الفصل العاشر

البيت العلوي

في أواخر النصف الأول من القرن السادس عشر كانت سيادة البربر في المغرب الأقصى على وشك الزوال، ويوم تغلَّبَ محمد المهدي السعدي على باحسُّون آخِر ملوكهم انهارَ صرح تلك السيادة، فقامت على أنقاضها الدولة السعدية.

وكان محمد المهدي مؤسِّس هذه الدولة شديد البأس شجاعًا طموحًا، وعلى شيء من الحكمة، فوالَى الإنكليز لتحسين تجارة البلاد، ووطَّدَ صلته بالإسبان تعزيزًا لسياسته، ولكنه حمل على البرتغاليين حملات موفَّقَة، وهو يطمع بالاستيلاء على ثغور المغرب كلها.

وكان الأتراك يومئذٍ يتقدَّمون في أفريقيا الشمالية فتحًا واحتلالًا، فزاد المهدي جنوده، واضطر للقيام بنفقاتها وتعزيزها إلى أن يزيد في الخراج على رعاياه. الخراج! عقبة سلاطين المغرب الكأداء.

فلما زاد في الخراج تمرَّدَتْ بعض القبائل وذَرَّ فيها قرن الفتنة، وبما أنه والَى النصارى ثار عليه ثائر الدين كذلك، فقام الغُيُر المرابطون يدعون المؤمنين للجهاد؛ فحمل المهدي عليهم حملةً شعواء بدَّدَتْ شملهم قتلًا وطردًا، بعد أن هدَّمت زواياهم. بددت تلك الحملة شملهم، وما أخمدت نارهم، فراح الناجون والمطرودون يناصرون الأتراك على سلطان البلاد، فكثر عليه الأعداء، ولكنهم لم يتمكَّنوا منه إلا غدرًا. ومن تهكُّمِ الأقدار أن تكون اليد الغادرة من جنده!

بعد وفاة المهدي (٩٦٣ﻫ/١٥٥٧م)، خلفه ابنه الملقَّب بالغالب، فتمشى على سياسة أبيه في موالاة الإسبان، وتوطيد صلاته بهم، كما أنه واصَلَ الحملات على غلاة الدين، وما كان فيها موفَّقًا توفيق أبيه، وقد حاوَلَ محمد الغالب أن يجدِّد بعض مجد المغرب، أو يعوض بالبناء عن إخفاق سياسته الداخلية، فشيَّدَ قصرًا فخمًا في عاصمته وبنى مدرسة وجامعًا. على أنه ظلَّ مواليًا للإسبان «الكفار» في نظر أولئك الغُيُر على الدين، فقضى نحبه بين حُبَّين تجاذَبَا قلبه: حب الجزيرة الخضراء، وحب الجنة!

وما كان ابنه محمد المتوكل بالخلف السعيد للسلف الحميد. ما صَحَّ على ما يظهر توكُّله! ويل للسلاطين من العمومة وأبناء العم! فقد نازَعَ المتوكلَ الملْكَ اثنان من عمومته اسم أحدهما عبد الملك، فعاد المغرب إلى سالف عهده من الفتن والحروب، وكان عبد الملك منتصرًا على ابن أخيه الذي فَرَّ هاربًا إلى بلاد البرتغال. راح يتوكل على «الكفار».

ولكن مليك تلك البلاد البرتغالية يوحنا الثالث (١٢٥١–١٥٥٧) كان زاهدًا في الأساكل الأفريقية، والثغور المغربية، مؤثرًا عليها البرازيل، وفَتْحٌ واحد في العالم الجديد يُنسِيك الفتوحات والاندحارات المغربية كلها. ليأخذها السلطان المهدي! وهو المعاصر ليوحنا، الموفق في حملاته على البرتغاليين في الثغور التي احتلوها على شاطئ الأطلنتيق والمتوسط. فأخرجهم من سبتة، وما بالَى يوحنا بما حلَّ بهم في الثغور الأخرى، وما كان معارضًا في تقدمة طنجة هدية إلى الأميرة كاترين — بعض مهرها — يوم زواجها بالملك شارلس الثاني. خذوا طنجة، يا أبناء العم الإنكليز، وخلِّصوها من يد «الكفار».

أما الملك سبستيان الذي خلف أباه (١٥٥٧–١٥٧٨) فلم يكن زاهدًا زهده في المغرب، بل كان ينزع نزعة أجداده الفاتحين، ويطمع في استعادة ما خسرته البرتغال في عهد أبيه. كان سبستيان شديد النعرة الدينية، مثل أولئك المرابطين في المغرب. سبستيان المرابط البرتغالي حامي ذِمار الدين! ثار ثائره على «الكفار»، فعبَّأ الجيوش لفتح بلادهم وتنظيف الأرض منهم.

وكان محمد المتوكل لا يزال في بلاد البرتغال، فقال في … كدتُ أخطُّ الكلمة فوقفت عندها متورعًا. سبحان العالِم بذات الصدور! ولكني أتصور المتوكل قائلًا: أنا وابن عمي على الغريب، وأنا والغريب على عمِّي!

أبحر الملك سبستيان بجنوده، ومعه محمد المتوكل، فنزلوا في أصيلة، ومشوا جنوبًا إلى العرائش، فخرج لهم السلطان عبد الملك بجيش من القبائل ونازلهم في وادي المخازن بالقرب من القصر الكبير.

وفي ٤ أغسطس ١٥٧٨م/٩٤٨ﻫ كانت الوقعة الكبرى التي تُعرَف في تاريخ المغرب بوقعة الثلاثة الملوك؛ فقُتِل فيها سبستيان، وهلك المتوكل، ومات بُعَيْد ذلك عبد الملك، إنما النصر كان للقبائل التي حاربت يومئذٍ مع عبد الملك وكانت متحدة مستبسلة، فنصرها الله على «الكفار»، كما يقول مؤرخ تلك الأيام!

بعد وفاة عبد الملك تولى أخوه أحمد، فبايعته القبائل التي حارَبَتْ في وقعة وادي المخازن، وراح يؤدِّب بها الخارجين عليه، ويُخضِع المتمردين في شمال البلاد وشرقها، فكان منتصرًا في حملاته كلها، فسُمِّيَ «المنصور».

ثم غزا المنصور السودان، فوصل إلى تمبكتو، وعاد منها ظافرًا غانمًا الغنائم الكثيرة، منها ألف عبد عمليق، وثمانية آلاف قطعة من الذهب، فسُمِّي «الذهبي»، «وفاتح السودان».

كان ذلك السعدي المنصور على جانبٍ يُذكَر من صفات الفاتح والسياسي، فقرن الشجاعة بالحكمة، وكلَّلَها بالعلم وبحبه لأهل العلم، يتخذ منهم الكتَّاب والأعوان، فقالوا: «هو عالِم الخلفاء وخليفة العلماء.»

ازدهر المغرب في عهد الخليفة الكثير الألقاب، والكثير الأعمال الجلية؛ فتوطدت أركان الملك والأمن والسلام في البلاد، ثم سعى لتوطيدها كذلك في الخارج، بعقد معاهدات حُسْن الجوار والتجارة مع دولتي إنكلترا وإسبانيا، فحال القدر دون إتمام مشاريعه الدولية هذه، يوم فتحَ بابَ القصرِ للوباء الذي غزا المغرب سنة ١٦٠٥، فكان المنصور الذهبي غنيمته الكبرى. لقد نُكِب المغرب في فقده نكبتين، نكبة البنَّاء الصريع في وسط عمله، والنكبة التي تلتها.

خلف المنصور ابنه زيدان، فقام أخواه فارس والمأمون ينازعانه الملك، فاحترب الإخوة الثلاثة احترابًا دام بضع سنوات، استولى المأمون خلالها على العرائش، فباعها للبرتغاليين١ سنة ١٦١٠؛ لحاجته إلى المال في محاربة أخيه. وفي هذه الحرب «الأخوية» احتلَّ الإسبان، سنة ١٦١٤، ثغرَ المعمورة — المهدية اليوم — عند مصب نهر الصَّبُو.

أما زيدان، فبالرغم من أنه أُرِيحَ أخيرًا من أخويه — إذ قُتِل فارسٌ في إحدى المعارك، وقُتِلَ المأمون غدرًا في ضواحي طنجة — لم يستتب الحكم له، وما امتاز بغير أنه آخِر السلاطين السعديين!

فالمهدي جده أخرج الفرنجة من بعض ثغور المغرب، وعمه عبد الملك ردَّهم عنها مدحورين خاسرين، وها هم أولاء، بفضل هذه الحرب «الأخوية»، يعودون. فلا عجب إذا ثارت في البلاد ثوائر الدين والقومية العربية، ولا سيما أن العرب المتخلفين في إسبانيا طُرِدوا منها بعد فتنة ١٦٠٩ هناك، فتخلَّل تلك الثوائر الدينية القومية ثائرُ الانتقامِ: أخرجتمونا من إسبانيا فسنخرجكم من المغرب، ولن تعودوا إذًا أبدًا!

دعا الداعون للجهاد، جهاد الفرنجة والموالين لهم من أولي الأمر في البلاد، وكان في مقدمة الدعاة رجل اسمه أبو حسن علي الشريف، من أشراف الحجاز، هاجَرَ أهله من ينبع إلى المغرب الأقصى، فتوطنوا سجلماسة في الجنوب. راح علي الشريف يدعو للجهاد بلهجة ملتهبةٍ فصاحةً وإيمانًا، فلبَّى دعوته الناس من بدو وحضر، وانضَمَّ إليه أولئك الذين طُرِدوا من إسبانيا، فعظم أمره، وانتشرت دعوته، فاستحالت ثورةً على السلطان السعدي زيدان، ويوم استولى الثائرون على سجلماسة نادوا بمحمد بن علي (١٠٥٠ﻫ/١٦٤١م) ملكًا على تفيلالت، أي المقاطعة الجنوبية من المغرب.

قضى السلطان زيدان نصف مدة ملكه في محاربة أخويه، والنصف الآخَر في محاربة أولئك الثائرين، الطالبين الملك، الممهِّدين لدولة جديدة — دولة عربية شريفية علوية — وما كان انتصاره على أخويه، ولا كانت حملاته على الثائرين؛ لتمحو ما خطته يد القدر في البداية وفي النهاية من تاريخه، وهو أنه آخِر السلاطين السعديين.

كان الرشيد أخو محمد بن علي حامِل العَلم الأول في الجهاد، ومنتصرًا في أكثر مواقعه فعَلَا نجمُه، وتردَّدَ بين القبائل اسمُه. هؤلاء الثلاثة العرب: علي الشريف صاحب الدعوة، وابنه محمد زعيم الثورة، وابنه الرشيد ناشِر أعلامها شرقًا وشمالًا، هم الأركان الثلاثة للدولة الجديدة، ويصح أن يقال إن عليًّا وابنه محمدًا مهَّدَا لها، وإن الرشيد مؤسِّسها وأول ملوكها؛ فقد بُويِعَ بالخلافة في ٦ يونيو سنة ١٦٦٦ / ١٠٧٥ﻫ، ونودي به «ملك تفيلالت وفاس ومراكش وترودنت وسائر المغرب».

ولكنه كان قصير العمر؛ فبعد ست سنوات من جلوسه على العرش بفاس، يوم كان عائدًا من ساحة القتال، وقد أخمد فتنةً أضرمها ابن عم له، جفل جواده في حديقة القصر، فاصطدم الملك بشجرة، فشُجَّ رأسه شجة قضت عليه، وهو في الأربعين من سنه.

أما أخوه إسماعيل، الذي تبوَّأ العرش بعده، فقد عاش طويلًا، وملك سعيدًا خمسة وخمسين سنة (١٦٧٢–١٧٢٧) وهو أحد الثلاثة السلاطين العظام في تاريخ المغرب.

ذكرت — وأنا أقرأ أخباره — الملك عبد العزيز بن سعود، فقد كان إسماعيل في زمانه مثل عبد العزيز في زماننا، موحِّد البلاد، مؤدِّب البادية، معزِّز الأمن، ضابط الأمور بيد من حديد، وبقلب — غير قلب عبد العزيز بن سعود — بقلب لا يعرف الشفقة والحنان، حتى في أخص أهله — في الحريم.

فقد كان إسماعيل مزواجًا عجيبًا، لزم الحد في الشرعيات، وما عرَفَ حدًّا لما جاء في الآية: وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ، وكان فخورًا بذريته التي تجاوَزَتِ المائتين عدًّا ذكورًا وإناثًا.

تحدَّثَ العارفون من الفرنجة الذين زاروا المغرب وأقاموا فيها، عن حريم إسماعيل فقالوا: إنه مثل حريم النبي سليمان، فيه ما لا يقل عن الخمسمائة من النساء البيض والسود، وبينهن شقراء إنكليزية.

وقد أراد إسماعيل أن يضيف إلى ما ملكت يمينه من فرنسا، من باريس، من الذرية الملكية، فطلب من لويس الرابع عشر ابنته المدموازيل ده كونتي من محظيته لويزا فاليار، وكان قد وصف له محاسنها سفيره إلى ملك الفرنسيين العظيم، وقال إنها تقبل أن تتغرب وتتجرب وتعتنق فوق ذلك الإسلام، ولكنها لم توافق إلى ما كان يشتهيه قلبها المجنح، فتغربت وتجربت في باريس. قال المؤرخ: عندما طلبها السفير المغربي كان الجواب ابتسامة ناعمة فرنسية الذوق والمعنى، ولكن أحد رجال البلاط قال للسفير، ولماذا لا يصير مليككم مسيحيًّا؟

كان لويس الرابع عشر في الرابعة والثلاثين من سنه، والتاسعة والعشرين من ملكه، يوم بُويِع إسماعيل بالخلافة وهو في السادسة والعشرين، فتعاصَرَ الملكان ثلاثًا وأربعين سنة، وتشابَهَا في طول عهديهما؛ فقد ملك لويس اثنتين وسبعين سنة منها ست عشرة سنة بوصي، فيكون حكمه الشخصي الفردي ستًّا وخمسين سنة، وملك إسماعيل خمسًا وخمسين سنة كاملة.

ولو كان لويس ملك المغرب ومنه، لكان حريمه كحريم إسماعيل وأعظم، ولو كان إسماعيل ملك فرنسا لكان في تسريه كلويس الأكبر.

وقد تشابَهَ الملكان بالاستقلال والاستبداد في الحكم، فما كان يطيقان المعارضة، ولا يأذنان برأي مخالف للرأي الملكي. كلمة لويس: L’État c’est moi كان يقولها إسماعيل بلهجات شتى، أو بالحري في شتى أعماله كل يوم. وقد تشابه الملكان في أن الفرنسي كان يحسب نفسه ظل الله على الأرض، والعربي المغربي يُدْعَى خليفة الرسول. إلا أن العقلاء من رجال «ظل الله» كانوا يبتسمون ويتهامسون، وأهل المغرب يبايعون على الخلافة ولا تهامُس ولا ابتسام. وقد تشابَهَ الملكان في مطامعهما السياسية، فشاء لويس أن يبسط نفوذه في كل مملكة من ممالك أوروبا، وشاء إسماعيل أن يكون سيد المغرب، بل سيد أفريقيا الشمالية جمعاء. شعر لويس بشيء من عظمة سيد المغرب فواصله ليدنيه من ظل سيادته ونفوذه، وأدرك إسماعيل عظمة لويس فأرسل سفيره إليه متودِّدًا متقرِّبًا.
ويوم عاد السفير من باريس وصَفَ لمولاه محاسن قصر فرساي ومفاخره، فعول إسماعيل على أن ينقل القصر إلى مكناسة، ويزيد عليه، لا لشغفه بالبناء فقط، بل حبًّا بالمنافسة والمفاخرة. ومما شيَّده قصر القصبة، فكان مدينة بذاته، والحصون الثلاثة المحدقة به، ومدينة الرياض لكبار الموظفين، فبلغ عدد العمال فيها ثلاثين ألفًا عدا ألفين معهم من أسرى النصارى.٢

كان لإسماعيل حبان يسيطران على قلبه وعقله وروحه، ذكرت أحدهما وهو حبه للنساء، وأما الثاني فهو حبه للمال، كان يبتزه خصوصًا من اليهود.

وكان فخورًا بذريته، كما قدَّمْتُ، وبعبيده السود العماليق. لهؤلاء العبيد شأن في القصر وفي المملكة، استجلبهم إسماعيل من السودان، وأسكنهم دورًا في ضواحي العاصمة، فكان يُحسِن إليهم، ويعتني حتى بزواجهم، ويجيز الأذكياء بأن يعلِّمهم الصناعات.

كان حرس القصر الخمسمائة من هؤلاء العبيد، وكان منهم العمَّال في سائر الأنحاء ينفِّذون أوامر المولى، ويوطِّدون أركان الأمن والملك في البلاد.

قال المؤرخ: كان إسماعيل يستحلف أولئك العبيد على كتاب البخاري بالإخلاص له ولملكه، فسمُّوا «البخاريين».

أضِفْ إليهم الجنود، وبينهم كتيبة من الأجانب، أنشأها من شتات الأوروبيين اللاجئين إلى المغرب — أمخترعون الفرنسيون في كتائبهم الأجنبية أم مقلدون؟ — ومن الأسرى الذين كان يجيء بهم القرصان. ذي هي القوى المسلحة التي كانت تمثِّل مشيئة المولى الرهيبة، وإرادته العالية وغير العالية، فأصبحت بلاد المغرب في عهده بلادًا واحدة، طائعة خاشعة، آمنة مطمئنة. كانت البوادي حتى أعالي الأطلس تخشى إسماعيل وتقول: في البلاد اليوم سيد جبَّار!

كان إسماعيل طويل القامة، شديد البنية، مخروط الوجه، مقرون اللحية، برَّاق العين، ناعم النظرات، وما فقد في شيخوخته نشاطه الوثَّاب، وروح المرح والشباب. قال أحد الفرنجة الذين زاروا المغرب إنه رأى السلطان الشيخ راكبًا ذات يوم حصانه، وقد حمل أحد أبنائه الصغار بيد والرمح بالأخرى، وإنه كان يمتطي جواده من الأرض في وثبة واحدة كالفارس المغوار.

وكان إسماعيل ذكي الفؤاد، سريع الخاطر، كما أنه كان قاسي القلب، سريع الغضب، فلا يجرؤ أن يدنو منه ساعتئذٍ أحب الناس إليه. لقَّبَه الفرنجة بالدموي؛ لأن الدم كان يجري من مركز سيافه بمكناسة كل يوم، وإنه ليصفه عرب البادية بشيء من الهيبة والإعجاب قائلين: هذا ملك يقطُّ الرءوس.

هو المولى إسماعيل الذي جدَّدَ في المغرب مجد يوسف بن تاشفين، وقدَّم من الحسنات ما قد يشفع لدى الحكم الأعلى.

ومن ذنوبه ما جناه أبناؤه على المغرب. مسكين هذا المغرب، فهل هو غير نسمة من روح العرب، وقطعة من عقلية العرب، وفلذة من كبد العرب؟!

فإن مات منَّا سيد قام سيد …! لا وربك الأعلى، فإن مات منا سيد قام سادة يتقاسمون ملكه — يتحاربون ويتطاحنون، فيهلكون ولا يملكون، ولا يخسر الخسارة الكبرى غير الشعب المغربي.

شيَّدَ إسماعيل للسيادة العربية المغربية صرحًا عظيمًا، فانهار ذلك الصرح بعد موته، وقامت عليه بوم الخراب. انتقضت القبائل على كل ذي أمر ودعوة. أضرب الأسرى عن العمل في تشييد القصور. قام العبيد «البخاريون» يدعون السيادة العليا في الأحكام. حاوَلَ الأتراك من الخارج ورجال الدين من الداخل أن يقتسموا الإرث العظيم …

وأبناء إسماعيل في هذه الغمرة من الفوضى يتنازعون الملك ويتحاربون.

فقد جلس المولى عبد الله على العرش وسقط منه ست مرات في خلال عشرين سنة من الفتن والحروب.

وكان الأوروبيون يسعون لتخليص أبناء بلادهم من الأسر، بل من ذلك المغرب الهائج، المتلاطمة فيه أمواج الفوضى، فباع عبد الله الإسبان والإنكليز والفرنسيين أسراهم لاحتياجه إلى المال.

أما المولى محمد، خلف المولى عبد الله، فقد حاوَلَ أن يجدِّد سياسة أجداده الداخلية في حملاته على غلاة الدين، وعلى القبائل المتمردة، فكان توفيقه كنور الشمس الغاربة بين أكداس من الغيوم، وقد حمل على البرتغاليين والإسبان ليخرجهم من ثغور المغرب، فتوفق في إخراج البرتغاليين من معقلهم الأخير — مازغان — وأخفق في مليلية، فثبت بها الإسبان.

وكان خلفه المولى سليمان أكثر توفيقًا منه في ترميم أركان الملك وتوطيدها، وفي تعزيز شئون المغرب الخارجية، لولا السياسة الأوروبية الأفريقية الجديدة التي بدأت تقرن الغزوات الاقتصادية والمالية بالغزوات الحربية في عهد هذا السلطان، وقد توفقت التوفيق الأكبر يوم احتل الفرنسيون الجزائر (٥ يوليو ١٨٣٠)، أي في عهد ابنه المولى عبد الرحمن.

وفي احتلال الجزائر بداية احتلالها لجميع أنحاء أفريقيا الشمالية الغربية.٣
البيت العلوي في المغرب.
علي الشريف (١٦٣٠م)
محمد بن علي (١٦٤١م)
الرشيد بن علي (١٦٦٦–١٦٧٢)
إسماعيل بن علي (١٦٧٢–١٧٢٧)
محمد بن إسماعيل (١٧٢٧–١٧٥٧)
عبد الملك بن إسماعيل (١٧٢٧–١٧٥٧)
عبد الله بن اسماعيل (١٧٢٧–١٧٥٧)
محمد بن عبد الله بن إسماعيل (١٧٥٧–١٧٩٠)
يزيد بن محمد بن عبد الله (١٧٩٠–١٧٩٢)
سليمان بن محمد بن عبد الله (١٧٩٢–١٨٢٢)
عبد الرحمن بن سليمان بن محمد بن عبد الله بن إسماعيل (١٨٢٢–١٨٥٩)
محمد بن عبد الرحمن (١٨٥٩–١٨٧٣)
البيت العلوي في المنطقتين الجنوبية والشمالية في المغرب.
محمد بن عبد الرحمن بن سليمان بن محمد بن عبد الله بن إسماعيل بن علي الشريف (١٨٥٩–١٨٧٣)
في المنطقة الجنوبية في المنطقة الشمالية
السلطان الحسن بن محمد (١٨٧٣–١٨٩٤) المولى إسماعيل بن محمد
السلطان عبد العزيز بن الحسن (١٩٠٠–١٩٠٧) الخليفة المهدي بن إسماعيل بن محمد
السلطان عبد الحفيظ بن الحسن (١٩٠٧–١٩١٢) (١٩١٣–١٩٢٣)
السلطان يوسف بن الحسن (١٩١٢–١٩٢٧) الخليفة الحالي الحسن بن المهدي
السلطان الحالي محمد بن يوسف ١٨ نوفمبر ١٩٢٧م/جمادي الأولى ١٣٤٦ﻫ وعمره إذ ذاك ١٧ سنة ربيع عام ١٣٨٠ﻫ/فبراير ١٩٦١م
١  باعها بنصف مليون دوقة، أي ربع مليون ليرة إنكليزية.
٢  كان القرصان المسلمون يأتون بالأسرى والسبايا من النصارى إلى المغرب، فيبيعونهم بيع الرقيق، ويبقون مسترقين إلى أن تفديهم حكوماتهم أو أهلهم، وكذلك كان يفعل القرصان المسيحيون بالأسرى المسلمين.
٣  راجع [الجزء الأول – الفصل الأول: من الاستقلال إلى الحماية].

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤