موقف حرج

نحن هنا في «المدينة».

وفي السنة الخامسة من الهجرة.

وفي المدينة عناصر ثلاثة: مؤمنون من مهاجرين وأنصار يلتفون حول محمد رسول الله ويأتمرون بأمره وينتهون عن نهيه، ويزيدون على الشدائد قوة في إيمانهم وعدتهم وعددهم ومنافقون نهّازو فرص، وطلاب منفعة، اتخذوا دينهم لهوًا ولعبًا، مع الكافرين ومع المؤمنين حسبما يلوح لهم من أعراض الدنيا، لهم ظاهر وباطن، «وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون»، «وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون»، «إذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم كأنهم خشب مسندة» لا عقل ولا روح ويهود وهم عدد عديد في المدينة وضواحيها، كانت لهم آطام وحصون يسكنونها ويتحصنون بها عند الخصومة أو الحروب، لكل بطن من بطونهم أُطُم أو حصن كبير فيه مخازن غلالهم وثمارهم، وفيه معبدهم ومدارسهم، وفيه كنوز أموالهم وسلاحهم، وفيه تشاورهم وتآمرهم، وكان هؤلاء اليهود أهل قتال في الحروب، وفيهم أهل زرع وتجارة، يتاجر بعضهم مع الحجاز واليمن وبعضهم مع الشام، وبيدهم الحركة الاقتصادية، لكثرة أموالهم والغلو في استغلال من حولهم، يتعاملون بالربا الفاحش، وهم مقصد ذوي الحاجات فيما يرهن بربح اشتهروا بصياغة الحلي والاتجار بها يتكلمون العربية كسائر العرب، ولهم أدب وشعر كما لغيرهم أدب وشعر وهم كيهود العالم شديدو الاحتفاظ بدمهم وجنسيتهم وعاداتهم وتقاليدهم، لا يمسحون بالاندماج في غيرهم ولا باندماج غيرهم فيهم، يهوديتهم أولًا وقبل كل شيء وبعد كل شيء، وما عداها من وطن ولغة وغيرها تبعي وقليل القيمة …

•••

كانت علاقة هؤلاء اليهود بمحمد وصحبه أول مجيئه المدينة علاقة مسالمة حتى ينظروا ما يفعل هو وصحبه لعله يفشل في دعوته، ولعل أصحابه أن يقتتلوا فيما بينهم، ولعل قريشًا تقضي عليه في حروبها معه فيكفون شره من غير جهد منهم ولا مشقة ولا تدخل. ولكن لم تسر الأمور كما يهوون، فهو وصحبه يزدادون قوة، وهذه القوة تهددهم، ثم هو لم يكتف بدعوة الوثنيين إلى الإسلام بل أخذ يدعوهم هم أيضًا، وهم الذين يعتقدون في أنفسهم أنهم أبناء الله وأحباؤه، وهم لا يؤمنون بنبي إلا أن يكون يهوديًّا، وفي كتبهم أن الرسالة والنبوة قد خُتمت، ثم في تعاليم الإسلام ما يزعجهم، فهو يحارب العصبية الجنسية والقبلية، ويحارب الربا وكنز الذهب والفضة، ويجعل ميزان الإنسان التقوى، لا الحسب ولا النسب ولا الجنس العنصر ولا أي شيء آخر؛ فبدأت الخصومة بين اليهود والمسلمين تتجلى شيئًا فشيئًا وتحتد شيئًا فشيئًا، بمحاولة اليهود إيقاع الخصومة بين الأوس والخزرج وبين المهاجرين والأنصار، وبمجادلتهم الرسول والصحابة في المسائل الدينية بسؤاله عن الروح وعن ذي القرنين وما إلى ذلك. ولما اشتبك المسلمون في القتال مع قريش في غزوة بدر نفض اليهود أيديهم من المسلمين، بل وتمنوا أن يُهزموا، بل ودبّروا مؤامرة للفتك بمحمد وأخيرًا تطور هذا العداء إلى خصومة مكشوفة، وأخرج الرسول بني قينقاع وهم من يهود المدينة كانوا يسكنون في حي واحد من أحيائها الداخلية، ليأمن شرهم وليوحد المدينة سياسيًّا ودينيًّا معًا، إذ كان أغلب من عداهم من اليهود يسكنون خارج المدينة بخيبر وأم القرى، ثم سلك هذا المسلك مع بني النضير أيضًا لإخلالهم بعهودهم.

•••

في يوم من أيام السنة الخامسة للهجرة عقد جماعة من كبار اليهود ودهاتهم مؤتمرًا سريًّا ينظرون فيه في وضع خطة للقضاء على محمد وصحبه، وإعادة سلطة اليهود في المدينة كما كانت وأكثر مما كانت، وكان من كبار المؤتمرين حُيَيّ بن أخطب وسلام بن الحقيق وكنانة بن الربيع، وهؤلاء كلهم من يهود بني النضير ومعهم هوذة بن قيس من يهود وائل وغيرهم، ماذا يصنعون؟

وأخيرًا استقر الرأي على أن السبب في فشل القضاء عليه هو محاربته الجزئية لا الإجماعية، فيومًا تحاربه قريش، ويومًا يُحارِب هو اليهود، فالخطة المثلى هي تأليب العرب كلهم عليه، وتحديد زمن لتحرك القبائل كلها، وعسكرتهم حول المدينة، وانضمام اليهود إليهم في ذلك، فإذا أُحكمت هذه الخطة، واجتمع العرب من جميع الأطراف بقضهم وقضيضهم، وانضم إليهم اليهود، فهلاك محمد وصحبه أمر لا شك فيه، ثم قالوا: لنرسل منا من اليهود إلى كل قبيلة من هو صديق لها وتربطه بها رباطة مالية أو تجارية أو نحو ذلك، ولنبدأ بقريش فإذا قبلت الفكرة ذهبنا إلى القبائل الأخرى نشجعها بإخبارها أن قريشًا قد قبلتها فتقبلها، وتعاقدوا على التنفيذ.

•••

هذا وفد يهودي من سلام بن مشكم وحُيَيّ وابن أبي الحقيق وهوذة يدخلون مكة ويفاوضون أبا سفيان وصحبه في الخطة التي وُضعت، فيتحرك ضمير بعض رجال قريش، ويرى أن الحرب بينهم وبين محمد حرب دينية من بعض نواحيها، فإذا كان دين محمد خيرًا من دين قريش وقضينا عليه وعلى دينه لم نجن خيرًا، لهذا سألوا اليهود: «إنكم أهل الكتاب الأول، والعلم بما أصبحنا نختلف فيه نحن ومحمد، أفديننا خير أم دينه؟» قالوا: «بل دينكم خير من دينه وأنتم أولى بالحق منه».

وهكذا لم يتورع اليهود أن يقرروا أن دين الأوثان خير من دين التوحيد، لأن المسألة في نظرهم ليست مسألة حق يُضحَّى في سبيله بشيء من الصدق، ولكن مسألة مغنم يُضحَّى في سبيله بكل حق.

فلما اتفقوا مع قريش وتواعدوا على وقت الهجوم سهّل عليهم الاتفاق مع غيرهم، فذهبوا إلى «غطفان» وأخبروهم بالاتفاق مع قريش، فأجابوهم إلى الدخول في الحلف؛ وهكذا ألبوا جزيرة العرب على المسلمين في المدينة ووضعوا تفاصيل الخطط وحددوا الزمن.

•••

كل الدلائل تدل على نكبة عظمى واستئصال شنيع، ولو استُفتي المنطق لأفتى بأن المسلمين سيقضى عليهم قضاء مبرمًا. فماذا يفعل ألف أو ألفان أو نحو ذلك من المسلمين ومعهم ستة وثلاثون فرسًا، أمام هذه الجيوش من الألوف المؤلفة وجيش قريش وحدها بأحابيشها يبلغ عشرة آلاف، وحالة «المدينة» نفسها قلقة مضطربة؛ فبنو قريظة من اليهود بجوار المسلمين يستعدون للوثبة إذا رأوا الفرصة، والمنافقون يندسون بين المسلمين يثبطون الهمم ويضعفون العزائم ويتنادون عليهم: «هذا الذي وعدكم كنوز كسرى وملك قيصر»؛ فعدو أي عدو في الخارج وعدو أي عدو في الداخل، والموقف حرج والحياة كرب، وهذا ما يصف القرآن: إِذْ جَاءُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا * وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا. ولكن رسول الله والخلاصة من صحبه ما وهنوا ولا استكانوا ولا تطرق الشك إلى نفوسهم، بل زادت نفوسهم صفاء عند الشدائد وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَـٰذَا مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ ۚ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا.

•••

والله لا يهب نصره للضعفاء، إنما يهبه عند بذل الجهد وإحكام العمل وتضحية النفس والمال للعقيدة، أما غير ذلك فإيمان أجوف.

لقد سمع رسول الله وهو اليقظ لكل ما يجري بما بيتت له جزيرة العرب، وعلم أن مقابلة القوة بأضعافها قد لا تجدي، فتشاور هو وأصحابه في الموقف فاستقروا على حفر خندق حول المدينة يمنعون به الأعداء من دخولها، وكان هذا الخندق أول ما عُرف في جزيرة العرب.

فها هم المسلمون يهبّون بكل قواهم لحفر خندق، لا يتخلف أحد، ورسول الله في طليعتهم، يحفر كما يحفرون «حتى وارى الغبار جلدة بطنه» ويبث فيهم القوة والاحتمال بالغناء بالأراجيز كأرجوزة ابن رواحة.

والله لولا أنت ما اهتدينا
ولا تصدقنا ولا صلينا
فأنزلن سكينة علينا
وثبت الأقدام إن لاقينا
إن الألى قد رغبوا علينا
إذا أرادوا فتنة أبينا

حتى إذا جاءت الأحزاب إلى المدينة رأوا الخندق قد أُعدّ والحيطة قد تمت، فلم يستطيعوا أن يدخلوا المدينة وإن تجمعوا في أسفلها وأعلاها، وحاول قوم أن يقفزوا بخيلهم من أضيق موضع في الخندق فتصدى لهم المسلمون وقتلوا بعضهم فكرّ بعضهم راجعًا.

وكان الفصل شتاء، والبرد قارس، والرياح عاصفة، وليس بينهم إلا الترامي بالنبل والحجارة، واستمروا على ذلك بضعة وعشرين يومًا من أشد الأيام على المؤمنين، ثم دب الفشل واليأس في نفوس الأحزاب، واندسّ بعض الذين أسلموا ولم يعلموا إسلامهم يبث الوقيعة بين اليهود وقريش واليهود وغطفان، وزاد الأمر سوءًا بين الأحزاب عدم توحُّد القيادة، وفقدان الثقة بين بعضهم وبعض، وسوء الحالة الجوية ويأسهم من وصولهم إلى نتيجة حاسمة في أمد قريب، فرجعوا خائبين وَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا ۚ وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ ۚ وَكَانَ اللهُ قَوِيًّا عَزِيزًا.

ثم هاجم المسلمون بني قريظة لنقضهم العهد وموالاتهم للأعداء من الأحزاب وشدة خطرهم على المسلمين لقربهم منهم في المدينة، فقتلوا بعضًا وأسروا بعضًا وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَّمْ تَطَئُوهَا ۚ وَكَانَ اللهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا.

•••

أما بعد فالرواية واحدة تُمثّل في أمكنة مختلفة وأزمنة مختلفة وبأشخاص مختلفين.

لقد كان المسرح المدينة فصار فلسطين، وكانت الرواية تُمثّل في القرن السابع، ثم ها هي يعاد تمثيلها في القرن العشرين، وكان يظهر على المسرح حُيّيّ بن أخطب وأمثاله والآن يظهر ويزمان وأمثاله.

وكان القوم يؤلبون جزيرة العرب، واليوم يؤلبون إنجلترا وأمريكا، وكانوا يحلمون حلمًا جميلًا رائعًا، واليوم يحلمون حلمًا جميلًا رائعًا وكان إذ ذاك منافقون، وكان اليوم منافقون، وكانوا يجدون ولا يتورعون، واليوم يجدون ولا يتورعون.

ولكن …

هل تكون نتيجة اليوم كنتيجة الأمس؟

أما إ ذا اتحدت المقدمات فلا بد من اتحاد النتائج، وإن اختلفت اختلفت.

وقد كانت مقدمات الأمس إيمانًا صادقًا ويقظة قوية ووحدة كلمة وعملًا متواصلًا من الزعيم إلى الأتباع، وصبرًا على احتمال الأذى لسمو الغاية، وسدّ الآذان عن قول الدساسين والمنافقين، وابتكار الأساليب لإفساد الخطط، وبُعْد النظر في العواقب، وقد علّمنا «المنطق» أن المقدمات المتشابهة تنتج نتائج متشابهة، وأن المقدمات تخلق خلقًا والنتائج تأتي لزامًا.

فهل تحدث المقدمات في القرن العشرين كما حدثت في القرن السابع فتُمثَّل الرواية اليوم كاملة كما مُثِّلت من قبل كاملة؟

وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ١ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ۚ يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا ۚ وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ.

١  ليس العمل الصالح مجرد صلاة وصوم وزكاة وحج. بل هو — إلى ذلك — مسايرة العلم إلى أقصى حدوده ومراعاة نظم العدالة إلى أقصى حدودها، وإعداد ما أمكن من القوة لإرهاب الخصوم، وتحصين الدولة من الداخل والخارج على آخر نمط عرف، إلى نحو ذلك، وهذا هو المعنى بقوله تعالى: وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤