الثورة الأمريكية

فيما بين سنتي ١٥٥٠ و١٧٥٠ كانت أوروبا ممزقة بالحروب الكنسية والملوكية، فقد كانت منكوبة بالانشقاقات التي نشبت بين البروتستنت والكاثوليك، كما كانت تعاني أيضًا أطماع الملوك الصعاليك الذين كانوا يفهمون المجد على أنه ضم الأرض الألمانية إلى فرنسا أو العكس، أو ضم الممتلكات الإسبانية إلى إنكلترا أو العكس!

وكانت الكنيسة الكاثوليكية تحض على محو المذهب البروتستنتي الجديد، وتؤيد الحروب التي تهدف إلى ذلك.

وعم أوروبا فقر وجوع بسبب الملوك والكنيسة.

وكانت أمريكا هي «الدنيا الجديدة» التي لا تعرف الملوك الصعاليك، دعاة الحرب والدم، ولا تعرف قوة الكنيسة الأوروبية التي تجمعت لها بعد ١٦٠٠ سنة من الاحتكارات.

كان مذهبها في الحكم: الجمهورية الديمقراطية.

وكان مذهبها في الدين: الحرية المذهبية.

ولذلك كان ألوف من الأوروبيين يهاجرون إليها كل عام.

وكانت الولايات المتحدة جزءًا من ممتلكات بريطانيا، وكان الملك «جورج الثالث» يعتقد أن الأمريكيين يجب أن يعترفوا بتاجه وعرشه وصولجانه، وأن للحكومة البريطانية الحق في فرض الضرائب على الأمريكيين، ولكن الأمريكيين كانوا يعتقدون أنهم أحرار، وأنه لا يجوز لأحد أن يفرض عليهم ضريبة إلا باستشارتهم ورضائهم.

واحتاجت الحكومة البريطانية إلى مقدار من المال ينهض بأعباء حروبها، ووجدت أن البريطانيين في بريطانيا قد تحملوا كثيرًا، ففرضت بعض الضرائب على الأمريكيين، ولكن هؤلاء هبوا للمعارضة، وخضعت الحكومة البريطانية وألغت الضرائب، ولكنها في إلغائها حملت البرلمان على أن يقرر أن من حقه أن يفرض الضرائب على المستعمرة الأمريكية التي نسميها الآن: «الولايات المتحدة» وحقيقة أو صحة الاسم: «الدول المتحدة».

وفهم الأمريكيون دلالة هذا الإصرار على أن بلادهم مستعمرة، وأن للبرلمان الإنكليزي في لندن أن يفرض الضرائب على بوسطن ونيويورك وغيرهما من المدن والقرى، واستعدوا …

وفرض البرلمان ضريبة خفيفة على الشاي الوارد إلى الموانئ الأمريكية، ولكن الأمريكيين رفضوا تأدية هذه الضريبة، وأحرقوا الشاي، ثم اصطدموا بالقوات البريطانية وقتلوا بعض الجنود، وأحرقوا السفن الإنكليزية.

وهنا أعلن البرلمان الإنكليزي في لندن إقفال ميناء بوسطن عقابًا للأمريكيين الذين يأبون دفع الضرائب التي يفرضها عليهم!

ونشبت الحرب، وكان «واشنطون» العظيم يقود الشعب الأمريكي الحر ضد الجيوش الإنكليزية التي انهزمت في النهاية.

واجتمع الزعماء وأعلنوا الاستقلال، ووضعوا دستور الولايات المتحدة في سنة ١٧٧٦، وهذا أهم ما فيه:
  • (١)

    لا يجوز للبرلمان «الكونجرس» أن يسن قانونًا لاحتضان دين معين، أو لمنع الممارسة الحرة لأي دين آخر.

  • (٢)

    لا يجوز للبرلمان تحديد حرية الخطابة أو حرية الصحافة.

  • (٣)

    لا يجوز للبرلمان أن يسن قانونًا بشأن حق الشعب في الاجتماعات السلمية، أو حقه في رفع العرائض إلى الحكومة لتصحيح أخطائها أو رفع ظلامتها.

  • (٤)

    لا يجوز للبرلمان منع الشعب من حمل السلاح.

  • (٥)

    لا يجوز إيواء الجنود في المنازل إلا بعد رضى أصحابها مدة السلم، أما مدة الحرب فلا يجوز هذا إلا وفقًا لنظام ينص عليه قانون.

  • (٦)

    لا يجوز انتهاك حرمات الأشخاص والمنازل والأرزاق والممتلكات، سواء أكان هذا الانتهاك بالتفتيش أم بالاعتقال غير المشروعين.

  • (٧)

    لا يجوز اعتقال أحد كي يجيب عن جناية قتل أو أي جريمة شنيعة أخرى، إلا بعد حكم من هيئة محلفين كبرى.

    ولا يجوز إجباره على أن يكون شاهدًا على نفسه، كما لا يجوز أن يحرم حياته أو حريته أو ممتلكاته بغير الوسائل التي نص عليها القانون.

  • (٨)

    لا يجوز للدولة الاستيلاء على الممتلكات الخاصة دون التعويض العادل.

  • (٩)

    في جميع الإجراءات الخاصة بالمحاكمات الجنائية، يكون للمتهم الحق في محاكمة علنية وعاجلة، أمام هيئة محلفين نزيهين، في الولاية والمركز اللذين وقعت فيهما الجريمة، وللمتهم الحق في إجبار الشهود الذين في مصلحته على الحضور، كما له الحق في تعيين المحامين عنه.

  • (١٠)

    يجب ألا يفهم من تعديد بعض الحقوق في الدستور الإنكار لسائر الحقوق التي يملكها الشعب أو التصغير من شأنها.

وجاء في مقدمة «إعلان الاستقلال» هذا، هذه الكلمات المقدسة:

نحن نؤمن بهذه الحقائق البديهية، وهي أن جميع الناس قد خلقوا متساوين، وأن خالقهم قد وهبهم جميعًا حقوقًا لا يملكون هم أنفسهم النزول عنها، ومن هذه الحقوق الحياة، والحرية، وابتغاء السعادة، وأن الحكومات إنما تقوم بين الناس كي تصون هذه الحقوق، وأن الحكومات إنما تستمد سلطانها المشروع من رضاء المحكومين، فإذا انتوت أية حكومة، مهما يكن شكلها، محو هذه الحقوق، فإن للشعب أن يغيرها، أو أن يمحوها، ويقيم مكانها حكومات أخرى، تستند إلى هذه المبادئ وتنظم سلطاتها على نحو يكفل للشعب سلامته وسعادته.

وفي هذا الكلام إيماءة إلى معنى الثورة.

ولكن هذا الإيماء يعود تصريحًا حين نسمع «لنكولن»، أعظم رجال الولايات المتحدة، يقول في سنة ١٨٦١:

هذه البلاد ملك للشعب الذي يقطنها، وكلما ضاق هذا الشعب بأخطاء الحكومة القائمة أو مساوئها فله أن يستعمل حقه الدستوري في تعديلها، أو حقه الثوري في هدمها.

الثورة حق للشعوب، ومن مفاخر الأمريكيين أن ينطق بهذا الحق ويعلنه رئيس حكومتهم العظيم «لنكولن».

ولكن الثورة الأمريكية هي أكثر من هذا: هي إنكار للاستعمار.

ذلك أنها هبت وشبت لأن الإنكليز كانوا يعدون هذا الجزء من أمريكا مستعمرة خاصة لهم يستطيعون فرض الضرائب عليها، وأنكر الأمريكيون عليهم هذا الحق.

وقد أنجبت الثورة الأمريكية كاتبها العظيم «توم بين» الذي يجب على كل مصري أن يدرسه وأن يعرف ما يقوله عن الملوك.

فقد ألف كتابًا بعنوان «حقوق الإنسان» أثبت فيه أن الملوك يفسدون، وأن الحكومة المثلى هي الجمهورية الديمقراطية، وحكمت عليه الحكومة البريطانية بإهراق دمه، ولكنها لم تستطع التنفيذ.

قال «توماس بين»: «جميع الحكومات الوراثية هي بطبيعتها ظلم.»

وقال: «لن يكون الوقت بعيدًا حين تضحك إنكلترا من نفسها؛ لأنها ترسل إلى هولندا أو هانوفر أو زيل أو برونزويك تبحث عن رجال كي تصنع منهم ملوكًا! (وهو يعني هنا جورج الأول ووليم الثالث)، وتتكلف في ذلك مليون جنيه في العام، مع أن هؤلاء لا يفهمون لغتها ولا قوانينها ولا مصالحها، ومع أن كفاءتهم لا تكاد تؤهلهم لأن يكونوا خفراء في القرى!» وما كان أصدق هذا الكلام على مصر!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤