قادة الرأي

قائد الرأي في الأمة كربّان السفينة، لا يمكن أن تسير في أمن إلا به، ولا يمكن أن تصل إلى غايتها إلا به، وإذا كان ربّان السفينة لا يصلح لقيادتها إلا إذا ثُقِّف ثقافة واسعة في البحار والأنواء، وكيفية اجتياز الصعاب إذا عرضت، وتجنب المخاطر إذا أسفرت، والدخول إلى المواني والخروج منها وما إلى ذلك، فكذلك القائد لا بد أن يكون على علم تام بشئون الأمة جميعًا في الداخل والخارج، وما يقدمها وما يؤخرها، وما يؤثر فيها ظاهرًا وباطنًا، وكيف يصل بها إلى بر السلامة إذا هبّت العواصف، وكيف يسير بها إلى الأمام إذا اعتدلت الريح، وهكذا.

وكما أن قائد السفينة لا يسير على هوى الركاب، ولا يخضع لإرادتهم في سرعة السير وبطئه، ولا في الاتجاه الذي يتجهه، ولا في كيفية دخول الميناء والخروج منه، وإنما يخضع لعلم البحار وقوانينها ونظمها، وما يراه هو في مصلحة الركاب، لا ما يرون هم، فكذلك قائد الرأي في الأمة لا يخضع لرغباتهم وشهواتهم، ولا يتجه دائمًا إلى ما يرضيهم، وإنما يخضع لقوانين الأمة ونظمها، وما يرى هو بعد الاستشارة وتبادل الرأي إنه المصلحة العامة، وأنه يحقق تقدم الأمة ونجاحها ورقيها، ولو خالف رغبتها.

ربّان السفينة يسره أن يرضي الركاب، وأن يكونوا في سرور ومتعة، ولكن ذلك مشروط باتفاقه والمصلحة العامة؛ فإذا رأى أن اتباع هواهم في غير مصلحتهم لم يعبأ برضاهم ولا سرورهم، وعمل الواجب عليه ولو أغضبهم، فكذلك قائد الرأي، يرضيه أن يرضى الناس عنه، وأن يحقق لهم ما يسرهم، ولكن في حدود ما يرى المصلحة لهم، فليس الذي يسيّره هو تصفيق الجماهير، بل هو يعمل الحق، ويؤدي الواجب، سواء صفق له الجماهير، أو رموه بالأحجار، لأنه يعلم حق العلم أنه إن سيّره تصفيق الجماهير كان تابعًا للجماهير لا قائدًا لها، وكان في مؤخرتها لا في مقدمتها.

قد كان ربّان السفينة فيما مضى يكفيه العلم بالبحر حسبما شاهد وجرب، واستفاد ممن سبقوه تجربة ومرانة، ولكن ربّان السفينة اليوم أصبح لا بد له من علم بجانب التجربة، لا بد له أن يعلم «علم البحر» بعد أن صار علمًا، و«علم الجو» بعد أن صار علمًا، وميكانيكًا السفينة، وهندستها، وما إلى ذلك، فكذلك قائد الأمة، أصبح واجبه أدق، وأعباؤه أعظم، وتكاليفه أشق أصبحت نفسية الجماهير علمًا يجب أن يُعرف، وتاريخ بلاده سجلًا يجب أن يُقرأ؛ والسياسة الدولية علمًا معقدًا، بل علومًا معقدة يجب أن تُدرس وتُفهم، وإلا ما صح أن يكون قائدًا؛ فمن ظن أنه يقود أمة بثرثرة كلام، أو استرضاء مشاعر، أو تهييج خواطر، كان كمن يريد أن يكون ربّان سفينة بالصياح.

لقد كانت السفينة فيما مضى تسير في بحرها وحدها، غير عابئة بغيرها، وكان الربّان لا ينظر إلا إلى سفينته وبحره، أما اليوم فالبحار شبكة واحدة والسفن في البحار شبكة تتعاون وتتخاطب وتستنجد ويُستنجد بها، فكذلك الأمة والقائد كانت الأمة تعيش وحدها، فإن توسعت فمع من جاورها، وكان سهلًا على القائد أن يقودها. أما اليوم فالعالم شبكة، وسياسة العالم شبكة، ولا يمكن لقائد أمة أن يقودها حتى يعلم تيارات السياسة العالمية ومراميها ومصاعبها، وكيف يجتاز أخطارها، ويصل إلى بر السلامة متجنبًا ألغامها، وما أشق ذلك وأصعبه!

ربّان السفينة يجب أن يمتاز بثلاث خلال، هي في الصميم من عمله: أن يكون أمينًا على ما في يده من أرواح من بالسفينة، وهذا يقتضيه أن يفتح عينه لكل ما في السفينة، وما يحيط بها، وما ينتظرها، حتى إذا فاجأها مفاجئ عرف كيف ينجو بها. ثم أن يكون شجاعًا فلا يضطرب لحادث، ولا ينخلع قلبه لعارض، بل يتصرف عند الخطر في ثبات ورزانة وحكمة، حتى يسلم بسفينته من الخطر، ثم التضحية عند الشدائد، فهو آخر من ينزل إلى قوارب النجاة إذا غرقت السفينة، وهو الذي يقف على ترتيب وسائل النجاة إلى آخر لحظة من حياته.

فكذلك يجب أن يكون القائد في الأمة، أمينًا على أرواح أمته، أمينًا على مصالحها، أمينًا على السعي في خيرها، ثم هو شجاع، لا يخشى الكوارث تحل به، ولا التهديد يناله من أعدائه، ولا الصعاب تعترض سبيله، ولا الفقر، ولا السجن، ولا النفي، ولا أي مفزع، ثم هو مضح إلى آخر حدود التضحية يشعر أن أرواح الناس وحريتهم واستقلالهم وخيرهم في عنقه، يجب أن يحافظ عليها أشد مما يحافظ على نفسه، وإذا اقتضى الأمر أن ينجي أمته ويموت هو فلا بأس، كما يفعل الربّان الأمين.

ولكل أمة حية سفن ذات أشكال وألوان، فسفن سلمية، وسفن حربية، وسفن كاسحات ألغام، ولكل نوع ربابنته العارفون بشئونه، المقدرون له الصالحون لقيادته، وكذلك الشأن في قيادة الأمة. فقائد سلم وقائد جلاد وخصام، وقائد لكسح الألغام، ولكل قائد مزاياه، ولكل قائد مكانه وزمانه.

وإذا كانت كل أمة محتاجة إلى ربابين يقودون سفنها فالشرق اليوم أحوج في ذلك من الغرب، لأن الشرق يسير الآن في خطوط ملاحية جديدة لم يسبق له السير فيها، هي خطوط تنتهي بالاستقلال؛ فلا بد لهؤلاء الربابين أن يتبيّنوا معالم الطرق جيدًا، ويحتاطوا للأنواء والعواصف احتياطًا كاملًا، ولأن الغرب مهما ادّعى من إنسانية ومبادئ عدالة ومساواة وديمقراطية لا يزال يضع الألغام في الخطوط الملاحية الجديدة للشرق، فلا بد من إعداد سفن من كاسحات الألغام، ولا بد من إعداد ربابين لاكتساحها، ولأن الرأي العام في الأمم الشرقية لا يزال ناشئًا يعوزه النظام وسعة الاطلاع وحسن التقدير، حتى يميز بين الربّان الماهر فيسلمه سفينته وبين الربّان المهرج فلا يسلمه قيادته.

ولا يكون ذلك إلا بتوفيق من الله.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤