فورد

يبلغ فورد الآن الثمانين، وهو ضامر الجسم، يسير في نشاط واعتدال، ولا يقيل بعد الغداء. وقد مات ابنه ووحيده في العام الماضي، ففدحته النكبة، وأثقلته، ولكنه استفاق منها وعاد يدير مصانعه التي تخرج في اليوم الواحد أكثر من عشرة آلاف أتومبيل. وهذا غير الجرارات الزراعية والطائرات. وإذا كان الفضل في الأتومبيلات الرخيصة التي عمت الدنيا في الخمسين عامًا الماضية، والتي تعد بالملايين يعزى إلى فورد، فإن له فضلًا آخر هو أنه غير الزراعة ونقلها من العمل اليدوي أو البهيمي المرهق إلى أعمال آلية. بحيث صار الفلاح الأمريكي، وجميع الفلاحين في الأمم الغربية المتطورة، يمارسون الزراعة بأقل مجهود. وسوف يكون له فضل آخر في تعميم الطائرات الرخيصة.

وفورد مع هذه السن المتقدمة يغادر بيته في الثامنة صباحًا، ويبقي في مصانعه إلى الخامسة. وهو يتغدى بالقليل من الخضراوات والفواكه التي لا تثقل عليه، فيحتفظ بنشاطه ولا يحس ذلك الدوار الذي نحسه في مصر عقب الغداء الثقيل. وكلنا أو معظمنا يستطيع البقاء حيًّا (غير نائم) طوال النهار مثل فورد، إذا لم يثقل جوفه بغذاء دسم، وبشرط أن يجد العمل الذي يبعث فيه الاهتمام، وأن يكون قد احتفظ بجسمه ضامرًا لم يترهل ويستكرش.

وأعظم ما امتاز به فورد، مما جعل شيخوخته نشيطة، هو إيمانه بالنجاح، ثم ما بعثه هذا الإيمان في نفسه من التفاؤل العام الدائم. وكلاهما — الإيمان والتفاؤل — يحمله على حب العمل وممارسته اليومية. حتى إنه ليعزو الكسل الذي يصيبه صباح الاثنين إلى الراحة السابقة يوم الأحد، حتى يقول: «إننا نحتاج إلى بعض الوقت نرتاح فيه عقب قضاء يوم بلا عمل …»

وهذا كلام رجل في الثمانين من عمره لم ينم قط بعد الظهر.

وقد حدثه أحد الصحفيين عن عالم اليوم وعالم الأمس كما عرفه قبل خمسين أو ستين سنة، فقال: «إن العالم يسير متزنًا نحو الرقي. وأقول هذا على الرغم من الحرب القائمة (١٩٤٣). وكل ما يحدث في عالمنا إنما يسير نحو الخير. ومن الحقائق الأزلية في عالمنا أن التغير دائم لا ينقطع، وأن هذا التغير هو ارتقاء: وتحدث التغيرات بسرعة، بحيث لا يستطيع أحد، إلا إذا كان أبله، أن يتكهن بما سوف يكون. وكل ما أعرفه أن ما رأيته من تغيرات إنما هو الدرجات الأولى لما سوف يقع … انظر مثلًا إلى ما كنا نعمل قبل ستين سنة، كنا عندما نرغب في محادثة أحد قريب منا، نحتاج إلى السعي على أقدامنا أو امتطاء عربة تجرها بهيمة تسير على طريق سيئ. ولو أن أحدًا في ذلك الوقت تكهن بأننا سوف نتحدث على الأسلاك، وأننا سنركب عربات تولد قوتها بنفسها، وأن هذه العربات ستغنينا عن الخيول، لعد كلامه ضربًا من الأحلام.»

ونحن ننقل هذه الكلمات لا لموضوعها الخاص بالمخترعات، بل للمغزى الذي نستخرجه، وهو إيمان فورد بالمستقبل والرقي، وقيمة هذا في نشاط شيخوخته. لأن الشيخوخة بلا إيمان، وبلا شعور دائم بارتقاء الدنيا والإنسان، سرعان ما يعمها اليأس فتنهدم.

ولما بلغ الثمانين قال لأحد محدثيه: «سوف يكون العالم أفضل مما هو الآن للناس. وهو الآن خير مما كان حين كنت صبيًّا. وسيطرد في الارتقاء والتحسن، ولكن على الناس أن يتعلموا من اختباراتهم، وأن يعيشوا للمستقبل وليس للماضي.

«وأنا أقول لك صادقًا إن يوم ميلادي هذا (يوم ٣٠ يونيه من ١٩٤٣) لن أعده نهاية الثمانين، بل بداية الحادية والثمانين، ولا تزال أمامي أعمال كثيرة تنتظرني».

هذا هو الاتجاه الذي يجب أن يتجه إليه كل من جاوز الستين. أي يجب أن يتفاءل بالمستقبل، وبالدنيا، وألا يكف عن العمل. وعليه أن يجعل هذا التفاؤل مزاجًا نفسيًّا لا يحتاج إلى أن ينبه نفسه إليه كل يوم أو كل شهر حتى يبقى مبتهجًا نشيطًا.

ومن أعظم الميزات التي امتاز بها فورد، زيادة على ما ذكرنا، هو تعلقه بعمله وحبه له، حتى ليصح أن نقول إن عمله هذا هو هوايته التي اختارها منذ شبابه ولم يحد عنها. وهو لا يبغي منها المال، مع أنه جمع الملايين منها. ولكنه يبغي تحقيق أحلامه وأمانيه في تخفيف الأعمال الزراعية حتى لا تكون عناء مضنينا للمزارعين، وفي إيجاد عربة أتوماتية رخيصة. وأخيرًا في إيجاد طائرات رخيصة.

ولذلك يجب أن نقول إنه إذا لم يتيسر لأحدنا أن يكون عمله هوايته، فعليه أن يختار هواية يتعلق بها قلبه ونفسه ويشتغل بها ذهنه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤