مدرسة للمسنين

أقص على القراء هنا قصة الدكتورة ليليان مارتن وكيف عاونت المسنين في استعادة النشاط والاستمتاع بالدنيا. فإنها كانت أستاذة في جامعة ليلاند ستانفورد بالولايات المتحدة، وهي الآن فوق التسعين من العمر. ولكنها أبت أن تستقيل من الحياة فعاملت نفسها كما لو كانت شابة في العشرين، ودرست أحوال الشيخوخة في المسنين، ثم افتتحت مكتبًا أو مدرسة يقصد إليها المسنون ممن جاوزوا الخمسين. وهي تدرس حال كل منهم ثم ترشده إلى الطرق والآفاق الجديدة التي تبعث نشاطه.

ومدرستها، أو مكتبها، مؤلف من ثلاث غرف في مدينة سان فرنسيسكو. وهي تتقاضى أجرًا معتدلًا من القاصدين إليها. وإرشاداتها ناجعة على الدوام، لأنها تخرج من فهم امرأة قد أمضت على هذا الكوكب تسعين سنة، فهي تعرف من نفسها تلك الحالات التي تحتاج إلى العناية والعلاج، والتي يشكو منها المسنون. ونحن نذكرها هنا بعض الحالات التي يستطيع القارئ المسن أن يستضيء بها.

فقد حدث أن رجلًا في السبعين كان قد استحال في البيت إلى غول يشقى زوجته وأولاده بسخطه الدائم على سلوكهم. وكان عاطلًا يعيش بإيراده السنوي من أسهم في شركة تعمل في حفظ الأطعمة في العلب.

وكان واضحًا أن توتره النفسي الذي كان يبلغ أحيانًا حد التشنج إنما يعود إلى هذا العطل الإجباري الذي يكابده في البيت، وإلى شعوره الخفي بأنه عقيم غير نافع، فلما رأته ليليان مارتن وأدركت أن انفجاراته المتوالية في البيت تعود إلى خواء حياته اقترحت عليه أن تزور معه مباني ومؤسسات هذه الشركة التي تقاضى إيراده منها وهو راقد عاطل بالبيت. وكانت هذه المؤسسات تحتوي مزارع للبقول ومصانع للعلب ولم يكن قد زارها من قبل. فما هو أن سار بهما الأتومبيل في هذه المزارع حتى شغف برؤية الطماطم والفاصوليا وغيرهما من البقول، ثم زاد شغفه برؤية حفظ هذه الأطعمة في العلب بالمصنع. ولم يمض عليه بعد ذلك يوم إلا وكان يترك بيته ويزور هذه المزارع يسأل ويستفيد. بل إن اهتمامه قد حمله على أن يسافر إلى بناما لكي يبحث زاوية من الناحية التجارية لهذه الأطعمة. وزال الخواء من ذلك الوقت من حياته وصارت نفسه تجد الاهتمام، وذهنه ينشط إلى التفكير، وجسمه يتحرك ويتمرن بالانتقال والعمل، وأصبح رفيقًا حسنًا لأعضاء البيت بعد أن كان غولًا يصرف نشاطه المحبوس إلى أشقائهم وانتقادهم.

وليليان مارتن نفسها مثال للشيخوخة العاملة الناجعة، فإنها تعلمت سياقة السيارة وهي في السادسة والسبعين. وقد احتاجت إلى خمسين ساعة لتعلم السياقة، مع أن الشاب لا يحتاج إلى أكثر من عشر هذه المدة، ولكن هذا لم يثنها عن التعلم. وقد قطعت القارة الأمريكية بعد ذلك عرضًا بين المحيطين ست مرات على سيارتها. وفي السنوات العشر الماضية دارت حول هذا الكوكب مرتين كانت تدرس في خلالهما الشئون الاجتماعية والاقتصادية. فعلت ذلك وهي بين الثمانين والتسعين من عمرها. وفي السنة الماضية (١٩٤٤) قطعت عشرين ألف ميل في أمريكا الجنوبية، من سهل إلى جبل، ومن بيداء إلى غابة، وقبل أن تشرع في هذه السياحة تعلمت اللغة الإسبانية، أما الآن فهي إلى جنب مكتبها أو مدرستها تشترك مع أربعة من المسنين الذين جاوزوا الستين في زراعة مزرعة تبلغ خمسة وستين فدانًا.

وكان الأصل في تأسيس هذا المكتب لإرشاد المسنين أنها عندما أقيلت من الجامعة في الخامسة والستين وجدت نفسها عاطلة، أو بالأخرى معطلة. فعمدت إلى افتتاح مكتب لإرشاد الصبيان ومعالجة الشذوذ الأخلاقي بينهم. وحدث أن قرأت تقريرًا عن أحد الصبيان المساعدين لها، قال في نهايته: «يجب التخلص من جده.» وكان هذا الجد معطلا بالبيت يقضي شيخوخة في إتعاس هذا الصبي بنقده ونخسه. وقد أوشك الصبي أن يجن من هذه المعاملة. ولكن ليليان مارتن كتبت في آخر التقرير: «لا نتخلص من الجد ولكننا نستنقذه.»

ومن هنا تكون مكتب للمسنين. فإن المسنين في رأي الدكتورة مارتن كثيرًا ما يشكون بعد الستين من الخوف والقلق اللذين يشكو منهما الصبيان. وهم يتخذون موقفًا دفاعيًّا في هذه الحال يؤدي بهم — كما يؤدي بالأطفال — إلى كراهة التغير، وإلى العناد، والاهتمام بالذات. والنشاط هو العلاج لهذه الحال. لأن نشاط الجسم يحرك الذهن ويفتح آفاقًا جديدة للتفكير والإحساس، فتنشط العواطف كما ينشط الذهن. والدكتورة مارتن تحمل المسنين على أن يعملوا عملًا ما. وتحض ذويهم على أن يكلوا إليهم أحيانًا شراء حاجات البيت. بل هي أحيانًا تعلمهم عملًا جديدًا قد يكسبون منه كسبًا نقديًا أو لا يكسبون سوى النشاط. وهي تحمل الشيوخ على أن ينصبوا لأنفسهم أهدافًا يستقبلون بها الدنيا، بدلًا من أن يستدبروا حياتهم فيقضون الوقت في ذكريات الماضي العميقة. وهي ترشد المتقدمين في السن الذين يشكون النسيان إلى أن يقرءوا بعض الجريدة بصوت عال. لكي تبقي ألسنتهم مرنة وتبقي أذهانهم ذاكرة. بل تنصح لهم أحيانًا بكتابة خلاصات لما قرءوا، يعودون إلى مقابلتها بالأصل، لكي يقفوا على درجة قوتهم الذاكرة. وتنصح لهم بأن يسيروا في مشية سريعة نشيطة، وأن يعاينوا ما حولهم في يقظة دون الاستسلام للخواطر والأحلام. وأن يزوروا الأمكنة التي لم يزوروها من قبل في مدينتهم أو في مديرتهم. وهي تنصح أيضًا بالتمرن الرياضي الخفيف لكي تبقى المفاصل مرنة. كما تنصح بالعناية بالملابس للأثر الإيحائي منها. بل هي تطالب السيدة المسنة بالعناية يوجهها، وضرورة اتخاذ الملابس الزاهية بدلًا من الملابس القاتمة للأثر الإيحائي أيضًا. كما أنها تطالب المسن بألا يرسل لحيته، بل يحلقها. ويتخذ رباطًا زاهيًا لرقبته.

وظني أن القارئ المتأمل يستطيع أن يفطن إلى كثير من الخطط التي تتبعها الدكتورة مارتن مع المسنين. فإنها:
  • (١)

    تحملهم على العمل حتى لا يقضوا وقتهم بالبيت في النعاس أو في صرف نشاطهم المحبوس، وشعورهم بالعقم إلى إيذاء أعضاء البيت.

  • (٢)

    وتحملهم على الدراسة حتى تبقي الذاكرة حية متنبهة لشئون الدنيا.

  • (٣)

    وتحملهم على السعي لتحقيق أهداف في المستقبل، حتى لا يلتفتوا إلى الوراء ويعيشوا سائر أعمارهم بالذكريات.

  • (٤)

    وتحملهم على اتخاذ سلوك يؤدي إلى إيحاء الشباب، كالمشي السريع والملابس الحسنة والتأنق.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤