الخمر والدخان

ليس شيء يبعث على الاشمئزاز من منظر المسن الذي يدمن الشراب، يقضي ساعات الليل إلى الكأس، ويجمع بين هذيان الشيخوخة وهذيان الشراب. وذلك لأننا ننتظر الحكمة من الشيوخ، فنصد مشمئزين من نقيضها في السكير. ولكنا نعيش في مجتمع يجيز الخمر والتدخين، وكثير منا يألفونهما في العقد الثالث من العمر. وبعضنا يكثر منهما، أو من أحدهما، وبعضنا يقل. وقليل منا جدًّا من يزهد فيهما معًا.

ولكل منهما تأثير نفسي وتأثير آخر جسمي. ومن الشاق أن ننظر إلى هاتين العادتين نظرًا موضوعيًّا، لأننا حين نكره التدخين مثلًا لا نكاد نتخيل أية فائدة له، وكذلك الحال حين نكره الخمر. والحماسة والتعصب يمنعان البحث العلمي لمسألتي الخمر والدخان.

والقارئ لهذه الكتاب يعرف أننا نلتفت إلى الناحية النفسية في الشيخوخة أكثر مما نلتفت إلى النواحي الأخرى. ولذلك نرانا مضطرين إلى القول إن الذي اعتاد الشراب والتدخين مدة شبابه إلى الخمسين مثلًا يجب عليه ألا يمتنع عنهما بعد ذلك. وهو بالطبع يحسن إذا أقل منهما، بل هو ما يجب عليه. أما الامتناع التام فليس ضروريًّا، إلا إذا كان يجد الحافز للامتناع نفسيًّا ينقاد إليه من أعماق كيانه، وليس خارجيًّا يؤمر به فيطيع. ذلك لأن المسن يحتاج إلى استبقاء عواطف الشباب وعاداته، حتى لا يشعر أنه قد أزيح فجأة عن مسرح الحياة ومن النشاط الاجتماعي. وإذا كان قد اعتاد حال اليوفوريا، أي الانبساط والانشراح من السجارة أو الكأس، فعليه أن يستديمها في اعتدال طيلة شيخوخته؛ لأنه محتاج إلى الشعور بهذه الحال من وقت لآخر لكي يسري بها عن أنواع الكظم النفسي الكثيرة.

أما من الناحية الصحية، أي صحة الجسم، فإن خير ما كتب في هذا الموضوع هو كتاب للدكتور رايموند بيرل عن الخمر، وقد أثبت فيه أن الاعتدال في تناول الخمور يزيد العمر ولا ينقصه، وبكلمة أخرى يزيد الصحة الجسمية. بل إن المدمنين أنفسهم لا تنقص أعمارهم عن الممتنعين. وعلى القارئ أن يتذكر معارفه وأصدقاء ممن كانوا أو لا يزالون يشربون الخمر لكي يقف بنفسه على الحقائق. فإن مؤلف هذا الكتاب يجد أن المسنين الذين عرفهم، والذين بلغوا التسعين أو تجاوزوها، كانوا يشربون الخمر. وقد كان لويس كارونارو الذي مات سنة ١٥٦٦ بعد أن تجاوز المائة يشرب الخمر.

وظني أن الذين يموتون بإدمان الطعام في مصر، بين الأربعين والستين يزيدون مئة أو ألف ضعف على الذين يموتون بالإدمان على الخمر. ومرض البول السكري الذي يحطم الحيوية ويعجل الموت يعزى في الأكثر إلى النهم إلى الطعام. وإني أشعر أسيء إلى الكثيرين بهذا الكلام، لأنهم ينظرون إلى الخمر نظرًا عقيديًّا ذاتيًّا، وبدهي أنهم إذا كانوا يرتاحون إلى هذا النظر فمن حقهم بل واجبهم أن يلتزموا الامتناع عن الخمر. ولكنا نتحدث عن أولئك الذين اعتادوا الخمر في شبابهم، والذين يرج شخصيتهم الامتناع التام، ويوهمهم أنهم بلغوا درجة من العجز يجب أن يتقهقروا بسببها من مسرح الحياة وأن صحة الجسم عندهم تقتضي ذلك، فلهؤلاء نقول إن الاعتدال في تناول الخمور يزيد العمر والصحة ولا ينقصهما.

أما عن التدخين فإن إحصاءات شركات التأمين في أمريكا تثبت أنه في كل حالة مضر، سواء مورس بالاعتدال أم بالإدمان. وإليك بعض النتائج التي وصل إليها الباحثون ننقلها عن إحدى المجلات:

تدل الأبحاث الطبية على أن أمراض القلب بين المدخنين بالنسبة لغيرهم كثيرة الانتشار. فبجهاز القلب الكهربائي، كوسيلة لاكتشاف أمراض القلب وهي في المرحلة الابتدائية، قامت إحدى المؤسسات الطبية بالفحص عن ثمانمائة شخص من المدخنين وآخرين مثلهم من الذين لا يدخنون. فدلت الخطوط البيانية التي رسمها الجهاز أن الذين لا تنبض قلوبهم بانتظام وبدون اضطراب بين المدخنين يعادل عددهم بين الذين لا يدخنون مرة ونصف مرة، على الرغم من أن الذين فحص عنهم لم يكونوا يشكون أعراض أي مرض قلبي، ولم تكن الاضطرابات قد تقدمت بعد حتى تسبب ألما.

وقد أجمع الأطباء اليوم على ضرورة الامتناع عن التدخين في حالة الشكوى من أعراض الأمراض القلبية. المريض العاقل يجب أن يقلع عن هذه العادة قبل أن يتفاقم مرضه. ويحدث التدخين أيضًا زيادة في إفزاز الحوامض في المعدة. لذلك ينبغي أن يحجم المصابون بالقرح المعدية عن التدخين. كذلك الذين يعانون التهابات الأنف أو الأذن أو الحنجرة. وهناك نتيجة يلحظها الكثيرون ممن أرغموا على إبطالها، وهي استئناف روح النشاط والحيوية التي يعترفون بأنهم حرموا منها وهم يرزحون تحت نير التدخين. وفي دراسة لألفين من المدخنين وآخرين ممن لا يدخنون لوحظت الأمور التالية:
  • (١)

    كان المدخنون يشكون السعال ٣٠٠٪ أكثر من الذين لا يدخنون.

  • (٢)

    يشكو المدخنون من التهاب الأنف والحلق ١٦٧٪ أكثر من غيرهم.

  • (٣)
    المدخنون يشكون من ارتجاف القلب Palpitation ٥٠ ٪ أكثر من سواهم.
  • (٤)

    بين المدخنين من يشكو من اللهث ١٤٠٪ أكثر من الذين لا يدخنون.

  • (٥)
    المدخنون يشكون من حموضة طعام وحرقه فم المعدة heartburn ١٠٠٪ أكثر من غيرهم.
  • (٦)

    يشكو المدخنون من الغازات الزائدة ٦٢٪ أكثر من غيرهم.

  • (٧)

    المدخنون يبذون غيرهم من غير المدخنين في توتر الأعصاب بنسبة ٧٦٪.

ويبدو من هذا البحث أن التدخين سبب لكثير من الأمراض والاضطرابات. وفي بحث آخر شمل ١٣٩ شخصًا أقلعوا عن عادة التدخين لوحظ أن سبب تركهم للتدخين ما يأتي:

٢٥٪ لفقدان الرغبة في التدخين، ١٧٪ لقلقهم على الصحة، ١٢٪ لالتهاب الأنف والزور، ٨٠٪ للاضطرابات المعدية.

•••

وواضح أن هذه الأضرار كثيرة. وإذا استطاع المسن أن يمتنع عن التدخين فإنه يحسن كثيرًا إلى صحته، ولكنه إذا أحس كظمًا مرهقًا، أو اغتمامًا عظيمًا بسبب هذا الامتناع، فإنه يجب أن يدخن مع الاعتدال.

وخلاصة القول إن لهاتين العادتين — الخمر والدخان — أثرين: أحدهما نفسي، وهذا الأثر يجب أن يحمل المسن على الاستمرار فيهما مع الاعتدال. والآخر جسمي، وضرر التدخين هنا مسلم به في الجسم. أما ضرر الخمر فليس كذلك، لأن الاعتدال في تناولها يزيد العمر والصحة. بل إن الخمر بعد الخمسين تكاد تكون ضرورية، لأنها توسع الشرايين وتفكك التوترات. وشعوب أوربا وأمريكا أفضل منا صحة وأطول أعمار، وهي جميعها تشرب الخمور.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤