الفصل الثالث

الشريف الطوباوي

قلت إن الرحلة الإسبانية المغربية قد انتهت عندما وصلنا إلى الجزيرة، فلم يَبْقَ غير بضعة كيلومترات أقطعها إلى جبل طارق، ثم النزهة في باخرة مشرِّقة، ثم الحبس بالفريكة في لبنان.

ولكن الرفيقين أصلَحَا ظني، فقال السنيور طوباو: النهاية بيد الخليفة، فأردف البستاني قائلًا: والمقيم العام.

وعندما وصلنا إلى نُزُل كرستينة، رأينا في الساحة سيارةَ الخليفة، فوجم طوباو؛ لأنه كان عالمًا بعزم سموه على زيارة غرناطة، فخشي أن تُراد منه المرافقة، وهو تعب لا يرغب في المزيد من الأسفار، على أنه عاد بعد المقابلة مشرق الجبين، فقال لي: أنتم أسيريَّ إلى أن نصل إلى تطوان، فأسلمكم إلى المقيم العام فتنتهي مهمتي، وتبدأ مهمتكم الجديدة.

فقلت: أَوَظيفة بعد رحلة؟

فقال: قد تكون الوظيفة تنتظركم، وقد يكون السجن، أو المشنقة، أو ما هو مثلها — خطبة تخطبونها.

فقلت: وما ذنبي؟

فقال: ذنبكم أنكم من العلماء الفضوليين. العفو، الأفاضل. فقد سألتم السؤالات، وسجَّلتم المعلومات، وحدَّقتم كثيرًا إلى كلِّ ذو ساق أنيق، العفو، كل ذي ساق …

فقلت: لا ذو ولا ذي، بل كل ذات ساق أنيقة، لا أنيق، وأنتم الشريك في التحديق.

فقال: صحيح، مليح، والآن إلى تطوان، يابن لبنان.

فقلت: أسوأ خبر وتسجيع؟

فقال: في السجع الخير إن شاء الله، ومن الخير أن تسلِّموا أولًا على سمو الخليفة.

وقد تلا السلام على سموه سلامات على المشيعين له، والمرحبين به، العرب والإسبان، وأكثرهم من أصحاب الألقاب، والرتب التي لا أعرف ألقابها، ولا طمعت مرة بأن أكون من أبنائها.

فبعد كلمات أحد أولئك النبلاء، همست في أذن صديقي همسة واحدة، فقال وهو اللبيب: سننقذكم. يجب أن تصلوا إلى تطوان سالمين للمشنقة أو للخطبة.

عدنا إلى المدينة فتناولنا الغداء في أحد فنادقها، ونزلنا بعد الظهر إلى المرفأ، فأشرفنا على سيارتنا وهي تُنقَل بالسلاسل والحبال إلى الباخرة الصغيرة، التي تصل سبتة بالجزيرة.

وبينا نحن نجوز بحر الزقاق إلى أرض العدوة، كما كان يقول العرب الأقدمون، قال الصديق طوباو: لا شريف، في نظري، غير العلم، والأشراف الحقيقيون هم العلماء.

فقلت: إذن أنت شريف.

فقال: بل أنتم الشريف.

فقلت: لقد منحتك اللقب ومنحتنيه، فعلينا أن نمنحه رفيقنا أخانا البستاني.

فقال: والبستاني شريف.

فقلت: ونحن الثلاثة الشرفاء نحمل ألقابًا أخرى توازيها، إن لم تكن تفوقها شرفًا، فأنت الشريف الفارس — اسمه الثاني بالإسبانية Alvarez.

فقال البستاني مؤيِّدًا ومزيدًا: الشريف الفارس الطوباوي.

فقلت: طوبى للشريف الفارس، وطوبى للشريف الأمين، وللشريف البستاني الفريد. وإن فينا نحن الثلاثة، يتمثَّل الشريف الأكبر — الشريف الفارس الأمين الفريد — ضون كيخوته ده لا منشا.

عدنا إلى تطوان، ونحن نمثِّل هذا الشرف الأكبر الأوحد، وقد مثَّلناه في حياتنا الفانية، كما نمثِّله الآن في هذا الكتاب الخالد، ونحمل لقبه، ونخلص له، فكرًا وقولًا وعملًا.

عدنا إلى تطوان نحن الثلاثة الأقانيم للشريف الواحد، الشريف الفارس الأمين الفريد!

ولكن أَقْنومنا الأول هو الشريف الطوباوي، مستشار الخليفة الحسن بن علي، ودائرة معارف السياسة المغربية لفخامة المقيم العام، ومفتش معهد الدروس المغربية، والترجمان الأول للإقامة العليا، ورئيس التشريفات والقصر وتوابعهما.

وهناك وظيفة أخرى ما كنتُ أدري ما هي، فهو يؤم دار السعادة الدولية، طنجة، كل يوم خلا الأعياد والآحاد، فسألته مرة: وما هي وظيفتكم في العاصمة المكرمة؟ فأجاب قائلًا: يجيئني أصحاب الأوجاع، هذا يشكو صداعًا، وذاك تخمة، وهذا يَئِنُّ من ألم في ضرسه، وذاك يصيح كبدي أو بطني، يجيئني كل المصابين بالأمراض، أو الأوهام السياسية فأداويهم. ما الدواء؟ سألتني ما هي وظيفتي؟ فاعلم، يا أخي الشريف، أني مثل كربونات الصودا أصلح كل شيء، أنفع ولا أضر.

الشريف كربونات الصودا الطوباوي، قدَّسَ الله سره.

نسيت أن أخبرك أنه يحمل كذلك من الأوسمة شيئًا وافرًا؛ فيملأ في المواقف الرسمية صدره، يمنة ويسرة، بالشرائط الحمراء والخضراء والصفراء، والنجوم المرصَّعَة بالحجارة الكريمة، وهو في ثوبة العسكري — فاتني أن أخبرك أيضًا أنه ملازم في الجيش — وأوسمته، كما هو مجرد منها، لا تزيد ولا تنقص في فضله ولطفه واتضاعه، بل إن له في الثوب العسكري والأوسمة غرضًا فوق أغراض الناس.

كان يلبس ذلك الثوب، ويزيِّن صدره بتلك الأوسمة والشرائط في كل أسفارنا الإسبانية، وكان عندما نصل إلى النُّزُل، يذهب توًّا إلى غرفته، ويعود بعد قليل في الثوب المدني، ولا شبه شريط عليه أو وسام.

والسبب في ذلك؟ قال بارَكَ الله فيه: لا تزال البلاد في شبه حكم عسكري، التفتيش والمراقبة في كل مكان؛ فسترى إذن ما لهذه البذلة من المنافع في الطرق.

وما كان فيما قال مبالِغًا؛ فقد كنَّا ندخل البلدة، أو نمرُّ بالمخفر، فيوقفنا نفر من الدرك، وإذ يرون في السيارة تلك البذلة العسكرية وعليها صفان من الأوسمة اللألاءة، يرفعون أيديهم مسلِّمين، ونسير نحن على بركة الله مطمئنين شاكرين، وبالرفيق الأشرف مفتخرين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤