الفصل الثاني

يوليو ٢٠١٨م

لم يدرك أيٌّ من الرجلين كم مر عليهما من الوقت ساكنين، متواجهين، محدقين كل منهما في وجه الآخر. كانا خارج المكان والزمان معًا، يجاهد كل منهما لكي يستوعب حقيقة الأمر. كان كل منهما يقف أمام نفسه، كان كلاهما ياسين عمران ذاته، كان كل منهما ينظر إلى نفسه في هيئة رجل آخر. يمكن لكل شخص بالقطع أن يتعرف على صورته عندما يراها في مرآة، لا يمكن لأحد أن يخطئ نفسه؛ لذلك كان كل منهما على يقين كامل بأنه ينظر إلى نفسه، لا إلى شبيه له أو توأم أو مستنسخ، بل إلى نفسه بذاتها. وكان ذلك ما تركهما ذاهلين كأنما كان كل منهما يحدق في وجه مَلَك الموت.

لم يكونا متطابقين في الهيئة رغم ذلك لمن ينظر إليهما للوهلة الأولى، كانا في أواخر الأربعينيات من العمر، في نفس الطول وبنفس ملامح الوجه بالضبط، نفس العينين والأنف والشفتين، وكانت علامات الكهولة قد بدأت تظهر على كليهما بدرجات متفاوتة قليلًا؛ كان جسد الأول أسمن بعض الشيء وأكثر ترهلًا، بينما كان للثاني جسد يبدو عليه أثر الاعتناء والمواظبة على الرياضة، وإن ظل مع ذلك جسد كهل لا جسد شاب. كان للأول كرش واضح وإن لم يكن كبيرًا، بينما كان بطن الثاني مشدودًا بشكل مقبول بالنسبة لمن هم في مثل عمره. كان الشيب متناثرًا في رأس الأول، لكن اللون الأسود ظل هو المسيطر، بينما غزا الشيب رأس الثاني بالكامل تقريبًا فلم يتبقَّ من السواد الكثير. كان الأول حليق اللحية والشارب بعناية، قصير الشعر في قَصة رسمية وقورة، يضع على عينيه اللتين أحاطت بهما تجاعيد دقيقة وهالات داكنة نظارةً طبيةً أنيقةً ذات عدسات رقيقة بلا إطار، بينما كانت للثاني لحية قصيرة غير مهذبة بعناية، وقد بدت أقرب للمسة أناقة منها لرمز تديُّن، وشارب قصير وشعر لامع متوسط الطول ملتوي الأطراف ومصفف للخلف، وكان جلد وجهه أكثر صفاءً ونضارةً من الآخر. كان الأول في بدلة عمل رسمية رمادية وقميص سماوي تعلوه ربطة عنق يغلب عليها لون الدم القاني، وحذاء جلدي أسود ملمع بعناية، وفي معصمه ساعة ثمينة كلاسيكية الطراز من المعدِن الفضي، بينما كان الثاني يرتدي فانلةً قطنيةً بيضاء غير مكوية جيدًا، وعليها شعار كبير لفريق كرة سلة أمريكي شهير، وبنطلونًا قطنيًّا واسعًا كثير الجيوب من النوع الذي يرتديه السياح والمغامرون، وحذاءً رياضيًّا خفيفًا، وكانت في معصمه ساعة إلكترونية ضخمة تزدحم بالكثير من المؤشرات كما لو كانت تُستخدم للتحكم في طائرة. بشكل عام كانت الفروق بينهما شكلية؛ فقد كان الأول مسافرًا في مهمة عمل، بينما كان الثاني على ما يبدو في عطلة، كما كان واضحًا أن الثاني أكثر اهتمامًا بصحته ورشاقته، وربما كان يمارس الرياضة ويلتزم بنظام طعام صحي، أما فيما عدا ذلك فقد كان من السهل ملاحظة الشبه الكبير بينهما.

كان الثاني هو أول من كسر حاجز الصمت الطويل عندما خرج صوته أخيرًا وكأنه قادم من أعماق مغارة سحيقة قائلًا في مزيج من الدهشة والصدمة والفضول: كيف؟! هل تعني أن كلينا شخص واحد؟!

أجاب الأول بعد أن أطرق برهةً ليفكر فيما يمكن أن يرد به على أغرب سؤال وجهه له مخلوق في حياته كلها: لست أفهم شيئًا! هل أنت حقيقيٌّ أم جنٌّ أم ماذا؟!

نظر إليه الثاني في اندهاش — وكأنما لم يُدهشه كل ما سبق كما أدهشه هذا السؤال — وأجاب في سخرية وهو يتلمس وجهه بكف يده: والله أنا متأكد تمامًا من أنني حقيقي، فماذا عنك أنت، هل أنت حقيقيٌّ أم أنك جن؟!

عادا للتحديق في وجه بعضهما البعض مرةً أخرى، ربما كان كل منهما يحاول استكشاف وجه الآخر للوصول إلى حقيقة تلك الخدعة، كانت التساؤلات الدائرة في ذهن كل منهما في تلك اللحظة متطابقة؛ أين الخدعة؟ أهي مزحة ما؟ هل تكون هذه حلقة من أحد برامج المقالب التليفزيونية السخيفة تلك؟ هل هو حلم؟ أم إيحاء؟ أم هلاوس وضلالات؟ كلاهما كان مرهقًا بالفعل لعدة أيام سابقة، ولكن هل يمكن أن يكون قد فقد السيطرة على عقله لتلك الدرجة؟ كانت التساؤلات لا نهائية، وكذلك كانت الاحتمالات، فقط احتمال واحد لم يكن متصورًا أو مقبولًا لدى أي منهما بأي حال رغم أنه كان — وحده دون سواه — هو الحقيقة، كان كلاهما حقيقيًّا، وكان كلاهما ياسين عمران بذاته.

نطق الأول هذه المرة حين حلت على رأسه فكرة ظن أنه يمكنها أن تفك هذا الاشتباك فقال: حسنا، ماذا أفطرتَ هذا الصباح؟

بوغت الثاني بالسؤال ثم ضحك من الفكرة فأجاب ببساطة: أنا لم أفطر هذا الصباح، فقط أخذتُ بعض القهوة قبل مغادرتي لكي أستطيع التركيز؛ لأنني استيقظت متأخرًا وخفت أن يفوتني القطار إن بقيت لتناول الإفطار.

أجاب الأول في حيرة وهو يطرق إلى الأرض: أما أنا فأفطرت جيدًا كعادتي عندما أكون مسافرًا!

رد الثاني وقد لمعت عيناه بفكرة أخرى: أنا كذلك معتاد على أن أفطر جيدًا عندما أكون مسافرًا، لكنني كما أخبرتك استيقظت اليوم متأخرًا ولم يكن لدي الوقت. اسمع، سأسألك عن أحداث قديمة بعض الشيء، فلنحاول الوصول إلى شيء ما مشترك بيننا يفسر هذا الوضع العجيب.

أجاب الأول في فضول وقد بدأ يتحمس لتلك اللعبة: لا بأس. اسأل.

فكر الثاني لثوانٍ قليلة ثم قال في حماس: حسنًا. الامتحان الذي ضُبطت فيه متلبسًا بالغش.

أجاب الأول بسرعة: امتحان إدارة الأعمال في السنة الثالثة بالكلية، مادة الدكتور مصطفى عبد القادر، وقد انتقلت إلى السنة الرابعة وأنا راسب في هذه المادة.

تسمَّرت حدقتا عينَي الثاني واكتسى وجهه بالرعب ثم قال في نبرة منهارة: لا يعلم أي مخلوق شيئًا عن هذه الحادثة! لم أحكِ عنها لأحدٍ قط حتى إنني اعتقدت أنني نسيتها! في البيت أخفيتُ عن أبي وأمي القصة كلها، حتى الزملاء لم يروا ما حدث لأنني كنت في آخر صف من القاعة ولم تُصدر المعيدة التي ضبطتني أي صوت عندما سحبت مني الورقة. لقد تظاهرت يومها بمغادرة اللجنة طواعيةً كأنني انتهيت من الإجابة. استغرب الزملاء فقط خروجي مبكرًا، وأفهمتهم فيما بعدُ أنني لم أكن أجد ما أكتبه. لكن لم يعرف أي منهم شيئًا عن حادثة الغش!

كان الأول يستمع وهو في حالة بين الذهول والحيرة، كان ما يقوله الثاني صحيحًا، وكانت التفاصيل التي ذكرها دقيقةً ولا يعلمها غيره، أو غيرهما، لا يعلمها إلا ياسين عمران وحده بالتأكيد.

– حسنًا، وفريدة؟

قالها الثاني فجأةً وكأنما تذكر أمرًا هامًّا. رفع الأول رأسه إليه متطلعًا في حيرة بالغة ثم أجاب: نعم صحيح! كيف لم أنتبه لذلك؟! لا يمكن أن تكون أنت أيضًا قد تزوجت فريدة! إذن ماذا عن أطفالي هؤلاء! أبناء من ﻳﻜ…

قاطعه الثاني في حِدَّة لا تخلو من عصبية: ماذا؟! أنت تزوجت فريدة؟!

أجاب الأول في حيرة بادية: ما … ما الذي يعنيه هذا؟ أليس المفترض أننا واحد؟

أجاب الثاني في نفس الحيرة مع مسحة من الأسى: أنا لم أتزوج فريدة! بل إنني لم أرها قط منذ آخر لقاء لنا في العجمي! يوم ذلك الحفل على شاطئ بيانكي قبل سنوات طويلة. كيف تزوجتها أنت إذن؟! ومتى؟

وضع الأول كفيه على رأسه كأنما يمنعه من الانفجار، ثم قال محاولًا التمسك بما بقي له من هدوء: أنا تزوجت فريدة بعد لقاء العجمي ذلك بسنتين تقريبًا، لا … سنتان بالضبط. ألم يكن ذلك اللقاء يوم ذكرى مولدها؟ لقد تزوجنا في ذكرى مولدها كذلك لكن بعد ذلك اليوم بسنتين! لكن، كيف يكون ذلك؟ ألم تكن أحداث حياتنا متطابقة؟! ألم تتزوج أنت؟

رد الثاني وقد تحولت مسحة الحزن في نبرة صوته إلى الصدمة: بلى تزوجت بعد ذلك اللقاء بخمس سنين، لكنني تزوجت امرأةً أخرى وأنجبت منها بنتين.

أجاب الأول: أما أنا فطلقت فريدة؛ انفصلنا بعد زواج دام سبع عشرة سنة، أنجبت لي ولدين وبنتًا.

قالها بنبرة من الأسى الواضح، بينما ظل الأول ينظر إليه نظرةً تحمل الكثير من المعاني لدرجة أنه لا يمكنك تمييز ما تعنيه بالتحديد. صمت الأول لبرهة ثم قال بنبرة معاتبة: طلقتَ فريدة؟!

فهم الأول مغزى تلك العبارة فواجهه محدقًا في عينيه ثم قال ببرود: وأنت، تركت فريدة وهربت؟

صحْراء

كل ما هو غير مرئي أسفل مشهد الصحراء الباهت الظاهر للعِيان هو ذاته ما يربط جميع الكائنات بتلك الأرض، كان كل ما يجعل تلك الصحراء وطنًا للجميع مختفيًا تحت سطحها المرئي، لا تدركه الأبصار؛ فالشجر تضرب جذوره المتشعبة في عمق الرمال كأنما يغرس كِيانه داخل الأرض، ليس فقط بحثًا عن الماء الشحيح أو عن الدفء، بل بحثًا عن الأمان، وتشبثًا برفات أسلاف سبقوا في ذات المكان ولم يعد يتبقى منهم إلا ذرات مدفونة في أعماق الرمال تحمل رائحتهم وتبعث الطمأنينة في كِيان الأحياء. كان الشجر يمد جذوره في أرضه عميقةً قدر المستطاع، يكاد يصل بجذوره إلى نواة الأرض بحثًا عن هُويته وعن رائحة أسلافه. وكانت الزواحف تحفر جحورها في باطن الأرض بحثًا عن المأوى الذي لم تجده على السطح حيث كل شيء معرض للانجراف مع تيارات الهواء. كان السبيل الوحيد للأمان والاستقرار مدفونًا في عمق الأرض. كانت تلك الأرض — وإن رآها من لا يعرفها قاسيةً جدباء — هي الملاذ والأمان للجميع، كانت مصدر الخير والحياة للجميع، وكان في باطنها كذلك هُوية وذاكرة الجميع.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤