الثورة الصينية

وصلت الصين في منتصف القرن الماضي إلى أعمق هوة في الرجعية.

والرجعية هنا تعني الاستمساك بالتقاليد ولو كان فيها الضرر بالإنسان والإزراء على كرامته!

فقد أحالت هذه المرجعية المرأة من الإنسانية إلى الأنثوية، فلم تعد المرأة إنسانًا له حق الحياة الحرة في البيت والشارع والمزرعة والمصنع! لا، فإنما قضت عليها التقاليد بأن تكون أنثى فقط؛ أي للسرير، وكي تؤكد هذه الأنثوية كانت أقدام النساء، في الطبقات الثرية والمتوسطة، توضع في أحذية من الحديد منذ الطفولة، فلا تكبر القدمان، ولا تستطيع الفتاة عندما تبلغ العشرين أن تمشي عليهما!

أليست هي أنثى للسرير؟ لماذا تمشي؟

أليست هي ثرية؟ لماذا تسعى؟

ومع أن الصينيين من أذكى الشعوب، فإن التقاليد جمدت عقولهم، وكان نظام الحكم الإمبراطوري، مثل جميع النظم الاستبدادية، يؤيد هذا التجميد، ويدعو إلى احترام التقاليد احترامًا يكاد يكون جنونيًّا، إذ هو نفسه؛ أي النظام الإمبراطوري، من التقاليد، ولذلك أصبح التغيير أو الابتداع أو الإصلاح شيئًا كريهًا، على الشعب أن يتجنبه، وعلى الحكومة أن تعاقب الداعي إليه.

ولذلك كانت اللغة من التقاليد، تكتب في ١٩١٠ بعد الميلاد، كما كانت تكتب في ١٩١٠ قبل الميلاد، وكان نظام التعليم لمن يسمون «علماء» يرجع إلى ألفي سنة، بحيث كان «العالم» لا يتخرج إلا عندما يتجاوز الأربعين … وكانت الثقافة: «قال فلان وعلق عليه فلان.» وكانت الفتاة تطيع أبويها، فإذا تزوجت أطاعت زوجها، وكان على الشعب أن يطيع الإمبراطور والعلماء، وأن يؤمن بالآلهة بلا مناقشة.

وكانت الفاقة تعم ٩٩٩ في الألف من السكان! فكانوا يجوعون ويبيعون بناتهم للبغاء أو التسري كي يعيشوا!

وكانوا يحتاجون لذلك إلى الأفيون كي يغشوا به الجوع!

وأقفلت الحكومة الصينية موانيها، لا يدخلها أحد من الأجانب، لئلا تنتقل نجاستهم إلى الصين المقدسة، ولكن المدافع طرقت أبوابهم وفتحتها، ودخل الأوروبيون عنوة، واصطدم القرن العشرون بالقرن العاشر وفاز عليه!

وشرع الصينيون يختلطون بالأوروبيين والأمريكيين الذين كانوا يستغلونهم، وقصد بعض شبابهم إلى لندن وباريس ونيويورك وبرلين، وتعلموا، ورأوا أضواءً جديدة من المعارف والاقتحامات والاختراعات، لم يكونوا ليعتقدوا أنه يمكن العقل البشري أن يستضيء بها!

وعادوا إلى بلادهم يدعون دعوة الغرب، فاتهموا بالكفر وسجنوا، ولكن دعوتهم فازت في النهاية، فطردوا الأسرة الإمبراطورية التي كانت تعد النقطة البؤرية في استبقاء التقاليد المجمدة لتطور الشعب، وألفوا حروفًا هجائية من حروفهم القديمة، تمكن الشعب أن يتعلمها ويقرأ بها في وقت قصير، وألغوا نظم التعليم التي كانت تخرج «العلماء» قبل ألف أو ألفي سنة، وحطموا معابدهم التي كانت تدعوهم إلى الاهتمام بالعالم الآخر بدلًا من أن يهتموا بالعالم الحاضر!

وكان «سون يات سون» زعيم هذه الحركة قد تعلم في أمريكا، ورأى دنيا العصر الحديث تمثل قوة الآلات والإنتاج الوفير، وكان قد حاول أن يتزعم الثورة عقب عودته، ولكن حركته فشلت، ففر إلى اليابان ثم إلى إنكلترا، ومن هناك استطاع أن يتصل بالشباب في أوروبا وأمريكا والصين وأن يهيئ الخمائر ويعقد المؤتمرات.

ونجحت الثورة في ١٩١١، وطردت الأسرة الإمبراطورية، وأصبحت الصين جمهورية، وصار «سون يات سون» أول رئيس لها، وكان «شيانغ كاي شيك» سكرتيره.

ولم يكن من المعقول أن تتغير الصين من أمة الأفيون والإقطاع الشرقية إلى أمة عصرية صناعية ديمقراطية في أيام أو شهور، فإن الإقطاعيين الذين كانوا يشترون الإماء ويستغلون الفلاحين، وكذلك الحكام الذين كانوا يعيشون بالرشوة، بل كذلك رجال الدين الذين كانوا يغشون الشعب بالآلهة، كل هؤلاء كانوا ينتظرون ويتربصون، وكلما لاحت لهم فرصة الانتفاض هبوا بالثورة هنا وهناك حتى تمزقت الصين.

ومات «سون يات سون» في سنة ١٩٢٥، ومع أنه كان يرى هذا التمزق فإنه كان واثقًا بأن الثورة لن تموت لأن الشعب آمن بها، ولم يكن لينزل عن مبادئها، وتولى شيانج كاي شيك رئاسة الجمهورية بعده.

•••

كانت قيادة سون يات سون للشعب الصيني — منذ ألغي النظام الإمبراطوري في ١٩١١ إلى وفاته في ١٩٢٥ — ديمقراطية تنزع إلى خطط الحريين الذين سادوا أوروبا فيما بين ١٨٨٠ و١٩٢٠، وكانت رؤياه لمستقبل الصين أنها أمة تعيش في المباراة الاقتصادية الحرة، وتستصنع بلادها، وتعمم حرية الرأي وتكافح الرجعيين في العائلة والدين، وتؤمن بحرية المرأة، ولكن هذه السنين نفسها، كانت أيضًا سني الاختمار السياسي، فإن آلافًا من شباب الصين الذين عاشوا في أوروبا وأمريكا لم يقنعوا بالديمقراطية المألوفة في هاتين القارتين، وانضموا إلى الأحزاب اليسارية البازغة ودرسوا المذهب الاشتراكي، وللمذهب الاشتراكي إغراء كبير بين شباب الأمم التي استعمرتها بريطانيا وفرنسا وهولندا؛ لأن الاستعمار قوة رجعية كبيرة لا تقل عن القوات الرجعية الوطنية مثل الإقطاع أو التجمد الثقافي أو الاستبداد الاجتماعي أو العائلي، بل إن الاستعمار يؤيد كل هذه الألوان الرجعية، إذ هي تحالفه في منع الشعب من الانتهاض نحو استقلال الشخصية، أو رقي المرأة، أو زيادة أجور العمال، أو الاعتراف لهم بأي حق، أو تعميم المصانع، أو زيادة التعليم.

الاستعمار الأجنبي والرجعية الوطنية توءمان يتحالفان على ضغط الشعب وإفقاره، والرجعية الدينية هي خير ما يدعو إلى الاستعمار، وعلماء الدين، بانفصالهم من الشعب واتجاههم الدراسي نحو الغيبيات دون الدنيويات، يوجهون الثقافة وجهة بعيدة منفصلة عن تطور الشعب، وهذا هو الوسط الذي يستطيع الاستعمار أن يزكو فيه ويستفحل!

ولم تكن الصين مستعمرة، بالمعنى الرسمي، لإحدى الدول، ولكنها كانت لا تختلف من أية أمة خاضعة مستعمرة، من حيث تفشي الشركات الأجنبية التي كانت تستغل أبناءها بأتفه الأجور، وتجمع من ذلك أعظم الأرباح، كما كان الإقطاعيون الصينيون أنفسهم مستعمرين أيضًا لأبنائها، إذ كان أحدهم يملك الألف أو الألفين من الأفدنة، يستغل فيها الفلاحين الذين كانوا يعيشون فيها في فقر وجهل ومرض!

ولهذه الأسباب تفشت الأفكار اليسارية الاشتراكية بين شباب الصين، وكان «سون يات سون» يتسامح في هذه الأفكار، اعتقادًا بأنها تنبيه وإيقاظ للشباب، وتفتيت للتقاليد الصينية، وإعداد لمكافحة الرجعية …

ولكن لما تولى السلطة بعده «شيانج كاي شيك» وجد أن لهذه الأفكار اليسارية مدًّا يكاد يطغى على الصين جميعها فعمد لمكافحتها، وهو منذ سنة ١٩٢٦ إلى الآن في هذا الكفاح الذي انتهى به إلى ترك الصين والإقامة في جزيرة فورموزا، يستعد ويتربص للعودة، وأغلب الظن أنه ينتظر الحرب الكبرى الثالثة حين يجد من الصراع بين الكتلتين تأييدًا من الكتلة الديمقراطية ضد الكتلة الاشتراكية.

•••

والآن نقص على القارئ قصة هذه الثورة الثانية التي عممت في الصين النظام الاشتراكي: ذلك أن الثورة الأولى ثورة «سون يات سون»، قد عممت النظام الديمقراطي، أما الثورة الثانية، ثورة «ماوتسي تونج»، فقد عممت النظام الاشتراكي.

ومن الخطأ الفاحش أن نعزو ثورةً إلى رجل؛ لأن الثورات إنما تنشأ من المساوئ التي يحدثها مجتمع معين يرفض أن يتطور، وإذن تعد الثورة صدامًا بين قوات بازغة تنشد المستقبل وتعتمد على سخط الشعب، وبين قوات بالية محتقرة تعتمد على ماضيها وامتيازاتها.

والثورة الصينية هي كفاح للنظام الإقطاعي الداخلي، كما هي كفاح للاستعمار المستتر الذي كانت تمارسه الشركات الأجنبية.

ولد «ماوتسي تونج» في ١٨٩٣ في منزل ريفي، إذ كان أبوه يملك بضعة فدادين يزرعها أرزًا، ولم يكن له من الأهداف في الحياة سوى أن يزيد أرضه، وأن يزيد نقوده مما يجمع من ثمن الأرز. ونشأ «ماو» في تقاليد البيت الصيني حيث يستبد الأب بجميع أعضاء العائلة، ويعين لهم وجهات حياتهم، وهذا الاستبداد العائلي مشتق من الاستبداد الاجتماعي، حيث الإمبراطور يوصف بأنه «ابن السماء»، وحيث الطبقات العليا تسحق الطبقات السفلى.

واستغل الأب ابنه في زراعة الأرز ولما يبلغ الثامنة من عمره، وليس أشق من هذه الزراعة التي يخوض فيها العامل الماء الذي يغمر قدميه في الشتاء، ولكن الصبي «ماو» أصر على أن يلتحق بمدرسة قريبة، وهناك شرع يتعلم الحروف الصينية المتعددة التي لم تتطور منذ ألفي سنة، وكان «العالم» في الصين، في القرون السابقة، يقضي عمره كله في تعلم هذه الحروف، حتى إن المباريات بين التلاميذ لم تكن بشأن الفهم للموضوع بقدر ما كانت بشأن «السرعة» في القراءة …

ولما أحدث «سون يات سون» الانقلاب السياسي، بطرد «ابن السماء» وأنشأ الجمهورية، استهوت هذه الثورة عقول الشباب، فانضم «ماو» إلى هذه الحركة الجديدة والتحق بالجيش الوطني، وبقي سنوات وهو جندي يحارب الأمراء والإقطاعيين الذين لم يسيغوا هذا العصر الجديد الذي يقول بالإصلاحات الشعبية ويدعو إلى رفاهية الشعب.

ولكنه ترك الجيش والتحق بمدرسة المعلمين، وكأنه أراد أن يتزيد من الثقافة العامة، وهناك وهو لا يزال طالبًا، عرف الاشتراكية وجعل يمتص مبادئها ويناقش أولئك الاشتراكيين الجدد بين الشباب.

وفي ١٩١٨ نجده يعمل خادمًا أو كالخادم في مكتبة في بكين، لعل ما حببها إليه أنه وجد الفرصة هناك كي يقرأ ويستنير.

ولكن تردده في هذا الوقت يتضح في رغبته في السفر إلى فرنسا، وهو تردد يدل على أن نفسه كانت تتشوق إلى الآفاق وتنشد النور الذي لم يستقر عليه، وهو يسافر إلى فرنسا، فيجد هناك شابًّا صينيًّا قد اخترع أبجدية صينية جديدة يمكن العمال الصينيين في فرنسا أن يكتبوا بها خطاباتهم إلى أقاربهم، ثم هو يدرس في فرنسا الحركات السياسية والاجتماعية، فإذا عاد إلى الصين التحق بالحزب الشيوعي الناشئ.

وهو يتقلب ويتنقل في الكفاح الشيوعي، كما أنه ينفصل من الحزب الذي يرأسه «شيانج كاي شيك» لأن هذا شرع في مطاردة الشيوعيين.

وتزداد المطاردة إلى أن تبلغ ذروتها في ١٩٣١، وتسفر عن قتال بين الفريقين.

ومنذ هذه السنة نجد أن «ماوتسي تونج» يتزعم الحركة الشيوعية، ولكن جيشه ينهزم انهزامات متوالية لا ينجو منها إلا بالفرار، وأخيرًا في ١٩٣٤ أيقن الشيوعيون أنهم مهزومون، ففروا إلى أقاصي الصين بالقرب من التيبت، وقطعوا في هذا الزحف العظيم ستة آلاف ميل، ومات عشرات الألوف وهم في سبيله.

وبقوا هناك متربصين، ولكن هجوم اليابان على منشوريا أعاد الصلح بين «شيانج كاي شيك» وبين «ماتوسي تونج» إذ تحالف الاثنان على مقاتلة اليابانيين، وبقيت جيوش الصين، الديمقراطية والشيوعية، تحارب جنبًا إلى جنب قوات الاحتلال اليابانية الغازية في منشوريا.

وانتهت الحرب الكبرى الثانية بطرد اليابان من منشوريا وعودة هذه إلى الصين، وعندئذ، أو بالأحرى، رويدًا رويدًا، عاد الخلاف بين «شيانج كاي شيك» وبين «ماوتسي تونج»، ولم يكن ينتظر غير ذلك؛ لأن كلًّا منهما كان يمثل أفكارًا وخططًا وعواطف غير ما يمثله الآخر، فكان الصدام.

وانتهى الصدام بانتصار الشيوعيين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤