الفصل الرابع عشر

المراقبون

انتهينا من التجوال في إيالات المنطقة الخليفية، وقد زرنا مراكز المراقبات، وتحدَّثنا إلى المراقبين، بواسطة ترجمان أو مترجمين، فيجب علينا الآن أن نُعِيد النظر في مسألة إدارية مهمة قبل أن نعود إلى قطب دائرة رحلتنا في تطوان.

أول ما يظهر للسائح المراقب في زياراته لمراكز المراقبات الإسبانية هو أن الحكومة الوطنية، أي الخليفية المخزنية، هي شيء ضئيل إلى جانب هذه الدوائر العديدة الكثيرة المراقبين والموظفين والكتَّاب والمترجمين لحكومة الحماية الإسبانية. وقد أسلفت القول إن لكل مراقبة رئيسية مراقبات فرعية، هي ست في إيالة العرائش مثلًا، وثمان في إيالة الريف، فيمتد نظر المراقبة ويدها إلى أقصى الأماكن الساحلية، وأعلى وأوعر الأماكن الجبلية.

قد يكون ذلك من ضرورات المراقبة والإدارة، وقد يكون أكثر الموظفين من الإسبان؛ لقلة ذوي الكفاية، علمًا وخبرة، من الوطنيين. فالمطالبة بتغييرها لا تجوز قبل المطالبة بإنشاء مدرسة لتخريج الموظفين، وهي — كما تقدَّمَ — في لائحة الإصلاحات للأحزاب السياسية الثلاثة.

والمسألة الثانية تتعلق بما يصح أن يُدعَى ميزان الإدارة. أريد بذلك مقدار ما تعطي السلطات الرئيسية والفرعية من الحرية في تنفيذ القوانين وتصريف الأمور، وفي توزيع هذه السلطة المقرونة بحرية العمل ضمن نطاقها، لا بد من المساواة المرتكزة على العدل والحكمة معًا.

فلو رجحت كفة الميزان للسلطة العليا بمدريد، أو للسلطة العالية بتطوان، أو للسلطات المتفرعة عنها في المراقبات؛ لَتعرقلت الأمور، وسادت الأهواء والفوضى مكان العدل والنظام، وهذا ما كان يحدث في سياسة الحكومات السابقة، الجمهورية والملكية.

إنه لَمن العدل والحكمة إذن ألَّا ترجح كفة الميزان — ميزان الإدارة — في المركز الأعلى، أو في المركز الأوسط، أو في المراكز الفرعية؛ فيُعطَى المقيم العام حرية العمل ضمن نطاق الخطة الأساسية للحماية، ويُعطَى المراقبون حرية العمل ضمن نطاق السياسة التي يتخذها المقيم العام. ليس في هذا القول تقرير للواقع كما يتبادر للذهن، بل فيه ما يتجاوز المعروف المألوف، وهاك المثال زيادة في الإيضاح.

هَبْ أن خطة الجنرال فرنكو الاستعمارية تعاطفية لا مادية، كما يقول، وكان من الواجب في تنفيذها — لخير مَن يعطف عليهم وعلى مصالحهم — أن تُعمَّم اللغة العربية في المدارس، فيصدر أمر المقيم العام بذلك لينفذه المراقبون، أو لتنفذه الحكومة المخزنية بمساعدة المراقبين.

ولنفرض أن في الإيالة الشرقية أو الريفية قبائل لا تقبل بالتعليم العربي في المدارس، بل تقاومه، فماذا يفعل المراقب؟ هل يجامل تلك القبائل في هواها فلا يصر على تعليم اللغة العربية في مدارسها، أم يجامل قادتها في مزاعمهم الوطنية، فيستميلهم إليه ويقنعهم بوجوب تنفيذ القانون، وبما في ذلك من الخير لأبنائهم ولمستقبل البلاد؟ إن في المراقبين مَن يسلك المسلك الأول، وفيهم مَن يتخذون لأغراضهم الخطة الثانية.

وإننا لنعلم ما لهؤلاء الحكَّام المحليين، مراقبين كانوا أم مستشارين، من الأعمال التي لا يستقيم فيها خير حكومتهم، ولا خير البلاد، توحيها المصلحة الخاصة — البقاء في الوظيفة مثلًا، أو الاستفادة من التحزُّب والشقاق — أو يمليها على الموظف طبعه أو عمله أو ما شَذَّ ونقص في الاثنين.

ولكننا نظلم الحكَّام المحليين إذا افترضنا أنهم جميعًا مثل ما ذكرنا؛ فالحاكم المحلي يرى ما لا يراه المقيم العام، وما لا يراه الحاكم الأعلى. هو القائم بالأعمال في محلها، يبني بناءه على قواعد معروفة، رأس الحكمة فيها الحذر من الأهالي الذين تعوَّدوا أن يثوروا على حكَّامهم، أو أنه يبني على قواعد معروفة تُقرَن بأعمال ارتجالية، أي بحرية التصرُّف كما قدَّمْتُ، فلا يُخشَى أن يضع ثقته بالأهالي، ويمعن في معاملته بالمعروف الذي لا يتنافى والخطة السياسية العامة.

قال أحد أولئك المراقبين: المراقبة لا تتفق والثقة الكاملة الشاملة؛ فالخلل الموضعي نخشاه أكثر مما نخشى الخلل العام. الخلل الموضعي — ثقب في حائط، حفرة في طريق، مزلقة عند باب من أبواب الإدارة — تجلب البلية علينا وعلى زملائنا في الدوائر العالية. وبكلمة أخرى: نحن نخشى أن يقع السقف على رءوسنا خلال عاطفيات الحاكم الأعلى، أو المقيم العام.

وقال مراقب آخَر: السياسي الاستعماري بعيد النظر قصيره، فهو يرى الأفق المتألق أمامه، ولا يرى رسل الفتنة بين يديه، ونحن نرى رسل الفتنة ولا نرى الأفق. فإذا حذرنا يُقَال إننا ضعفاء البصر والبصيرة، وإذا سكتنا يقال إننا مهملون لواجباتنا. أشد الأخطار تحيط بالمراكز البعيدة، في الجبال البعيدة، في الجبال العالية أو في السواحل النائية. والمراقب الذي لا يرى غير الحرف من القانون، أو لا يرى غير القانون من خطة المقيم العام، لا ينجو من الغزوات، ومنها الأفخاخ ينصبها الزعماء المحليون بعضهم لبعض، فيقع المراقب في الفخ إذا كان لا يشارك في التحزب. يجب أن يكون المراقب ذا أربعة عيون في مؤخر رأسه كما في مقدمه، فيرى ما وراءه قبل أن يرى ما أمامه.

كنت وأنا أصغي إلى الترجمان، أراقب وجه المراقب فيبدو حينًا قاسي الإهاب، وفي أسرَّته ما قصر دونه لسان المترجم. وإني لأذكر أحد أولئك المترجمين — وهو يتكلم كل اللغات ولا يحسن إحداها — فكان في ترجمته يخلط ألسنته بعضها ببعض، فيثب من الواحد إلى الآخَر، ويعتصم بكلمة إنكليزية لينجو من ورطة مغربية، ثم يستعين بالفرنسية على الإنكليزية، ثم يفر من كل الألسنة الأجنبية إلى لسانه العذب الإسباني، فألجأ أنا إذ ذاك إلى رفيقي البستاني وأرجوه أن يترجم لي ما يقوله ذلك الترجمان.

لا يظن القارئ أن هذه الصعوبات كانت تحول دون فهمي ما يُقَال أو ما يُرَاد من القول. كلا، فقد كنت أتغلب بمساعدة أخي البستاني على الصعوبات، وأحول دون البلبلة التي تنذرني بها.

ولم أكن سعيدًا بالبستاني فقط؛ فقد سعدت مرة بترجمان لا كالمترجمين، بترجمانة أنستني المترجمين جميعًا؟ وذلك يوم دعانا مراقب الإيالة الشرقية الكلونيل خوسه برميجو Bermejo للشاي في بيته بمليلية؛ فبينا كان الحديث في مستهله، دخَلَتِ القاعة امرأة بيضاء شقراء، بضة، كأنها بلغة المقامات «برج من فضة»، تمشي مشية أميرة عربية بتؤدة واتضاع. فقال الكلونيل باللغة الإنكليزية التي يحسنها قليلًا: هي زوجتي.

سلَّمَتِ السيدة بكلمات شبيهة بخطواتها، ناعمة هادئة متمهلة، فقلت في نفسي: ما أشبهها لولا بشرتها بأميرة شرقية! جلست السيدة وهي تدعوني بكلمة إسبانية عذبة لأجلس إلى جنبها، فقلت كذلك في نفسي: وما أكثر ما فيها مما أتصوره في عربيات الأندلس! وبينا أنا أردِّد — كذلك في نفسي — كلمة مديح أخرى، قال زوجها: هي تتكلم الإنكليزية. فزاد ذلك بسروري، ثم قال: هي أمريكية. فعراني من هذا الكشف التدريجي لستار البهجات شيء من الغيظ، حلَّ محله في الحال أشياء من الغبطة الصافية.

فهل كنتُ متشوقًا إلى مشاهدة أمريكية — حسناء أمريكية؟ أفلم أكن عائدًا من أمريكا حيث الحسان كدود الحرير في اليابان؟ ولكن العين لا تشبع من الجمال، والعقل لا يشبع من العلم، وفي الشقر الهيف الحسان القدود أبوابٌ للمعرفة مفتوحة، وأستار مكشوفة، وخصوصًا إذا كنتَ تُحسِن لغة واحدة من اللغات التي تنطق بها. تكلمت هي أو سكتت.

وكان سروري أني لقيت الترجمان الذي كانت تتوق إليه نفسي، فكلَّمتها بلهجة أبناء بلادها، فأبرقت عينها، وعندما علمت أني كنت في تلك البلاد، وقد أكون أعرفها أحسن منها، ابتسمت ابتسامًا ردَّدَه جبينها، وبدت أمريكية كما أعرف الأمريكيات. برعمت ونوَّرت، ابْرَنْشَقَت فوثبت بها النفس وثبات غيَّرت في لهجتها دون أن تُخرِجها عن التؤدة والسكون. هي لهجة أمريكية لطفتها إقامة سنوات في أوروبا، وعشر سنوات زوجة لضابط إسباني.

فما أجمل الأمريكية في حديثها وأسلوبها وأناقتها وتوهُّجها، إذا مازج كل ذلك شيء من روح العالم القديم — الروح الأوروبية الساكنة الخلَّابة المتعمدة السكينة والرفق.

كانت تترجم كلماتي وسؤالاتي لزوجها باللغة الإسبانية، ثم تترجم بالإنكليزية كلامه وجواباته بالسهل الفصيح في الحالين، فما تمالكت أن قلت لها: إنك أمهر وأفصح وأجمل ترجمان لقيته في رحلتي المغربية.

فضحك الكلونيل وضحكت زوجته الترجمانة الحسناء، ومن الطبيعي أن يكون الحديث في الشعر دون أن يخرج عن موضوع اهتمامي. سألت سؤالًا عن الشعر والشعراء في الريف، فقالت مدام برمنجو تترجم ما قاله زوجها: في جبال الريف لا يقول الشعر إلا البنات، ولا يجوز للمرأة المتزوجة، أي إنه يُسمَح للفتاة أن تتسلى بالشعر إلى أن تتزوج، فيحظر بعد ذلك عليها. أما الرجل الريفي، فهو يحتقر هذه الصفة في الرجال، ولا يرى الشرف في غير البندقية. الشعر عندهم منقول غير مدوَّن. نعم، هو من نوع الزجل، وفيه الأغاني الشعبية talk lore، وكله بلغة الشلحت إلا أنه ثلاثة أبواب: المدح والهجاء والغزل، وقليل من الحماسة.

لا يزال قسم من أهل الريف وثنيين في بعض عاداتهم؛ فهم يكرمون الضيف إكرامًا عربيًّا وثنيًّا، فيقدِّمون له امرأة تشاركه في ليلته، وهم في زواجهم شبه وثنيين لا يكتبون كتابهم على الفتاة، ويكتفون بالشهود، وما كان يهمهم في الماضي أن يعقد العقد فقية أو إمام أو قاضٍ، أما اليوم فعندهم قضاة، ومع ذلك فإن لهم إلى الماضي رجعات.

وقد أكَّدَ لي الكلونيل برمنجو بواسطة السيدة الترجمانة زوجته أن أهالي وسط المنطقة، أي كتامة وما إليها شرقًا وغربًا، هم أصدق في ولائهم لإسبانيا من أهالي الناحية الغربية.

ولبعض الإسبان نظر في تعريب المنطقة وتوحيدها، فيقولون: يجب على أهل أصيلة مثلًا أن يأخذوا عن أهل كتامة الإخلاص للإسبان، ويجب على أهل كتامة أن يأخذوا العلم والدين والثقافة العربية عن أهل المدن الغربية: تطوان والعرائش وأصيلة؛ فيحدث التوازن، ويسهل التوحيد.

ومما قاله الكلونيل برمنجو: إن أهل الريف كانوا في الماضي، قبل ثورة عبد الكريم، أَمْيَل إلى إسبانيا من العرب المغاربة.

فإذا صَحَّ هذا القول فذلك لأن العرب العريقون في العروبة، والمنحدرون من أولئك الذين أُخرِجوا من الأندلس، يشعرون من حين إلى حين بالعداء الكامن فيهم، فيأبون الولاء لمَن أذل الأجداد، ويرفضون أن يأخذوا عن الأوروبيين، بالاقتباس أو التقليد، كما نفعل نحن في سوريا ولبنان، مع أنهم أقرب العرب إلى أوروبا.

أما المغاربة، فحسُّ العداء — مع أنهم دحروا وأُذِّلوا مثل العرب — ليس شديدًا فيهم؛ لأنهم — على ما أرى — ليس لهم أدب قومي يمكن ذلك العداء ويطيل أيامه، فضعف هذا الحس فيهم أو مات، وقد يكون اتخذ اتجاهًا آخَر، فأدناهم من الجنرال فرنكو، وحملهم على مشاركته في الثورة الوطنية.

لذلك يقول محدِّثي إنهم أَمْيَل إلى الإسبان النصارى منهم إلى المغاربة المسلمين.

الذين يتكلَّمون الشلحت أقلية في بلاد الريف، وأكثر هذه الأقلية في جبال كتامة، فقلَّمَا يفهمون اللسان العربي، فإذا جاءهم الفقيه يعلِّمهم القرآن فلا يفهمونه. إسلامهم «كِيفْ كِيفْ»، تغلب فيه الطرق والزوايا، وليس كإسلام أهل الناحية الغربية كطنجة وتطوان والقصر الكبير، ولكن هناك كذلك — في قبائل أنجره وواد راس — مَن هم على شيء من الإسلام، وأشياء من الفتور والجهل.

وكانت السيدة برمنجو تسألني خلال الحديث سؤالات عن بلادها، وتتلقَّى جواباتي ببشر لا يخلو من لهفة وحنين.

قالت إنها تشتهي أن تعود إلى أمريكا. كلا، بل هي تشتهي أن تزور لبنان وسوريا وخصوصًا دمشق.

ثم قالت وهي تفرغ النور من عينيها أسفًا: هو حلم من الأحلام.

وقال الكلونيل زوجها: ولا حَظَّ للجندي في الأحلام!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤