الفصل السادس

أبريل ١٩٩٤م

خلف المكتب المعدِني نفسه بشركة المحاسبة القانونية الواقعة في شقة كبيرة بالطابق الأرضي من بناية جديدة، ضمن كثيرات يماثلنها في الشكل، كلها من سبعة طوابق تختلط فيها مكاتب الشركات بعيادات الأطباء بالشقق السكنية، وتتوسط كل أربعٍ منها مساحة فسيحة من النجيل الأخضر، تتناثر فيها أشجار حديثة الغرس، وزهور منسقة بشكل جيد، وتصل بينها شوارع هادئة مسفلتة بإتقان، ولا يمر بها الكثير من السيارات في معظم الأوقات. لم يكن ياسين في البداية مستريحًا للعمل في منطقة سموحة النائية تلك، فلم يكن الوصول إليها يسيرًا؛ إذ لم تكن تربطها بمحل سكنه خطوط مواصلات مباشرة، فكان مشواره اليومي يبدأ بأن يستقل الترام إلى محطة سيدي جابر، ثم يعبر النفق المؤدي إلى الجانب الخلفي من محطة السكك الحديدية، حيث يستقل من هناك الميني باص المتجه إلى حدائق النزهة، ثم يهبط منه أمام مبنى السوق التجاري الجديد، الذي لم يزل خاليًا إلا من بعض محلات ومقاهٍ متناثرة، حيث تمتد من ورائه على مسافة سير يسيرة عمارات التعاونيات التي يقع مقر شركته في إحداها. كانت رحلتا الذهاب والعودة مرهقتين بعض الشيء، وخاصةً فيما يتعلق بالمشي في شهور الصيف الحارة برطوبتها الخانقة وشمسها الساطعة، لكنه اعتاد على تلك الرحلة في وقت قصير كما هو طبعه في التأقلم مع أي ظروف مستجدة، فقط في أيام النوَّات الممطرة، أو في الأيام التي كان يستيقظ فيها متأخرًا كان يُضطر لاستقلال سيارة أجرة، وكان ذلك بجانب أنه يفسد عليه ميزانيته الصغيرة التي لا تحتمل أي مفاجآت، فقد كان كذلك يعاني كثيرًا ليجد سائق سيارة أجرة يوافق على الذهاب إلى منطقة سموحة؛ حيث كان غالبية السائقين يجدونها صفقةً خاسرةً بما أنهم سيعودون من تلك المنطقة فارغين على أغلب الظن.

لم يكن والده كذلك سعيدًا بتلك الوظيفة التي تضطر ابنه للذهاب يوميًّا إلى خارج المدينة، فقد كان شريط السكك الحديدية بالنسبة إليه هو حدود الإسكندرية، ولم يكن خلال عودته من أي زيارة لنادي سموحة الرياضي أو لحدائق النزهة يعتبر نفسه قد دخل حدود المدينة قبل أن يعبر بجانب مبنى مصنع فورد — الذي كان قد أُغلق — وقبل أن يعبر أسفل شريط السكك الحديدية من نفق مصطفى كامل، وحتى يظهر أمامه على اليسار مصنع المياه الغازية الذي كان في طريقه للإغلاق هو الآخر. لم تكن سموحة في نظر أبناء ذلك الجيل سوى ضاحية على أطراف المدينة لا تحوي إلا النادي الرياضي، ثم المزارع والمصانع التي تمتد حتى حدائق النزهة وأنطونيادس على ضفاف ترعة المحمودية.

•••

ثم رحل أبوه بعيدًا، رحل إلى وادي الرجال الأقدمين، هناك حيث توجد مدافن العائلة على أطراف الرمال اللانهائية قرب بلدته النائية في أعماق الصعيد، حيث أمضى طفولته وصباه في أزمنة سحيقة مع تلك الشخصيات الغامضة، أولئك الذين كانت تلتمع عيناه بالشغف حين كان يذكر حكاياته معهم، أولئك الذين كان يتحرق شوقًا للحاق بهم. فقد ياسين سنده الأول وملاذه الوحيد، لكن لعله خير، لعله الآن مستبشر، لعله الآن يتسامر مع رفاق صباه الذين سبقوه إلى هناك، ويحكي لهم كيف تبدلت الأيام، وكيف عاد إلى رحابهم القديم من دنيا لم تعد تعرفه ولم يعد يعرفها، كيف فارق هواءً لم يعد عالقًا به من رائحة الأيام الحلوة إلا ذكريات، وكيف أن تلك الجدران ما عادت تذكره، وكيف طُمست جدران الأمس بطبقات فوق طبقات حتى لم تعد تراه، ولم تعد تبتهج لحضوره مثلما اعتادت، وكيف صار له أحباب على الضفة الأخرى أكثر مما له على ضفة الدنيا. لعله الآن يمرح، يتسلق النخل الشاهق على ضفاف النهر كما اعتاد أن يفعل وقت أن كان هناك نخل ونهر.

عندما ذهب ياسين بجثمان أبيه ليُدفن بجوار أجداده كما أوصاه في أواخر أيامه، أحب مشهد السماء في ليل قرية أبيه النائية كثيرًا، للمرة الأولى في عمره يرى بعينه المجردة هذا الكم المذهل من النجوم في السماء، كان قد رأى ربما مشاهد مشابهة في الأفلام الوثائقية الأجنبية التي يذيعها التليفزيون، لكنه لم يختبر من قبلُ شعور التحديق بالعين المجردة في سماء شديدة الدكنة تزينها لؤلؤات لامعات تتفاوت في الحجم ودرجة السطوع، كما شاهد في تلك الليلة مستلقيًا على ظهره فوق الأرض الزراعية الرطبة المغطاة بالقش وقشور قصب السكر، متطلعًا إلى السماء بدهشة طفل يختبر إحساس المشي للمرة الأولى، رأى هناك تكوينات بديعةً من النجوم لا بد أن رابطًا ما يجمعها كما كان يقرأ في كتبه المدرسية دون أن يفهم، وأنَّى له أن يفهم وهو فتى المدينة المزدحمة التي لا تسمح سماواتها الصاخبة بالأضواء إلا برؤية القمر متواريًا خلف بناية شاهقة، أو بعيدًا عند الأفق؟! ومن حوله تبدو على استحياء نجمات شاحبات الضوء. حاول استرجاع ما قرأه في الكتب عن الدب الأكبر والدب الأصغر، وتلك المسميات التي بدت له مضحكةً في حصة العلوم بالمدرسة الابتدائية، وإذا بها تظهر أمامه الآن على صفحة السماء الرائقة كشاشة عالية الدقة كما لو كانت من لحم ودم. أخذ يحاول الربط بين تشكيلات النجوم اللانهائية واستنتاج النظريات والتطبيقات في شغف عارم. بعد ليلته الرابعة صارت له صداقات مع نجوم بعينها، يلقي عليها التحية ويسألها عن أحوال جاراتها اللاتي يتصادف شحوب ضوء إحداهن أو انزواء أخريات. أمست له القدرة على مخاطبة تلك النجوم وتتبع أسرارها، أخذته تلك السماء الصافية إلى أجواء الصوفية والصفاء النفسي، فكان في ليلته الأخيرة قبل العودة إلى الإسكندرية مستلقيًا على ظهره ينشد مخاطبًا النجوم:
سَقاني الرَّاحُ في لَيلِ التَّدَاني
بِكأسِ النُّورِ منْ بحرِ المعَاني
وَشَاهدْتُ المشَاهِدَ وهْيَ تجلي
بِرنَّاتِ المثَالِثِ والمثَاني
وَعَاينتُ الجَمالَ الصِّرفَ لمَّا
شَربْتُ براحَتيَّ مِنَ الدِّنَانِ
سَكرْتُ وتُهتُ عنْ حِسِّي ونَفسي
ومِلتُ بِرشفِ رَاحي عنْ زَماني
وقَدْ كلِّفتُ كَتمَ السِّرِ حتَّى
شرِبتُ فباحَ عنْ سِرِّي لِسَاني
وَلا لومٌ عليَّ وَلا عِتابٌ
فعِشقُ جمالِ حُسنِكُمُو عَلاني
شعر محمد ماضي أبو العزائم (١٨٦٩–١٩٣٧م)

أتاحت له الأيام القليلة التي قضاها في القرية وقتًا كافيًا وذهنًا صافيًا للتأمل، ولتقييم موقفه من الحياة ومن العمل ومن الناس، كان في حاجة إلى الابتعاد قليلًا عن الإسكندرية وعن الشركة وعن الأصدقاء وعن روتينه اليومي هذا بأكمله، وحتى عن فريدة ذاتها، لكي يمكنه رؤية مجمل حياته بوضوح كما يرى تلك النجوم البعيدة في ظلام السماء.

•••

صار الآن وحيدًا في تلك الشقة العتيقة، ينام بمفرده على نفس السرير بنفس الغرفة كما اعتاد أن يفعل طيلة أربع وعشرين سنةً هي كل عمره، لكنه منذ تلك الليلة لم يفارقه الشعور بالبرد، مهما تدثر بالأغطية، ومهما أحكم إغلاق النوافذ، ومهما دس الملاءات القديمة تحت عتبات أبواب الشرفة، لم يكن باستطاعته الإحساس بدفء البيت كما كان يعرفه، كانت رطوبة الشتاء تنشع من تربة الأرض تحت قدميه عبر بلاط الأرضية البارد، وكان يلحظ ذلك للمرة الأولى، لم ينتبه طوال سنوات العمر تلك كلها إلى برودة تلك الشقة وإلى وحشة الظلمة فيها أثناء الليل، ربما كانت أنفاس أبويه هي ما يد تلك الشقة العتيقة الباردة، ربما كانت تلاوة أبيه المسائية المعتادة للقرآن هي ما يسكِّن تلك الوحشة، كان ينسلُّ من فراشه عندما تبلغ البرودة ذروتها قرب بزوغ الفجر ليندسَّ في فراش أبويه، ويدثَّر جسده بلحافهما الأخضر الأثير ذي الغطاء القطني الزاخز بزهور صفراء كبيرة، فيغرق حتى الصباح في نوم عميق لا تؤرقه برودة أو رطوبة. كان يستيقظ في دفء فراش والديه ليجهز نفسه ليوم عمل جديد، وهو يدرك أنه قد أصبح منذ الآن بمفرده في هذا العالم، وأن عليه أن يتعايش مع هذه الحقيقة، لم يعد لديه ذلك الجدار الصلب الذي يمكنه أن يستند إليه عندما يترنح تحت ضربات الأيام، ولم يعد لديه ذلك الحضن الدافئ الذي يمكنه أن يلقيَ فيه بروحه عندما تشتد عليها الجراح.

عندما عاد من القرية كانت مدام كوستا قد ماتت كذلك، لم يجدوا في بيتها حين دخله ورثتها من الأقارب البعيدين أصحاب تلك السيارة الأمريكية الكبيرة قديمة الطراز سوى الكثير من أُصص النباتات؛ نباتات متنوعة في أُصص مختلفة الأحجام تحتل كل الغرف، كانت كلها في حالة جيدة ومعتنًى بها باهتمام بالغ.

مايو ١٩٩٤م

على طاولتهما الأثيرة بالشرفة الخارجية لنادي المهندسين على كورنيش سابا باشا جلسا صامتين، يرتشفان كوبين من أسوأ نسكافيه يمكن تذوقه في الإسكندرية، بينما يحدقان في البحر الممتد الذي بدأ في الهدوء بعد هياج الشتاء الطويل. شاردًا كان ياسين وصامتًا، ولم يكن ذلك بغريب عليه أو بجديد، لكن شروده اليوم بدا كما لو كان نتيجة الاستغراق في التفكير في أمر جلل. سألته فريدة في اهتمام: ماذا بك؟

استدار ليواجهها وهو يبعد بيده كوب النسكافيه دون أن يكمل منه رشفتين، اكتسى وجهه بعلامات جدية واضحة وأجاب كأنما يزيح من فوق صدره حجرًا: لقد تلقيت عرض عمل.

تهلل وجهها وأجابت في حماس: عظيم! هذا خبر ممتاز! أهو عرض جيد؟ هل سيدفعون راتبًا يستحق أن تترك من أجله وظيفتك الحالية؟

أجاب بنفس النبرة وهو ينظر في عينيها ليتبين وقع كلماته عليها: من ناحية الراتب نعم، سيدفعون أكثر بكثير، سيدفعون ما يزيد عن ستة أضعاف ما أحصل عليه هنا، ستة أضعاف ما أحصل عليه في مصر.

تبدلت ملامحها بالكامل من الحماس البالغ في بداية الجملة إلى الصدمة والوجوم في مقطعها الأخير، فهمت ما يعنيه بتلك الجملة الأخيرة بسرعة فأجابت في هدوء: أين هو هذا العمل؟ في أي بلد؟

أجاب بشكل آلي كأنما كان ينتظر هذا السؤال: في جدة، السعودية.

ارتفع صوتها قليلًا وهي تجيبه في حدة جعلت رءوس بعض الجالسين في المكان الهادئ تستدير إليهما في فضول: لكن هذا يغير خططنا بالكامل يا ياسين! السفر إلى خارج البلاد لم يكن أبدًا في خطتنا، لم يكن هذا ما اﺗﻔﻘﻨ…

قاطعها قائلًا بصوت منخفض أكثر من اللازم لينبهها بشكل غير مباشر إلى ارتفاع نبرة صوتها: لم يكن هذا ما اتفقنا عليه نعم أعرف، لكن ما الذي بيدي لأفعله؟ لم نتفق أيضًا على أن أتقاضى تلك الملاليم الزهيدة أليس كذلك؟ لم نتفق على أن يموت أبي وأصبح بلا سند! لدي قسط الشقة الشهري الذي يجب أن أدفعه بانتظام، تعرفين أن هذا القسط يعادل ثلثي راتبي! ما الذي ﻳﻤﻜ…

خفضت صوتها هذه المرة مقاطعةً في نبرة تفهم وتعاطف: يمكننا تدبر أمورنا هنا يا ياسين، يمكننا دائمًا أن نجد حلًّا ما؛ أنت تعرف أنني أعد الآن مشروع تخرجي، وسوف أتخرج بعد ثلاثة أشهر، يمكنني الحصول على عمل، لدي أكثر من عرض من أساتذتي في الكلية للعمل في مكتب أحدهم، ويمكنني البدء في العمل قبل ظهور النتيجة، يمكننا مساعدة بعضنا البعض فهي حياتنا ومستقبلنا نحن على أي حال، وسنصنعهما سويًّا كما اتفقنا، علينا أن نقاوم قليلًا يا ياسين، لا يجب أن نهرب عند أول عقبة.

أجاب في نبرة تحمل بعض الاعتذار أو ربما التبرير: أعرف كل ما تقولين يا فريدة وفكرت فيه كثيرًا، ألا تعتقدين حقًّا أنني فعلت؟ لكنني لا أهرب، إنما أجرب طريقًا آخر غير الطريق الذي أسير فيه، وأنا أعلم وأنتِ كذلك تعلمين أنه مسدود. الدنيا واسعة فلماذا نحتجز أنفسنا في هذه المساحة الضيقة؟ عندما نظرت إلى السماء في قرية أبي أحصيت عددًا من النجوم لم يكن يخطر ببالي أنه يمكن أن يكون موجودًا، لماذا إذن لا نختبر احتمالات أخرى؟

ثم أردف بلهجة أكثر حياديةً كمن يقرأ تقريرًا في اجتماع عمل: سأسافر لسنوات قليلة، أربع أو خمس سنوات على أقصى تقدير. لقد أجريت دراسةً ماليةً محكمةً للخطة كلها؛ السنوات الأربع الأساسية ستكون كافيةً لتوفير رأس مال جيد يمكنني العودة به والبدء في مشروع خاص، أو الاستثمار في مجال يضمن لنا عائدًا مناسبًا لاستكمال حياتنا. أما السنة الخامسة فيمكنها أن تغطيَ أية احتمالات لظروف قهرية قد تفسد الخطة. هذا صميم عملي يا فريدة، وأنا أعرف جيدًا ما أتحدث عنه، يمكنني حتى أن أريَكِ قائمة التدفقات النقدية التي أعددتها على الكمبيوتر للسنوات الخمس بالكامل؛ لكي تتيقني من دراستي للخطة جيدًا وبطريقة علمية، ومن أن ما أقوله ليس محض أحلام.

استمعتْ إليه بصمت ثم أجابت في تصميم واضح: أنا غير موافقة يا ياسين، لن أترك هذه المدينة، لن أبتعد عن أمي وأبي في عمرهما هذا وأنا وحيدتهما؛ أمي مريضة ومرضها خطير وأنت تعلم ذلك، أنا من تنظم لها مواعيد أدويتها، وأنا من تصطحبها إلى عيادات الأطباء ومراكز الأشعة، فلم يعد أبي يملك العافية الكافية ليقوم بتلك المهام. لم تنفق تلك المرأة وذلك الرجل عمريهما في تربيتي لكي أتركهما عندما يحتاجان لي، ولا لكي أسافر إلى دولة أخرى ليصبح كل ما يربطني بهما مكالمة هاتفية أو بضع خطابات في المناسبات والأعياد، كما أنني كذلك لن أعيش في بلد لا أستطيع الخروج فيه إلى الشارع بمفردي، ولا أستطيع العمل، ولا يمكنني حتى مغادرته إلا بتأشيرة خروج، وبالتأكيد لن أنتظرك هنا لخمس سنوات ربما تمتد إلى سبع أو عشر أو عشرين. أنا أثق بدقة حساباتك بالطبع، ولكنني لا أثق بتقلبات الزمن. لقد أنفقت خمس سنوات من عمري في هذه الكلية الصعبة لكي أعمل وأنجح وأحقق ذاتي بعد التخرج، لا لكي أقبع وحيدةً أمام التليفزيون في بلد غريب، ليس هذا ما أريده لحياتي يا ياسين، ليس هذا ما اتفقنا عليه.

ارتبك بعض الشيء من ذلك التصميم الذي لم يتوقعه، أطرق قليلًا متطلعًا إلى البحر ليفكر، ثم قال بعد برهة: هذه فرصة عمري يا فريدة، أتفهمين؟ أحتاج إلى المال ليمكنني أن أتنفس قليلًا، ليمكننا معًا أن نتنفس قليلًا، لا توجد فرص كثيرة هنا، لقد كنت محظوظًا بالحصول على هذه الوظيفة على أي حال، ولا أتوقع أن أحصل على أفضل منها في المستقبل القريب. هذا هو سقف المتاح هنا، هذه المدينة ضيقة جدًّا يا فريدة، هذه المدينة أضيق كثيرًا مما تتصورين.

عادت نبرتها إلى التفهم والتعاطف فقالت في حنان: فلْتذهب إلى القاهرة إذن، الفرص هناك أكثر والقاهرة ليست ببعيدة، ليست في دولة أخرى على أي حال.

هز رأسه كأنما ينفض عنه الفكرة، وقال في نفاد صبر: القاهرة كالإسكندرية، الفرص أكثر نعم، لكن الساعين وراء تلك الفرص أكثر كذلك، الجميع من كل المحافظات يذهب إلى القاهرة ليبحث عن عمل، هذا البلد كله يختنق ويخنقنا معه. أنا بالطبع لا أريد الاغتراب، وأعرف مسبقًا أنها ستكون تجربةً قاسية، فلست بطفل صغير، ولكنني لن أستطيع الاستمرار في التظاهر بأن كل شيء هنا على ما يرام، وأن المستقبل سيكون مشرقًا. لا يا فريدة، يؤسفني أن أبلغك بأنه ليس كل شيء على ما يرام، الحياة ليست وردية، والمستقبل لن يكون مشرقًا، لا توجد هنا وظائف كافية، لقد تخطى تعداد هذا البلد الستين مليونًا، يتخرج في كل عام خمسة عشر أو ربما عشرون ألفًا يحملون نفس شهادتي الجامعية، أي مستقبل يمكننا توقعه في بلد يتنفس هواءً ملوثًا وينخر الفساد في عظامه؟ يجب علينا أن نواجه أنفسنا بالحقيقة قبل فوات الأوان، هذا البلد سيئ.

ثم أمسك بكوب النسكافيه الموضوع أمامه ورفعه في وجهها وقال بصوت ارتفع قليلًا من فرط الانفعال حتى لفت إليهما أنظار الفضوليين ذاتهم مرةً أخرى: هذا النسكافيه سيئ يا فريدة، أنا وأنتِ نعلم ذلك جيدًا، ولكننا نتجاهل هذه الحقيقة الواضحة ونواصل المجيء إلى هنا وطلب النسكافيه في كل مرة ودفع ثمن لا يستحقه، يجب أن نتوقف عن فعل ذلك يا فريدة فهذه حماقة، ونحن لا نملك ترف ارتكاب المزيد من الحماقات.

بسطت فريدة كفيها أمامها كتعبير عن العجز، ثم أجابت بعد برهة قصيرة في صوت منخفض محبط: أعرف ما تعنيه وأتفهم دوافعك، لكنني حقًّا لا أستطيع، عندي دوافعي وأسبابي أنا كذلك، لا أعرف ما يتوجب عليَّ فعله، أنا فقط لا أستطيع ترك هذه المدينة.

أجابها في نبرة يائسة لكنها حازمة في آنٍ واحد: تعرفين أنني تخليت عن حلمي بالهجرة لكندا من أجلك يا فريدة، ومن أجل أبي كذلك لكي أكون منصفًا، فلم يكن باستطاعتي تركه هنا بمفرده، ولا أظنني أرغب في الهجرة الآن على أي حال حتى بعد وفاته، لم أعد أحلم بالديمقراطية والحرية وتلك الرفاهيات، لم أعد أحلم إلا بدخل يكفيني أنا وأنت لنؤسس بيتًا ولنعيش حياةً طبيعية كالبشر، لكنني كذلك لم أعد أطيق البقاء في هذا البلد.

أغسطس ١٩٩٤م

على رمال ذلك الشاطئ الأرستقراطي وقفا متجاورين ذات عصر يوم صيفي شديد الرطوبة، لم يكن التمتع بشرف الدخول إلى العالم السري لشاطئ بيانكي بالعجمي متاحًا وقتذاك إلا لقلة محظوظة من الأثرياء وأصدقائهم. كانت الحكايات تُنسج عنه وعما يوجد بداخله، وكان الجميع يسمع به ويتداول تلك الحكايات، ولكن لا يدرك الوصول إليه إلا تلك الفئة السعيدة، ولأن لياسين بعض المعارف والأصدقاء من أولئك الذين وقعت كُراتهم في لعبة الروليت الكبيرة المسماة بالحياة في خانة الحظ السعيد فوُلدوا لآباء أغنياء؛ فقد كان باستطاعته من حين لآخر تدبير بعض بطاقات الدخول له ولأصدقائه. كان ذلك اليوم هو موعد الحفل السنوي الذي يحضر فيه المطرب الأشهر عمرو دياب ليغني حصريًّا لرواد شاطئ بيانكي، وكان بالمصادفة ذكرى مولد فريدة. كان الزحام شديدًا، وكان الصخب فوق المعتاد، الكثير من مكبرات الصوت السوداء الضخمة نُصبت على قواعد معدِنية مرتفعة في كل أرجاء الشاطئ، لتصدح منها موسيقى غربية صاخبة، ينتقيها بعناية منسق الأغاني الشاب، الذي وقف على المنصة الخشبية المرتفعة بشورت فوسفوري لامع ونظارة شمسية من طراز كارتييه ذات عدسات عسلية اللون، وقد لوحت الشمس صدره العاري بحمرة داكنة. ظل الشاب يتقافز مع إيقاع الأغنيات الجديدة للفرق الغربية الشهيرة، وسَط ترديد الجمهور المتراقص على الرمال وفي مياه البحر لكلمات الأغنيات بالإنجليزية، وفي بعض الأحيان بالإسبانية والإيطالية، بينما تتصاعد من المشهد الصاخب أدخنة السجائر والروائح النفاذة للبيرة الأجنبية في علبها المعدِنية الخضراء، في انتظار قدوم النجم الذي سيغني بالتأكيد — كما تعود في كل صيف — مقطعًا من ألبومه الجديد الذي لم يصدر بعد، مانحًا بعض التميز للجمهور المحظوظ؛ ليتفاخر به بين أولئك العاديين ممن هم خارج حدود جنة بيانكي المحرمة.

كان ياسين قد وصل إلى هناك وبصحبته فريدة بعد أن اصطحبها من بيتها مستقلين ترام الرمل رقم ٢ إلى محطة الرمل، ثم الميني باص الأزرق الجديد المتجه إلى البيطاش من ميدان سعد زغلول أمام فندق سيسيل في رحلة استغرقت ما يزيد على الساعة ونصف الساعة، حتى نزلا عند سنترال العجمي حيث يبدأ الشارع الرملي المؤدي إلى مداخل شاطئ بيانكي من شارع البيطاش الرئيسي، كان قد وعدها بأن يحتفلا معًا بذكرى مولدها هذه السنة في حفل عمرو دياب الذي كانت تحبه كثيرًا، بينما كان هو أكثر ميلًا لمحمد منير بأغنياته؛ ذلك للمعاني الأكثر صدقًا والموسيقى الأكثر جرأة.

لم يحاولا الاقتراب من المنصة الصاخبة؛ حيث لم يكن الزحام هناك محتملًا، كما أنهما شعرا منذ الوهلة الأولى بعدم الانتماء لذلك المكان وكأنهما قادمان من عصر آخر، ابتعدا في اتجاه البحر الذي كان مكتظًّا هو الآخر بالسابحين، فتداخل مع صوتيهما هدير موج البحر وعصف الهواء وصخب الموسيقى وضحكات الراقصين من حولهما، قال لها بحنان وهو يمسك بيدها مطالعًا انعكاس أشعة الشمس المائلة إلى المغيب على حدقتي عينيها: كل سنة وأنتِ بخير.

أجابت فيما بين العتاب والدلال: والعام القادم؟

ارتبك قليلًا ثم أجاب في لهجة مطمئنة: العام القادم أعود إليكِ، نتقابل هنا في ذات المكان، نحضر ذات الحفل، أعدك بذلك.

ظهر الإحباط عليها وهي تجيب في ضجر: لقد سيطرت عليك فكرة السفر تمامًا يا ياسين، لا أصدق ذلك. ألم نتناقش مرارًا في ذلك الموضوع؟

أجاب بلهجة اجتهد لتبدو واثقة: لقد قابلت صاحب عرض العمل الذي حدثتك عنه أمس الأول في الفندق الذي يقيم به في القاهرة، كنت سأحكي لك التفاصيل حالًا؛ إنها شركة كبيرة للمقاولات لها ثلاثة فروع في جدة والرياض والدمام، لكنني اخترت جدة لأنني أعرف أنها الأكثر انفتاحًا. الرجل مهذب ومتعلم كما أنه يقدر كفاءتي، لقد توصلنا إلى اتفاق جيد، تفاوضت معه على زيادة الراتب الذي عرضه في البداية فوافق، كما أنه سيوفر لي السكن. أتعرفين؟ بعد هذه المستجدات أعدت حساب التدفقات النقدية ووجدت أن أربع سنوات ستكون أكثر من كافية، لن أحتاج حتى إلى ﺳﻨ…

قاطعته في بعض الحدة: هذا لن يحدث يا ياسين، أظنني كنت واضحةً في ذلك.

أجاب في بعض الغضب وهو يتفادى الراقصين المارين بينهما: لماذا تفعلين ذلك بي يا فريدة؟ أريد أن أبنيَ مستقبلنا وأحاول أن أفتح أبوابًا جديدة، فلماذا ترفضين حتى مناقشة الأمر؟ إن لم نتعب وإن لم نبذل بعض التضحيات الآن فمتى نفعل؟

ارتفع الضجيج على رمال الشاطئ فجأةً بشكل هيستيري، وانطلق الصفير والصيحات وعلا صوت التصفيق، بينما الرءوس جميعها تستدير ناحية المنصة المرتفعة، حيث ظهر النجم المنتظر في قميص قطني أبيض قصير الأكمام مفتوحة أزراره حتى المنتصف، وشورت برتقالي وحذاء صيفي خفيف، وقد قصَّر شعر رأسه بدرجة كبيرة أدهشت الحضور، وبدأ يصدح بأغنيته «ضحكة عيون حبيبي» التي كانت حديث العام السابق كله.

كانت فريدة تجتهد في رفع صوتها ليصل إليه، لكن الضجيج كان أعلى من أن تهزمه طبقة صوتها الضعيفة، تداخل الراقصون والسابحون بينهما وقد أصبحا في الماء حتى ما دون الركبة بقليل، انتهت الأغنية الأولى وتصاعد الصياح والصفير والتصفيق من حولهما مرةً أخرى، وعندما هدأ الضجيج قليلًا في انتظار إعلان النجم عن الأغنية التالية، قالت رافعةً صوتها أكثر وهي تقاوم الانجراف وسط الحشد المتحرك الراقص: لن أترك مصر يا ياسين، لقد عرضت عليَّ الدكتورة نجوى أستاذتي في الكلية أن أعمل في مكتبها، سأبدأ العمل من بداية الأسبوع القادم، لم نتحدث بعدُ عن الراتب ولكنني أعرف متوسط ما تدفعه للخريجين الجدد، وهذه فرصة جيدة لي.

أجابها بصوت مرتفع وقد فرق بينهما الزحام قليلًا: سأذهب أنا يا فريدة، لن أطلب منك التضحية بمستقبلك. سأذهب وحدي ثم أعود إليك لنتزوج، فقط أربعة أعوام كما وعدتك، وسأعود في إجازة كل عام بالطبع.

ازداد الضجيج مرةً أخرى عندما أعلن النجم أنه سيغني أغنيةً جديدةً للمرة الأولى، حبس الجميع أنفاسهم انتظارًا للمفاجأة، ازداد ابتعادهما مع تحرك الجموع خارجةً من الماء في اتجاه المنصة، صار هو في الماء إلى ما فوق ركبتيه، بينما جرفتها الجموع في اتجاه الرمال قليلًا. قالت بينما كانت الجموع في نشوة الترقب: لن تعود بعد أربع سنوات يا ياسين، أربع ستجر أربعًا ثم أربعًا، ستضيع أعمارنا في الانتظار.

انطلق النجم يشدو بأغنية جديدة ستصدر في الألبوم الجديد:

ملهاش حل تاني، ملهاش حل تاني
يا نعيش الحياة أنا وانت، يا وقفت ف مكاني.

يزداد ابتعادهما حتى لا يكاد بمقدوره رؤيتها بوضوح من بين الوجوه والصيحات والأيدي المرفوعة بالتصفيق، يصيح محاولًا إيصال كلماته إليها عبر الضجيج الهادر المحيط بكل الأشياء من حولهما: سأعود يا فريدة، سأعود.

لم يعد بإمكانه رؤيتها أو سماع صوتها، ازدادت الأعداد على الرمال وفي الماء إلى أضعاف ما كانت عليه، لم يعد يمكنه تمييزها من بين الجموع الصاخبة، بحث عنها، صاح باسمها، اخترق الحشود طلبًا لما يوصله إليها، خرج إلى البوابات ثم عاد إلى الشاطئ، ابتعد عن الحشود الراقصة ثم عاد وألقى بنفسه داخلها، توالت الأغنيات وازداد الصخب حتى أصبح فوق قدرته على الاحتمال. الكل يرقص ويصيح ويرفع ذراعيه عاليًا بالتصفيق، كان العالم كله من حوله يسبح في الضجيج، لكن فريدة لم تكن في أي مكان.

•••

في صباح اليوم التالي اندفع ياسين داخلًا محطة القطار في سرعة يداري بها عصبيةً وتوترًا بالغَين؛ كان قد قضى الليلة السابقة منذ عاد من العجمي بدون فريدة بلا دقيقة نوم واحدة، كانت رأسه تغلي بالأفكار وعقله يعالج كل التباديل والتوافيق لكل الاحتمالات الممكنة لأي من القرارين، لكنه فشل تمامًا في اتخاذ قرار محدد؛ أيبقى من أجلها أم يسافر من أجل مستقبله ومن أجلها أيضًا؟ لم يكن يعرف إلى أين هو ذاهب، لكنه توجه مباشرةً إلى شباك حجز التذاكر ذي الواجهة الزجاجية على الجانب الأيمن من صالة المدخل الفسيحة لمحطة قطار سيدي جابر، التي يحتل جانبها الآخر بائع الصحف والمجلات والكتب الذي يثبِّت معروضاته على هيكل معدِني كبير بمشابك غسيل خشبية. انتظر طويلًا بنفاد صبر في الطابور أمام شباك التذاكر حتى حان دوره، فطلب حجز تذكرة من الدرجة الثانية في أول قطار مغادر إلى القاهرة، أخبرته الموظفة البدينة ذات النظارات السميكة بلا مبالاة بأن القطار الإسباني موجود بالفعل على رصيف المحطة وأنه سيغادر حالًا إن كان يستطيع الركض للحاق به. ناولها بلا تردد من خلال الفتحة الدائرية الصغيرة في الزجاج الفاصل بينهما ورقةً من فئة العشرين جنيهًا، وطلب منها أن تطبع التذكرة بسرعة، ثم خطف التذكرة من يدها بمجرد أن تناولتها من الماكينة وركض دون أن يلتفت لندائها غير المُلحِّ ولا لنداءات الواقفين في الطابور له ليستعيد باقي نقوده. اصطدم في ركضه عبر النفق الذي يمر أسفل أرصفة وقضبان المحطة بكتف رجل أشيب يهبط الدرج على مهل، اعتذر له بكلمات مبهمة وهو يواصل الركض، ولم يسمع شيئًا من السباب الذي انهال به الأخير عليه وعلى الأجيال التي لم تجد من يربيها، وصل أخيرًا للرصيف الذي يقف به القطار فألقى بنفسه داخل أول باب قابله دون أن يعرف أي عربة كانت تلك وأي عربة يقع بها المقعد الذي حجزه، ولولا أنه يعرف المحطة ويعرف جيدًا شكل القطار الإسباني والرصيف الذي يقف عنده؛ لكان ربما ألقى بنفسه داخل قطار آخر. التقط أنفاسه داخل العربة وأخذ يبحث عن رقمها وينظر في تذكرته، في حين كان القطار قد بدأ بالفعل في التحرك، أدرك أنه في العربة التاسعة وأنه كان عليه أن يقطع ست عربات حتى يصل إلى حيث مقعده في العربة الثالثة. بدأ في التحرك إلى وجهته مضطرًّا إلى الانتظار كل بضع خطوات حتى تنتهي فتاة شابة من تعديل وضع حقيبتها التي تعيق الحركة، أو حتى يجلس رجل ضخم بعد أن يصف صناديق كرتونية كثيرة فوق الرف العلوي، أو حتى يفصل مفتش التذاكر ذو الزي الكحلي الباهت والشرائط الذهبية على الأكمام بين ركاب يتنازعون على مقعد. ظل يسير متأرجحًا عبر الممر الضيق الطويل بين صفوف المقاعد في كل عربة، ثم يفتح الباب ليخرج إلى تلك المنطقة الصغيرة بين العربات، والتي يفترشها من ركبوا دون أن يحجزوا تذاكر، أو من يريدون التدخين، ثم يعود ليفتح باب عربة جديدة ويسير من جديد عابرًا ممرًّا ضيقًا طويلًا آخر بين صفوف مقاعد أخرى ثم يفتح الباب إلى منطقة فاصلة جديدة. وهكذا يتناوب على رئتيه هواء العربات المكيف وهواء المنطقة الفاصلة المعبق بخليط أدخنة التبغ، يتنقل ما بين الهدوء النسبي داخل العربات وبين صخب العجلات الحديدية وضجيج المدخنين في المناطق الفاصلة بينها؛ كان ذلك يضغظ على أعصابه المتوترة سلفًا حتى توقف لالتقاط أنفاسه في إحدى المناطق الفاصلة قبل عربتين من موقع مقعده.

سعل مرتين من تأثير الانتقال من هواء العربة المكيف إلى هذه المساحة سيئة التهوية، التي تكدس فيها دخان أنواع مختلفة من التبغ حتى لم تعد الرؤية فيها يسيرةً إلا بعد أن تتعود العين على تلك الغلالة الضبابية وتبدأ في تمييز الملامح، حتى الأصوات لم يكن من السهل تبينها وسَط الضجيج الهادر للعجلات الثقيلة على القضبان الحديدية. كان الجميع هنا مثله، صامتين كأنما هم كذلك هاربون من ضجيج البشر في الداخل إلى ضجيج الآلات الحديدية هنا؛ لعلهم يفضلون إزعاج الجماد عن إزعاج البشر، أو لعلهم يختطفون فقط تلك الدقائق القليلة للحصول على جرعة من التبغ لعلها تعينهم على مقاومة كل ذلك الصخب.

بات في وسعه الآن التعرف على ملامح وجوه الموجودين بالمكان، وصارت رئتاه متعايشتين مع ذلك الهجوم الخاطف غير المعتاد من الدخان، كان بجوار الباب على الجانب الأيسر رجل أشيب محني الظهر يضيق وجهه بالتجاعيد العميقة، ويرتدي ثيابًا قديمة الطراز يبدو أن جسده قد نحل كثيرًا عمَّا كان عليه في الزمن الذي اشتراها فيه، كان الرجل ذاهلًا عن الدنيا محملقًا في فراغ بعيد عبر النافذة، رافعًا يده اليمنى بسيجارة بدا أنه قد نسيها فقد كانت تكاد تسقط منها كتلة من الرماد التهمت أكثر من نصف السيجارة، وعلى الجدار المجاور له يستند بظهره شاب طويل القامة في بدلة رسمية يقرأ في كتاب صغير، يمسك به بيد ويدخن سيجارةً بالأخرى، انتبه الشاب إلى وجوده بعد أن رفع نظره لأول مرة عن كتابه ثم نظر نحوه في فضول، بعدها ابتسم في وُدٍّ وهو يدس الكتاب في جيب سترته، ثم يمد يده داخل الجيب الآخر مخرجًا علبة سجائر أجنبية، فتح العلبة ووجَّهها ناحيته قائلًا في نبرة مرحة: يبدو أنك نسيت سجائرك؛ تفضل واحدة.

ارتبك للحظة ثم أجاب وقد ابتسم بدوره في امتنان: لا لا، أشكرك على ذوقك. أنا لا أدخن.

أردف الشاب في إصرار: «يا برنس» إذا لم تكن مدخنًا، فما الذي جاء بك إلى هذا المكان الضيق المعبق بالدخان؟ تناول سيجارةً ولا تخجل!

أجاب في بعض الضجر وقد ساءه هذا الرفع غير المبرر للكلفة: شكرًا، أنا فعلًا لا أدخن.

صحراء

ثم جاءت كائنات جديدة، كل تلك الوحوش الغريبة قبيحة ومزعجة وغاشمة بشكل لم تعرفه تلك الصحراء من قبلُ في تاريخها الممتد من قبلِ أن توجد كل الوحوش وكل الأشجار، كانت الكائنات الجديدة — بمساعدة بعض البشر الذين لم تكن الصحراء تشهد وجودهم من قبل إلا نادرًا — تتقيأ مادةً رماديةً كريهةً فوق هياكل داكنة كشبكات العناكب، لكنها أكثر سمكًا وتعقيدًا واستقامة، تظل طَوال النهار تفرغ ما في جوفها فوق تلك الخطوط المتطابقة المتراصة بانتظام، بدا شاذًّا بشكل مستفز في بيئة لا شيء فيها مستقيم أو منتظم. ثم جاء الليل وسطعت معه شموس صغيرة أضاءت الصحراء فصار الليل نهارًا، فزعت الكائنات الليلية التي كانت تجد أمانها وحياتها في ظلام الليل وستره، فرت هاربةً متخبطةً من تلك الأضواء العجيبة غير المعتادة. كانت الصحراء تشهد كل شتاءات كثيرة انطماسًا للشمس أو للقمر لوقت قصير كان يربك كل الكائنات ويفزعها، ثم يعود كل شيء إلى طبيعته سريعًا، لكن لم تكن الصحراء مضيئةً في الليل بهذا الشكل قط، ولم يسبق لتلك الشموس الصغيرة أن سطعت هنا من قبل.

واصلت الوحوش في الليل وتحت ضوء تلك الشموس الجديدة ما كانت تفعله بالنهار تحت ضوء الشمس الكبيرة، لم تكن تكل أو تمل، كانت تواصل الليل بالنهار وهي تكرر نفس العمل، تتقيأ وتتقيأ ولا يفرغ جوفها أبدًا، لا تتوقف عن الضجيج ولا عن إصدار تلك السحابات الداكنة ذات الروائح المنفرة، حتى تلوثت سماء الصحراء وفسدت أرضها، بل إنه لم تعد هناك صحراء بعد الآن، صار هناك هيكل رمادي هائل الحجم وفارغ من الداخل، كان كطبقات من الأراضي متراصة فوق بعضها البعض تخترقها أشجار طويلة بلا فروع أو أوراق، جذوع رمادية مستقيمة متطابقة الأشكال وحادة الأطراف، كان كل شيء رماديًّا، الأراضي المتراصة فوق بعضها والأشجار التي تخترقها، كانت كلها باردةً صامتة، لم تكن تتحرك، لم يكن الهواء يعبث بها، كأنها وُلدت ميتة!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤