الفصل الأول

(١) الْأَمِيرُ الصَّغِيرُ

عَاشَ فِي إِحْدَى مَمالِكِ الْهِنْدِ الواسِعَةِ، أَمِيرٌ صَغِيرٌ، مَعْرُوفٌ بِرَجاحَةِ الْعَقْلِ، وَالْإِحْسانِ، وَحُبِّ الْخَيْرِ. وَكانَ — عَلَى صِغَرِ سِنِّهِ — مُتَمَيِّزًا فِي فُنُونِ الْحَرْبِ، بارِعًا في الْمُوسِيقَى. وَقَدْ أَتْقَنَ — إِلَى ذٰلِكَ — كَثِيرًا مِنَ الصِّناعاتِ والْحِرَفِ، فَذاعَ صِيتُهُ فِي جَمِيعِ الْأَقْطارِ، وأُعْجِبَ بهِ النَّاسُ، وَأَحَبَّهُ الشَّعْبُ حُبًّا شَدِيدًا.

(٢) حُزْنُ الْأَمِيرِ

كانَ هٰذا الْأَمِيرُ الصَّغِيرُ يُسَمَّى «كُوسا». وَقَدِ اعْتَقدَ النَّاسُ أَنَّهُ أَسْعَدُ أُمَراءِ عَصْرِهِ، لِما تَمَيَّزَ بِهِ مِنَ الْمَزايا النَّادِرةِ. ولَعلَّكَ تَدْهَشُ إِذَا حَدَّثْتُكَ أَنَّ هٰذا الْأَمِيرَ الصَّغِيرَ لَمْ يَكُنْ سَعِيدًا، بَلْ كانَ دائِمَ الْهَمِّ، كَثِيرَ الْأَلَمِ، لا يَكادُ يَهْنَأُ لَهُ طَعامٌ، وَلا شَرابٌ وَلا مَنامٌ.

(٣) مَصْدَرُ الْأَحْزانِ

أَراكَ تَسْأَلُنِي عَنِ السِّرِّ فِي شَقاءِ ذٰلِكَ الأَمِيرِ المُحْسِنِ النَّابِغَةِ: فاعْلَمْ — أَيُّها الصَّغِيرُ الْعَزِيزُ — أَنَّ هٰذا الْأَمِيرَ كانَ، عَلَى بَراعَتِهِ وَرَجاحَةِ عَقْلِهِ، مُشَوَّهَ الصُّورَةِ، دَمِيمَ الوَجْهِ، وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَ أَهْلِ عَصْرِهِ، مَنْ هُوَ أَوْفَرُ عَقْلًا وَلا أَقْبَحُ شَكْلًا.

وَلكِنَّ النَّاسَ جَميعًا قَدْ نَسُوا دَمامَةَ وَجْهِهِ، وَلَمْ يَذْكُرُوا إلَّا جَمالَ خُلُقِهِ، وَحُسْنَ فِعْلِهِ.

(٤) بَيْنَ الْأَميرِ وَالْمَلِكِ

فَلَمَّا كَبِرَ الْأَمِيرُ «كُوسا» قالَ لَهُ أَبُوهُ المَلِكُ «أُكَّاكا»: «لَقَدْ أَصْبَحْتُ — يا وَلَدِي — شَيْخًا طاعِنًا فِي السِّنِّ، وَقَدْ دَنا أَجَلِي، وَأَنْتَ وَلِيُّ عَهْدِي، وَمَلِكُ هٰذِهِ البِلادِ مِنْ بَعْدِي. وَقَدْ فَكَّرْتُ فِي تَزْوِيجِكَ مَنْ تَخْتارُ مِنَ الْأَمِيراتِ.»

فَقالَ الْأَمِيرُ «كُوسا»: «لَنْ أُفَكِّرَ فِي الزّواجِ — يا أبي — فَليْسَ في الدُّنْيا فتاةٌ تَرْضَى بِمَنْ كانَ مِثْلي فِي دَمامةِ الخِلْقَةِ.»

فَقال المَلِكُ «أُكَّاكا»: «كَلَّا يا وَلَدِي، فَإِنَّ رَجاحَةَ عَقْلِكَ، قَدْ حَبَّبَتْ جَمِيعَ النَّاسِ فيكَ. فَلا تَتَرَدَّدْ في اخْتِيارِ مَنْ تَشاءُ مِنَ الأميراتِ.»

(٥) التِّمثالُ الذَّهَبِيُّ

وَلَقَدْ حاوَلَ كلٌّ مِنْهُما أنْ يُقْنِعَ الآخَرَ، ودارتْ بَيْنَهُما مُناقَشاتٌ كثيرَةٌ — بَيْنَ حِينٍ وآخَرَ — ولٰكِنَّها كانَتْ عَلَى غَيْرِ طائلٍ (بِلا فائِدَةٍ).

فَلَمَّا تَعِبَ الأميرُ «كُوسا» مِنْ تِلْكَ المُناقَشاتِ العَقِيمَةِ (الَّتِي لا فائِدَةَ فيها)، دَبَّرَ حِيلَةً بارِعَةً تُخَلِّصُهُ مِنْ هٰذا المَأْزِقِ. فابْتَكَرَ تِمْثالًا ذَهَبِيًّا رائِعَ الجَمالِ. ولَمَّا أَتَمَّ صُنْعَهُ، وأَيْقَنَ أَنَّ العالَمَ كُلَّهُ لَيْسَ فِيهِ فتاةٌ على مِثالِ هٰذا التِّمْثالِ، قال لأَبيهِ: «إذا وَجَدْتُمْ — يا أبَتِ — فَتاةً كهٰذِهِ الَّتِي تَرَى تِمْثالَها أمامَكَ، فَإنَّني سَأتزَوَّجُها، إطاعَةً لأَمْرِكَ.»

(٦) رُسُلُ المَلِكِ

وَلَمَّا رَأَى الملكُ «أُكَّاكا» هٰذا التِّمْثالَ الفاتِنَ، يَئِسَ مِنْ زواجِ وَلَدِهِ، لأَنَّهُ أَيْقَنَ أنْ لَيْسَ في العالَمِ كلِّهِ فَتاةٌ — مِنَ الأناسِيِّ (النَّاسِ) — لَها مِثْلُ جَمالِ التِّمْثالِ الذَّهَبيِّ. عَلَى أنَّهُ بَعَثَ بِطائِفَةٍ مِنَ الرُّوَّادِ والرُّسُلِ، لِيَطُوفُوا بِلادَ الدُّنْيا — قاصِيَةً وَدَانِيَةً — باحِثِينَ عَنِ الفَتاةِ الَّتي تُشْبِهُ ذٰلِكَ التِّمْثالَ.

(٧) أمِيرةُ «مادا»

وَمَرَّتِ الأيَّامُ والأسابِيعُ والشُّهُورُ والسِّنُونَ، وَهُمْ يَجُوبُونَ البِلادَ والأقْطارَ دُونَ جَدْوَى، حَتَّى بَلَغُوا مَمْلَكَةَ «مادا». فَعَلِمُوا أنَّ لِمَلِكِها ثمانِيَ بَناتٍ، وأنَّ الأميرَةَ «بَبْهافَاتي» — وَهِيَ كُبْرَى أخَواتِها — تُعَدُّ أجْمَلَ بَناتِ عَصْرها. وَهِيَ — إلى ذٰلِكَ — تُشْبِهُ التِّمْثالَ الذَّهَبِيَّ في كلِّ شَيْءٍ. فَلمَّا أَيْقَنَ الرُّسُلُ بِصِحَّةِ ما سَمِعُوهُ، ذَهَبُوا إلى مَلِكِ «مادا». وَأخْبَرُوهُ بِرَغْبَةِ المَلِكِ «أُكَّاكا» فِي تَزْوِيج الأميرَةِ «بَبْهافَاتي» لأَميرِهِمُ العَظيمِ «كُوسا» ابْنِ المَلِك «أُكَّاكا».

(٨) مَلِكُ «مادا»

فلمَّا سَمِعَ ملِكُ «مادا» هٰذا النَّبَأَ، امْتَلأَ قَلْبُهُ سُرُورًا لِمُصاهرَةِ المَلِكِ «أُكَّاكا» الَّذِي ذاعَ صِيتُه — وَصِيتُ وَلَدِهِ — في جَمِيعِ أَنْحاء الدُّنْيا، وَأَخْبَر الرُّسُلَ بِمُوافَقَتِهِ عَلَى هٰذِهِ المُصاهَرَةِ.

(٩) عادَةٌ قدِيمَةٌ

فَلمَّا عادَ الرُّسُلُ إلى مَلِيكِهِم، وَأَخْبَرُوهُ بِما وُفِّقُوا إلَيْهِ في سَفَرِهِمْ، كانَ فَرَحُ المَلكِ بِنَجاحِ مَسْعاهُمْ بِمِقْدارِ حُزْنِ وَلَدِهِ «كُوسا». فَقالَ لأبِيهِ، مُفَزَّعَ الْقَلْبِ: «وا أسَفاهُ عَلَى ما فَعَلْتمْ. فَقَدْ جَلَبْتمْ عَلَيَّ وَعَلَى تِلْكَ الأمِيرَةِ شَقاءً لا يُمْحَى، لأنَّها سَتَنْفِرُ مِنْ رُؤْيَتي، متَى رَأتْ دَمامَةَ وَجْهِي (قَباحَةَ صُورَتي)، وَلَنْ تَسْتَطِيعَ الْبقاءَ مَعِيَ أبدًا.»

فَقال المَلِكُ: «لَقَدْ فَكَّرْتُ في هٰذا، واهْتَدَيْتُ إِلى حَلٍّ بارِعٍ يُنْقِذُكَ مِنْ هٰذا المَأْزِقِ. فَإِنَّ مِنْ تقالِيدِ أُسْرَتِنا الْقَدِيمَةِ — الَّتي دَرَجَ عَليْها آباؤُنا وَأَجْدادُنا — أَنَّ الفَتاةَ الْعَرُوسَ لا تنْظُرُ وَجْهَ عَرُوسِها إلَّا بَعْدَ سَنَةٍ مِنْ عَقْدِ الزَّواجِ. وَسَنَجْري عَلَى هٰذِهِ العادَةِ، فَلا تُقابِلُ عَرُوسَكَ إلَّا فِي دارٍ مُظْلِمَةٍ، مُدَّةَ عامٍ بِأَكْمَلِهِ.»

فقال الأَمِيرُ «كُوسا»: «ولٰكِنَّ الأميرةَ سَوْفَ تَرانِي بَعْدَ ذٰلِكَ، وَتَنْفِرُ مِنْ قُبْحِ مَنْظَري!»

فَأَجابَهُ الْمَلِكُ «أُكَّاكا»: «كَلَّا، لا تَخْشَ ذٰلِكَ. فَإِنَّها سَتَرَى مِنْ حُسْنِ حَدِيثِكَ، وَكَرَمِ خُلُقِكَ، وَرَجاحَةِ عَقْلِكَ، ما يَجْعلُكَ في نَظَرِها جَميلًا.»

(١٠) حفْلَةُ العُرْسِ

لَمْ يَقْتَنِعِ الأَميرُ بِرَأْيِ والدِهِ، وَلٰكنَّهُ لَم يَسْتَطِعْ مُخالَفَتَهُ، بَعْدَ أَنْ رَأَى إِصْرارَهُ على السَّفَرِ إِلى مَمْلَكَةِ «مادا» لإحْضارِ أَمِيرَتِها. وَقَدْ عاد بِها في مَوْكِبٍ حافِلٍ، ثُمَّ أُقِيمَتْ حَفْلَةُ الزَّواجِ فِي دارٍ مُظْلِمَةٍ، كما أَمَرَ المَلِكُ. وَلا تَسَلْ عَنْ دَهْشَةِ الأَمِيرَةِ «بَبْهافَاتي» حِينَ رَأتْ ذٰلِكَ، وَعَرَفَتْ أَنَّ تَقالِيدَ الأُسْرَةِ تَحتِمُ (تُوجِبُ) عليْها أَلاّ تَرَى وجْهَ زَوْجِها قَبْلَ أَنْ تَمُرَّ سَنَةٌ كامِلَةٌ عَلَى الزَّواجِ.

وكانَ الأميرُ «كُوسا» يَجِيءُ كُلَّ يَوْمٍ لِزِيارَةِ عَرُوسِهِ في حُجْرَةٍ مُظْلِمَةٍ مِنْ هٰذِهِ الدَّارِ. وسُرْعانَ ما أَحَبَّتْهُ زَوْجُهُ لِوَداعَةِ خُلُقِهِ، وسَعَةِ اطِّلاعِهِ، وبَراعَتِهِ في المُوسِيقَى. وسُرَّتْ بِهِ، وإِنْ لمْ تَرَ وجْهَهُ. وظَلَّ يَقْضِي ساعاتِهِ الطَّوِيلَةَ، مُوقِعًا عَلَى قِيثارَتِهِ أَبْدَعَ الأَلْحانِ، أَوْ قاصًّا عَلَيْها أمْتَعَ القَصَصِ، فَتَبْهَجُ، وتَقُولُ لِنَفْسِها: «ما أظُنُّ أنَّ في الدُّنْيا كلِّها أجْمَلَ مِنْ هٰذا الأميرِ، ولا أطْيَبَ مِنْهُ قَلْبًا، ولا أرْجَحَ مِنْهُ عَقْلًا.»

وَما إِنْ مَرَّ عَلَيْها شَهْرانِ، حَتَّى اشْتَدَّتْ رَغْبَتُها في رُؤْيَتِهِ، وَلَمْ تَلْبَثْ أنْ كاشَفَتْهُ بِذٰلِكَ، فَأَجابَها مَذْعُورًا: «إِنَّ قَوانِينَ أُسْرَتِنا وَتَقالِيدَها لا تُجِيزُ ما تَطْلُبِينَ. فَاصْبِري، فَإنَّ الشُّهُورَ تَمُرُّ سِراعًا.»

(١١) مَوْكِبُ الأَميرِ

فَلَمْ تَسْتَطِعِ الأميرَةُ صَبْرًا، واضْطُرَّتْ — آخِرَ الأَمْرِ — إلى إغْراءِ بَعْض خَدَمِها بِالْمالِ، لِيُمَكِّنَها مِنْ تَحْقِيقِ هٰذِهِ الأُمْنِيَّةِ. وتَحَيَّنَ الْخادِمُ يَوْمًا مِنْ أعْيادِهِمْ، وَأخْبَرَ مَوْلاتَهُ أنَّ مَوْكِبَ الأميرِ سَيَتَحرَّكُ بَعْدَ قَلِيلٍ. وأَصْعَدَ الأميرَةَ إلى الطَّبَقِ الأَعْلَى مِنَ القَصْرِ، حَيْثُ تُشْرِفُ (تُطِلُّ) إحْدَى نَوافِذِهِ عَلَى الطَّرِيقِ.

•••

ورَأتِ الْمَوْكِبَ يَقْتَرِبُ، والرَّاياتِ والأعْلامَ تَخْفُقُ، والنَّاسَ يَرْمُونَ أكالِيلَ الأَزْهارِ على أقْدامِ الْفِيلِ الأَبْيضِ الَّذِي يَتهادَى بِالأميرِ. وسَمِعَتْ أصْواتَ الشّعْبِ مُرْتَفِعةً مُتَعالِيَةً بالدُّعاءِ لَهُ، تُحَيِّيهِ أحْسَنَ التَّحِيَّاتِ.

(١٢) رُجُوعُ الأَميرةِ

ولَمْ تَكَدِ الأَميرَةُ تَرَى زَوْجَها، حتَّى خابَ أمَلُها، واشْتَدَّ خوْفُها. فَصاحَتْ: «كَلَّا، لَيْسَ هٰذا زوْجِي أبَدًا!» فَلَمَّا تَأَكَّدَ لَها أنَّهُ هُوَ الأَميرُ «كُوسا»، اعْتَزَمَتِ الرُّجوع إلى بلَدِها، نُفُورًا (بُغْضًا وَكُرْهًا) مِنْ دَمامَتِهِ. وحاولَ المَلِكُ «أُكَّاكا» أنْ يُرْغِمَها على أن تَبْقَى في القَصْرِ، ولٰكِنَّ «كُوسا» تَوسَّلَ إليْه أنْ يَدَعَها وشَأنَها.

figure

وحِينَئِذٍ خَرَجَتِ الأَميرَةُ مِنَ القَصْرِ راجِعةً إلى بَلَدِها، تَحْرُسُها حامِيَةٌ مِنَ الجُنْدِ، وَقَدْ مَلأَتْ قَلْبَ الأَمِيرِ حُزْنًا وَأَلَمًا، إذْ نَسِيَتْ شمائِلَهُ النَّبِيلَةَ (مَزاياهُ الجَمِيلَةَ)، ولَمْ تَذْكُرْ إلا قُبْحَ شَكْلِهِ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤