ثورات ١٨٤٨

تجري في عصرنا على ألسنتنا وأقلامنا كلمات جديدة، لم يكن أسلافنا يعرفونها، أو هم كانوا يذكرونها كما لو كانت من كلمات المعاجم فحسب، أما تداولها الحاضر بيننا والمعاني الجديدة التي تحملها، والقوات الاجتماعية التي تعبئها فيها، أما كل هذا فلم يكن يعرفه أسلافنا.

إن كلمات الشعب والعمال، والدستور والنقابة، والإخاء والحرية والمساواة، كلها كلمات عربية، ولكن أسلافنا لم يكونوا يستعملونها بالتداول الذي نستعملها به، وبالمعاني التي نلصقها بها.

ثم إن هناك كلمات البرلمان، والديمقراطية، والجمهورية، والشخصية، والمسئولية، والمجتمع، والأسرة، والتطور، وهي جميعها من مخترعاتنا العصرية، ولست تجد معجمًا عربيًّا قديمًا يذكرها؛ لأن المعاني التي تحملها لم يكن أسلافنا يعرفونها.

وجميع هذه الكلمات بألفاظها الجديدة أو بمعانيها الجديدة إنما تدل على طبقات جديدة، وأكاد أقول على إنسان جديد، وهي لذلك تحمل من المعاني ما لم يكن أسلافنا يعرفونه.

فإن «العامل» إنسان جديد في عصرنا؛ إذ ليس هو فلاحًا يستسلم للقدر ويعيش بالعقائد في أمية مطلقة، وكذلك ليس هو ذلك النجار أو الحداد أو الخباز القديم يفتح دكانه أو مخبزه ويعمل بنفسه مستقلًّا ينشد الثراء، وقد يبلغه فيستخدم بعض الفعلة ويترك الكد والإنتاج لهم، ويعود ثريًّا أو متيسرًا قانعًا بأن يرأس دون أن يعمل ويكد، وهو في كل ذلك، سواء بمفرده أم مع من يستخدمهم، لا يعرف الآلات المنتجة بالحديد والنار؛ أي الآلات التي تغني عن الأيدي في الإنتاج.

لا! ليس هو العامل العصري!

إنما العامل العصري هو ذلك الذي يعمل في المصنع مع ألف أو ألفي عامل آخرين، وهذا المصنع الذي يدور بالفحم أو البترول أو القوة الكهربائية ينتج المقادير الهائلة من المصنوعات، والعامل الذي يعمل فيه ينتج نحو عشرة أضعاف أو عشرين ضعفًا مما كان ينتجه لو أنه كان مستقلًّا في دكانه أو مصنعه الصغير.

وهذا العامل الجديد هو الذي أوجد اللغة والمعاني الجديدة لكلمات النقابة، والتعاون، والمساواة، والحرية، والتطور، بل أوجد أيضًا المعنى الاجتماعي الجديد لكلمة الثورة.

والمعنى الاجتماعي لكلمة الثورة لم يعرف قط في معجم عربي، إنما هو معنى جديد تطلبته الطبقة الجديدة منذ الثورة الإنكليزية في القرن السابع عشر حين عوقب الملك الصعلوك «تشارلس الأول» على مخالفته لإرادة الشعب الإنكليزي بقطع رأسه!

وكانت الثورة إلى ما قبل ١٨٤٨ تعني إسقاط الملوك عن عروشهم وتمثيل الشعب في البرلمان، أما بعد ١٨٤٨ فقد اتخذت كلمة الثورة معنى جديدًا لم تكن تعرفه من قبل، هو المعنى الاجتماعي الذي يعني أن يمثل العمال في البرلمانات وأن تكفل لهم حقوق عامة.

وظهرت من ذلك الوقت كلمة الاشتراكية — ونعني ظهورها السياسي — وتألفت النقابات، ووجدت أحزاب العمال، وشرع المفكرون يفكرون ويقولون: إن الحكومات يجب أن لا تكون سياسية فقط، بل اجتماعية أيضًا، تفكر وتعمل لتدبير عمل للعاطل ومعاش للمسنِّ، وإعانة للحامل، وتعليم أو معالجة بالمجان لجميع أفراد الشعب.

ولم يكن بد من ذلك؛ لأن المصنع الجديد، الذي صار يستخدم نحو ألف أو عشرة آلاف عامل، لم يعد يعرف شخصية العامل على النحو الذي كان يعرفه صاحب المصنع الصغير الذي كان يستخدم عاملين أو ثلاثة عمال قبل الإنتاج الآلي بالحديد والنار. وهكذا احتاج العمال إلى أن يتكلموا كجماعة وليس كأفراد.

كان العامل القديم في المصنع الصغير يقول لصاحب العمل: أنا أجدُّ وأعمل أكثر من غيري … أعطني قرشًا أو قرشين زيادة على أجري الحاضر، وكان صاحب المصنع الصغير يعطيه.

أما بعد ذلك، بعد أن ظهر المصنع الكبير بآلاف العمال الذين يعملون فيه، فلم يعد هناك مجال لأن يقول عامل إنه يطلب زيادة قرش أكثر مما يحصل عليه زملاؤه الآلاف.

لا. إنه نكرة في وسط هذا الجمع!

ولكن هذه الآلاف يمكنها أن تجتمع وتطلب هذه الزيادة بقوة اجتماعها، وهذا هو ما كانت تحمله كلمة الثورة من المعاني الجديدة في ١٨٤٨.

اعتبر هذه الأطوار التالية في الثورات:
  • الثورة الأولى: للعبيد ضد الأحرار في رومة والبصرة.
  • الثورة الثانية: للنبلاء في إنكلترا ضد الملك «جون» شقيق «ريتشارد قلب الأسد».
  • الثورة الثالثة: ثورة الضمير من «لوثر» ضد السلطة الدينية المطلقة «للبابا»، ثورة الدين الشخصي ضد الدين الرسمي العام.
  • الثورة الرابعة: ثورة الطبقات المتوسطة في إنكلترا ضد «تشارلس الأول» ونبلائه؛ وفي فرنسا ضد الملك «لويس السادس عشر» ونبلائه.
  • الثورة الخامسة: ثورة العمال بل ثوراتهم في كل عاصمة أوروبية.

أكسبنا العامل — هذا «الإنسان الجديد» — شيئًا جديدًا في الثقافة لم نكن نعرفه قبل المصانع الآلية، وهو العلم بكل ما يحمله من نور وظلام للبشر.

وأكسبنا أيضًا أخلاقًا جديدة؛ لأننا أصبحنا نعرف ونوقن بأن الرجل الصالح ليس هو ذلك الذي يصلي ويصوم فحسب، وإنما هو الذي ينتج أكثر مما يستهلك، حتى تزيد ثورة البشر الروحية والمادية به، سواء أكان عاملًا برأسه أم بيده.

وأكسبنا كلمة «الاشتراكية» أبر الكلمات في جميع اللغات، ولذلك نحن نقول، ولما نبلغ الاشتراكية: الحكومة الخيرية، والحكومة الاجتماعية، والوجدان الاجتماعي، ومكافحة الفقر والجهل والمرض … وكل هذا بإيحاء هذه الكلمة.

وعلمنا هذا الإنسان الجديد شيئًا جديدًا عن السياسة، فإنها لم تعد الدهاء والاستعمار، وإنما هي تأسيس المدارس والمستشفيات، وبناء المنازل، وتأمين كل فرد من الشيخوخة والمرض والجهل والفقر، والإخاء العام بين جميع البشر، وإصلاح هذه الدنيا التي هي قريتنا الكبرى.

وعلمنا فوق ذلك أن الشرف كل الشرف أن نكون نحن مثله هو عمالًا منتجين، وأنه ليس لأحد حق العيش إلا إذا كان منتجًا.

هذا هو المذهب الجديد الذي أشاعته الثورات العامة في ١٨٤٨ في أوروبا.

•••

كانت الثورات في ١٨٤٨ تهدف إلى استتمام ما نقص من مبادئ الثورة الفرنسية الكبرى في أنحاء أوروبا، وكان هذا هو الهدف الأصغر.

أما الهدف الأكبر فهو التسليم بحقوق جديدة للعمال.

اعتبر هذه الأحداث التالية في تلك السنة:
  • (١)

    كان يحكم نابولي ملك مستبد فثار الشعب عليه وأجبره على أن يسلم بإصدار دستور.

  • (٢)

    استردت البندقية نظامها الجمهوري.

  • (٣)

    أنشأت رومة حكومة ديمقراطية بزعامة ماتزيني وغاريبالدي.

  • (٤)

    عمت الثورات جميع المدن الألمانية.

  • (٥)

    فشت ثورات في باريس، تحطمت في النهاية، ولكنها أبرزت وجدانًا جديدًا للعمال.

  • (٦)

    فشت نهضة عامة في لندن غايتها التمهيد للعمال كي ينتخبوا أعضاءً في مجلس العموم، وقدمت عرائض تحوي خمسة ملايين توقيع.

وكانت أكبر الثورات ثورة باريس، من حيث إنها كانت جديدة في مطالبها وأهدافها.

وباريس كانت منذ ثلاثة قرون أو أربعة عاصمة أوروبا التي تستلهم منها سائر العواصم المبادئ والأفكار، ولا تزال كذلك إلى الآن.

•••

ونستطيع أن نقول: إن معظم هذه الثورات قد فشل في تحقيق أهدافه المباشرة، ولكنه نجح في إشاعة الأفكار الجديدة التي لم تكن تعرفها الثورات السابقة، فقد ظهر «لوي بلان» ودعا إلى المصانع الوطنية، بل إنه أسس بعضها فحاربته الحكومة حتى أقفلته، وظهر «برودون» وظهر «كارل ماركس» وأخرج «البيان الشيوعي» الذي يعد إلى الآن نشيد الأنشاد عند الشيوعيين، وكان معقولًا أنه ما دامت الثورة قد اتجهت إلى أقصى اليسار، فإن هدفها يجب أن يؤدي، بالمقاومة، إلى حكومات تتألف من أقصى اليمين، فما هو أن تشتت الثائرون في ١٨٤٨، حتى كان الإمبراطور نابليون الثالث يستعد للاستبداد المطل، ويثب إلى العرش، ويبقى عليه يعمم الفساد والفقر والجهل، إلى أن يأتي «بسمارك» بجيوشه إلى فرنسا، ويهدم نظامه، وتموت الإمبراطورية الفرنسية الموت الأبدي، وتعود فرنسا إلى الجمهورية.

كانت الثورات، قبل ١٨٤٨ تقول: «كفوا عن العسف، لا تستعبدوا الفلاحين، لا تمنعوا حرية الخطابة أو الكتابة، لا تحبسوا أحدًا بلا ذنب …»

كانت سلبية يراد منها مكافحة الإجرام السياسي عند الملوك والساسة، أما ثورات سنة ١٨٤٨ فكانت إيجابية يراد منها توفير الخير لأفراد الشعب.

كانت الثورات القديمة تقول: «لكل إنسان الحق في أن يحيا حرًّا، لا يجوز للحكومة اعتقاله، أو إكراهه على الإيمان بدين، أو منعه من الخطابة أو الكتابة.»

ولكن ثورة ١٨٤٨ كانت تقول: «لكل إنسان الحق في أن يجد عملًا يعيش منه، وأن الحكومات مسئولة عن المرضى والعاطلين والمسنين والتعليم المجاني.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤