الفصل الرابع

يناير ١٩٩٢م

في المبنى المهيب المخصص للقسم الإعدادي بكلية الهندسة، حيث كان مكانهما المفضل على درجات أحد فنائَي المبنى الخارجيين المنعزلين عن ضجيج الداخل وصخب الطلبة، كان ذلك الموقع مثاليًّا إلا حين كانت سماء الإسكندرية تغضب وتنذر بالبرق ثم تمطر بغزارة لا تجدي معها المظلات، ولا يبقى من سبيل لاتقاء غضبها إلا الهرولة إلى داخل المبنى الذي تدفئه أنفاس مئات الطلبة وملابسهم الشتوية. دقائق قليلة تنفث فيها السماء غضبها على المدينة، ثم تصالحها بشمس رقيقة دافئة تنشر البهجة في أفنية الكلية المفتوحة، وتزيد من سحر رائحة التربة المبللة والزهور الصفراء الصغيرة التي تنبت تلقائيًّا، وأشجار النخيل المغسولة لتوِّها بماء السماء المبارك. كان لعينيها تألق ساحر بعد المطر، كانت تبتهج وتمرح كطفلة وجدت حلواها المفضلة، كانت طاقتها الإيجابية تكفي لبهجة كل الكائنات في محيط الكلية وما حولها، كانت ابتسامتها هي النسمة الرطبة التي يشتاق إليها وسَط جفاف معادلاته وجداوله ودراسته المرهقة للعقل والروح معًا، كانت عيناها طاقتَي الأمل اللتين يطل منهما على الدنيا، كانت محور حياته ونور روحه، لكنه لم يقل لها قط شيئًا من ذلك!

أمام البهو الكبير لذلك المبنى العتيق رآها لأول مرة، كان قد اعتاد الحضور في أوقات فراغه الكثيرة بين محاضراته في كلية التجارة إلى كلية الهندسة — حيث يدرس بعض رفاقه — لقضاء الوقت معهم حين لا يكونون منشغلين حتى أذقانهم في تلك اللوحات الورقية الكبيرة التي يرسمونها، أو في دروسهم العملية وامتحاناتهم التي لا تنقطع.

قالت له وهي تناوله لفافةً ورقيةً تغلف شطيرةً منزلية الصنع من الجبن الأبيض وشرائح الطماطم: أتعرف أن هذا القميص الذي ترتديه اليوم هو نفس القميص الذي كنت ترتديه في أول مرة عرَّفتنا فيها رحاب إلى بعضنا البعض؟ أتذكر، أمام البهو الرئيسي؟

أجابها بتقطيب جبهته كمن يحاول التذكر، ثم ابتسم وقال في شيء من اللامبالاة جعلها تشعر بالحرج: أنا لا أذكر ما كنت أرتديه بالأمس يا فريدة، ولكن ربما تكونين محقةً؛ فهذا القميص اشتريته من بورسعيد قبل عامين تقريبًا.

أجابت وهي تحاول إخفاء حرجها: أنا متأكدة من ذلك بالطبع وأتذكره جيدًا، كنت ترتدي هذا القميص ذاته ولكنه بدا عليك بشكل أفضل في تلك الأيام؛ فقد كان جسدك أكثر امتلاءً، كنت تبدو رياضيًّا، وكانت لك ابتسامة رائقة. عرفت منذ النظرة الأولى أنك لا تنتمي لهذه الكلية؛ لم تكن تبدو عليك سمات البؤس والذعر التي ترتسم على وجوه طلاب السنة الإعدادية هنا.

أكمل ابتلاع آخر قطعة من الشطيرة التي كانت في يده ثم انتصب واقفًا وقال في لهجة روتينية: هل تودين شرب الشاي من الكافيتريا أم ربما تفضلين الذهاب لتناول العصير من المحل المجاور للمكتبات في الخارج؟ أنا ذاهب على أي حال من ناحية بوابة المكتبات لأن صديقًا لي سيمر عليَّ بسيارته في طريقه للكلية، لدينا اليوم محاضرة مهمة في مادة المحاسبة سيحدد فيها الدكتور الأجزاء الملغية من الكتاب، أمامي نصف ساعة حتى يأتي صديقي حسب اتفاقي معه.

قالت في تسليم ويأس: حسنًا. اذهب أنت إذن وسأصعد أنا للقسم فعندي مشروع يجب إنجازه، موعد التسليم الخميس القادم ولا يزال لدي واجهتان وقطاع لم أبدأ في إسقاط أي منهم بعد، ولا يبدو أن الدكتورة ستوافق على تأجيل آخر.

أجاب مبتسمًا ببعض التعاطف: كان الله في عونك، تعرفين أنني لو كنت أستطيع المساعدة لم أكن لأتأخر، لكنني لا أفهم شيئًا من أمور الفنانين تلك التي تصنعونها في الأعلى. في المرة الوحيدة التي حاولت فيها المساعدة بتنقيط بعض الرسمات كما طلبتِ مني كدت أفسد اللوحة بأكملها.

ضحكت ضحكتها الخجولة المختزلة التي يحبها، واضعةً يدها على فمها كما اعتادت أن تفعل لا إراديًّا في كل مرة وكأنها تخشى أن تُضبط متلبسةً بجرم الضحك. وقالت وهي تشير بسبابتها نحوه: نعم لقد لطف بنا الله يومها واستطعنا إنقاذ ما أمكن إنقاذه، كانت غلطتي بالطبع فقد كان عليَّ توضيح أن التنقيط يمثل المساحات الخضراء في المسقط الأفقي، وأنه لا يمكنك تنقيط غرفة المعيشة، لو لم تلحق بك رحاب كنت سأُضطر إلى إعادة رسم ذلك «الشاسيه» بالكامل.

ضحك هو بحرية وبمرح وأجاب: حسنًا، سأذهب أنا إذن إلى أرقامي وجداول ميزانياتي وإلى محاضرة المحاسبة، ما لي أنا والعمارة والتنقيط والشاسيهات وتلك المسميات المضحكة؟ أراكِ غدًا، سلام.

وأشار بكفه مشدودةً ومضمومة الأصابع في اتجاه جبهته كالتحية العسكرية وهو يستدير متجهًا إلى بوابة المكتبات في خطوات سريعة واثقة لا تخلو من ابتهاج. ابتسم وهو يستعيد كلماتها عن لقائهما الأول، لم يكن يذكر بالطبع ما كان يرتدي ولا ما كانت ترتدي هي يوم التقيا لأول مرة، ليست ذاكرته قويةً لهذه الدرجة فيما يخص التفاصيل كما هي ذاكرة الإناث، لكنه يذكر جيدًا كم كان جمالها هادئًا، وكم كان صوتها دافئًا. كانت ملابسها — التي لا يذكر تفاصيلها بالطبع — رقيقةً وغير متكلفة، تُبرز جمالها بتحفُّظ. يذكر كيف أخذه شعرها الأسود الفاحم الطويل الذي ربطته في ذيل حصان خلف رأسها، وعيناها الواسعتان الصافيتان، وصوتها ذو النبرة المنخفضة الرقيقة، وهاتان الغمازتان الساحرتان على وجنتيها عندما تبتسم. كان حضورها يغمر المكان بفيض من البهجة. كما أنه يذكر جيدًا كيف وقر في نفسه يومها أن لهذا اللقاء حتمًا ما بعده. كان يومها في السنة الثانية بكلية التجارة، بينما كانت هي طالبةً جديدةً على الحياة الجامعية في السنة الإعدادية بكلية الهندسة. عرَّفتهما على بعضهما البعض يومئذ تلك الصديقة المشتركة، ثم قابلها عدَّة مرات بعد ذلك عندما كان يحضر للقاء أصدقائه، بدأت لقاءاتهما وسَط مجموعة الأصدقاء بطرقات مبنى الإعدادي حيث يتجمع الطلبة للمراجعة أو للتسامر بين مواعيد المحاضرات، ثم على الدرج الكبير في بهو المبنى الواسع، ثم انتقلا منفردين بعد ذلك بشهور إلى مكانهما المفضل بالخارج هربًا من طرقات المبنى المظلمة حيث الجو المقبض المشبع بأبخرة المعامل ومناقشات مسائل الفيزياء.

صار يعرف أيام مشاريعها الطويلة المرهقة تلك التي تبدو خلالها شاحبةً مرهقةً إلا من لمعة عينيها الساحرة التي تشرق حين تراه، كانت تبقى في الكلية حتى ساعات متأخرة أثناء فترة إنجاز تلك المشاريع كما تقتضي طبيعة دراستها، وكان باستطاعته لذلك قضاء وقت أطول بصحبتها، حتى أثناء عكوفها على الرسم لساعات متواصلة على إحدى تلك الطاولات الخشبية الكبيرة. كان بإمكانه دائمًا مساعدتها بشيء ما، حتى ولو بالذهاب لإحضار بعض الطعام أو الأدوات الناقصة أو تصوير الأوراق في المكتبات الواقعة أمام البوابة الخلفية للكلية. أصبح يحضر إلى كلية الهندسة بمعدل أكبر، أصبح يأتي إليها هي على وجه الخصوص رغم أنه يتحجج أمام الجميع بزيارة أصدقائه الذين صار ربما يأتي ويذهب دون أن يقابل أيًّا منهم، ودون أن ينتبه حتى لذلك.

كانت فريدة قد أصبحت بالفعل حب عمره، أو كانت قد أصبحت على الأحرى حبه الوحيد، فلم يسبق له أن وقع فيما يسمونه الحب إلا معها هي. ظل ياسين على الدوام شابًّا محبوبًا لوسامته وذوقه، لكنه ظل طَوال الوقت يعامل زميلاته كأخوات، لم تكن له مغامرات عاطفية أو جنسية كالكثيرين من زملائه في الجامعة أو من معارفه خارجها؛ ربما بسبب تربيته الملتزمة في المنزل، أو بسبب طبيعته الخجولة. لم يكن ياسين حتى يدخِّن رغم أن غالبية أقرانه كانوا في تلك الفترة قد ذهبوا بالفعل أبعد كثيرًا من مجرد التدخين.

•••

في غرفة فريدة الصغيرة ذات الجدران المطلية بلون وردي فاتح، والتي تغطي مساحات واسعةً منها ملصقات كبيرة لقلوب حمراء وأطفال ضاحكين وشخصيات كارتونية. كما تحتل مساحةً معتبرةً من أرضيتها دمًى قطنية وإسفنجية متعددة الأحجام والألوان. كانت الغرفة بشكل عام تبدو للوهلة الأولى كغرفة طفلة في العاشرة، لا كغرفة شابة جامعية على مشارف العشرين من العمر، هناك جلست فريدة على طرف سريرها المرتب بعناية، ودون أن تغير ملابسها منذ عادت من الكلية. جلست مطرقةً إلى الأرض تضم يديها على صدرها كما لو كانت تهدئ من سرعة ضربات قلبها المتزايدة، أو تكتم صوت خفقانه لكيلا ينتبه إليه مَن بالبيت. احتاجت إلى بعض الوقت لكي تملك زمام نفسها وتستعيد ما حدث ذلك الصباح بالكلية، استغرقت في التفكير وفي إعادة رسم الموقف في ذهنها حتى لا تهرب منها أي تفصيلة، حتى انتبهت على صوت طرقات والدتها على باب الغرفة تدعوها للَّحاق بالغداء قبل أن يبرد الطعام. كانت وحيدة والديها، تقيم معهما في الشقة الصغيرة التي تزوجا فيها قبل عقدين من الزمن بالطابق الثاني من بناية متوسطة العمر بالشارع الهادئ القصير الموازي لشارع الترام، ما بين محطتي جليم والفنون الجميلة، واحدة من تلك الشقق التي يسكنها محظوظون ما زالوا يدفعون ستة جنيهات إيجارًا شهريًّا طِبقًا لقوانين الإيجارات الموروثة من العهد الاشتراكي، لم تكن تلك الجنيهات الست تكفي لشراء دجاجة، بينما لم يكن سعر الشقة المماثلة بنفس الشارع ليقل عن مائة ألف من الجنيهات. كان ذلك الوضع يعطي عن سكان تلك الشقق انطباعًا كاذبًا بالغنى، بما أنهم يقيمون في منطقة راقية مثل هذه، بينما غالبيتهم في الحقيقة مجرد موظفين حكوميين لا يملكون — فيما عدا ما ورثه بعضهم عن أسلافهم — إلا رواتبهم الهزيلة وما تتعطف عليهم به الحكومة من نفحات غير منتظمة لتكسب ولاءهم أحيانًا، أو لتمتص غضبهم في أحيانٍ أخرى.

كانت فريدة في تلك الأيام مراهقةً خجولة، خلعت للتو زيها المدرسي الأزرق الداكن وبدأت تخطو بتردد إلى عالم الشباب الجامعي المنفتح المتهوِّر. لم تختلط كثيرًا بالشباب في الجامعة، ولم تكن تجد الأمان إلا في صحبتها الصغيرة من البنات المتخرجات معها في ذات المدرسة الإنجليزية العريقة ذات التقاليد الصارمة على الجانب الآخر من الشارع الذي يفصلها عن كلية الهندسة حيث صارت تدرس الآن. ظلت تصد الزملاء الراغبين في توطيد علاقتهم بها، وتفضل إبقاء الجميع خارج دائرتها الخاصة ولو مؤقتًا؛ حتى تفهم أسرار ذلك العالم الجديد الذي دخلت إليه. مثله كانت، بلا مغامرات سابقة، فقط مجرد إعجاب صامت أو حب مراهقة من آن لآخر ككل المراهقات في عمرها؛ أُعجبت بمدرس الكيمياء الوسيم لفترة، وبالجار الرياضي الشاب لفترة أخرى، ولكنها لم تجرؤ على البوح بشيء من ذلك إلا لرحاب؛ صديقتها المقرَّبة التي لم تكن بأشجع منها على أي حال.

ثم كان ذلك اليوم الذي التقت به ياسين؛ كانت صديقتها رحاب قد تعرَّفت إليه من قبلُ من خلال زملائها من أصدقائه، ثم عرَّفتهما بدورها إلى بعضهما البعض. تذكر فريدة جيدًا طلته الساحرة وقَوامه المنضبط وهو قادم في اتجاههم مرتديًا ذلك القميص القطني الأزرق ذي الأكمام الطويلة المشمرة حتى نهاية ساعديه، والجينز السماوي الفاتح. تذكر جيدًا ابتسامته الرائقة التي لمحت فيها بعضًا من المرح مع القليل من الخجل، والقليل من شيء ثالث لم تستطع تمييزه وقتها، لكنها عرفته لاحقًا مع تعدد لقاءاتهما؛ إنه الارتباك.

مضى أكثر بقليل من عامين على ذلك اليوم، عام وعشرة أشهر وستة أيام بالتحديد، فقد التقيا في العاشر من مارس عندما كانت في السنة الإعدادية — نعم ما زالت تذكر التاريخ — بينما اليوم هو السادس عشر من يناير — وستذكر ذلك التاريخ كذلك — وهي الآن في السنة الثانية بقسم العمارة الذي التحقت به بعد اجتياز السنة الإعدادية رغم محاولات صديقاتها إقناعها بالانضمام إليهن. كانت تدرك أن عقلها ليس رياضيًّا مثلهن ولا مثله، وأن دراسة هندسة الكهرباء لن تناسبها. كان قد سحرها قسم العمارة منذ دخلته للمرة الأولى بصحبة طالبة كانت بالسنة الثانية في نفس القسم، عندما تعرَّفت عليها مصادفةً وسألتها عن ذلك القسم، وكيف هي طبيعة الدراسة به، كما اعتادت أن تفعل مع من تعرفهن من مختلِف الأقسام حتى تستطيع اختيار القسم الذي يناسبها بعد السنة الإعدادية. أجابتها تلك الفتاة يومها بأنها ستأخذها إلى القسم لتتعرف إليه بنفسها، ثم صعدتا معًا إلى ذلك المكان السحري الذي يحتل الطابقين الأخيرين أعلى مبنى الإدارة المطل بواجهته العريضة المهيبة ذات التصميم الفرعوني على طريق الحرية. منذ اللحظة الأولى شعرت بأن هذا المكان لا يشبه بقية الكلية؛ الهواء مختلف هناك بالأعلى، الطلبة مختلفون، الأسقف عالية بشكل لافت، والنوافذ كبيرة، والمنظر الخارجي ساحر. أسرتها صالات الرسم الواسعة التي يصدح صوت أم كلثوم في خلفيتها، بينما فتيات وشبان يفترشون الأرض ويتناقشون بصخب في موضوع ما، وهم يتقاسمون طعامًا منزليًّا من أوانٍ معدِنية صغيرة. وبينما آخرون منكبون باستغراق تام على طاولات الرسم، واضعين سماعات صغيرةً في آذانهم. بينما يتكوم شاب بجوار أحد الجدران غارقًا في النوم، ملتحفًا بسترة جلدية. كانت الألوان هناك في كل مكان، على الجدران وعلى طاولات الرسم، وعلى اللوحات. كان على بعض الجدران رسمات يدوية كبيرة بأقلام الفحم الخشن لوجوه فنانين ولمبانٍ كلاسيكية. كان ذلك المكان عالمًا منفصلًا بشكل كلي عن عالم الكلية الجاف الكئيب الذي تعرفه بالأسفل. كانت كلمة السر في هذا القسم هي الإبداع. لم تحتج لزيارة أخرى لتعرف أنه يمكنها هنا أن تطلق لخيالها العِنان، لم تكن تريد بالقطع أن تقضيَ سنوات أربع أخرى بين النظريات الرياضية الجافة والمعادلات الفيزيائية المعقدة في قسم الكهرباء بمبناه البارد الكئيب، بل كانت تريد قضاء سنواتها الدراسية المقبلة في هذا العالم المبهج الملون. كانت في داخلها منطلقةً تعشق الحياة، مغامرةً وحالمةً رغم خجلها الناتج عن تربية محافظة في البيت والمدرسة، أو ربما كانت تلك التربية هي ما أشعل بداخلها تلك الرغبة الدائمة في الانطلاق.

•••

ظلا يلتقيان في الكلية بانتظام طَوال أيام الدراسة، بينما يتبادلان مكالمات تليفونية خجولة ومتباعدة خلال إجازة الصيف أو منتصف العام. كانت أمها ترمقها بنظرة غامضة حينما كان يطلبها على هاتف المنزل، نظرة ما بين الارتياب والتمني. ظلت علاقتهما تتطور في حدود ما بدا ظاهريًّا كأنه مجرد صداقة، لم تكن الصداقة هي ما تريد بالطبع، ولكنه لم تفلت منه كلمة أو نظرة تُفصح عما بداخله طيلة تلك الشهور، حتى بدأت تتعايش مع ذلك الوضع وتفقد الأمل في أن تنتقل تلك العلاقة إلى المرحلة التي تنتظرها. إلى أن جاءها في ذلك اليوم؛ السادس عشر من يناير عام ١٩٩٢م، كانت عيناه تلمعان في ذلك الصباح بشيء جديد لم تختبره فيه من قبل، مرتديًا سترةً جلديةً رماديةً فوق قميص من القطن السميك بشكل مربعات سوداء وحمراء على طراز قمصان رعاة البقر التي كانت موضة تلك الأيام، كما هو الحال مع حذائه التكساس الجلدي الأسود ذي المقدمة الرفيعة والكعب القصير المدبب. تعلم فريدة مسبقًا أنها هي وحدها من ستتذكر كل تلك التفاصيل، وأن ياسين سينسى — كعادته — حتى ما كان يرتديه بالأمس.

تقدم منها بملامح جامدة بعض الشيء وسألها إن كان لديها بضع دقائق ليتحدث معها قليلًا، لم يفصح عما يريد التحدث بشأنه، كان عندها الوقت له دائمًا، وكانت تعرف أنه يعرف أن عندها الوقت له دائمًا، ولم تكن تفهم لماذا يسألها سؤالًا كهذا، لكنها أومأت بالإيجاب فطلب منها الابتعاد قليلًا عن صخب الأصدقاء الذين كانوا يتجادلون في حماس بخصوص مباراة كرة القدم التي خسرها المنتخب الوطني قبل ثلاثة أيام. مشيا متجاورين صامتين عبر الممر المظلل بأشجار النخيل الشاهقة حتى ابتعدا في اتجاه مبنى الإدارة، ثم عبرا من خلاله إلى الحديقة الأمامية الشاسعة التي تنحدر للأسفل، حتى البوابات المغلقة المطلة على طريق الحرية، والتي لم يكن يرتادها الكثير من الطلاب. كان مترددًا، تشعر به وتعرف أنه اليوم مختلف، لا تعرف وجه الاختلاف، لكن قلبها يخفق بقوة لإدراكها أن شيئًا كبيرًا سيحدث اليوم، وأنها ستتذكر تفاصيله لبقية عمرها، وكانت مرتعبةً من أن يكون ما سيعلق بذاكرتها سيئًا.

توقف عن المشي هبوطًا بين الحدائق التي تفتحت فيها أزهار حمراء وصفراء منسقة بعناية ثم استدار إليها، صار في مواجهتها ومن خلفه يقف مبنى الإدارة الشاهق بشموخه الفرعوني وأعمدته الرسمية الكبيرة، وفي أعلاه تبرز نوافذ صالات الرسم بقسم العمارة. توقفت الكلمات على شفتيه لوهلة كما بدا لها، كانت تدرك جيدًا أنه لا يعرف كيف يبدأ في قول ما يريد أن يقول، وزاد ذلك من ارتياعها حتى كادت تشرع في النطق بأي شيء تستفسر به عمَّا يريد، فإذا بصوته يأتيها واضحًا، قويًّا، وبكل ثقة وبساطة العالم سألها: هل تقبلين الزواج مني؟

قالها في لهجة محايدة كأنما كان يسألها إذا كانت تريد شرب الشاي أم العصير، لكنه كان ينظر في عينيها وهو ينطق بتلك الكلمات، كان ينظر في عينيها بعمق هذه المرة، وكانت على شفتيه ابتسامة المرح والخجل فقط، دون ارتباك.

•••

في صالة شقة متواضعة جلس ياسين على كرسي خشبي عتيق الطراز يصغي في انتشاء إلى تسجيل قديم عبر جهاز كاسيت رديء، بينما يحتسي الشاي الصعيدي الداكن مع صديقه شاذلي، زميل الدراسة الطيب الذي ألقى به مكتب التنسيق من مدينة إسنا الوادعة في أقاصي الصعيد ليدرس في جامعة الإسكندرية، والذي يتشارك مع سبعة آخرين من الطلبة المغتربين الفقراء القادمين مثله من محافظات بعيدة في الإقامة بتلك الشقة المتواضعة بالطابق الثالث من بناية تخطى عمرها الستين عامًا في زقاق متفرع من شارع تانيس، أحد شوارع منطقة كامب شيزار العتيقة، والتي صارت منذ سنوات طويلة متخمةً بالشقق التي تؤجر مفروشةً للطلبة المغتربين، لقربها من الجامعة بعد أن رحل سكانها الأصليون من اليونانيين والأرمن والإيطاليين. شقة قديمة بسيطة إلى حد الخواء، أرضيات من بلاط الموزايكو الرخيص الذي اسودَّت أجزاء كبيرة منه لندرة التنظيف، وهبطت أجزاء أخرى نتيجة تأثير الزمن، نوافذ طويلة غير محكمة الإغلاق استُبدلت الأجزاء المتكسرة من زجاجها بورق مقوًّى من خلفية تقويمات قديمة تحمل شعارات بعض مصانع القطاع العام، جدران عالية ملطخة بآثار الأكف والأقدام واحتكاك قطع الأثاث ونشع رطوبة البحر القريب التي تخترق العظام لا الجدران وحسب. لا يتجاوز ما تحتويه الشقة من أثاث بضعة أسرة معدِنية، وخزانات ذات أبواب صدئة ومقاعد متهالكة. كانت الشقة على مبعدة خطوات من محطة ترام كامب شيزار، حيث توجد سينما أوديون المتخصصة في عرض أفلام المقاولات العربية الرخيصة، بجانب أفلام بروس لي وفان دام وما إلى ذلك من تلك النوعية من أفلام المراهقين من طلبة المدارس والمغتربين الريفيين الذين يشكلون السواد الأعظم من رواد تلك السينما.

كان عالم ياسين في تلك الفترة صغيرًا ومحدودًا، كانت دائرة أصدقائه ضيقة، ولم يكن بطبيعة تكوينه وشخصيته من النوع الذي يسهل عليه إدخال الغرباء إلى مساحته الشخصية بسرعة، كانت اهتماماته تتلخص في كرة القدم والموسيقى، يتابع مباريات الكرة في التليفزيون بشغف، لا يفوته حضور مباراة في الملعب عندما يأتي الزمالك — ناديه المفضل — أو حتى الأهلي لملاقاة الاتحاد أو الأوليمبي أو الكروم على ستاد الإسكندرية. يعرف كل جديد عن أخبار اللاعبين والبطولات، ويمارس كرة القدم بانتظام مع رفاقه، ما بين ملاعب النوادي الشعبية الصغيرة أو الأراضي الفضاء التي تشتهر بتجمع محبي الكرة للعب عليها، وبخاصة الأرض الملاصقة لشريط السكك الحديدية أمام مصنع شركة فورد في مصطفى كامل. ثم يقضي بقية وقته في الاستمتاع بطرب المنشدين والمداحين الذين سحره عالمهم منذ اليوم الذي أدخله إليه فيه شاذلي، الذي كان من المترددين بانتظام على موالد الأولياء وحلقات الذكر وليالي الصوفية. وكان شاذلي يحفظ في ذاكرته عن ظهر قلب جدولًا مفصلًا لتواريخ «الليالي» كما كان يطلق عليها؛ وهي موالد أولياء الله الصالحين في طول مصر وعرضها، ما بين ليلة أبي الحجاج في الأقصر إلى ليلة أبي الحسن الشاذلي في الصحراء الشرقية، إلى السيد البدوي في طنطا، إلى عبد الرحيم في قنا، إلى إبراهيم الدسوقي والبوصيري وأبي العباس وابن الفارض والرفاعي، وحتى موالد الإمام الحسين والسيدة زينب وبقية آل بيت النبي الذين تحتضن القاهرة رفاتهم.

بدأ ذلك الهوس يوم كان ياسين جالسًا في الشقة ذاتها قبل ما يزيد عن العام مع شاذلي الذي كان عائدًا لتوِّه من إجازة العيد، بعد أن قضاها في مدينته. قال له شاذلي يومها بفخر وسعادة بالغَين وهو يضع بحذر صينيةً بلاستيكيةً تحمل كوبين من الشاي الصعيدي الثقيل على الطاولة الخشبية خوفًا من سقوط الطاولة ذات القائم المكسور: اسمع الشيخ التهامي أيها السكندري. لا تعرفون أنتم يا أبناء المدن الكبيرة شيئًا عن هذه الكنوز.

أجابه ياسين وهو يرتشف الشاي وترتسم على وجهه علامات المعاناة من كثرة السكر وثقل الشاي: ومن يكون الشيخ التهامي هذا؟ أهو مقرئ من بلدكم؟

يرتشف شاذلي شايه بتلذذ ثم يضيف إليه بعض السكر ويجيب وهو يقلبه بملعقة من الصفيح الرديء: الشيخ ياسين التهامي هذا هو أحد كبار المدَّاحين وشيوخ المنشدين، شهرته ذائعة في الصعيد وفي القاهرة وفي كل مكان، يعرفه ويحبه كل أهل الله ويشدون رحالهم ويركبون القطارات لأيام لكي يحظوا بمتعة الاستماع إليه. اسمع … اسمع …

ثم يضع شاذلي في جهاز التسجيل الرخيص الذي يلتف حوله شريط لاصق يمنعه من التفكك شريطًا بدا أنه منسوخ أو مسجل، وليس من النوعية التي يمكنك أن تشتريَها من أحد محلات التسجيلات الأصلية. شغل شاذلي الشريط فانطلق صوت حشرجة وضجيج غير محدد، ثم يبدأ صوت الناي والربابة وما يصاحبهما من إيقاعات وطبول في التصاعد، وتنساب موسيقى جديدة عليه تمامًا وسَط أجواء من الصخب والتهليل، ثم يبدأ الرجل ذو الصوت الرخيم العريض في الإنشاد:
ينادِي المنادِي باسمِها فأجِيبُ
وأدعُو ذَاتي عَن نِدَائي تجِيبُ
ومَا ذَاكَ إلا أنَّنا روحٌ واحدٌ
تَدَاولَنا جِسمانِ وهْو عَجيبُ
كشَخصٍ له اسمانِ والذاتُ واحدٌ
بأيٍّ تُنادي الذاتَ منهُ تصيبُ
فذَاتي لها ذاتٌ واسمِي اسمُها
وحَالي بها في الاتحادِ عجيبُ
ولسْنا على التحقيقِ ذاتينِ لواحدٍ
ولكنَّهُ نفسُ المحبِّ حبيبُ
شعر عبد الكريم الجيلي (١٣٦٥–١٤٢٤م)

كانت جودة التسجيل بالغة الرداءة، كان من سجَّله — بحسَب ما شرح له شاذلي — أحد الهواة من المريدين عبر جهاز تسجيل بسيط وضعه بجانب المنشد، لكن ياسين كان قد انبهر تمامًا بتلك الأجواء وذلك الشعر الذي لم يسمع مثله من قبل، فسأل صاحبه في اهتمام: هل هذا شعر ذلك الرجل، أم أنه تراث شعبي أم ماذا؟

اعتدل شاذلي في جِلسته، ووضع كوب الشاي على الطاولة وأجاب بنبرة العالم: هذه القصيدة يا صديقي من شعر مولانا عبد الكريم الجيلي؛ وهو أحد كبار أقطاب الصوفية. كل ما يغنيه التهامي والتوني وأقرانهما من المنشدين هو أشعار صوفية لابن الفارض وابن عربي والرومي وغيرهم من الأقطاب. لكن هل أعجبك حقًّا؟

أجاب ياسين بنفس الاهتمام: جدًّا! لقد أبهرتَني بحق أيها الصعيدي! هل لديك تسجيلات أخرى مثل هذا أو لمنشدين آخرين؟

أجاب شاذلي وهو يقوم متجهًا ناحية الغرفة التي ينام فيها: سأحضر لك إذن كنزي الشخصي من تسجيلات المنشدين لتستمع إليها على راحتك، طالما أعجبك ذلك اللون غير ذي الجماهيرية الكبيرة من الفنون، فلن يمكنك أن تجد الكثير منه هنا على أي حال.

ثم عاد وفي يده كيس بلاستيكي سميك يحتوي على مجموعة من الشرائط المسجلة، وقد كُتب على ورقة صغيرة أُلصقت على كلٍّ منها بخط اليد اسم المنشد ومكان التسجيل ومناسبته.

•••

في ظرف أشهر قليلة صار ياسين نفسه يقضي قسطًا كبيرًا من وقته باحثًا وراء أشرطة المنشدين التي لم تكن متوفرةً وقتذاك إلا من خلال تسجيلات شخصية لمريديهم، وعندما علم شاذلي بحضور الشيخ التوني لإحياء ليلة ضمن ليالي رمضان التي تقام في حضرة أبي العباس المرسي ومسجده المَهيب المطل على بحر الأنفوشي؛ دعا ياسين لحضور تلك الليلة. ذهبا معًا مستقلين ترام المدينة الأصفر العتيق الذي سار بهما من محطة الرمل في موازاة الكورنيش، حتى ألقى بهما إلى ذلك العالم الذي يفيض سحره ليغمر ما حوله على امتداد الأبصار. ليلتها داهم ياسين للمرة الأولى ذلك الشعور الذي ظل يلازمه بعدها كلما دخل إلى ذلك العالم أو اقترب منه، كلما أنصت إلى قصيدة صوفية، كلما تناهى إلى أذنه ذلك الإيقاع الكسول لموسيقى المديح، بل كلما مرت على أنفه روائح البخور والمسك. كانت أقل علامة تذكره بذلك العالم كفيلةً بأن تعيد فتح مسام عقله وذاكرته إلى تلك الليلة في رحاب أبي العباس المرسي، تحت الأضواء المتراقصة، وبين الأجساد المتمايلة وَجْدًا وعشقًا، تحت رذاذ البحر المنعش الذي يحمل هواء الشتاء ذراته الخفيفة متخللًا أبخرة المسك المتصاعدة من المباخر، بينما يغلف ذلك المشهد كله صوت ذكوري شجي وأجش ذو لكنة صعيدية تحمل شجنًا واضحًا يردد في عذوبة آسرة:
كلُّ القلوبِ إلى الحبيبِ تميلُ
ومعي بذلكَ شاهدٌ ودليلُ
أمَّا الدليلُ إذا ذَكَرتَ مُحمَّدًا
صارَت دموعُ العاشقينَ تسيلُ
يا سيِّد الكونينِ يا عَلَمَ الهُدى
هذَا المتيَّمُ في حِماكَ نزيلُ
يا رَبِّ إنِّي قد مَدَحتُ محمدًا
فِيه ثَوابِي وللمَديحِ جَزيلُ
صَلَّى عَليكَ اللهُ يا عَلَمَ الهُدى
ما حَنَّ مُشتاقٌ وسَارَ دليلُ
شعر ابن الخياط (١٠٥٨–١١٢٣م)
ظل ياسين ليلتها يهيم في سماوات التجلي والطرب، كان قد ذاق لذة القرب ونشوة الوصول، وباتت روحه أخف من أن تحتمل السجن داخل صدره فحلَّقت فوق المكان متمايلةً مع رواد حلقة الذكر تارة، ومتراقصةً مع رذاذ البحر المتطاير مع الهواء تارةً أخرى، متأملةً في بدائع المديح حينًا، ومسحورةً بعذوبة الموسيقى حينًا آخر. كان ياسين قد دخل في حالة ما بين الصحو والغفوة، ما بين السكر والإفاقة، ما بين نور التجلي ونشوة العشق، يترك جسده للتمايل وسَط الذاكرين ويردد وراء المنشد، ثم يلتقط أنفاسه قليلًا لينصت إليه وهو ينتقل في حالة «سلطنة» تامة إلى قصيدة أخرى:
مَن لامَني فِي الحبِّ يُرمَ بسَهمِهِ
يُصبحُ محزونَ الفؤادِ عليلُ
الحبُّ شهدٌ في البدايةِ يا أخِي
آخرُهُ سَيفٌ نَعَم مسلولُ
الحبُّ شهدٌ في البدايةِ يا أخِي
آخرُهُ سمُّ الأفاعي قليلُ
الحبُّ عذبٌ لا يذُقهُ مقيدٌ
بحدودِ شهوتِهِ ولا معلولُ
شعر ابن الخياط (١٠٥٨–١١٢٣م)

صحراء

بدأت الكائنات الضخمة ذات الألوان الفاقعة المزعجة للعين وسَط ألوان الصحراء الباهتة المتناغمة أول ما بدأت بالتهام الشجر وتسوية الرمال، في أيام معدودة اختفت كل الأشجار المجاورة لها، لم تفلت من تلك المجزرة إلا أشجار بعيدة متناثرة؛ في أول صباح اختفت الشجرة الأقرب إليها، تلك التي كانت في مثل عمرها والتي كبِرت معها، والتي واجهت بجوارها العاصفة العاتية التي هبت قبل ربيعَين حاملةً معها رمالًا غريبةً من أرض ليست كأرضها، لم تزل بقايا تلك الرمال عالقةً على بعض أغصان كلتيهما، تكادان تشمان فيها رائحة الأرض البعيدة التي جاءت منها، ثم اختفت الشجيرات الثلاث الوليدات إلى الغرب منها، كانت قد شهدت مولدهن في شتاء قريب بعد أن ابتلت الرمال بمطر كثير تهاوى على الصحراء غزيرًا مفاجئًا، حتى إن الرمال لم تستطع ابتلاعه؛ فبقي لأيام كبحيرات صغيرة جعلت من تلك البقعة واحةً مؤقتةً جُذبت إليها الدواب والحشرات وملأتها حياةً وبهجة، ثم نبت محلها بعدما جفت تلك الشجيرات الوليدة.

اختفت كل الأشجار القريبة، راحت كل رفيقات أمسياتها وصباحاتها، ولم يتبقَّ لها بعدهن أنيس. كانت الأشجار المتبقية بعيدةً وغريبة، صارت تتشبث بالأرض أكثر وأكثر كلما اقتُلعت إحدى صديقاتها من الشجر، صارت تمد جذورها في عمق الأرض أبعد وأبعد لعلها تحتمي بها. ولم تكن تلك الكائنات تهدأ أو ترتاح، لم تكن تتوقف عن اقتلاع الأشجار من الجذور وإلقائها في كومة بعيدة ظلت تكبر وتكبر كمقبرة مكشوفة. تُقتلع كل شجرة في لحظات، يرتفع في الهواء جذعها وأغصانها وشبكة جذورها التي كانت ضاربةً في عمق الأرض، تصبح في غمضة عين مجرد قطعة بالية من الخشب المشقق لا أصل لها ولا وطن، لا جذور لها في الأرض. تتطاير ذرات الرمال العالقة بجذورها المقتلعة في الهواء وهي في قبضة تلك الوحوش الغاشمة، يتساقط منها الوطن وهي عاجزة عن لملمة هُويتها وتاريخ أسلافها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤