صفات نشأ عليها، وساعدت بيئته على نموها، أهمها ثلاث: الذكاء، والثقة بالنفس والاعتداد بها، ويتبع ذلك حب التفوق والعطف.

من أين نبعت هذه الصفات؟ من تركمانية أبيه كما يقال، أو من عربية والدته إذ يقال إنها من بني عَدِي. ولكن ما هذا ولا ذاك بكاف، ففي كل من التركمان والعرب الذكي والغبي والعزيز والذليل. ولا نستطيع أن نتثبت من موضع الوراثة حتى تكون على علم بآبائه وأمهاته فردًا فردًا، وأنَّى لنا هذا؟ فليس لنا إذن إلا أن نقول إنه هكذا خُلق.

ثم كم من الفلاحين الفقراء في الحقول، وصغار الصناع في المصانع، من ورث من الصفات ما ورث الشيخ محمد عبده بل خيرًا مما ورث، ولكن لم تسعفهم البيئة وقضت عليهم، وعاشوا وماتوا لم يشعر بهم أحد. ولو وجدوا من الظروف ما وجد الشيخ محمد عبده وأمثاله لظهر نبوغهم وعلا اسمهم وآمن الناس بتفوقهم، والناس كالكنوز المدفونة، أحيانًا يُقضى عليها بالدفن الأبدي، وأحيانًا يُعثَر عليها فتكون مصدر ثراء. وفي عصر الشيخ محمد عبده إلى عصرنا لم تسعفنا نظم التربية وحالة البلاد الاجتماعية لنستكشف الأحجار الكريمة، بل هي في أغلب الأحيان نعمل على دفنها في الرمال.

لا تعجبن من هالك كيف توى
بل فاعجبن من سالم كيف نجا
هذا هو محمد عبده ينشأ في قرية من قرى الريف كما ينشأ ابن كل فلاح في ذلك العصر، فإذا كان لأبيه بعض اليسر وبعض الوجاهة وبعض الدين علَّم ابنه في الكتَّاب، ثم بعث به إلى الأزهر أو إلى معهد ديني، وكذلك فعل أبوه فأرسله إلى الجامع الأحمدي بطنطا لقربه من بلده، وليجوِّد القرآن بعد أن حفظه ثم ليتعلم العلم، فأما تجويد القرآن فأمر ميسور، يسمع ما تيسر فيأخذه الشيخ بضبط مخارج الحروف ومقاييس لمد والغنة والإدغام وما إلى ذلك. وأما العلوم التي يدرسها فطرقها في منتهى العقم على المبتدئ أن يقرأ على شيخ كتابًا في الفقه وكتابًا في النحو، وأمر الفقه مُحتمَل، فهو يبدأ يعلِّمه في دقة كيف يتوضأ وكيف يصلي، وهو أمور مارسها في حياته العملية، فمن السهل التدقيق فيها ما دام الأساس معروفًا. أما النحو فهو الطامة الكبرى، فهو لا يُعلَّم كما نُعلِّمه نحن اليوم، فنبدأ بأن الكلمة اسم وفعل وحرف، ونأخذ في مميزات كل منها، إنما كان يعلم كما في كتاب «الكفراوي على الأجرومية» وأول درس فيه:

بسم الله الرحمن الرحيم: الباب حرف جر واسم مجرور بالباء وعلامة جره كسرة ظاهرة في آخره، والجار والمجرور متعلق بمحذوف تقديره أؤلف، وأؤلف فعل مضارع مرفوع لتجرده من الناصب والجازم، والفاعل ضمير مستتر وجوبًا تقديره أنا، هذا إن جعلت الباء أصلية، وإن جعلتها زائدة فلا تحتاج إلى متعلق به وتقول في الإعراب حينئذ: الباء حرف جر زائد، واسم مبتدأ مرفوع بالابتداء وعلامة رفعه ضمة مقدرة على آخره منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد، والخبر محذوف تقديره اسم الله مبدوء به. إلخ.

باسم الله ما شاء الله! هذا أول درس لمن لم يعرف في النحو شيئًا، فلو أن متكلمًا تكلم بالسريانية لكان أهون، وكيف يستسيغ هذا وهو لم يسمع قبل إعرابًا ولا رفعًا ولا نصبًا ولا جرًا ولم يُفهَم لها معنى. ومثل هذا مثلٌ كنا نتضاحك عليه وكان أعجوبة الأعاجيب، وهو أن مدرسًا في مسجد سيدنا الحسين كان يعظ النساء اسمه الشيخ يوسف، وكان يجلس ويتحلق حوله عوام النساء للتبرك فيقرأ عليهن حديثًا من الأحاديث النبوية ويأخذ في شرحه، ولكنه ينسى أنه يدرس لنساء أميات جاهلات، أو لا يستطيع ذوقه أن يدرك مقتضى الحال وما يصح أن يُقال وما لا يُقال، فيتساءل في أثناء شرحه: «لم حذف المسند إليه»، فيكون الكلام كتلاوة اللاتينية في الكنائس لمن لم يعرف كلمة لاتينية، أو خطبة الجمعة بالعربية على أتراك لم يعرفوا شيئًا من العربية.

كذلك كان تعليم النحو في الأزهر والجامع الأحمدي للمبتدئين. فلو لُطمَت البيداجوجيا لطمة مميتة لم تجد شرًا من هذه اللطمة، ورحم الله الشيخ الكفراوي، فلو علم ماذا يجني على المتعلمين كتابه ما خط منه حرفًا.

كانت سن «محمد عبده» إذ ذاك خمس عشرة سنة، واستمر على هذا عامًا ونصف عام يحاول أن يفهم فلا يفهم، وكيف يفهم الوضع المقلوب على أنه وضع صحيح؟ الجمهرة العظمى من المتعلمين على هذا النحو يَملُّون ويسأمون وينقطعون عن الدراسة، وبعضهم كانوا يختانون أنفسهم فيزعمون فيما لا يفهمون أنهم يفهمون وتجلت في صاحبنا سجاياه الثلاث في هذا الموقف، فهو ذكي إذ فرَّق بين ما يفهم وما لا يفهم، وهو معتد بنفسه إذ ثار على الاستمرار على هذه الحال، وأبى أن يرضى بهذا الهوان، واختزن هذا الدرس في نفسه فتجلى فيما بعد في حمله عبء إصلاح الأزهر والعطف على أهله.

عول أن يتجه إلى الزراعة فيكون فلاحًا كسائر أهله، وصمم على ألا يتعلم، وصمم أبوه على أن يتعلم، واصطدمت الإرادتان، فلما أكرهه أبوه هرب إلى بلدة فيها بعض أقاربه، وشاء القدر أن يلتقي بشيخ صوفي، هو الشيخ درويش خضر خال أبيه، فينقلب محمد عبده كأنه شخص آخر، حتى كأن عصا سحرية مسَّته، وهنا يتجلى فعل المصادفات في حياة العظماء، فلولا هرب محمد عبده إلى هذه البلدة وملاقاته لهذا الشيخ لكان محمد عبده المشهور هو محمد عبده المغمور الذي لا يعرفه أحد إلا بلده، ولكان شأنه شأن أي فلاح في أي بلدة لا يسجل اسمه إلا في دفتر المواليد ودفتر الوفيات.

وشخصية الشيخ درويش من الشخصيات اللطيفة التي تظهر في بعض الأوساط المصرية على قلة، وقد شاهدت منها في حياتي شخصين، هي شخصية متصوفة تمتاز بنور البصيرة أكثر مما تمتاز بسعة العلم، تعرف الدنيا وشئوونها وتزهد في قيمتها عن علم لا عن غباء، وخير عبادتها ذكر الله بالقلب لا باللسان ولا بالأوراد، تعمل في الدنيا كما يعمل أهلها ولكن في رفق وتسامح وميل إلى الخير، يرون الدنيا جسرًا إلى الآخرة، فلا بد أن يعبر الجسر في أمان يألمون لغفلة الناس وطغيان المادة عليهم وتورطهم في المفاسد، ويشفقون عليهم ويعملون ما أمكنهم لإنقاذهم في هوادة، يشع النور في قلوبهم على وجوههم، فيكون منظرهم وتصرفهم وحركاتهم وسكناتهم منظرًا جذابًا يستدعي الحب والإعجاب.

اتصل به محمد عبده فكان شخصًا آخر. ولم يكن ذلك عن عصا سحرية ولا معجزة سماوية، وإنما هي ظاهرة طبيعية. كان عند محمد عبده عقدة نفسية كوَّنها شرح الكفراوي على الأجرومية، فاعتقد أنه لا يفهم ولن يفهم، فما فائدة الاستمرار؟ وهذا يذكرنا بعقدة مثلها حدثت لعلي مبارك عند تعلمه للهندسة، فقد صُدم بقولهم المثلث (ا ب جـ) فظن أن هذا اسم ثابت لهذا المثلث لا يصح أن يتغير، كمن سُمِي بأحمد لا يصح أن يُسمَّى بمحمد، وتعقدت هذه المسألة في نفسه فمنعته من أن يفهم أي شيء، حتى رُزق بمدرس ذكي واضح أدرك العقدة فحلها، ففتح الباب أمام علي مبارك وصار أولًا بعد أن كان آخرًا. كذلك حل الشيخ درويش عقدة محمد عبده بأن أعطاه كتابًا سهلًا في المواعظ والأخلاق، وجعله يقرأ وأخذ الشيخ يشرح، فإذا بالطالب يفهم، وإذا العقدة تُحل، ويعتقد محمد عبده أن في الإمكان أن يفهم.

ودرس آخر علَّمه له الشيخ، وهو درس «القِيَم» فقد كان محمد عبده كعامة الناس يرون مظاهر الحياة من مال وجاه وزينة وتفاخر وتكاثر في أعلى القائمة، وأن المسلم بنطقه بالشهادتين سيد الناس ولا بأس بما ارتكب، فمصيره الجنة، فجاء الشيخ ومحا له هذه القائمة وأثبت غيرها، وجعل القائمة الجديدة مطلعها العمل الصالح بدل المال والجاه، وأن اسم الإسلام لا يصح أن يكون مخبأ تُرتكب فيه الجرائم؛ فالإسلام عقيدة وعمل لا ألفاظ سيالة تنتهي بمجرد النطق. وأن المسلمين محاسبون على أعمالهم كغيرهم، وأن أكثر من يُسمَّون مسلمين لا يصح أن يدخلوا في عداد المسلمين، وأن التعاليم الفاسدة ليست من الإسلام في شيء، وأن أساس الإسلام وأساس العقيدة الصحيحة هو القرآن والقرآن وحده، وأن خير عبادة هو تفهُّم معانيه.

وكان الشيخ درويش متأثرًا بتعاليم السنوسية التي تتفق مع الوهابية في الدعوة إلى الرجوع إلى الإسلام الأول في بساطته الأولى وتنقيته من البدع، وذلك على أثر رحلته إلى طرابلس الغرب واجتماعه بأتباع السنوسي هناك.

في سبعة أيام تغير محمد عبده الذي يريد الزراعة والتفوق على الشبان في ألعاب الفروسية إلى محمد عبده الذي يريد الصفاء الروحي والتعلم ليستطيع فهم القرآن وإعداد نفسه ليهتدي ثم يهدي.

فإلى الجامع الأحمدي إرضاء لوالدي وإرضاء لنفسي فقد اتفقت الإرادتان.

وبدأ يدرس النحو فإذا هو يفهم لأن العقدة النفسية قد زالت، ولأنه بدأ يقرأ الكتاب الثاني في النحو وهو شرح الشيخ خالد على الأجرومية، وسوء الوضع جعل الكتاب الثاني أسهل من الأول، ولعله قد رُزِق بشيخ خير من الأول استطاع أن يوضح له ما غمض ويبين ما أُبهِم.

وإذا بالشيخ محمد عبده يلتف حوله بعض زملائه ليشرح لهم الدرس قبل بدء الأستاذ، فتعود إليه ثقته بنفسه ويسير على الدرب.

كانت هذه الأيام السبعة أيام حضانة تكوَّن فيها كل ما اتجه إليه بعد من إصلاح. فاهتمامه بعد بتفسير القرآن، وجعْله أساسًا لدعوته الإصلاحية، وتنقيته للعقيدة الإسلامية مما أصابها من دخيل، وتلون حياته بلون صوفي راق، وزهادته في المال، وغيرته الشديدة على إصلاح المسملين، كلها غُرست في هذه الأيام السبعة، ثم نمت وازدهرت وتعدلت وفقًا للظروف والأحوال.

•••

تحول محمد عبده من الجامع الأحمدي إلى الجامع الأزهر لأن الأزهر هو المثل الأعلى للتعليم في المعاهد الدينية.

والتعليم في الأزهر إذ ذاك — وكما رأيناه إلى عهد قريب — يلقي عبء الطالب كله على نفسه من غير أن يحمل أحد أي عبء عنه، فما عليه إلا أن يسجل اسمه في دفاتر الأزهر ثم يفعل ما يشاء، إلى أن يتقدم لامتحان العالمية، فهو الذي يختار مدرسه ويختار علومه ويحضر أو لا يحضر، ويجدّ أو يلعب، ويفهم أو لا يفهم، كل هذا متروك إلى نفسه، وهو أسلوب يفيد الخاصة ويضر العامة.

يأتي الطالب من بلده فيسكن في غرفة في حي الأزهر، وقد يشركه في الغرفة طالب أو أكثر، وفي الغرفة كل أدواته وأدواتهم، حصير مفروش على الأرض وصندوق فيه بعض الملابس وبعض الزاد، ومرتبة ولحاف يفرشهما ليلًا ويطويهما صبحًا و«حَلَّة» يطبخ فيها بنفسه من حين لآخر في نفس الغرفة — وقد حدّث محمد عبده عن نفسه أنه غضب على كتاب فطبخ به عدسًا — ومن حين لآخر يأتيه الزاد من البلد، بعض الخبز وبعض الجبن وشيء من السمن، فإن كان أهله في شيء من الثروة فشيء من الفطير وشيء من الدجاج المذبوح، وهذه هي دنياه.

والطالب المجدّ يصحو عند أذان الفجر فيصلي الصبح ويذهب إلى الأزهر ليحضر درس الفقه ويستمر الدرس إلى الضحى، والشيخ يقرأ في الكتاب وهو متربع على كرسي حوله الطلبة، فإن كان عدد الطلبة قليلًا استغنى عن الكرسي وجلس على «فروة»، أما الطلبة فيتربعون على الحصير، ومن كان منهم من أبناء الأعيان جلس كذلك على فروة، والشيخ يقرر الجملة ويشرحها والطلبة يسمعون أو يعترضون والشيخ يجيب، وأحيانًا يحتدّ الشيخ فيضرب أو يلعن، ولا ينتقل الشيخ من جملة إلى جملة إلا بعد أن يقتلها بحثًا، وقد تضيع الساعتان أو الثلاث في سطر إذا اقتضى الحال، فإذا ختم الشيخ درس الفقه بقوله: «والله أعلم» انصرف الطلبة يبحثون عن «فطورهم» فمن كان منهم له «جراية» — وهي رغيفان أو ثلاثة أو أربعة تسلمها من رواقه وخرج إلى محيط الأزهر حيث دكاكين الفول المدمس والطعمية فاشترى منها ما شاء، وإن كان طالبًا متقدمًا بعث طالبًا صغيرًا يقوم عنه بهذا العمل، وإن كان فقيرًا باع رغيفين أو أكثر من الجراية ليشتري بثمنها إداما، وإن كان مترَفًا استعاض عن الفول بالجبن والزيتون والحلاوة الطحينية في بعض الأيام، وإذ ذاك ترى الأزهر كله مائدة للطعام، حلقات، حلقات وعُدَّ هذا فطورًا وغداء معًا.

فإذا انتهى الطلبة من هذا جلس المجدّون يطالعون درس النحو القادم، فإذا فرغوا منه كان الظهر قد أذن فتقام الصلاة ويبدأ درس النحو على نحو درس الفقه فيمتدّ ساعات وقد يصل إلى العصر.

وبعد استراحه الطالب يُعد درس الفقه القادم وينتهي بذلك يومه العلمي فيعود إلى بيته، وإن احتاج إلى ضوء فمصباح يشتعل بالجاز بواسطة فتيلة من غير زجاج، ولا بأس بدخانه، وإذا اشترك جماعة في غرفة وكانوا فقراء تقاسموا ثمن الجاز كل عليه ليلة أو أسبوع، وقد حدث الهلباوي أنه تنازع مع زميله على ثمن الجاز لأنه لم يشأ أن يدفع نصيبه.

ويتدرج الطالب في الكتب، كل سنة كتاب في الفقه وكتاب في النحو إلا إذا طال الكتاب فيُقرأ في أكثر من سنة، ولكل كتاب تقريبًا متن هو الأصل وشرح يشرح المتن، وحاشية تشرح الشرح، وقد يكون تقريرًا يشرح الحاشية، والشيخ يطالع كل هذا استعدادًا لما يمطره الطلبة عليه من الأسئلة، فيبدأ الشيخ بقراءة المتن ويشرحه بجميع ما كتب عليه مناقشًا مهاجمًا مدافعًا حتى تنتهي المعركة بانتهاء الدرس.

وإذا انتهت كتب الفقه حل محلها كتب أصول الفقه، وإذا انتهت كتب النحو حل محلها كتب البلاغة.

وعلى هامش هذه الأوقات قد يحضر الطالب المتقدم دروسًا صباحية بعد صلاة الفجر مباشرة، أو دروسًا مسائية بعد المغرب في علوم أخرى كالتفسير والحديث والمنطق.

وليس بالنادر أن نسمع صيحة تقوم في الدرس أو قبله أو بعده لاختلاف طالبين على مكان في الحلقة أو نحو ذلك، فيتضاربان، ويتعصب أهل الصعيد للصعيدي، وأهل البحيرة للبحراوي، فتكون معركة حامية يتدخل فيها جنود الأزهر المسمون بالمشِدّين.

فإذا مررت بصحن الأزهر رأيت حصرًا مفروشة نُشر عليها خبز مما أرسله أهل المجاورين إليهم ليتجفف في الشمس خوف العفن.

ورأيت ثيابًا منشورة ومياهًا مصبوبة إلخ وفي الدروس ترى مريضًا بجانب صحيح، وقذرًا بجانب نظيف، ولم يفكر أحد في إشراف طبيب.

وقَلَّ أن تسمع مدرسًا تعرض في درسه لمسألة خلقية أو حث على فضيلة أو حذر من رذيلة.

كل الكتب التي تُدرَّس في الأزهر من نتاج العصور المتأخرة، تحدرت من العصور الزاهية، ولكن عدا الزمان عليها فأفقدها روحها فصارت شكلًا. النحو كان يراد منه النطق الصحيح والكتابة الصحيحة وفهم كتب الأدب فهمًا صحيحًا فصار مجرد تفهم لألفاظ المؤلفين في النحو. وأصول الفقه كان يقصد منه التمرين على الاجتهاد في التشريع فأصبح ولا اجتهاد ولا تشريع. والبلاغة كان يقصد منها كيف يكتب القول البليغ فصار المؤلفون فيها أعاجم لا يحسنون التعبير كالسعد التفتازاني، حتى أباح لنفسه الشيخ أحمد الرفاعي أن يدرس أكبر كتاب في البلاغة وهو المطول، ثم يعترف أنه لا يحسن أن يكتب خطابًا ولو غير بليغ، لأن هذا من عمل تلاميذ المدارس المدنية.

واشتهر من فطاحل العلماء في هذا العصر الشيخ أحمد الرفاعي هذا، وأساس شهرته أنه يحسن فهم الكتب ويستطيع تحليل الجمل وإثارة الشبهات حولها حتى يعقّد السهل ويغمض الواضح. والشيخ عليش وهو شيخ من أصل مغربي شهرته في تدينه وعصبيته ورميه الناس بالكفر لأوهى سبب وضيق أفقه وشدة غيرته على الدين بالمعنى الذي يفهمه. ولكن كان هناك آخرون هيّأتهم الظروف لأن يتصلوا بالدنيا وحركة التعليم المدنية فاتَّسع أفقهم كالشيخ البسيوني إمام المعيّة، وكان ظريفًا في شكله وفي ملبسه وفي تأليفه، والشيخ حسن الطويل، وكان ذكيًّا حكيمًا له نظرات في الحياة صائبة، يقرأ الفلسفة فيُرمى بالزندقة.

هذا هو الأزهر الذي رآه محمد عبده. يقوم التعليم فيه على الفلسفة اللفظية، ويعلّم طالبه الدقة في الفهم والقدرة على الجدل، وهذه محْمدة، ولكن مع الأسف لا تُستخدم هذه الدقة ولا الجدل إلا في الألفاظ، وتجعل صاحبها غارقًا في الاحتمالات مما يراه في الحواشي والشروح من التأويلات، فكل شيء يجوز حتى دخول الجمل في البندقة على حد تعبير الشيخ محمد عبده نفسه يتم الطالب الدراسة فيه فيخرج فاهمًا لبضعة كتب، أما الدنيا وشئونها فإنه يجهلها كل الجهل، فلا جغرافيا ولا تاريخ ولا طبيعة ولا كيمياء ولا رياضة، فكل هذه علوم أهل الدنيا، وما للآخرة والدنيا! ومع هذا فالنزاع على الجراية كثير وعلى الوظائف الصغيرة أكثر، كل شيء خارج عن المألوف كفر أو حرام أو مكروه؛ فتحويل «الميضأة» القذرة إلى «حنفيات» حرام وذهاب للبركة، وقراءة كتب في الجغرافيا أو الطبيعة أو الفلسفة حرام، ولبس «الجزمة» بدعة.

فإن تحركت نفس صالحة للإصلاح خُنقت دعوتها في مهدها ورُميت بالزندقة.

ومثل هذه البيئة تُنتِج عقولًا جامدة ونفوسًا خامدة إلا أن يتداركها الله بمدد من الخارج، وقد ذكر الشيخ محمد عبده نفسه أنه حاول أن يغسل أثر هذه البيئة فنجح في بعض وفشل في بعض، فإن رأيت نابغة خرج منها فبرغمها لا بفضلها. ومن الأسف أن ولاة الأمور من أول الأمر مع علمهم بنقصه وحاجته إلى الإصلاح خوفًا من العلماء والرأي العام تركوه وشأنه يأكل بعضه، وأنشأوا بجانبه المدارس المدنية يشكِّلونها كيفما يشاءون.

•••

في هذا الجو عاش صاحبنا نحو اثني عشر عامًا، من سنة ١٢٨٢–١٢٩٤ حيث نال شهادة العالمية من الأزهر.

وفي هذا الجو المظلم كانت تلمع ثلاثة نجوم أضاءت جوانب نفسه: الشيخ درويش والشيخ حسن الطويل والسيد جمال الدين الأفغاني.

فالشيخ درويش كان يلقاه الشيخ محمد عبده في بلده في الإجازة من نصف شعبان إلى نصف شوال كل عام، فيتمم له ما بدأه منذ لقنه الدرس الأول في التصوف وتنقية العقيدة، ويعرض عليه الشيخ محمد عبده ما درسه في العام وما في نفسه من أزمات فيتلقى ملاحظات الشيخ وإرشاده، وقد لقّنه درسين جديدين هامّين: الأول نقده الشيخ عبده لعزلته وعدم اتصاله بالناس وقصر عنايته على تكميل نفسه من غير اتجاه إلى إصلاح من حوله، ولم يكتف الشيخ درويش في ذلك بالكلام النظري بل حمله على أن يغشى المجتمعات في البلد معه ويتحدث إلى الناس ويعظهم ويذكرهم، ويدعو محمد عبده للتحدث معهم كحديثه ونصحهم كنصحه، وهو درس انتفع به محمد عبده ونفّذه طول حياته إلى نفسه الأخير، فإن زاد السيد جمال الدين شيئًا في هذا الدرس فهو تعليمه كيف يختار موضوعات الكلام في الإصلاح. والدرس الثاني الذي علمه الشيخ درويش هو هدمه للنظرية الأزهرية التي تقول إن هناك علومًا تُعلّم وعلومًا لا تُعلّم، فكسر الشيخ درويش هذه الحدود وقرر أن كل العلوم يجب أن تُعلّم ويجب أن يطلبها الطالب ما أمكن، ولا يستثني من ذلك شيئًا إلا ما يتخذ شكل العلم وليس بعلم كالسحر والشعوذة أما المنطق والفلسفة والرياضيات وما إلى ذلك فليست بحرام بل هي واجبة على طالب العلم. ومن أجل ذلك عاد الشيخ محمد عبده إلى الأزهر يطلبها فوجدها عند الشيخ حسن الطويل، وهو شخصية غريبة، ذكاء حاد، ومعرفة بالرياضات حتى كان يحل لطلبة دار العلوم ما أشكل عليهم من تمرينات هندسية، واتصال بكتب الفلسفة القديمة وعلم بمصطلحاتها ومعرفة بالدنيا وبالسياسة، وشجاعة في الكلام بما يعتقد ولو حُرم منصبه في دار العلوم، وزهد في الدنيا حتى لا يهمه منها شيء، يلبس قفطانًا من البفتة وجبّة من البفتة أيضًا، ويقال له: إن علي مبارك باشا سيزور دار العلوم غدًا فيعزم أن يلبس كما يلبس كل يوم، فيُنصح بأن يتخذ شيئًا من الأناقة، فيقول: إذن أبعث بجبة من الصوف وقفطان من الحرير إلى دار العلوم، أما إن أردتم «حسن الطويل» فهو هو في ملبسه. ويُدعى إلى موائد الأغنياء للإفطار في رمضان فيأكل من طبق الفول ويزهد فيما عداه، ويُطرد من دار العلوم لكلامه في السياسة فينفق عليه صاحب مقهى بلدي، فإذا عاد إلى عمله سلمه الشيخ حسن الطويل مرتبه ليصرف عليه كما كان يفعل وهو مطرود. ويدرس في الأزهر الفلسفة والمنطق فيحضر دروسه نخبة من الطلبة مثل محمد عبده فيُرمى هو وتلاميذه بالزندقة.

ولكن دروس الشيخ الطويل تفتح شهية الشيخ محمد عبده ولا تغذيه، فيجد الغذاء الكافي عند السيد جمال الدين عند حضوره إلى مصر، فيتصل به ويلازمه وتتفتح له آفاق كانت مغلقة ويحس أنه وجد طلبته.

•••

كان السيد جمال الدين الأفغاني شعلة ذكاء، وقوة هائلة، متحركة محركة، لا يمسها ماس إلا شحن من كهربائه على قدر استعداده، دائم التفكير دائم القول لمن يفهم ومن لا يفهم، دائم النقد، دافع للحركة والثورة والهيجان في المطالبة بالحقوق، حيثما حل رأيت نارًا تشتعل وأفكارًا تهيج، ومطالب تُطلب، وحكومة تضطرب قد حدد غرضه في الحياة ووهب نفسه للوصول إليه، وهو إنهاض الدول الإسلامية من ضعفها، وتبصرة شعوبها بحقوقها، ورفع نير الأجنبي عنها، وتحديد مركز الحاكم والمحكوم فيها، وربط هذه الدولة كلها برباط واحد مع الخلافة في الأستانة.

ووسيلته في ذلك تنوير عقول الخاصة من أبناء كل دولة حتى يعرفوا مركزهم، وإعدادهم لمهاجمة الغاصبين من الأجانب والمستبدين من الحكام، ثم هؤلاء يعملون لتكوين الرأي العام بكتابة المقالات في الجرائد والمجلات والخطب في المحافل، والأحاديث في المجالس؛ وكلما كانت المقالات والخطب أحر نارًا وأجهر بالرأي وأصرح في الدعوة إلى العمل كانت أجود وأنسب. هذه خطته في كل بلد يحله.

اتصل به في مصر محمد عبده، وسعد زغلول، وإبراهيم اللقّاني، وإبراهيم الهلباوي. كما اتصل به في مجالسه الخاصة محمود سامي البارودي، وإبراهيم المويلحي، وأديب إسحق وغيرهم، كان له درس علم في بيته، ودروس سياسة واجتماع في مقهاه الذي يجلس فيه، وحيث يكون زائرًا أو مزورًا.

وكان أقربهم إلى نفسه محمد عبده؛ قرأ فيه «السيد» الذكاء وحُسن الاستعداد وطيب القلب والحماسة للإصلاح، وقرأ محمد عبده في أستاذه سعة العقل، وصحة الإرشاد، والسمو في النفس، ونبل الغرض، وشيئًا جديدًا لم يره في الأزهر.

لم تكن الكتب التي قرأها عليه محمد عبده ذات قيمة في نفسها، فهي من جنس ما كان يقرؤه على الشيخ حسن الطويل، ولكن العبرة ليست بالكتاب، ولكن بشارح الكتاب، والعالم الماهر يستطيع أن يصبّ كل تعاليمه أثناء كلامه على نملة أو نحلة، ورأى جملة في نظره يستطيع أن ينفذ منها إلى العالم الفسيح.

استفاد محمد عبده من السيد بصرًا بالدنيا التي حجبها الأزهر، وتحوُّلًا من تصوف خيالي إلى تصوف فلسفي عملي، ورغبة صادقة في العمل للأمة، وشوقًا إلى الإصلاح الديني والخلقي والاجتماعي، وميلًا مُلِّحًا إلى إجادة قلمه حتى يتصل بالرأي العام عن طريق الكتابة في الصحف.

وأحسن الشيخان وحدة الغرض والانسجام فتلازما وتحابًّا، يحب محمد عبده أستاذه حب إجلال، ويحب الأستاذ تلميذه الكبير حب رعاية وأمل في استخلافه، ووثّق الصلة بينهما اشتراكهما في الإباء والعلو والعظمة، إذ يترفعان عن الناس في غير كبر، ويستصغرانهم في عطف من غير احتقار. يقول محمد عبده: «إن أبي وهبني حياة يشاركني فيها علي ومحروس (وهما أخوان له كانا مزارعين) والسيد جمال الدين وهبني حياة أشارك فيها محمدًا وإبراهيم وموسى وعيسى والأولياء والقديسين».

•••

نال الشيخ محمد عبده شهادة العالمية من الأزهر فلم يكن كغيره كساقية جحا تملأ من البحر وتصب في البحر، بل علّم في الأزهر، وعلّم في دار العلوم، ومدرسة الألسن، واتصل بالحياة العامة.

•••

لم يعلِّم في الأزهر النحو والفقه كما كان يفعل غيره من المشايخ وخاصة المبتدئين بالتدريس، فالنحو والفقه كما يُدرَّسان في الأزهر من العلوم النقلية وهو يريد أن يربي العقل، ويفهم الكون، ويهذب الخلق. كان يقرأ في الأزهر أو ملحقاته درسًا في المنطق والفلسفة والتوحيد، وكان يقرأ في بيته لبعض الطلبة تهذيب الأخلاق لمسكويه، واعجب له يقرأ لهم أيضًا «تاريخ المدنية في أوربا وفرنسا» لمؤلفه الفرنسي «فرانسوا جيزو» الذي عرّبه «حنين نعمة الله خوري» وسمّاه «التحفة الأدبية في تاريخ تمدُّن الممالك الأوربية».

وعُيِّن مدرسًا للتاريخ في دار العلوم فلم يقرأ لهم ملخصًا من ابن الأثير والطبري وإنما قرأ لهم مقدمة ابن خلدون، وألّف لهم كتابًا في «علم الاجتماع والعمران» فُقد ولم يُعثر عليه.

واتصل بالجرائد وخاصة الأهرام يكتب فيها مقالات في الإصلاح الخلقي والاجتماعي.

•••

كانت مصر في آخر عهد إسماعيل هائجة مائجة إذ وقعت في الدَّين، فمكّن هذا أوربا من التدخل في الشئون المصرية، ومراقبة ماليتها. فأُنشِئ صندوق الدَّين والمراقبة الثنائية سنة ١٨٧٦م = ١٢٩٣هـ وتغلغلت سلطاتها في المصالح الحكومية باسم الدَّين. ومن الناحية الداخلية كان الوعي القومي ضعيفًا لا يرى الناس لهم رأيًا يصح أن يبدوه، وليس لهم أن ينقدوا عمل الحاكم، فما على الحاكم إلا أن يأمر وما على المحكوم إلا أن يطيع، فكانت هذه الأمور كلها مدعاة لأولى الرأي في الأمة أن ينهضوا بالصحافة ويشيعوها بين الرأي العام ويقووها، وتعاون على إنهاضها الخديو إسماعيل والسيد جمال الدين الأفغاني ورياض باشا؛ فأما الخديو إسماعيل فرأى من مصلحته ومصلحة الأمة أن تكون الجرائد حرة في نقد التدخل الأوربي، أما إذا نقد هو شخصيًّا فالعقوبة الشديدة، كما حدث لصاحب جريدة الأهرام لما أشار إلى مال صُرف من الخزينة ولم يُعلم مصيره، وكما نُفي يعقوب صنوع صاحب جريدة «أبو نضارة» لانتقاده أعماله.

وأما رياض باشا فكان ذا رغبة إصلاحية في تنظيم الشئون المالية وتهذيب العقول وتشجيع الآداب، وكان مدركًا الخطر الذي يهدد البلاد، فلعل في الجرائد وحريتها ونقدها وتنبيه الشعور القومي ما يدفع هذا الخطر، ولهذا شجّع السيد جمال الدين وحزبه على الكتابة.

وأما السيد جمال الدين فثائر على سوء الحال في مصر وجمود الناس وبرودتهم إزاء ما يكتنفهم، فهو يريد أن يشعلها نارًا، ولا أصلح لذلك من الجرائد، ولعل دروسه في الفلسفة لم تكن إلا ستارًا لبث روح الثورة وإعداد طائفة من الشبان يتصلون بالصحافة ويكتبون.

رَبَّى على هذا طائفة من الشباب الذين ذكرنا.

فبعد اتصال محمد عبده بالسيد بدأ يكتب في الأهرام في السنة الأولى من صدورها سنة ١٨٧٦، وكان مجاورًا، قبل أن ينال شهادة العالمية، فكتب مقالًا في «الكتابة والقلم» وآخر في «المدبر الإنساني والمدبر العقلي الروحاني» وثالثًا في «العلوم العقلية والدعوة إلى العلوم العصرية» إلخ، وهي مقالات تدل على تأثُّر بالكتب الفلسفية الشرقية التي درسها وعلى رغبته الخيّرة في الإصلاح، وعلى ما يبشر بالخير منه أكثر مما تدل على أسلوب قوي وبلاغة ممتازة.

ثم اتصل بالصحافة اتصالًا قويًّا بعد أن نال شهادة العالمية، بعد أن تنازل الخديو إسماعيل عن عرشه، وتولى توفيق ونفى أستاذه جمال الدين، وتولى رياسة النظّار رياض باشا فجدّ في تنظيم شئون الدولة من مالية وأشغال ومعارف، وكان له ميل قوي إلى تشجيع الحركة الأدبية، فشجّع بطرس البستاني على إخراج دائرة المعارف، وكان واسطة في أن يمنحه الخديو إسماعيل منحة مالية وعلمية، وشجّع أصحاب مجلة المقتطف على نشرها، وشجع شبلي شميل صاحب مجلة الشفاء. ولما سمع بعزمه على السفر لدراسة الأساليب الحديثة لمرض السل أعانه إعانة مالية على ذلك.

واتجه فيما اتجه إلى إصلاح «الوقائع المصرية» واختار الشيخ محمد عبده لهذا الإصلاح، فضمَّ محمد عبده إليه سعد زغلول، والشيخ عبد الكريم سلمان، وإبراهيم الهلباوي والشيخ محمد خليل والسيد وفا. وكان من وسائل إصلاحهم إنشاء قسم في الوقائع غير رسمي بجانب الأخبار الرسمية تُحرر فيه مقالات أدبية اجتماعية إصلاحية، وكان الشيخ محمد عبده هو المحرر الأول.

مكث الشيخ محمد عبده في هذا العمل نحو ثمانية عشر شهرًا. وفي الحق أنه برهن فيها على شخصية قوية، فجعل من هذا العمل العادي رقابة على المصالح الحكومية ومنبر للدعوة إلى الإصلاح، فاستصدر قرارًا بلائحة تجعل جميع إدارات الحكومة ومصالحها الكبرى ملزَمة أن تكتب إلى إدارة المطبوعات بجميع ما لديها من الأعمال الهامة والتي تنوي عملها، والمحاكِم أن ترسل جميع نتائج أحكامها وتُبيح لإدارة المطبوعات حق النقد لأي عمل من الأعمال حتى وزارة الداخلية التي يتولاها رياض باشا والتي تُعدّ إدارة المطبوعات تابعة لها، وأن تسأل كل مصلحة عن حقيقة ما وُجِّه إليها من نقد في الجرائد العربية والأفرنجية، وعلى الجملة جعلها أداة إشراف على الحكومة وعلى ما يُنشر في الجرائد العربية من حيث لغتها وموضوعها، وعلى الجرائد الأجنبية من حيث نقدها، وقد وافق هذا هوى في نفس رياض لأنه يمكنه من ضبط الأمور والإشراف على الجرائد. وقد كتب في هذا العهد مقالات كثيرة أهمها في نقد نظارة المعارف، وكان من أثر ذلك إنشاء المجلس الأعلى لها واختياره عضوًا فيه، ونقد لبعض الأخلاق والعادات الاجتماعية والدينية، وتوضيح لنظام الشورى وما يصلح منه في مصر، وأحيانًا تصريحًا أو تلميحًا في تأييد لوزارة رياض باشا ومدحها.

والواقع أن وزارة رياض باشا قسمت البلاد قسمين: مؤيد ومعارض، والمعارض معارض بالحق وبالباطل.

كان رياض يريد الخير لمصر ولكن من طريق التدرج، ويعتقد أن المصريين في حالة تدعو إلى الإشفاق والأخذ بيدهم في هوادة، وهو في هذا قوي جبار ينفّذ ما يريد في عنف، له لازمة وهي «هيه» إذا قالها رُعب من حوله، لا يعبأ إذا اقتنع بشيء من إصلاح أو بشخص من الأشخاص أن ينفذه ويؤيده مهما كانت النتائج، وإلى ذلك يعتقد في الأجانب من إنجليز وفرنسيين القوة ويسالمهم، ويرى الطريق الوحيد هو التفاهم معهم.

فتألبت عليه الجموع؛ منهم من كرهه لصلفه، ومنهم من كرهه لعدله في إبطال السُخْرة والضرب بالكرباج، ومنهم من كرهه لسيرته مع الأجانب حتى سمَّوه «رياضستون» على وزن «جلادستون»، ومنهم الطموح الذي كرهه لرجعيته، وشعر الناس بغضب الخديو توفيق عليه لأنه يعارضه في بعض أغراضه وتصرفاته، فشجعهم هذا على محاربته، وتخصصت جرائد لتجريحه وسبّه، مع أنه كان مؤيدها من قبل أو خالقها.

هنا بذرت بذرة الثورة العرابية، وفي هذه الظروف كان الشيخ محمد عبده على رأس الوقائع وإدارة المطبوعات، فكان يُهاجَم لأنه من اتباع رياض، وكان هو نفسه يشعر بالحرية التامة في نقد الشئون الاجتماعية والعادات الدينية، لكنه يشعر ببعض القيود فيما يمس المسائل السياسية إما اعترافًا بجميل رياض عليه وعلى أستاذه، وإما نزولًا على مقتضيات الوظيفة، وإما اعتقادًا بمذهب رياض في التدرج، وإما كلها مجتمعة.

حتى كانت الثورة العرابية.

•••

يكاد يكون في كل جماعة نوعان من القادة: نوع طموح يريد القفز إلى الأمام ولا يرضيه السير البطيء، ولا التفكير الهادئ، ونوع يرى الخير في الهدوء والسير في معالجة الأمور برفق، والإيمان بقانون السبب والمسبب، فإن أردت النتيجة فكوّن مقدماتها؛ وهذا الميل إلى هذا أو ذاك يتبع المزاج الخلقي — أولًا — والتربية والظروف — ثانيًا — فمن الناس من خُلق هادئ المزاج يصغي إلى حكم العقل، ومنهم من خُلق ناري المزاج يحكم بعواطفه ويحكِّمها؛ وهذان النوعان يسميان أسماء مختلفة باختلاف الأمم والأزمنة: أحرار ومحافظون اشتراكيون وغير اشتراكيين أحزاب اليمين وأحزاب اليسار إلخ. والمعنى واحد وإن تعددت الأسماء.

وكان في مصر في أول عهد الخديو توفيق بالطبيعة هذان المزاجان أو هاتان النزعتان كلاهما يتفق مع الآخر في وصف سوء الحال: الفلاح بائس وشقي وجاهل ومظلوم، ومصر كلها شقية بما جرّ إليها الخراب من إسراف وتبذير واستدانة، وهي شقية أيضًا بتدخل الأجنبي وخاصة الإنجليز والفرنسيين في شئونها حتى تفاصيلها، وشقية بأداتها الحكومية من انتشار الرشوة والمحسوبية وتفصيل العنصر الشركسي والتركي على المصري، وشقية بأن سواد الشعب ضعيف، مستكين للظلم، لا يرفع صوتًا من أي جور يناله، ولا يفهم أن له حقًا يطالب به كل الأطباء من الفريقين متفقون على تشخصي المرض، فإذا هم أخذوا في وصف العلاج اختلفوا.

فأما فريق المحافظين فيرون برنامج العلاج:
  • أولًا: في نشر التعليم الصحيح بين أفراد الشعب، على أن يكون من أهم ما يشمله تفهيم الناس الحقوق والواجبات.
  • ثانيًا: استخدام الصحافة استخدامًا قويًّا في محاربة المفاسد وتنبيه الوعي القومي.
  • ثالثًا: الاجتهاد في أن يكون رئيس الحكومة حازمًا عادلًا ينفذ الإصلاح المعتدل المنشود في قوة.
  • رابعًا: التدرج في الحكم النيابي بالتوسع في سلطة مجالس المديريات مثلًا تبعًا للوعي القومي، فإن رقي هذا الوعي بالتربية والتعليم نمّا المجلس النيابي تبعًا له حتى يصبح بعد سنوات والوعي القومي قوي، والمجلس النيابي قوي، ولا فائدة من مجلس نيابي يوضع وضعًا قويًّا ما لم تسنده الأمة والرأي العام. ولا يمكن ذلك الآن والأمة في حالة قلّ أن نجد فيها معارضًا قويًّا يجرؤ على نقد الحكومة. وكان من هذا الرأي محمد عبده، وسعد زغلول، ومن لفّ لفهما، وبهذا دعوا فيما كانوا يحررون في الوقائع المصرية وفيما كانوا يقولون ويخطبون، وكانوا يرون في رياض باشا وهو على رأس الوزارة المحقق لهذا الغرض، فهو عدل نزيه حازم ميّال للخير محب للإصلاح قابل للاقتناع ممن يثق به على الرغم من عيوبه الأخرى.

أما الطائفة الأخرى فكانت نواتها أفرادًا تعلموا في أوربا لا عن طريق البعثة، وعاشوا فيها زمنًا طويلًا ورأوا نظمها ولمسوا حرية أفرادها، وأُعجبوا بحرية ساستها في نقد الحكومة وأعمالها، وعادوا إلى مصر فتقززوا من حالها ونظامها، فدعوا في مجالسهم وجرائدهم إلى إصلاح وثّاب. أو أفرادًا تعلموا على الأنماط الأوروبية، وتثقفوا ثقافتها، وهؤلاء يريدون حرية شخصية للفرد في أعماله وعقائده، ولا يبيحون للحكومة أن تتدخل فيها، ما لم يقع العمل تحت سلطة القانون، وحرية سياسية تامة في نقد الحكومة وأعمالها، وأهم ما في هذا الباب إنشاء مجلس نيابي مستقل على النظام الإنجليزي أو الفرنسي له الإشراف العام على الحكومة، وهي مسئولة أمامه لا أمام الخديو. وكان على هذا الرأي بعض المصريين، وبعض الجالية السورية.

وتجادل الفريقان في هذه المبادئ أيما جدال؛ وهذا ما يفسر كل ما صدر من الشيخ محمد عبده في مقالاته في الوقائع وغيرها، فهو يعنى فيها بأمر التربية والتعليم، ويلحّ في إصلاحهما وينال من ذلك بعض غرضه، وينقد العادات السيئة، ويدعو إلى التخلص منها، ويدعو إلى احترام القوانين وإطاعتها. ومن ناحية أخرى يكتب مقالًا عنوانه «خطأ العقلاء» يهاجم فيه الفريق الآخر، في دعوته إلى الحرية الشخصية، والحرية الاجتماعية، ففي الحرية الشخصية يرى أنها ضارة ما لم تُدعّم بالتربية، وإلا سقط الناس في الخمر والقمار وهتك الحرمات، وجاهروا بالإلحاد. بل نراه يفضل «الكبسة» على الحرية الشخصية من غير تربية، والكبسة عادة كانت جارية، وهي أن يهجم رجال الضبط على بعض الأماكن المشبوهة ليلًا ليقبضوا على من يظن فيهم الاجتماع لخمر أو فجور؛ فيقول «فالكبسة على ما كان فيها من الخطر على الأنفس والأموال وشناعة الصورة لو أحسن فيها القصد لكانت أولى وأفضل إلى زمن تتقدم فيه التربية، فيكون لكل شخص زاجر من نفسه، فترتفع الكبسة بذاتها» وكذلك رأيه في الحرية السياسية، يرى أن يبدأ بإصلاح المجالس البلدية وتعويد الأهالي السير عليها قبل مجلس نيابي منقول نظامه عن أوربا. ثم يستمر متمسكًا بهذا الرأي حين يقول: «إنما ينهض بالشرق مستبد عادل» ردًا على من يرى أنه إنما ينهض بالشرق حكم نيابي شامل. ويرى في هذا المقال أن هذا المستبد العادل يستطيع أن يفعل في خمسة عشر عامًا الأعاجيب وينقل الأمة خطوة واسعة إلى الأمام.

ويرى الفريق الآخر بأن الحرية الشخصية حق طبيعي للإنسان لا يصح أن يُهدر لأي سبب، ومثل من يقول بالقضاء عليها لسوء استعمالها كمن يريد إبطال السكك الحديدية لأن القطار يقتل بعض الأفراد، والعفَّة التي تحتاج إلى حارس أقل قيمة من أن يحرسها حارس.

وأما الحرية السياسية فلا بد منها لمعالجة ما أصاب البلاد من الاستبداد، والمستبد العادل إذا ظفرت به أمة أعقبه في الأعم الأغلب مستبدون ظلمة، فلا يصلح إلا أن يكون علاجًا مؤقتًا. والحكم النيابي هو الأمل الوحيد في الإصلاح، فإن كان الناس لم يتعودوه فليتعودوه، ولا بأس من مضي قليل من الوقت حتى يألفه الناس ويسيروا عليه.

وكان من ألسنة هذه الدعوة شاب سوري اسمه أديب إسحق. كان ذكيًّا كاتبًا شاعرًا خطيبًا مثقفًا ثقافة واسعة، مطلعًا على شئون العالم الأوربي وتاريخه، يجيد العربية والفرنسية والتركية مطلعًا على آدابها، وأسلوبه في الكتابة أقوى من أسلوب الشيخ محمد عبده وصحبه يوم كانوا يحررون في الوقائع، تتلمذ أيضًا للسيد جمال الدين في مصر، وتشرب من روحه، وكان متأثرًا تأثرًا كبيرًا بالعقلية الفرنسية، على حين كان الشيخ محمد عبده متأثرًا بالعقلية الأزهرية والشرقية. وحتى في سيرته الشخصية كان مستهترًا مسرفًا على نفسه، على حين كان الشيخ محمد عبده متدينًا ورعًا.

كان لأديب إسحق هذا جريدتان يحرر فيهما، وهما «مصر» و«التجارة»، وكان شعلة ملتهبة يعيش عيشة عنيفة على حساب أعصابه، فكان يهاجم الاستبداد، ويطالب بالحكم النيابي في أكمل صوره. يقول: لقد عرف الناس الآن شرور الاستبداد. وترفعت نفوسهم بالعلم عن الرضا به، وصار الأمر شوري عند جميع الدول المتمدنة إلا الروسيا، وذلك إن صحت تسمية الدولة المستبدة مطلقًا بدولة متمدنة. إن ثورة فرنسا برزت إلى عالم الفعل عام ١٧٨٩ وصدمت قوة الاستبداد فزلزلتها، ودفعت سطوة التقليد فضعضعتها، ورفعت عن العيون نقابها، وعن النفوس حجابها، فآنست من جانبها نور الحرية، وخلعت جلابيب الرق والعبودية، فتصدى لها أعوان الرق وأنصار العبودية وما آلوا في قتالها جهدًا، فلقيتهم وهي ترى الموت في الحرية حياة، والحياة في الرق موتًا، فلم يبلغوا منها قصدًا، ورسّخت في عالم الوجود قدمها، وأدهشت الدنيا بشدة حولها إلخ. ويهاجم رياض باشا وصحبه في مذهبهم، وينعي عليهم اعتقادهم في ضعف المدارك المصرية، ويقول: «زرت رياض باشا على عهد الوزارة الأجنبية في ديوان الداخلية، فقابلته خارجًا من الغرفة فجلسنا على مقعد الباب، فقال: كيف ترون الحال؟ قلت: رأي الوزير أوسع. قال: وما الذي يبلغكم من أخبار الريف؟ قلت: إن الناس أملوا كثيرًا ولم ينالوا شيئًا فأوشكوا أن يعودوا إلى اليأس بعد الرجاء، والوزير يعلم أن النكسة شر من الداء، فقال بازدراء: فليرجعوا إلى حالة الخسف، ويعانوا عذاب الظلم. قلت: إنهم لا يرومون ذلك، ولكن يرومون نيل الحرية وتأييد الكلمة الوطنية. فقال متهكمًا: ألا يرجون مجلس النواب؟ قلت: لا بدع أن يُطلب الشيء من معدنه. فقال: أي معدن في مثل هذا المجلس؟ وكيف يُرجى له البقاء، وليس في مصر من يعلم شيئًا من أحوال السياسة الدولية ليصلح أن يكون نائبًا؟ قلت: إن صحّ هذا الرأي فلا يقضي بحرمان البلاد من نعمة الشورى، فإن النواب المصريين يستطيعون النظر في أمورهم الداخلية وأحوالهم الزراعية وما يترتب عليه نفع البلاد ليستجلبوه، وما ينشأ عنه الضرر ليجتنبوه، وهم بذلك أحق من غيرهم، فإن صاحب البيت بالذي فيه أدرى. فهمهم بكلام لا يُفهم وانصرفت».

وكان يكثر الكلام في الوطن والوطنية، والحقوق والواجبات، والدستور وغير ذلك من الموضوعات الملونة بالثقافة الفرنسية، مع الاجتهاد في وضع مصطلحات عربية موفقة.

وكان زعيم أديب إسحق وصحبه هو شريف باشا، إذ كان شريف كما صوّره الشيخ محمد عبده «من أقوى عوامل النهضة التي انقلبت إلى فتنة. كان من القائلين بأن النفوذ الأجنبي قد بلغ حدًا لم يكن يمكن أن يبلغه لو لم يتساهل رياض باشا بالتسليم للأجانب في كل ما يطلبون. وكان يقنع جلساءه أنه إذا حكم أوقف الأجانب عند حدودهم وسار بالوطن شوطًا عظيمًا في مجده»، وكانت سياسته إنشاء مجلس النواب في صورة قوية «وأخذ الناس يقولون: لا صلاح في الاستبداد بالرأي وإن خلصت النيات، فرأي واحد عرضة للخطأ وإن تحققت نزاهته من الغرض».

وكان هؤلاء ينظرون إلى محمد عبده وصحبه وعلى رأسهم رياض بأنهم حزب رجعي. ويظهر أنه لم يكن رجعيًّا وإنما كان حزبًا مصلحًا محافظًا يرى التؤدة ولا يرى الطفرة.

وقد أغلق رياض جريدتي «أديب إسحق ونفاه»، ولما ألّف شريف مجلس النواب استداعاه وعيّنه رئيسًا لقلم الإنسان والترجمة بنظارة المعارف، ثم سكرتيرًا في مجلس النواب، ثم مات شابًا في التاسعة والعشرين من عمره.

ومع الأسف لم يكن مصدر الثورة هذا الحزب الذي يطالب بالمجلس النيابي والحرية الشخصية، ولو كان لاتخذت الثورة وضعًا آخر، ولنُظر إليها على أنها ثورة من الأمة لتحقيق العدل. إنما بدأت الثورة من الحزب العسكري وعلى رأسه عرابي يطالبون بتحقيق المساواة بين الضباط المصريين والضباط الشركسيين، ولكن اتسعت الثورة رويدًا رويدًا، وزادت مطالب عرابي باشا شيئًا فشيئًا؛ فتزعم أيضًا الوطنيين وطلاب المجلس النيابي، وانضم إليه سلطان باشا أول الأمر، وكان من الناقمين على رياض والمطالبين بالحكومة النيابية، وبانضمامه انضم كثير من الأعيان وعلماء الأزهر، ثم انضم الشعب بأجمعه تهيّجه الجرائد الثائرة، وعلى رأسها عبد الله نديم، وامتزجت مطالب الجنود بمطالب الأعيان بمطالب الأهالي، وطلب العدالة الضباط بطلب الحكم النيابي بإلغاء الاستبداد ذلك وكل تنفّذه القوة العسكرية.

لو حكّمنا منطق الواقع فيما سيحدث لقلنا: إن الشيخ محمد عبده لا ينغمس في هذه الثورة العرابية مطلقًا لا في أولها ولا في آخرها؛ لأنه لا يؤمن بالحكم النيابي السريع، ولأنه يشايع رياض باشا، ولأنه لا يرضى أن تكون الثورة بيد العسكريين، ولأنه يكره شخصيًّا عرابي باشا، ويعتقد أنه شهم في الكلام ضعيف في الحرب، يحتكم إلى المنامات أكثر مما يحتكم إلى العقل، أليق به أن يكون واعظًا للعوام من أن يكون زعيم أمة، وإن كان طيب القلب حسن النية، ولكنا نجده بإقراره مناهضًا للثورة في أولها، مشايعًا لها في آخرها. وليس بصحيح ما يقال من أنه لما تطور أمر الثورة من مطالبة بالمساواة العسكرية إلى مطالبة بالحكم النيابي انضم إليها، فإنه لم يكن يؤمن بالحكم النيابي العاجل كما قدمنا. إنما الأمر في نظري أن مسائل الحياة لا تجري على المنطق دائمًا وخاصة أيام الثورات. وحوادثنا القريبة في ثوراتنا الحديثة أكبر شاهد على ذلك. فكم انتقل رأي الكبراء من ناحية إلى ناحية تحت تأثير تيار الرأي العام؛ فالشيخ محمد عبده رأى كل الأمة في ناحية الثورة، واشترك فيها المسلمون والأقباط واليهود، ولم يشذ عنها إلا أحد رجلين: رجل لا في العير ولا في النفير، وهو لا بد أن يكون في العير وفي النفير، ورجل انضم إلى الخديوي توفيق يشايعه ويتملقه، وتوفيق باشا في نظر الشيخ محمد عبده لا يصح أن يكون أحد بجانبه بعد أن استعان بالدول الأجنبية في إخماد الثورة، ومالأ الأجانب على قومه. أضف إلى ذلك أن الأمر آخرًا لم يصبح أمر حزب أمام حزب، بل أمر مصر أمام الإنجليز، فلا بد أن يكون مع قومه وينشد:

وما أنا إلا من غزية إن غوت
غويت وإن ترشد غزية أرشد

فإذا نحن تساءلنا: ما أثر الشيخ محمد عبده في هذه الفترة؟

قلنا: إن له أثرًا كبيرًا اعترف به حزبه وخصومه والذين حققوا معه وحاكموه.

فقد نبّه الأفكار إلى الإصلاح فيما كتب في الصحف وما تحدث في المجالس، وما اتصل بالهيئات المختلفة، فكان مصدرًا كبيرًا لشعور الناس بسوء الحال والحاجة إلى الإصلاح مهما اختلف هو وغيره في طريق العلاج. وكان يعده أصحابه وأعداؤه من أقوى العقليات الموجودة إن لم يكن أقواها، ومن أقوى الشخصيات التي تعمل للخير حسبما تعتقد من غير أنانية. فمن يوم أن عُيِّن في تحرير الوقائع وهو جمّ النشاط يحرر ويراقب، ويتصل بالمصالح الحكومية، ويغشى المجالس، مجلس رياض، وعلي مبارك، وسلطان، وعرابي، وطلبة، والسراي. وفي كل هذه المجالس يقول ويجادل، ويقنع ويقتنع، ويثير الحماسة للعمل. وكان للثورة العرابية مصادر، فكان هو مصدرًا من مصادرها، ولكنه سبب بعيد، لا كعبد الله نديم سبب قريب، ثم انقلب الشيخ محمد عبده سببًا قريبًا يوم حميت النار، فلئن اتُهم بأنه من زعماء الثورة وحوكم عليها لقد كان ذلك حقًا.

•••

هذا هو الشيخ في بيروت بعد أن قُبض عليه لاشتراكه في الثورة العرابية وأودع في السجن ثلاثة أشهر للتحقيق، لاقى فيها الأمرّين من اضطهاد وإهانة وشماتة أعداء وتنكر أصدقاء وتضييق بالأسئلة وإحراج في الاستجواب، ثم حُكم عليه بالنفي ثلاث سنوات.

يقيم في بيروت نحو عام سنة ١٨٨٣ وسنه إذ ذاك نحو أربع وثلاثين سنة.

ثم لا يلبث أن يدعوه أستاذه السيد جمال الدين ليوافيه إلى باريس فيلبي الدعوة، ويشتركان في إخراج مجلة «العروة الوثقى»١ للسيد التوجيه والروح ورسم الخطط وإبداء الأفكار، وللشيخ التحرير والصياغة وتفصيل المعاني.

إدارة الجريدة في غرفة صغيرة في سطح منزل في باريس، هي مكان التحرير وملتقى الأتباع ومجمع الأفكار، وهذه الغرفة الصغيرة أثارت الأفكار وأخافت الإنجليز والفرنسيين، وأقلقت راحتهم، أكثر مما أخافتهم عمارات ضخمة وإدارات فخمة، بل أكثر مما أخافتهم الجنود والبنود، فالعبرة بالسكّان لا بالمكان.

وهذا الشيخ محمد عبده يتأثر بباريس، بما يطّلع على شئونها ومعيشة أهلها. فيطيل شعر رأسه ويلبس الطربوش ويحتفظ بالجبة والقفطان، ولكن مع الأسف لم يكن له من الفراغ ما يتعلم فيه الفرنسية، فمهمته تستغرق كل وقته، فهو وأستاذه وقليل من الأتباع يحملون عبء التفكير والتحرير والتصدير، وتمهيد السبل السرية والعقلية لوصول المجلة إلى أنحاء العالم الإسلامي، وتأسيس فروع مركزية لمساعدتها وانتشارها وتحقيق أغراضها.

والقارئ للمقالات التي كان يحررها الشيخ محمد عبده في الوقائع المصرية ومقالات «العروة الوثقى» يرى الفرق الكبير بينهما في الاتجاه والغرض والأسلوب والحرارة.

كانت مقالات «الوقائع» بحكم الطبيعة تقصد إلى الإصلاح الاجتماعي في مصر وحدها بأسلوب هادئ يغلب عليه العقل والتحفظ والتدرج، ومقالات العروة الوثقى تنظر إلى العالم الإسلامي كله على أنه وحدة، فإن ذكرت مصر أو الهند فعلى سبيل المثال، وكانت تقصد أول ما تقصد إلى مناهضة الاحتلال الأجنبي بجميع أشكاله، وتهدف إلى رفع نيره عن العالم الإسلامي كله عن طريق ثورة الشعوب، وبث روح العزة القومية بواسطة العقيدة الدينية الصحيحة، وخلق الأمل في النجاح مكان اليأس، وتوثيق الصلات بين الشعوب الإسلامية كلها لتتعاون على دفع أذى الأجنبي عنها، والتخلص من المستبدين الظالمين من أهلها، وتأسيس الحياة الاجتماعية والدينية والسياسة على أسس أصول الإسلام الأولى: من إعداد السلاح ومقابلة القوة بالقوة وطرح العقائد الدخيلة التي تدعو إلى الاستسلام، مثل رمي العبء كله على القضاء والقدر، وإفهام الشعوب أن الإسلام في شكله الصحيح لا يتنافى مع المدنية، ولا يعوق التقدم والوصول إلى ما وصلت إليه الأمم الأخرى.

هذه المعاني القوية أكسبت أسلوب الشيخ محمد عبده قوة لا تجدها في «الوقائع». ثم إننا نلاحظ أن «الشيخ» متى اتصل بالأستاذ فناريّ من ناره، وثائر من ثوراته، وعاطفي من حرارة وجدانه، فإذا انفصل عنه عاد إلى حكم العقل والمنطق وزالت ثورته، وخفت حدته.

وحدث في هذه الأثناء أن سافر الشيخ محمد عبده إلى «لندن» وكانت الثورة المهدية في السودان، والإنجليز لم يثبّتوا أقدامهم في مصر، ووعودهم بالجلاء تتابع، فلعل في رجال الإنجليز من أعضاء البرلمان من يصغي إلى صوت الإنسانية، وحق البلاد في الاستقلال، فكان الشيخ محمد عبده وقد عاد إلى عمامته في البرلمان الإنجليزي يحدِّث أعضاءه، ويحدِّث رجال السياسة، ورجال الصحافة، وهو في كل ذلك وطني مصري مخلص يطلب الجلاء والوفاء بالوعود، ويوضح حقيقة الحال في الثورة العرابية ودسائس الأوربيين فيها، وكراهية الشعب للحكم الأجنبي، وأنهم يفضلون استبداد الحكام من أهلها على الأجنبي من غيرها مهما كانت سيرته، ويهدد بأن المصريين سوف لا يدفعون الضرائب، وسيجعلون حكم الأجانب مستحيلًا، سواء أكانوا إنجليزًا أو فرنسيين، ويقرر أن انتشار الأمية في مصر لم يفقد أهلها الشعور الطبيعي برغبتها أن تحكم نفسها، والإسلام الذي بين جوانحها يحرِّم عليها الاستسلام لغيرها.

ولكن متى خضعت القوة للحق، ومتى ضحيت المصلحة للإنسانية، ومتى عفا الأسد عن فريسته؟

لقد عاد الشيخ محمد عبده إلى باريس يائسًا، وزاد الأمر سوءًا أن نجحت إنجلترا في اضطهاد «العروة الوثقى» والتضييق عليها، فاحتجبت بعد ظهور ثمانية عشر عددًا منها في ثمانية أشهر، وسافر السيد جمال الدين إلى فارس، وعاد الشيخ محمد عبده إلى بيروت، فإن كانت «العروة الوثقى» لم تخلق أشجارًا كما كانا يؤملان فقد نثرت بذورًا تنتظر الجو الطبيعي والغذاء الصالح لتبدأ في النمو ولتكوِّن بعد أشجارًا وإن انتفع بها الأعقاب.

سكن الشيخ محمد عبده بيروت فانقطع عنه مدد الثورة والهياج السياسي الذي كان يمده به السيد جمال الدين، وعاد إلى طبيعته من ميله إلى الإصلاح العقلي والديني وتجنُّب السياسة، وكانت الظروف حوله تدعو إلى ذلك؛ فقد فشلت الثورة العرابية، وأُقفلت جريدة العروة الوثقى، ولم تنجح مفاوضاته مع الإنجليز، وهو الآن يقيم في بيروت حيث الدولة العثمانية في عهد السلطان عبد الحميد الذي يخنق الحرية ويملأ البلاد بالجواسيس يحصون على الناس أنفاسهم.

لهذا كله كان الشيخ محمد عبده في بيروت عالِمًا ومعلمًا فقط، يملأ زمنه بالتأليف والتعليم، شرح نهج البلاغة ومقامات بديع الزمان، وأخذ يدرّس تفسير القرآن في مسجدين من مساجد بيروت على الطريقة التي اتبعها بعد في مصر، لا يتقيد بكتاب في التفسير خاص، إنما يقرأ الآية من القرآن ويفسرها من عنده بما يختار من التفسير، ويستطرد في شرح أحوال المسلمين ونقدهم حسبما تلهمه الآية.

ودُعي للتدريس في المدرسة السلطانية ببيروت فأصلح برامجها ونقلها إلى درجة أرقى بكثير مما كانت، نقلها من شبه مدرسة أولية إلى شبه مدرسة عالية، وشغل نفسه بالتدريس فيها أكثر الوقت، فكان يدرس التوحيد والمنطق والبلاغة والتاريخ الإسلامي، والفقه على مذهب أبي حنيفة، واتخذ بيته ندوة للحديث العلمي والأدبي والسمر المفيد، وكان لبقًا في دروسه وأحاديثه، يشتاق إليها المسلم والنصراني.

وكان من آثار إملائه ودروسه ما كان أساسًا لما نشره بعد في مصر من رسالة التوحيد وشرح البصائر النصيرية في المنطق.

وعلى الجملة فقد خلق في بيروت حركة علمية راقية استفاد منها كثير من أهلها.

ولم ينس الجرائد، فكان يكتب في جريدة «ثمرات الفنون» مقالات تشبه تلك التي كان يحررها في الوقائع، مثل مقالته في الدعوة إلى «النقد» والحث عليه وأنه أداة لتمحيص الآراء ومعرفة وجه الحق في الأفكار إلخ.

والتفت إلى المصالح العامة للدول الإسلامية، فوضع لائحتين في إصلاح التعليم الديني في مدارس المملكة العثمانية بمناسبة صدور إرادة سنِّية من السلطان عبد الحميد بتشكيل لجنة تحت رياسة شيخ الإسلام لإصلاح البرامج في المدارس الإسلامية، وقد رفع الشيخ محمد عبده إحداهما إلى شيخ الإسلام في الأستانة، يرى فيها أن ضعف المسملين سببه سوء العقيدة والجهل بأصول الدين، وأن ذلك أضاع أخلاقهم وأفسدها، وأن العلاج الوحيد هو إصلاح التعليم الديني، وقد رسم لذلك خططه.

ورفع لائحة أخرى إلى والي بيروت تتضمن إصلاح سوريا ووصف سوء حالها وتقسم النزعات السياسية لها بانتشار المدارس الأجنبية فيها، واقترح تعميم المدارس الوطنية، وإصلاح برامج التعليم الديني والعناية به.

ومع انقطاعه للعلم وبعده عن السياسة لم يخل من متاعب، بسبب حسد بعض الضعفاء الجبناء، أو بسبب حدة مزاجه، وكان إذا احتد جرح، فاضطر إلى ترك التدريس في المدرسة السلطانية لما شعر بسوء جوها.

كانت مدة نفيه التي حُكم عليه بها ثلاث سنوات، ولكنه مكث في المنفي نحو ست سنين، لأن الأمر لم يكن حكمًا بالنفي فقط، بل كان أكثر من ذلك غضب الخديو توفيق عليه، لأنه كان ممن اتُّهم في الثورة العرابية بجهره بخلع الخديو؛ وربما كان هذا هو السبب الحقيقي في محاكمته دون غيره ممن اشتركوا في الثورة العرابية مثل اشتراكه. وقد كرر هذا المعنى أثناء حديثه وهو في إنجلترا مع بعض مكاتبي الجرائد، فقد سأله مكاتب «البول ميل جازيت» عن رأيه في الخديو، فقال الشيخ: «إن توفيق باشا أساء إلينا أكبر إساءة، لأنه مهد لدخولكم بلادنا، ورجل مثله انضم إلى أعدائنا أيام الحرب لا يمكن أن نشعر نحوه بأدنى احترام، ومع هذا إذا ندم على ما فرط منه وعمل على الخلاص منكم ربما غفرنا له ذنبه إننا لا نريد خونة وجوههم مصرية وقلوبهم إنجليزية».

لهذا كان من العسير عودته إلى مصر في عهد توفيق، ولكن عادت وزارة رياض باشا إلى الحكم وسعى عند الخديو جماعة في العفو عنه، منهم الأميرة نازلي، ولم تكن تعرفه ولكنها سمعت عنه كثيرًا من رجال منتداها ومنهم سعد زغلول، وكانت حسنة الصلة مقبولة الرجاء عند اللورد كرومر، ومنهم الغازي مختار باشا، وأفعل شفاعة كانت بطبيعة الحال شفاعة اللورد كرومر، وقد قال في كتابه «مصر الحديثة»: «إن العفو صدر عن الشيخ محمد عبده بسبب الضغط البريطاني». وينسب بعضهم الفضل الأول في العفو لمختار باشا. والمطلع على الأحوال في ذلك الوقت يعرف أنه ما كان الخديو توفيق يعفو إلا برضا اللورد كرومر أو ضغطه.

وهنا يصح أن نتساءل: ماذا كان وراء الستار؟ واللورد كرومر لا يقدم على هذا لمجرد رجاء البرنسيس نازلي ورجال ندوتها، وهو يعلم ما كان من الشيخ محمد عبده مع السيد جمال الدين في العروة الوثقى التي هاجمت إنجلترا أشد مهاجمة وعدتها أكبر خصم المسلمين؟

الذي يظهر لي أن أصدقاء الشيخ محمد عبده في مصر استوثقوا منه أنه إن عاد لا يشتغل بالسياسة العليا، فقد جرّبها واكتوى بنارها، ولم يفد منها ما يرجو لأمته والعالم الإسلامي، وإنما يعمل على الإصلاح الديني والنظم الدينية، وهذا لا يضر موقف الإنجليز في مصر في شيء. وعلى هذا الأساس قبل اللورد كرومر شفاعة الأصدقاء، وضغط على الخديو توفيق فسمح له بالعودة، وسار الشيخ محمد عبده على النحو الذي سنبينه.

ونتساءل أيضًا: هل يلام الشيخ محمد عبده على هذا الموقف؟

ونرى أيضًا أنه لو أعدّ نفسه ليكون زعيمًا سياسيًّا يرمي إلى تحرير وطنه لكان موضع اللوم في هذه الخطة ولعُدّ ذلك تراجعًا. ولكن يظهر من تاريخ الشيخ محمد عبده كله أنه لا يحب السياسة ويلعنها ويلعن مشتقاتها، ولم يشتغل بالسياسة إلا حين دفعه التيار في الثورة العرابية، أو حين كان تحت تأثير أستاذه السيد جمال الدين الناري المزاج في «العروة الوثقى». أما هو فيرى في نفسه أنه معلِّم منير عقول، مفهِّم للحقوق والواجبات، مصلح للعقيدة الإسلامية، مدافع عن الإسلام، كان كذلك قبل الثورة، وكان كذلك في بيروت، فلم يتنكر لمبادئه حين أفهم اللورد كرومر موقفه بواسطة أصدقائه. ولعل هذا هو سبب ما نلحظه من فتور في العلاقات بين السيد جمال الدين والشيخ محمد عبده من ذلك الحين، «وكل ميسّر لما خُلق له».

•••

ماذا يصنع الشيخ محمد عبده في مصر وقد عاد إليها؟ إن مصر التي يدخلها اليوم غير مصر التي تركها.

لقد أصبح كل شيء في يد الإنجليز، لهم في كل نظارة من يستبد بالأمر فيها دون الناظر، حتى الداخلية وحتى التعليم وحتى الأزهر والمحاكم الشرعية. النُظَّار قطع شطرنج يلعب بها الإنجليز، والمديرون في البلاد خاضعون للمفتش الإنجليزي، والعميد الإنجليزي مقصد كل ذي حاجة، والمقرب إلى الإنجليز مقبول الشفاعة، مقضي الحاجة، واسع الجاه، والمُبعَد عنهم معطل الحوائج، مضطهد، محارب حتى في أدق الأمور والخديو توفيق مسالم يأخذ بنصائح الإنجليز حتى في الجلاء عن السودان، ويقول لمكاتب التيمس: «إن أمامي واحدة من ثلاث خطط في الحكم: إما اتباع نصائح إنجلترا ظاهرًا والعمل على محاربتها في الخفاء، أو إطاعتها إطاعة عمياء، أو أناقش نصائحها بكل صراحة وأبدي آرائي فيها، فإذا قبلت فيها، وإلا فأنا مضطر لقبولها، وقد اتبعت في الحكم الطريقة الأخيرة، فرُميت بالضعف، فهل كان يمكنني أن أقاوم إلى النهاية؟»

إن أهم غرض للشيخ محمد عبده كان إصلاح العقيدة الإسلامية والمؤسسات الإسلامية كالأزهر والأوقاف والمحاكم الشرعية، ومثل هذا الإصلاح لا بد أن يعتمد فيه المصلح على سلطة قوية تحمي ظهره، وإلا كان كأي عالم من علماء الأزهر لا تُسمع له كلمة، ولا يُؤبَه له بدعوة، فعلى أي السلطات يعتمد؟ أعلى الخديو توفيق وهو يكرهه كل الكراهية، ولو ترك الأمر ما أعاده من منفاه؟ ثم هو ليس له من الأمر شيء، ولكنه على كل حال السلطة الشرعية، والمؤسسات الدينية التي يريد إصلاحها أمسّ به.

أم على الإنجليز وفي يدهم القوة، ولو عاونوه في الإصلاح لتحقق بفضل نفوذهم، ولكن أليس من المهانة أن يُستعان على ذلك بالأجنبي المحتل للبلاد؟ ولو استعان بهم لظُلِّلت دعوته بظلال من وحي الأجنبي، وظن الناس الظنون بكل ما يدعو إليه. ولكن هم الذين لهم الفضل في دخوله مصر، ولولاهم لظل مبعدًا، ثم هم لا يمانعون في الإصلاح الديني والمؤسسات الدينية، إذ هذا الإصلاح لا يؤثر في مركزهم في مصر، فما الضرر من الاستعانة بهم لتحقيق الغرض ولو اتُّهِم وكُرٍه؟

أم يعتمد على الأمة وهي ضعيفة منهوكة ممزقة لم يتكون فيها وعي قومي، ولا شعور بالعزة، وكبراؤها أسوأ ما فيها! ثم إن إصلاح العقيدة والمؤسسات الدينية يهيّجها كما هو الشأن دائمًا؛ لأنها أَلفتْ الفاسد حتى لم تشعر بفساده، فإذا دُعيت إلى الإصلاح هاجت وماجت ورمت الداعي بالكفر والزندقة، فكيف يُعتمد عليها في الإصلاح؟

أعتقد أن هذا وأمثاله هو ما كان يدور في ذهن الشيخ محمد عبده ويحيره وهو في طريقه إلى مصر وعند عودته.

وأظن أنه وضع قرارًا في أعماق نفسه بمسالمة الخديو ما استطاع والاستعانة بالإنجليز فيما ينوي من إصلاح.

يدل على هذا أنه وضع تقريرًا بعد عودته عما يراه في وجوه إصلاح التعليم في مصر، ورفعه إلى اللورد كرومر لا إلى غيره تسليمًا منه بأنه القوة الفعالة، ويدل عليه سيرته الواقعية؛ فقد ظل طول حياته بعد عودته يسالم الإنجليز ويتعاون معهم، وهي سياسة لها منطقها؛ فقد كان يرى أن جلاء الإنجليز وصلاح السياسة المصرية لا يأتي إلا عن طريق استنارة الشعب وفهمه لحقوقه وواجباته، وغضبه من الاعتداء على حقوقه وهمّته في أداء واجباته، ومصر لم تبلغ هذا المبلغ، ووسيلة إصلاحها التعليم ثم يرى أن مسألة مصر لا تُحل بمواجهة مصر لإنجلترا، بل بالحالة الدولية العامة، والتفات الدول إلى أن مصلحتها في استقلال مصر؛ وإلى أن يحدث ذلك يجب على القادة أن ينيروا الشعب بالتعليم ولا يجعلوا كل همهم الاشتغال بالسياسة؛ فهو ينقد جمال الدين لأنه صرف كل جهوده في السياسة دون الإصلاح الداخلي للشعوب، وينقد الأميرة نازلي في أنها انصرفت إلى المجهود السياسي ولم تؤسس جمعية للنهضة النسائية مثلًا وإذا حضر مجلسها لم يحب أن يتكلم في السياسة، وهي لا تحب إلا أن يتكلم في السياسة.

وكان في مصر رأيان؛ رأي يقول: إنه لا أمل في الإصلاح الحقيقي إلا بزوال الاحتلال أولًا، ورأي يرى أن الإصلاح الحقيقي الداخلي هو وسيلة الجلاء، وعلى الرأي الثاني كان الشيخ محمد عبده وأصحابه، وعلى الرأي الأول كان مصطفى كامل وأصحابه، وبينهما حرب عوان، يتهم الأولون الآخرين بالرعونة، ويتهم الآخرون الأولين بالرجعية والضعف.

وطبيعي أن يكون الزعماء السياسيون من الرأي الأول، والمصلحون الدينيون والاجتماعيون من الرأي الثاني. وفي الحق أن السيد جمال الدين كان زعيمًا للناحيتين أو على الأقل اعتقد أن رسالته إصلاح العقيدة الدينية والإصلاح السياسي بمهاجمة الاحتلال الأجنبي، ولكنهما لم يجتمعا إلا في يده، ثم من بعده دعا دعاة إلى هذا ودعاة إلى ذلك، فخلّفه في مصر في إصلاح العقيدة الشيخ محمد عبده وتخلى عن السياسة، وخلفه في السياسة فقط عبد الله نديم، ثم مصطفى كامل، ثم سعد زغلول.

ومن الإنصاف إذا قوّمنا الشيخ محمد عبده في هذه الناحية أن نراعي كل ظروفه وكل الأحوال في زمنه، فلم يكن الشيخ محمد عبده بدعًا في هذا الاتجاه، فمثله في ذلك كان السيد أحمد خان المصلح العظيم في الهند، فقد رسم خطته أن يصلح الشئون الاجتماعية والدينية لمسلمي الهند مع مسالمة الإنجليز حتى لا يحاربوه في إصلاحه.

ولما اقتنع بهذه النظرية سار عليها قولًا وعملًا، وقد استُفتي مرة في الاستعانة بالأجانب فكان من فتواه: «قد قامت الأدلة من الكتاب والسنة وعمل السلف على جواز الاستعانة بغير المؤمنين وغير الصالحين على ما فيه خير ومنفعة للمسلمين، وأن الذين يعمدون إلى هذه الاستعانة لجمع كلمة المسلمين وتربية أيتامهم وما فيه خير لهم لم يفعلوا إلا ما اقتضته الأسوة الحسنة بالنبي وأصحابه، وأن من كفرهم أو فسقهم فهو بين الأمرين إما كافر أو فاسق، فعلى دعاة الخير أن يجدّوا في دعوتهم وأن يمضوا على طريقتهم، ولا يحزنهم شتم الشاتمين ولا يغيظهم لوم اللائمين، فالله كفيل لهم بالنصر إذا اعتصموا بالحق والصبر».

فهو في هذه الفتوى يعبّر عن مذهبه ويبرر موقفه، والقارئ لهذه الفتوى يشعر بما يشعر الأستاذ فيها من مرارة وغيظ.

على كل حال هذا مفتاح لفهم سياسته، وما لاقى في حياته من عناء، وفي إصلاحه من دسائس، وفي شخصه من تُهَم، وفي طريقه من عوائق.

•••

عاد الشيخ محمد عبده وهو يأمل أن يكون ناظرًا لدار العلوم أو أستإذن فيها، فيعيد فيها ما بدأ، وينير أذهان المعلمين لينيروا أذهان الطلبة، ولكن لم يرض الخديو توفيق بذلك، لأنه إذا فعل أوصل التيار الكهربائي إلى الأسلاك، وهو تيار بغيض إليه، ولعل الإنجليز أيضًا لم يرضوا ولو شاءوا لضغطوا، فعُيِّن قاضيًا أهليًا في محكمة بنها ثم الزقازيق ثم عابدين، ثم عُيِّن مستشارًا في محكمة الاستئناف، ولم يكن هذا غريبًا، فقد كان يُعيَّن في القضاء أي مثقف ممن تمرن على المحاماة ولم تكن معه شهادة، أو ممن تخرج في دار العلوم أو نحو ذلك.

ورأى نفسه وهو قاض في وسط يدل بمعرفته للقوانين الفرنسية وشروحها، فأبت نفسه الطموح أن يكون أقل شأنًا منهم، فبدأ يتعلم اللغة الفرنسية وهو قاض في عابدين وسنّه إذ ذاك نحو الأربعين، وجدّ فيها حتى بلغ شأنًا لا بأس به، وقد أطلعه تعلمها على ميدان فسيح استفاد منه كثيرًا مما قرأ في اللغة الفرنسية، وقد ترجم كتاب التربية لسبنسر بعد أن نُقل من الإنجليزية إلى الفرنسية، وكان يكمل تعلمه الفرنسية برحلاته إلى سويسرا وفرنسا، ويستمع إلى بعض المحاضرات ويقابل بعض العظماء، وكما يقول: يجدد نفسه.

وقد امتاز في قضائه بتحريه الحق وتقديره العدالة أكثر مما يقدّر نصوص القانون، ويرجع هذا إلى سعة أفُقِه ودراسته للشريعة الإسلامية وعدم تشكّله تمامًا بالقلب القانوني، ولذلك شكا بعض زملائه من أنه يتحرر من النصوص القانونية، ولما سُئل في هذا اعترف به ودافع عن وجهة نظره.

•••

مات الخديو توفيق وتولى الخديو عباس سنة ١٨٩٢ وقد عاد من فيينا ممتلئًا حماسة وغَيْرة وتصميمًا على مناهضة الاحتلال، وأخذه خطة جديدة غير خطة أبيه المستسلمة، والتفّ حوله بعض شباب مصر المتحمسين، وبقايا رجال الثورة العرابية الذين تألّموا من الهزيمة ولم ييأسوا من تغير الحال، ووراءهم تركيا وفرنسا تشجعانهم على حركتهم، وقد ضاع نفوذهما على يد توفيق فأمّلا عودته على يد عباس.

وبدأ الخديو عباس بتغيير رجال الحاشية وإحاطة نفسه بما يتفق وسياسته، وبدأ يتعرف أحوال مصر بنفسه، ويتصل بالموظفين والأعيان، وأحيانًا يرأس مجلس النظار، وبدأت إنجلترا تشعر بما سيصادفها من متاعب على يد هذا الشاب، وتنتهز الفرص لإحراجه، وقد وجدوا هذه الفرصة عندما أقال الخديو مصطفى فهمي باشا من رئاسة النظار، وعيَّن حسين فخري باشا بدله من غير رجوع إليهم، وجاءت برقية من وزارة خارجية إنجلترا بعدم الموافقة على تعيين حسين فخري، وأنه لا بد من أخذ رأيها فيمن يُعيَّن، وأن الخديو إذا رفض فإن العاقبة ستكون وخيمة. وتحرجت الأمور، ورأى عباس أن تنازله عن العرش أهون من رجوع مصطفى فهمي، وأكثر من الاستشارات والاتصالات، وأخيرًا وجد الحل في استقالة حسين فخري وتعيين رياض باشا بالاتفاق مع اللورد كرومر، فكانت هذه أول صدمة للخديو عباس.

رأى الشيخ محمد عبده أن آمال عباس في الإصلاح يجب أن تُستغل، ووضع خطة أن يتقرب إليه ويوثّق الصلة به، ويحسِّن إليه برنامجه في الإصلاح مع حسن علاقته أيضًا بالإنجليز، فيكسب السلطتين ويعتمد عليهما في تحقيق أغراضه الإصلاحية ويتم له ما يريد. ولكن ستبين الحوادث أن هذا خيال، وأن الجمع بين صداقة السلطتين كالجمع بين الماء والنار، وأن إرضاء إحداهما إغضاب للأخرى لا محالة.

على كل حال تقرّب محمد عبده من عباس بواسطة محمد ماهر باشا، ورحّب الخديو بذلك، إذ يسره أن يجمع حوله أقوياء الرجال، وتقابلا مرارًا سرًا وجهرًا، وحسّن إليه الشيخ محمد عبده أن يتجه إلى إصلاح الشُّعْب الثلاث المتصلة بالدين، والتي لا شأن للإنجليز بها، والتي في صلاحها صلاح للأمة، وتقوية لمركز الخديو. إذ في ذلك برهان قوي على أنه إذا وُكل إليه الأمر أحسن خيرًا مما يحسن الإنجليز في إدارتهم، وهي: الأزهر، والأوقاف، والمحاكم الشرعية وليكن البدء بالأزهر فاقتنع الخديو بذلك، وكلّفه تقديم تقرير، ففعل واعتمد، وصدر القرار بتشكيل مجلس إدارة للأزهر برياسة الشيخ حسونة، وفيه الشيخ محمد عبده، والشيخ عبد الكريم سلمان، مندوبين الحكومة، واعتمده مجلس النظّار سنة ١٨٩٥، وصدّق عليه الخديو، وأتيحت الفرصة للشيخ محمد عبده لإصلاح الأزهر الذي تمناه من يوم أن كان مجاورًا ساخطًا على سوء حاله.

يا لله وإصلاح الأزهر! ما حاوله أحد ونجح، ولا الشيخ محمد عبده، لأن كل المحاولات كانت تتجه إلى هامش الموضوع لا أساس الموضوع، وكانت عن سبيل استرضاء أهله والخوف من أي قلق واضطراب، والأزهريون يتزعمهم طائفة ألِفت القديم حتى عدَّته دينًا، وكرهت الجديد حتى عدَّته كفرًا، وعاشت في المغارات فلم تر ضوءًا، وأفنت عمرها في فهم لفظ، وتخريج جملة، وتأويل خطأ. فلم تر حقائق الدنيا. فإذا أتى مصلح سمّم أهله الجو حوله، واحتموا بالدين يخيفون به الحكومة، ويكسبون به عامة الشعب، وخنقوا الطائفة القليلة من شبابه النازعين إلى التجديد، وحرصوا على مراكزهم أن يكتسحها الإصلاح، وجاههم أن ينتقل إلى يد المصلحين، وبجانبهم طائفة أخرى تؤمن بالقديم عن صدق وإخلاص، ولكن عن ضيق أفق، وغفلة عن الحق، هم من جنس ما قال أهل الحديث عن بعضهم: «نتطلب دعوتهم ولا نقبل شهادتهم»، فتتجمع كل هذه العوامل، فيضطر المصلح أخيرًا إلى الانسحاب إن غضب، أو المداراة والمسالمة والرضا إن لم يغضب. وتضطر الحكومة أن تتخلى عن إصلاح الأزهر حبًا في السلامة، وتتركه يأكل بعضه بعضًا، وتُنشئ بجانبه المعاهد لمعلمي اللغة العربية والقضاء الشرعي، لتستطيع تنظيمها والإشراف عليها إذ أعجزها الإشراف على الأزهر، ومع هذا لا يخلو الجو من شغب يقلق بال الحكومة الحين بعد الحين، بين الأصل والفرع، وما يحتضنه الأزهر من طلاب وعلماء، وما تحتضنه الحكومة، وتترك ذلك للزمن، والزمن لا يحل المشكل، والمشكل لا يُحل إلا بالعلاج الحاسم، وهو أن يتبع الأزهر الحكومة تبعية الجامعة، ويستقل استقلالها، ويخضع في نظمه لما ترشد إليه علوم التربية الحديثة ويرقى برقيها، ثم ينفِّذ ذلك من غير خشية.

أخذ الشيخ محمد عبده يحرّك مجلس الإدارة للإصلاح، وبدأ بالمسائل الشكلية من زيادة رواتب المدرسين وتنظيمها، ووضع لائحة لكساوي التشريف، وتنظيم الجراية ومساكن الطلبة والإشراف الصحي عليهم، والامتحان، فلما تعرّض لشيء من الأساس، وهو ماذا يُدرّس في الأزهر، واختيار الكتب، وطرق التدريس، وبرامج الدراسة. زادت العقبات في سبيله، واضطر أخيرًا إلى الانسحاب. فكانت معالجته «برشامًا» للصداع لا علاجًا لأصل الداء. وفي الحق أنه لم يكن يمكنه في مثل ظروفه غير ذلك.

•••

ظل الشيخ محمد عبده يعمل في القضاء ويحرك مجلس إدارة الأزهر للإصلاح حتى سنة ١٨٩٩، وحدث أن كثرت الشكوى من المحاكم الشرعية وقضاتها، ففكر مستشار الحقانية الإنجليزي في إلغائها وضمها إلى المحاكم الأهلية، ولكن حسبوا حسابًا لهياج الرأي العام فأرادوا أن يفعلوا ذلك تدريجًا، وذلك بتعيين مستشارين من محكمة الاستئناف عضوين في المحكمة الشرعية العليا، فلم يرض بذلك جمال الدين أفندي قاضي مصر التركي، ولا الشيخ حسونة النواوي شيخ الأزهر ومفتي الديار المصرية، وعُرض المشروع على مجلس شورى القوانين فرفضه، ووقف الشيخ حسونة موقفًا شديدًا صلبًا انتهى بتركه المنصبين، ووقف المشروع، وكان الشيخ محمد عبده يطمح في أن يُعيَّن مكان الشيخ حسونة في المنصبين، فيقبض على ناصية الأزهر ويتمكن مما ينوي من إصلاح، ولكن أسرع الخديو فعيَّن الشيخ عبد الرحمن القطب النواوي للمشيخة، والشيخ محمد عبده للإفتاء، فأثّر ذلك في نفس الشيخ محمد عبده وآمن بأن الخديو لا يطمئن إليه في باطن نفسه، ولم يمض نحو شهر حتى مات الشيخ القطب وعين مكانه الشيخ سليم البشري، فاعتقد الشيخ محمد عبده أن إصلاح الأزهر قد تعقّد بهذا الوضع، فلم يكن يطمئن إلى الشيخ البشري اطمئنانه إلى الشيخ حسونة، ويراه لا يؤمن بإصلاح، ويداري ولا يصارح، ويعمل بإشارة السلطة لا بوحي من نفسه؛ ومع هذا فمنصب الإفتاء خلع على الشيخ محمد عبده وجاهة دينية ممتازة، وهو نفسه قد خلع على المنصب بشخصيته إجلالًا واحترامًا، وزاد في ذلك تعيينه في السنة نفسها عضوًا دائمًا في مجلس شورى القوانين.

وظلّت العلاقة بينه وبين الخديو عباس حسنة في ظاهر الأمر، فالخديو يستشيره إذا تعقدت الأمور بينه وبين الإنجليز، كاستشارته له عند ما أرادوا تعيين قاض مصري بدل القاضي التركي، وكان الخديو لا يرى هذا الرأي لأنه يضعف صلة مصر بتركيا ويمكّن من سلطة الإنجليز، وكاستشارته له في مسألة «ليون فهمي» الأرمني، وكان قد قبض عليه الخديو وحبسه في سراي رأس التين لاتهامه بتزوير أختام باسم رئيس كتاب «يلدز» وأراد اللورد كرومر أن يفتش عنه في السراي، ورأى الخديو أن هذا منتهى الإهانة، وقد أشار الشيخ محمد عبده على الخديو بما أنقذه من الموقفين.

كان الشيخ محمد عبده إلى هذا الحين يتفق ورأى الإنجليز في أن الخديو ليس من مصلحته ولا مصلحة مصر أن يحارب جماعة تركيا الفتاة خدمة لتركيا وفيهم قوم أحرار لم يرضهم ظلم عبد الحميد ولا عسفه ولا استبداده، وأن الخير للخديو أن يوجِّه النظار إلى ترقية الشئون المصرية كالتعليم وإصلاح المحاكم الشرعية وإصلاح الأزهر، فهو بذلك يخدم بلاده.

والشيخ محمد عبده يصدر في هذا عن مزاجه وطريقته في التفكير والإصلاح، ويتكلم في ذلك في مجالسه الخاصة فيبلغ الخديو فيُسرها له.

ولكن حدث أن خلا مكان لكسوة التشريفة في الأزهر فأراد الخديو أن يشغلها الشيخ محمد راشد مفتي المعية، ولم يكن تنطبق عليه اللائحة الموضوعة، فأوعز الشيخ محمد عبده بعدم تنفيذ ذلك الأمر وإعطائها للمستحق، وزاد الطين بلّة أن العلماء لما اجتمعوا عند الخديو في التشريفات كلّم الخديو شيخ الجامع في غضب وتوبيخ، فرد الشيخ محمد عبده في حدّة: «إذا شاء أفندينا أن تكون كساوي التشريف بمقتضى إرادته الشخصية فليصدر بذلك قانونًا آخر ينسخ هذا القانون» فلما سمع الخديو هذا الرد احمرّ وجهه ووقف إيذانًا للحاضرين بالانصراف وآلى على نفسه أن يحرج المفتي ويكيد له حتى يخرجه من منصبه، وينتقم من فعلته.

ثم أعقب ذلك وقوف الشيخ محمد عبده وحسن باشا عاصم في أرض يريد الخديو استبدالها، ورأيا أن هذا العرض ليس في مصلحة الوقف، وحملا مجلس الأوقاف الأعلى على رفض هذا الاستبدال إلا إذا دفع للوقف عشرون ألفًا فرقًا بين الصفقتين.

انكشف الغطاء وظهر العداء ودُبرت المؤامرات ودُست الدسائس، وكلما أمعن الخديو في ذلك اضطر الشيخ محمد عبده إلى كثرة الاتصال بالإنجليز، وكلما اتصل زاد غضب الخديو حتى لقد همَّ الخديو بعزله من الإفتاء، فصرح اللورد كروم «أنه لا يوافق على عزله من منصب الإفتاء مهما كانت الأحوال ما دام موجودًا».

والشيخ محمد عبده جادّ في إصلاح الأزهر والنهوض بالجمعية الخيرية الإسلامية لنشر التعليم وإعانة المنكوبين، ورسول السلام بين مجلس الشورى والحكومة وداعي المصالحة فيما تعقد من الأمور، يكسب من الإنجليز بقدر ما يستطيع، وهو موضع ثقة المجلس وثقة الحكومة وثقة الإنجليز، يستشيرونه في كثير من الأمور فيشير بما يعتقده الحق؛ ثم هو ينير الخاصة بما ينشر من أفكاره في الدين والإصلاح الاجتماعي والأخلاقي والسياسي على مذهبه.

وهو يحارب أشد محاربة وأعنفها من جهات متعددة: الخديو عباس يتخذ السيد توفيق البكري وغيره وسيلة للإفساد بينه ويبن رجال الأزهر، وتحريض أعضاء المجلس على الاستقالة حتى يحل محلهم من يكرهون الشيخ محمد عبده ويقفون في سبيله. وكثير من شيوخ الأزهر يخاصمونه لأنه يهدم قديمهم وإلفهم ويطلع عليهم بجديد لم يألفوه، ويشيعون بين العامة كفره وزندقته.

والحزب الوطني وعلى رأسه مصطفى باشا كامل يحاربه ويرميه بالمروق من الوطنية، لأنه يشايع الإنجليز ويتخذهم أعوانه، وتُكتب التقارير السرية ضده للآستانة، فإذا سافر إليها استُقبل استقبالًا سيئًا، وعُملت التدابير لإهانته لولا لطف الله.

والجرائد الهزلية تشهر به أشنع تشهير، إما بإيعاز من خصومه وقبض الثمن منهم، وإما مجاراة للعوام وأشباههم باسترضائهم لترويج جرائدهم.

في كل يوم حادثة، وفي كل ميدان موقعة، وفي كل جريدة ذكر، وفي كل مجلس مناظرة بين الاتهام والدفاع، واسم الشيخ محمد عبده على كل لسان، وعيشته عذاب في عذاب، وهو لا تفتر قوته، ولا تخبو عزيمته، وإن كان كل ذلك يهد في أعصابه ويهدم من كيانه.

لقد تلقى المفتي سؤالين من بعض مسلمي الترنسفال وهما:
  • السؤال الأول: بقر يضرب على رأسه بالبلطة حتى تضعف مقاومته ثم يذبح قبل أن يموت بدون تسمية الله عليه، فهل يجوز أكل لحمه؟

فأفتى الشيخ بحِلِّها فقامت عليه قيامة العلماء يقولون إنها محرَّمة لأنها هي الموقوذة التي حرم الله أكلها، والشيخ يقول: إن الموقوذة هي ما ضربت بشيء غير محدد كالحجارة والخشب حتى ماتت، وهذه ذُبحت قبل موتها.

  • والسؤال الثاني: يوجد أفراد في هذه البلاد (الترنسفال) يلبسون البرانيط لقضاء مصالحهم وعود الفوائد عليهم، فهل يجوز ذلك أم لا؟

فأفتى أيضًا بالجواز وقال: «أما لبس البرنيطة إذا لم يقصد فاعله الخروج من الإسلام والدخول في دين غيره فلا يُعدّ مكفرًا، وإذا كان اللبس لحاجة من حجب الشمس أو دفع مضرة أو دفع مكروه أو تيسير مصلحة لم يكره كذلك».

فهيّجت عليه الجرائد كجريدة الظاهر، وأثارها محمد بك أبو شادي عليه حربًا شعواء، وكذلك جريدة اللواء.

وزاد خصومه وقاحة فلفقوا صورة شمسية له مع بعض نساء الإفرنج وحملوها للورد كرومر، وأفهموه أن هذا في عرف المسلمين لا يجوز صدوره ممن يتولى منصب الإفتاء، فلم يأبه لقولهم. وصورته الجرائد الهزلية «كالأرنب وحمارة منيتي» بصور شنيعة، وحكم على أصحابهما بالحبس.

وهكذا لم يتورع خصومه أن يحاربوه بأسفل الوسائل، وكان بعض هذا يكفي لعدوله عن جهاده، وكان بعض أصدقائه كسعد زغلول وقاسم أمين يعيبون عليه إلحاحه في إصلاح الأزهر، وهو غير مُمكَن بهذا الوضع، وهو مع كل هذا مصرّ على المضي في عمله تشحذه الخصومة، ويأرق بعض الليالي مفكرًا في وسائل الإصلاح ويقول: إن وجداني الديني لا يرضى بالصمت عن المفاسد.

وآخرون من خلصائه كانوا يعيبون عليه عداءه للخديو على هذا الوجه، ويرون أن الأجدر به أن يغضي النظر عن هفواته، ويقولون: ماذا عليه لو أعطى كسوة التشريف لغير مستحقها أو تماهل في استبدال الوقف، ثم كان ثمن ذلك أن تطلق يده في الإصلاح كما يريد، وحينئذ يجد من الخديو كل عون! ولكن فاتهم أن الطبيعة تأبى أن تخلق من علي معاوية أو أن تجعل من عُمَرَ عَمْروًا.

وعابوه أنه نظر إلى الخديو عباس من جانبه الأسود وهو شرهه المالي، وجشعه المادي، ووسائله الوضيعة في ذلك، ولم ينظر إلى جانبه الأبيض وهو إباؤه الاستسلام للمحتلين وتشجيعه الحركة الوطنية وتغذيتها وتنميتها. بل إن (الشيخ محمد عبده) كان يناهض أيضًا دعاة الحركة الوطنية، ويرميهم بالتهور ويقنع في آماله الوطنية بالقليل، كما يدل عليه خطاباه اللذان نشرًا بعد موته وكان قد أرسلهما إلى صديقه مستر «بلنت» يشرح فيهما مذهبه في الإصلاح السياسي، وفيهما قناعة لا ترضي الوطنيين، وقد أثارا نفوس الخديو والوطنيين وحتى بعض المعتدلين.

ولكن مهما كان الأمر فإن العظيم يجب أن يقدّر من جميع جوانبه لا من جانب واحد، وقد كان الشيخ محمد عبده مصلحًا دينيًّا ومصلحًا اجتماعيًّا ومصلحًا للغة والأدب، وشخصية بارزة في التفكير، وأخيرًا سياسيًّا. فإن هو لم يوفق في سياسته فهذا لا يقلل من نواحيه القيّمة الأخرى، نعم يسقِط الرجل في السياسة أن يُشترى بمال أو يبيع ذمته لمنصب. ولكنا نجزم أن الشيخ محمد عبده كان وفيًا لأمته مخلصًا نزيهًا، يسلك هذا المسلك السياسي عن عقيدة وتقدير للمصلحة، ويجتهد أحيانًا فيخطئ وتحمله الظروف القاسية أحيانًا على ما يكره.

والحق أن كثيرًا من شيوخ الأمة كانوا في ذلك الوقت على مثل رأيه السياسي، كسعد باشا زغلول، وفتحي باشا زغلول، وحسن باشا عاصم، ومحمود باشا سليمان وغيرهم من رجال حزب الأمة، ولكنه هوجم من هذه الناحية أكثر مما هوجموا، لأن الخديو عباس كان يؤلب عليه أكثر مما يؤلب عليهم، ولأن الناس اعتادوا أن يروا رجال الدين بعيدين عن السياسة وخاصة مع المحتلين.

في سنة ١٩٠٥ كان الأزهر هادئًا وعلى رأسه السيد على الببلاوي، وكان رجلًا يرتاح إلى الشيخ محمد عبده ويرتاح محمد عبده إليه، والأمور سائرة سيرًا طبيعيًّا، فظهرت فجأة حركة تدعو إلى الشغب وتشكو من شيخ الأزهر ومن مجلس الإدارة، وكان القائمون بها من المتصلين بالسراي، على أثر رفض الشيخ محمد عبده وحسن عاصم استبدال الوقف الذي أشرنا إليه وعلى أثر هذا الشغب استقال السيد على الببلاوي، وعيّن الخديو عباس الشيخ عبد الرحمن الشربيني، وهو ممن لا يستطيع الشيخ محمد عبده العمل معهم لرجعيته وجموده. وخطب الخديو في حفلة الإنعام بالخلعة على الشيخ الشربيني خطبة فيها خفة تدل على الغيظ الشديد من الشيخ محمد عبده وصحبه، قال فيها: «إن الإزهر أُسّس وشُيّد على أن يكون مدرسة دينية إسلامية تنشر علوم الدين في مصر وجميع الأقطار العربية … ولقد كنت أود أن يكون هذا شأن الأزهر والأزهريين دائمًا، ولكن من الأسف رأيت فيه من يخلطون الشغب بالعلم ومسائل الشخصيات بالدين، ويكثرون من أسباب القلاقل … وأول شيء أطلبه أنا وحكومتي أن يكون الهدوء سائدًا في الأزهر، والشغب بعيدًا عنه فلا يشتغل علماؤه وطلبته إلا بتلقي العلوم الدينية النافعة البعيدة عن زيغ العقائد وشغب الأفكار، لأنه مدرسة دينية قبل كل شيء، وقد استقال السيد علي الببلاوي رعاية لصحته، وقد جريت منذ اثنتي عشرة سنة على أن أقبل استقالة كل من يستقيلني من وظيفته، فقبلت استقالته، ومن يستقيلني من وظيفته سواه فأنا مستعد أن أقبل منه جريًا على العادة التي اتبعتها.. ومن يحاول بث الشغب بالوساوس والأوهام أو الإيهام بالأقوال، أو بواسطة الجرائد والأخذ والرد، فليكن بعيدًا عن الأزهر، ومن كان أجنبيًّا من هؤلاء (يريد السيد محمد رشيد صاحب «المنار») فأولى أن يرجع إلى بلاده، ويبث فيها ما يريد من الأقوال والآراء المغايرة للدين ولمصلحة الأزهر والأزهريين».

فلم ير الشيخ محمد عبده بدًا من الاستقالة، وقد آمن بعجزه عجزًا تامًا عن إصلاح الأزهر الذي يريده.

لم يلبث بعد هذه الحادثة أن أحس وطأة المرض، فعزم على السفر إلى أوربا للاستشفاء، ولكن لم يمنعه ذلك من العمل في مجلس الشورى ومجلس الأوقاف والجمعية الخيرية الإسلامية، وامتحان دار العلوم، وإعداد مشروع مدرسة القضاء. ثم ألحّ عليه المرض واختلف الأطباء في تشخيصه: هل هو المعدة أو الكبد؟ ثم تبين أنه مع الأسف السرطان، فأشاروا عليه بعدم السفر. وفي يوم ١١ يولية سنة ١٩٠٥ فاضت روحه إلى ربها عن نحو ستة وخمسين عامًا، وكان برمل الإسكندرية في منزل صديقه محمد بك راسم. وقرر مجلس النظّار أن تحتفل الحكومة رسميًّا بتشييع جنازته في الإسكندرية ومصر، وكان مشهدًا مهيبًا رائعًا، ثم دُفن بقرافة المجاورين.

وكان الخديو متغيبًا عن مصر فأنب من احتفل به أو احتفى بجنازته من رجاله. رحمه الله.

وبعد فما إصلاحه؟ وما مبادئه في الإصلاح؟ وما أثرها في الأمة؟

•••

صوّره السيد جمال الدين مرة تصويرًا لطيفًا، إذ رأى منه عزة نفس وإباء ضيم، وترفعًا عن سفاسف الأمور وطموحًا إلى معاليها، فقال له: «أي ملك في جلدك؟»

ومع هذه العزة والإباء كان حي الضمير حساس النفس عطوفًا على البائسين والمنكوبين، فماله أقله له وأكثره للإعانة والإغاثة والنجدة؛ يصف شعوره في حريق ميت غمر فيقول: «لما قرأت وصف الحادثة كان لهب الحريق يأكل قلبي أكله لجسوم أولئك المساكين، ويصهر من فؤادي ما يصهر من لحومهم، أرقت تلك الليلة ولم تُغمض عيناي إلا قليلًا، وكيف ينام من يبيت يتقلب في نعم الله وله هذا العدد الجم من إخوة وأخوات يتقلبون في الشدة والبأساء، أردت أن أبادر بما أستطيع من المعونة وما أستطيع قليل لا يغني عن الحاجة ولا يكشف البلاء، ثم رأيت أن أدعو جمعًا من أعيان العاصمة ليشاركوني في أفضل أعمال البر في أقرب وقت» وكذلك فعل في كثير مما أصاب البلاد من بلاء.

وصوّره السيد جمال الدين مرة أخرى فقال له: «إن بين برديك قردًا يُخرج رأسه في بعض الأحيان» يشير إلى ما يعتريه من الحدة أحيانًا كالذي كان منه مع الخديو عباس مما رويناه قبل، وفي الدرس إذا سُئل سؤالًا سخيفًا، وفي بعض تصرفاته، ولكن هذه الحدة كانت أيضًا مصدر قوة له، فكان يغضب لما يعتقده الحق، وينفعل لما يصيب من أذى، والمنكوبين من مكروه، ثم هذه الحدة أضفت عليه من المهابة والتوقير الشيء الكثير.

وهو مع هيبته وحدته طيب القلب سليم الصدر، وفيّ لأصدقائه، لطيف الحديث، سمح النفس، ينصف الناس في الحق حتى من نفسه، أميز شيء فيه شجاعته الأدبية، لا يداري ولا يماري، ويقول ما يعتقد أمام أي عظيم، ويعتمد في شجاعته على ربه وإيمانه، وكم سببت له شجاعته وصراحته من متاعب احتملها في صبر وثبات، علمًا منه بأن المقدمة لا بد أن تتبعها النتيجة.

وكان أهم خصائصه غيرته الشديدة على الإسلام والمسلمين، هي محور أعماله ومصدر آلامه وآماله. حدثني صديق قال: «كنت أسير مع الأستاذ في «جنيف» من أعمال سويسرة، وكنا نتلقى معًا بعض المحاضرات الصيفية في جامعتها، فجاء ذكر الإسلام والمسلمين، فقال الشيخ: إني وهبت حياتي لإصلاح العقيدة الإسلامية وتنقيتها مما علق بها من الخرافات والأوهام. فقلت: وهل الدين عند العوام إلا الخرافات والأوهام؟ وماذا يبقى عندهم لو زالت؟ فرأيته وقد احمر وجهه وغضب غضبة ما رأيته غضب مثلها، فتأولت ما قلت حتى هدأت ثورته.

كم لاقى من عناء في سبيل إصلاحه، وكم اتُّهم وكم سُبّ وكم دُسّ له، وكم نصحه أصدقاؤه أن يستريح من هذا العناء ويعود إلى القضاء فما طاوعته غيرته أن يسمع لقولهم.

لقد ذكر الشيخ محمد عبده ما يصح أن يكون مجمع إصلاحه، ومجمل رسالته فقال: «ارتفع صوتي بالدعوة إلى أمرين عظيمين: الأول تحرير الفكر من قيد التقليد، وفهم الدين على طريقة سلف الأمة قبل ظهور الخلاف، والرجوع في كسب معارفه إلى ينابيعها الأولى، واعتباره من ضمن موازين العقل البشري التي وضعها الله لترد من شططه، وتقلل من خلطه وخبطه … وأنه على هذا الوجه يعد صديقًا للعلم، باعثًا على البحث في أسرار الكون، داعيًا إلى احترام الحقائق الثابتة، مطالبًا بالتعويل عليها في أدب النفس وإصلاح العمل … وقد خالفت إليه رأي الفئتين العظيمتين اللتين يتركب منهما جسم الأمة: طلاب علوم الدين ومن على شاكلتهم، وطلاب فنون هذا العصر ومن في ناحيتهم. والأمر الثاني إصلاح أساليب اللغة العربية في التحرير سواء كان في المخاطبات الرسمية أو في المراسلات بين الناس وكانت أساليب الكتابة في مصر تنحصر في نوعين كلاهما يمجه الذوق، وتنكره لغة العرب: الأول ما كان مستعملًا في مصالح الحكومة وما يشبهها، وهو ضرب من ضروب التأليف بين الكلمات، رث خبيث غير مفهوم ولا يمكن رده إلى لغة من لغات العالم، لا في صورته ولا في مادته. والنوع الثاني ما كان يستعمله الأدباء والمتخرجون من الجامع الأزهر، وهو ما كان يراعي فيه السجع وإن كان باردًا، وتلاحظ فيه الفواصل وأنواع الجناس وإن كان رديئًا في الذوق، بعيدًا عن الفهم، ثقيلًا على السمع غير مؤد للمعنى المقصود.

«وهناك أمر آخر كنت من دعاته والناس جميعًا في عمى عنه … ولكنه الركن الذي تقوم عليه حياتهم الاجتماعية، وما أصابهم الوهن والضعف والذل إلا بخُلُوِّ مجتمعهم منه. وذلك هو التمييز بين ما للحكومة من حق الطاعة على الشعب، وما للشعب من حق العدالة على الحكومة. نعم كنت فيمن دعا الأمة المصرية إلى معرفة حقها على حاكمها، وهي لم يخطر لها هذا الخاطر على البال من مدة تزيد على عشرين قرنًا؛ دعوناها إلى الاعتقاد بأن الحاكم وإن وجبت طاعته هو من البشر الذين يخطئون وتغلبهم شهواتهم، وأنه لا يردّه عن خطئه، ولا يقف طغيان شهوته إلا نُصْح الأمة له بالقول والفعل، جهرنا بهذا القول والاستبداد في عنفوانه، والظلم قابض على صولجانه، ويد الظالم من حديد، والناس كلهم عبيد له أي عبيد.

«ولم أكن في كل ذل كالإمام المتبَع، ولا الرئيس المطاع غير أني كنت روح الدعوة وهي لا تزال بي في كثير مما ذكرت قائمة، ولا أبرح أدعو إلى عقيدتي في الدين، وأطالب بإتمام الإصلاح في اللغة وقد قارب. أما أمر الحكومة والمحكوم فتركته للقدر يقدره، وليد الله بعد ذلك تدبره، لأنني قد عرفت أنه ثمرة تجنيها الأمة من غراس تغرسه، وتقوم على تنميته السنون الطوال، فهذا الغراس هو الذي ينبغي أن يُعنى به الآن، والله المستعان».

في هذا القول الموجز كل حياة الشيخ محمد عبده الإصلاحية، وكل رسالته، وكل نجاحه وفشله. ثلاثة أمور اتجه إليها: إصلاح الدين، وإصلاح اللغة والأدب وإصلاح السياسة، فلنذكر كلمة في عمله في كل منها.

فأما إصلاحه الديني فاتجه فيه إلى إصلاح الأزهر، وكان رأيه أنه إذا أُصلِح خدم العالم الإسلامي أكبر خدمة، لأنه سيخرج قومًا غيورين على الدين، متنورين، ينبثّون في جميع العالم الإسلامي فيحملون مثل رسالته ويقومون بمثل دعوته؛ وقد استعان على ذلك بالخديو والإنجليز وبمنصبه وجاهه وأصدقائه، ثم كان من أمره ما ذكرنا؛ ولهذا وأمثاله وصفه اللورد كرومر بأنه كان رجلًا مستنير الرأي بعيد النظر، خياليًّا، حالما بعض الشيء، ولكنه كان وطنيًّا صادقًا».

ومع أنه لم يصل في الأزهر إلى ما يريد، ولا إلى بعض ما يريد فقد خلّف فيه طبقة مستنيرة، وإن كانت قليلة، اعتنقت مبادئه وتشعبت بآرائه، وإن لم تكن لها حماسته وغيرته.

واتخذ أهم وسيلة لإصلاح العقيدة تفسير القرآن الكريم، جعله ديدنه، يُدرِّسه في بيروت في مسجدين، ويُدرِّسه في أحد مساجد القاهرة وهو قاض، ويُدرِّسه في الأزهر وهو في القضاء والإفتاء، ويتخذ موضوع محاضرته في الجزائر تفسير سورة العصر، ويفسر جزء عم لتلاميذ مدارس الجمعية الخيرية الإسلامية، وينشر دروسه في التفسير في مجلة المنار ليُقرأ في العالم الإسلامي.

كان يقرأ الآية فإذا اتصلت بالعقيدة شرحها شرحًا وافيًا، مستعرضًا ما ورد في القرآن في موضوعها، مبينًا ما دخل على المسلمين في هذه العقيدة من فساد ودخيل، وإذا اتصلت الآية بالأخلاق أبان أثر هذا الخلق في صلاح الأمم وضياعه في فسادها، وإذا اتصلت بحالة اجتماعية أوضح أثر هذه الحالة الاجتماعية في حياة الأمم، مسترشدًا بالواقع مستشهدًا بما يجري في العالم، في بيان متدفق ولسان ذلق وصوت جميل أخّاذ؛ فهو تفسير عملي يشرح الواقع ويبين سببه، وهو أخلاقي يدعو للعمل على مبادئ الإسلام ويبين أنها منبع السعادة في كل العصور، وهو روحاني يدعو إلى السمو بالنفس إلى العالم العلوي، وينزه الله عما دخل على العقيدة من فساد بالإشراك مع الله الأولياء وعبادة الأضرحة والتشفع بأهل القبور وإقامة الموالد ونذر النذور؛ وهو في كثير من مبادئه يشبه تعاليم الوهابية في الرجوع إلى الأصول الأولى للإسلام، وتنقيته من البدع والخرافات والأوهام؛ ولكنه أوسع أفقًا بتقبله ما صلح من مبادئ المدنية الحديثة والأخذ بها ما اتفقت والإسلام.

الإسلام دين توحيد لا شرك فيه، تنزيه لا تجسيم فيه، وهو دين يعتمد على العقل ويستنهضه لإدراك أن العالم له صانع واحد عالم قادر، والعقل ضروري للدين، فهو المرشد إليه، والدين ضروري للعقل لأنه يكمله ويقومه.

والإسلام يفسح صدره للعلم ويدعو إليه، لأن العلم يكشف أسرار الكون، وذلك يفضي إلى معرفة الله وإجلاله.

وهو في تفسيره يحاول التوفيق بين الإسلام ونظريات المدنية الحديثة: ويتبع طرقًا من التأويل وتفسير نظريات العلم يخونه فيها التوفيق أحيانًا.

أكبر قيمة له في تفسيره أنه كان يحيي العواطف، ويحرك المشاعر أكثر مما يستقصي بحث المسائل العلمية؛ فهو يتجه إلى القلب أكثر مما يتجه إلى العلم والعقل متأثرًا في ذلك بطبيعة الدين نفسه، أفادته سعة اطلاعه على الفلسفة الإسلامية، ثم اتصاله بالثقافة الغربية وقراءته بعض أصولها ورحلاته إلى أوربا وملابسته لحياتها ومقابلته لبعض فلاسفتها وسماعه بعض محاضرتها، أن ينظر إلى حال المسلمين نظرة إشفاق في عقيدتهم وأعمالهم، فيبث كل ما يرى من إصلاح حول تفسير آيات القرآن.

واستمر يُدرِّس هذا الدرس في الأزهر نحو ست سنين، كان يحضره كثير من علية القوم وكبار القضاة والموظفين وشباب الأزهر والمدارس العالية، وكان درسه ذا أثر كبير فيهم.

كان يرى أن إصلاح المسلمين من طريق دينهم أيسر وأصح من إصلاحهم من طريق الإصلاح المعتمد على مجرد العقل ومقياس المنفعة والتقليد الأوربي، وأن هذا الطريق هو الذي سلكه جميع المصلحين المسلمين. يقول: «إن الغرض الذي يرمي إليه جميعهم إنما هو تصحيح الاعتقاد وإزالة ما طرأ عليه من الخطأ في فهم نصوص الدين، حتى إذا سلمت العقائد من البدع تبعها سلامة الأعمال من الخلل والاضطراب، واستقامت أحوال الأفراد، واستضاءت بصائرهم بالعلوم الحقيقية، دينية ودنيوية، وتهذبت أخلاقهم بالملكات السلمية، وسرى الصلاح منهم إلى الأمة … وإذا كان الدين كافلًا بتهذيب الأخلاق، وصلاح الأعمال، وحمل النفوس على طلب السعادة من أبوابها، ولأهله من الثقة به ما بيّنّاه، وهو حاضر لديهم، والعناء في إرجاعهم إليه أخف من إحداث ما لا إلمام لهم به، فلم العدول عنه إلى غيره؟»

وعلى هذا الأساس في التفكير كان يريد أن يسيطر على برامج التعليم في المدارس حتى يصلح النفوس من هذا الطريق بالتوسع في التاريخ الإسلامي، وبث مبادئ الدين الصحيح، ولهذا كان ينتهز كل فرصة لتقديم تقرير عن التعليم؛ فعل ذلك لما كان في الوقائع قبل الثورة العرابية، حتى شكّل مجلس التعليم الأعلى بناء على سعيه، وكان هو فيه عضوًا بارزًا، وفعل ذلك عندما كان في بيروت، فكتب تقريرًا في إصلاح التعليم رفعه إلى شيخ الإسلام في الأستانة حتى لم يتحرج أن يرفع تقريرًا بذلك إلى اللورد كرومر بعد عودته، فلما لم تتحقق مطالبه رجا أن يكون على رأس دار العلوم يبث روحه في طلبتها فيبثّون روحهم في طلبتهم، فلما يئس من ذلك أيضًا وجه همّته إلى الجمعية الخيرية الإسلامية يضع لتلاميذها مناهج دراستهم ويؤلف لهم تفسير جزء عم. وهكذا كان دائمًا يريد أن يسيطر على التعليم ليوجهه الوجهة التي يريدها.

وكما جدَّ في نشر تعاليمه وآرائه في الإسلام جدِّ في الدفاع عنه، وكانت تأخذه الغيرة الشديدة إذا مسّه أحد بسوء. يتجلى ذلك في موقفين شهيرين:
  • (١)

    رده على هانوتو. ففي أوائل سنة ١٩٠٠ نشر هانوتو مقالًا عن الإسلام بمناسبة سياسة فرنسا في المستعمرات الإسلامية، ثم تعرض للمقارنة بين المدنية النصرانية والإسلامية، ووازن بينهما في مسألتين: ذات الله والقضاء والقدر. فاعتقاد النصارى في التثليث وتصورهم للإله الإنسان جعلهم يرفعون مرتبة الإنسان ويخولونه حق القرب ومن الذات الإلهية؛ على حين أن العقيدة الإسلامية بدعوتها إلى التوحيد وتنزيه الله عن البشرية، حملت الإنسان على الضعف والوهن، والعقيدة المسيحية القائلة بحرية الإنسان وإرادته، دفعته إلى العمل والجد. أما عقيدة المسلمين في القضاء والقدر فحملتهم على الجمود والركود.

    ونُشرت ترجمة هذا المقال في المؤيد، فلم ينم الشيخ محمد عبده ليلته حتى كتب الرد عليها، وظهرت أول مقالة له في ثاني يوم. ثم تتابعت مقالاته، بيّن فيها فضل الإسلام على المسيحية، وبيّن أن عقيدة التوحيد أسمى فكرة، وأن فكرة التثليث لا يستطيع أن يتقبلها العقل، وأن الإسلام لم يدع إلى الجبرية بالمعنى الذي يفهمه هانوتو، وأن في القرآن أربعًا وستين آية تثبت حرية الإرادة إلخ. وكان من نتائج هذا كتابه المشهور «الإسلام والنصرانية».

  • (٢)

    وأما الموقف الثاني فقد نشر فرح أنطون في مجلة «الجامعة» مقالًا عن ابن رشد قرر فيه أن المسيحية كانت أوسع صدرًا وأكثر تسامحًا للعلم والفلسفة من الإسلام، فرد عليه الشيخ محمد عبده في سلسلة مقالات يثبت فيها سعة صدر المسلمين للفلاسفة وأهل العلم والأديان الأخرى، مما لم يكن له نظير في أي دين آخر.

وهكذا كانت حياته في خدمة دينه.

•••

أما إصلاحه اللغوي والأدبي فقد بدأه بإصلاح أسلوبه نفسه، أخذ يكتب في جريدة الأهرام بأسلوب متأثر بالكتب الأزهرية، وخاصة بما ألّف في الفلسفة الإسلامية، وبما هو شائع في ذل العصر من السجع والازدواج، وبمقدمات طويلة قبل الدخول في الموضوع. ثم أخذ يقوي أسلوبه ويصح ويزداد حركة وقوة من روح أستاذه جمال الدين، كما يتجلى في مقالات العروة الوثقى، ثم مرّن قلمه وتدفق من طول ما كتب وعالج حتى بلغ غايته في مقالاته في الرد على هانوتو حيث تجمَّل بجمال البساطة وتدفُق المعاني، في سلاسة وقوة.

ونظر إلى أساليب الكتّاب فحاول إصلاحها ما استطاع. فكان يقدّم نماذج للكتابة أيام كان مشرفًا على الوقائع المصرية بما يكتبه هو وأصحابه فيها، وكان يلفت نظر الجرائد إلى سوء أسلوبها، ويلزم أصحابها أن يختاروا من يرفع مستوى الكتابة فيها.

ولما كان في بيروت كان مما يعلم في «المدرسة السلطانية» الإنشاء، ونشر مقامات بديع الزمان الهمذاني بعد أن ضبطها وشرحها، ونهج البلاغة بعد أن ضبطه وشرحه، يرمي بذلك إلى تغذية الناشئين بأدبهما واتخاذهما نموذجًا من نماذج الأساليب الجيدة.

ولما عاد إلى مصر كان من دروسه درس في البلاغة لا على نمط البلاغة التي أفسدتها الفلسفة، بل على النمط الذي يربي الذوق ويرقي الأسلوب؛ فقرأ كتابي دلائل الإعجاز وأسرار البلاغة لعبد القاهر الجرجاني، وكان هو السبب في نشرهما، فقدّم بهما معنى للبلاغة لم يكن مفهومًا للناس من قبل.

وفي سنة ١٣١٨هـ أسّس في مصر جمعية برئاسته سُمّيت «جمعية إحياء الكتب العربية» كانت فاتحة أعمالها نشر كتاب المخصص في اللغة، وقد عهد في تصحيحه للعالم اللغوي الشيخ محمد محمود الشنقيطي. وشرعت الجمعية بعد المخصص في إعداد مدونة الإمام مالك للطبع بعد أن استحضر لها أصولًا من تونس وفاس.

وهو الذي أخذ بيد الشنقيطي ولولاه ما بقي في مصر، فكان الشنقيطي عَلَمًا من أعلام اللغة يعلّمها للناس ويصحح ما تعقد من الكتب، وينشر البحوث اللغوية الدالة على اطلاع واسع وتدقيق عميق.

وهو الذي عهد إلى الأستاذ سيد المرصفي في تدريس كتب الأدب بالأزهر، أمثال كتاب الكامل للمبرد وديوان الحماسة لأبي تمّام، ولم يكن ذلك معروفًا من قبل، فكان عمله هذا سببًا في نهضة لغوية أدبية واضحة تأثر بها كثير من الأدباء البارزين وتلاميذهم، فإن قلنا: إنه حوّل الكتابة من كتابة مسجوعة سخيفة إلى كتابة مرسلة جميلة، ومن كتابة فارغة المعاني إلى كتابة يُعنى فيها بالمعاني لم نبعد.

أما إصلاحه السياسي فكان في مجلس الشورى مذُّ عُيِّن عضوًا به، فكان قوة فعالة فيه قال صديقه حسن عاصم وكان زميلًا له في المجلس: «لقد عُيِّن الشيخ محمد عبده سنة ١٨٩٩، وكان بين أهل الحل والعقد في الحكومة وبين رجال مجلس الشورى شيء أشبه بالخلاف في الرأي، أدى إلى أن الحكومة نفذت كثيرًا من المشروعات التي كان المجلس يرى الخير للأمة في عدم العمل بها، وصرفت النظر عن كل أوجه التعديل في المشروعات التي كان يُرى أن الصلاح والنفع للأمة في تعديلها، فلما جاء الأستاذ إلى المجلس ونظر في الأمر نظرة الحكيم البصير، وعرف أن ليس هناك ما يدعو إلى هذا الانفراج، وإنما هو سوء التفاهم باعد ما بين المشارب على تقاربها، سعى رحمه الله في أن يزيل أسباب هذا الخلاف فكان ما أراد، وعرفت الحكومة أن المجلس إنما يطلب ما فيه سعادة الأمة، ويبتغي الخير لها، وأن ليس له غرض في مصادمة آراء الحكومة ومطالبها ما دامت تتفق مع مقصده، وعلم المجلس أيضًا أن الحكومة لا تقصد إلى شيء وراء ما يقصده لمصلحة البلاد، وبذلك اتفقت الكلة في الغالب، ولم يعد بين الهيئة الحاكمة والهيئة النيابية من الخلاف ما يتعسر حلُّه».

وكان ما ترسله الحكومة من المشروعات يؤلف المجلس لجنة لدرسه، وكثيرًا ما تكون برياسة الأستاذ، سواء كانت المسألة قانونية أو اجتماعية أو شرعية، حتى قد التهم المجلس وقته وهو لا يعبأ بالجهد يُبذل فيه، لأنه كان يرى أن عمله مع الأعضاء درس يعلم الجد والاهتمام بالأمور العامة للبلاد، وأنه وسيلة لتربية الرأي العام.

هذه ناحيته السياسية الرسمية. أما غير الرسمية، وأعني بها عمله في موقف الأمة من الخديوين ومن الإنجليز، فقد لخّص موقفه منهما في قوله: «إنه يريد تنبيه الرأي العام حتى يميّز ما للحكومة من حق الطاعة على الشعب وما للشعب من حق العدالة على الحكومة، وأن الحاكم من البشر يخطئ ويصيب، ولا يصده عن الخطأ إلا تيقُّظ الرأي العام ووقفه الحاكم إذا تجاوز حده بالقول أو الفعل.

ووسيلة تنبيه الرأي العام التعليم، وخاصة التعليم الاجتماعي، والصحافة النزيهة، وتربية القادة في مجلس الشورى وأمثاله، فيدرسون المسائل درسًا وافيًا ويبدون الرأي في إخلاص وأمانة، فيكون هذا كله درسًا يُقلّد عند طبقات الشعب».

وكان مقتضى هذا أن يقف هو ومدرسته أمام الخديو إذا جاوز الحد، وأمام الإنجليز إذا جاوزوا الحد، ولكنا نراه يفعل ذلك أمام الخديو، ولو أدى إلى العنف، ولا يفعل ذلك مع الإنجليز إلا بالتفاهم. ولعله قد ألجأه إلى ذلك الدروس القاسية التي جربها في فشل الثورة العرابية ومجلة العروة الوثقى، واعتقاده أنه لو اجتمعت عليه السلطتان ما تمكّن من أي إصلاح ديني أو اجتماعي، وهذا المسلك في الحقيقة نقطة ضعفه السياسي، وكان يجب أن يعدّل في موقفه بين السلطتين، فإما ثورة عليهما أو مسالمة لهما.

ويلطف هذا أن مسلكه مع الإنجليز لم يكن استعداءهم على قومه، ولكن أن يكسب منهم ما يستطيع لقومه؛ ولهذا كان أكره من يكره سلطان باشا، وعمر لطفي باشا، لأنهما في نظره يحرضان الإنجليز على قومهما.

هذا النحو من السياسة، وهو الاعتماد في النضج السياسي على التعليم والتربية برنامج عقلي لا برنامج شعوري، وهو قلّما ينجح في الدعوة السياسية، إنما ينجح فيها من يعتمد على الشعور، وإلهاب العواطف، ولذلك نجح عبد الله نديم ومصطفى كامل سياسيًّا أكثر مما نجح محمد عبده.

ولعله هو قد أدرك ذلك فقال في أمر الحكومة والمحكوم: «إني تركته للقدر يقدره، ولِيدِ الله بعد ذلك تدبّره» وفي هذا القول نغمة يأس وشعور بالفشل.

سببت له دعوته الإصلاحية الدينية ومذهبه السياسي خصومات ذوات ألوان؛ فدعوته الدينية حرّكت عداء الجامدين من رجال الدين الذين حياتهم الدينية مملوءة بالأولياء والأضرحة والنذور والموالد والشفاعة، كما حرّكت عداء قوم يرون مصدر الأحكام والفتوى ليس إلا أقوال المتأخرين من الفقهاء، وليس لأحد كائنًا من كان أن يجتهد ويقدّر الظروف والأحوال، أو أن يرجع إلى الدين في أصوله الأولى يستمد منها أحكامه. وآخرون دفعهم الحسد إلى خصومته، إذ أخمل شأنهم، وأبان ضعفهم، وأظهر نقصهم، فحاربوه باسم الدين. وآخرون كالخديو عباس كرهه سياسيًّا، ولكنه حار به دينيًّا، فحرّض عليه رجال الدين ليسقطه في ميدان السياسة.

وهناك خصوم شرفاء أكثرهم ممن تعلّم في أوربا يرون أن الشيخ طيب القلب محبّ للخير، ولكنه ينفخ في قربة مقطوعة، فيحاول إصلاح الأزهر وليس يصلح ويحاول الإصلاح الاجتماعي عن طريق الدين، وهم يرون الإصلاح الاجتماعي إنما يكون عن طريق العقل وحده، والتقليد لأوربا فيما وصلت إليه من شرائعها ونظمها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية؛ وهكذا كل هؤلاء تجمعوا عليه في خصومته في الإصلاح الديني، ومع هذا فهذه الخصومات زادت الحركة قوة والحياة نشاطًا، واستخرجت من الشيخ محمد عبده أقصى قواه وملكاته، واستخرجت من خصومه أقصى قواهم وملكاتهم.

وحاربه في السياسة الحزب الوطني، لأنه يرى رأي الأستاذ في إصلاح التعليم أولًا، بل بالجلاء أولًا، ولا يرى رأيه في الاعتماد على العقل، بل بالاعتماد على الشعور، ولا يرى رأيه في مسالمة الإنجليز بل بمخاصمتهم العنيفة. وكذلك حاربه الخديو من وراء ستار كما حاربه دينيًّا في جرائده والتأليب عليه.

واشترك خصومه الدينيون والسياسيون في تهييج الرأي العام عليه، ومحاولتهم إسقاطه من أعين الناس؛ هؤلاء يرمونه بالكفر الديني، وهؤلاء بالكفر السياسي.

ثم ذهب هذا كله ومات الشيخ محمد عبده واندفعت الأحقاد وذهب الزبد جفاء وبقي ما ينفع الناس.

لقد أيقظ الشيخ محمد عبده الشعور الديني، وأشعر المسلمين أنهم يجب أن يهبّوا من رقدتهم لإصلاح نفوسهم وتكميل نقصهم، وألا يعتمدوا على الفخر بماضيهم، بل يبنوا من جديد لحاضرهم ومستقبلهم. ودعا إلى أن العقل يجب أن يحكم كما يحكم الدين، فالدين عُرف بالعقل، ولا بد من اجتهاد يعتمد على الدين والعقل معًا حتى نستطيع أن نواجه المسائل الجديدة في المدينة الجديدة، ونقتبس منها ما يفيدنا، لأن المسلمين لا يستطيعون أن يعيشوا في عزلة، ولا بد أن يتسلّحوا بما تسلّح به غيرهم، وأكبر سلاح في الدنيا هو العلم، وأكبر عمدة في الأخلاق هو الدين، ومن حسن حظ المسلمين أن دينهم يشرح صدره للعلم، ويحضّ عليه، وللعقل ويدعوا إليه، وللأخلاق الفاضلة التي تدعوا إليها المدنية الحاضرة.

لقد خلّف في هذه الآراء كلها مدرسة تأخذ بتعاليمه وتعتمد على آرائه؛ منهم من أخذها عليه شفاهًا، ومنهم في الأقطار الإسلامية من أخذها عنه بما نشره في كتبه ومقالاته، وكان مدرسة قوية الأثر واضحة المعالم. وحسبنا دليلًا على هذا أن أكثر من تصدوا للإصلاح الديني أو الاجتماعي أو السياسي بعده كانوا من تلاميذ أو من أصدقائه المتأثرين به.

وزاده قوة أثر أنه لم يكن يدعو إلى الإصلاح نظريًّا عن طريق التأليف أو الخطب والمقالات فقط كما يفعل بعض المصلحين. بل كان يحاول دائمًا أن يحوّل إصلاحه إلى عمل، وينغمس في الحياة الواقعية، ليتمكن من تنفيذ برامجه الإصلاحية.

فإن مات وفي نفسه غصّة من أنه لم ينل ما يريد فعزاؤه أن الصالح من أفكاره لم يمت، وظل يعمل في موته كما كان يعمل في حياته. رحمه الله.

١  انظر أغراض المجلة في ترجمتنا «جمال الدين».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤