لجاج واختصام

سألني كاتبٌ عربيٌّ خلال حديثٍ طويل جرى بيننا، تشعَّبتْ معنا أطرافه حتى شمل جوانبَ كثيرةً من حياة الثقافة العربية في أيامنا هذه، وكان هو في أغلب الحديث سائلًا وكنت مجيبًا؛ لأنه من أجل هذا زارني، ولقد سعدت بحديثه، وشرفت بفضله، سألني في ختام حديثه قائلًا: ماذا تقول في أوجز عبارة ممكنة، إذا أردت أن تحدد للناس دورك الذي أردت أن تضطلع به في حياتنا الفكرية؟ فأجبتُه: إنه محاولةٌ لتوضيح الأفكار المحورية التي تدور حولها ألسنة المتكلمين وأقلام الكاتبين، تلك هي الإجابة الموجزة عن سؤالك. ولكني أريد أن أُضيفَ إليها هامشًا شارحًا، حتى لا يُساء فهْمُ ما أعنيه، وهو أني لم أقصد بذلك التوضيح للأفكار السياسية الشائعة، إلى القول بأني ملمٌّ بتلك الأفكار، وعلى علمٍ كامل بمضموناتها، فذلك ادعاء لا يدعيه لنفسه إلا جاهلٌ مغرور، وإنما الذي قصدت إليه هو أني أحاول لنفسي أولًا أن أحلل الفكرة الغامضة إلى عناصرها؛ لأفهم منها ما استطعت فهمه، حتى إذا ما خُيِّل إليَّ أن قد استطعت إلقاء بعض الضوء على تلك العناصر الداخلة في تكوين الفكرة، هممت بعرض ما وصلت إليه على الناس.

وليس هو من قبيل الاستطراد المخل، أن أستطرد بالحديث قليلًا، لأبيِّن طرفًا مما أدَّاه ويؤديه الفكر الفلسفي في كل عصوره، وعلى أيدي جميع أعلامه، وذلك هو قيامه بدورٍ شبيه جدًّا بعالم الطبيعة، حين ينظر خلال منظارٍ مكبرٍ إلى الظاهرة التي يريد دراستها، فهو عندئذٍ لا يبتغي أن يُضيفَ من عنده شيئًا إلى الظاهرة لم يكن فيها، فهو — مثلًا — إذا نظر بمنظاره إلى ماءٍ في كوبٍ، ورأى حشدًا هائلًا من الكائنات الحية الدقيقة سابحةً في الماء، ولا تراها عين الإنسان المجردة، فهو لم يُضف شيئًا من ذلك إلى الماء، بل رأى ما هنالك، فعرف — بفضل المنظار المكبر — ما لا يعرفه الإنسان العادي في حياته العملية، وشبيه بهذا ما يصنعه الفكر الفلسفي عند تمحصه لفكرة معينة، يستخدمها الناس قولًا وكتابة، وهم على اعتقادٍ بأنهم إنما يستخدمون فكرةً يعلمون عنها ما يراد بها أن تعنيه، وأما ما يقابل المنظار المكبر في هذه الحالة، فهو عمليات التحليل التي يُجريها الفيلسوف على الفكرة المراد توضيحها، وعندئذٍ قد يجد في مضمونها من العناصر ما لم يتنبه إليه أحدٌ، وأقلُّ ما يُقال في هذا الصدد، هو أن عملية التحليل تُبيِّن أن ما قد ظنه الناس «واضح» المعنى، هو في حقيقة أمره غامضٌ وفي حاجةٍ إلى إضاءةٍ وتحديد.

وقد تسأل: وهل تنزل علينا أفكارنا كما ينزل المطر، ويكون علينا أن نفحص ما قد نزل علينا من عالمٍ مجهول، لنعرف محتواه؟ ألسنا نحن الذين نضع أفكارنا ونختار لها الألفاظ التي تؤديها، وإذن تكون معانيها هي ما أردناه نحن لها؟ والإجابة هي: نعم، ذلك صحيح بالنسبة إلى «العلوم» التي تقدمت؛ كالكيمياء والفيزياء، ففيها يصنع علماؤها لغتَها بعيدًا عن لغة الحياة الجارية، أما ما عدا ذلك من مجالات القول، مما تستخدم فيه لغة مأخوذة من لغة الناس في حياتهم اليومية، فالأفكار المعروضة تكون مشوبة دائمًا بدرجة من الغموض، لماذا؟ لأن الألفاظ الواردة في لغة الناس الجارية، تشحن بكثيرٍ من مشاعر هؤلاء الناس عند استخدامهم للغة، ومن هنا تأتي اللفظة، أو العبارة، جامعةً بين وظيفتها في الإشارة إلى الأشياء التي تتحدث عنها، وبين ما قد شحنت به من مشاعر؛ كالفرح، والحزن، والتفاؤل، والتشاؤم، وهكذا. والذي يحدث بالفعل، هو أن جميع «الأفكار» التي تُدار حولها الحياة الفكرية، في السياسة والاقتصاد، والاجتماع، وعلم النفس، وفي القيم المختلفة التي تقوم بها المواقف والأشياء والأشخاص؛ كقولنا: شريفٌ، صادق، شرير، حرٌّ، عادل، جميل، وفيٌّ، غني، فقير، مثقف، إلخ إلخ، أقول إن جميع الأفكار التي تجيء كلمات كهذه لتدل عليها، هي على كثير جدًّا من الغموض، وموضع المأساة، هو أن هذه الكلمات الغامضة بطبعها، هي هي نفسها التي تُثير في أصحابها التعصب، والانحراف، والخصومة، والقتال.

فهي إذن تحتاج منَّا دائمًا إلى نوعٍ من التحليل، والتوضيح، والتحديد، ليكون المتجادلون بها على علمٍ فيما يتجادلون حوله، وأن الفكرة المعينة لتصبح «واضحة» كل الوضوح، في حالةٍ واحدة فقط، وهي أن نعرف ما هي «الإجراءات» العملية التي يصبح في وسعنا أن نجريَها بالفكرة عند معالجتنا للأشياء التي تضطرنا حياتُنا العملية إلى معالجتها. فمثلًا نحن جميعًا نريد لقول القائل أن يكون «صادقًا»، فكيف نعلم عن قول معين أنه «صادق»؟ هنا تجيء العملية التحليلية الموضحة للإجراءات التي نجريها على ذلك القول لنميز فيه بين الصدق والكذب، وليس ذلك بالأمر الهين السهل في كثيرٍ جدًّا من الحالات.

ويكفيني هذا استطرادًا في مجرى الحديث، أردت به تحديد ما قصدت إليه، حين أجبت عن سؤال الكاتب العربي الفاضل، الذي طلب مني أن أوجز القول في الدور الذي حاولت الاضطلاع به في حياتنا الفكرية، وكان جوابي هو أنني حاولت الإسهام في توضيح المعاني الأساسية التي تدور بها الألسنة والأقلام، دورانًا يفترض فيها الوضوح وما هي بواضحة، فيلزم عند ذلك أن ترانا «نلت ونعجن» أيامًا وأعوامًا، في أفكار لها أهميتها، ومع ذلك لا يتسرب من ذلك شعاعٌ إلى سلوك الناس في حياتهم العملية، ليتغير بما أردنا له أن يتغير به.

وإذ كنَّا نتحدث في هذا، أمدتني الذاكرة من تلقاء نفسها، ببيتَين من شعر العقاد، أوردهما في قصيدته المعروفة، التي أسماها «ترجمة شيطان» وهي قصيدة طويلة تمتد بضع صفحاتٍ، أراد بها أن يترجم لحياة الشيطان: فما الذي اقترفه من إثمٍ، وكيف أنه عُوقب على ما اقترف، بأن أُنزل من سمائه إلى أرض الناس هذه، فأراد أن ينتقم لنفسه بغواية البشر، وبينما هو ينتقل من محاولةٍ فاشلة إلى محاولة فاشلة، لمعتْ في رأسه فكرةٌ «شيطانية»، وهي أن ينصبَ للناس فخًّا لا نجاة لهم من شرِّه، وهو أن يُلقيَ فيهم فكرة اسمها «الحق»، ولما كان الشيطان على يقينٍ بأنهم لن يصلوا عن هذا «الحق» إلى نتيجة حاسمة يقبلونها جميعًا، فلا مفر لهم من خصوماتٍ حولها؛ إذ ما يرى أحدهم، أو جماعة منهم، أنه هو «الحق» سيراه آخر، أو جماعة أخرى أنه هو عين «الباطل»، فتشتعل الحروب إلى غير نهاية، وهو مطلوب الشيطان، وهاك نص البيتين:

ورمى أول فخ فأصابا
ودعاه «الحق» فاستلقى فنام
وأناب «الحق» عنه فاستجابا
وإذا الحق لجاج واختصام

هكذا جعل العقاد شيطانه يستلقي وينام مستريحًا مطمئنًا إلى أن الفخ الذي نصبه لبني آدم كفيلٌ وحده بأن يُثيرَ فيهم اللجاجات والخصومات، وما تؤدي إليه هذه الانقسامات من ضروب القتال، وبذلك تتحقق له الغواية التي أرادها لهم لتنحرف بهم نحو الشر، ولم يكن ذلك الفخُّ اللعين سوى وهمٍ — في ظن الشيطان ومَن جرى مجراه — يوهمهم بأن ثمة في هذه الدنيا شيئًا اسمه «الحق»، وإذا بهم لا يملكون سوى وجهات للنظر إزاء أحداث العالم، والأرجح أن تنبثق لكلٍّ منهم وجهة نظره من جوف منافعه كما يراها.

لكن شيطان العقاد هذا لم يُصب كلَّ الصواب، ولا هو أخطأ كل الخطأ، فهو مصيبٌ في ظنِّه إذا كان الأمر مقصورًا في حقيقته على ما هو واقع فعلًا في حياة الناس كما هي واقعة؛ إذ هم بالفعل متنازعون أبدًا متخاصمون أبدًا، وإن تعددت أسباب ذلك وتنوعت، بتعدد العصور والظروف وتنوع مشكلاتها. وتكفيك نظرةٌ واحدة سريعة إلى أمةٍ واحدة هي الأمة العربية، في عصرٍ واحد هو عصرنا، فبينما منطق التاريخ كان يوجب عليها التوحد إزاء ما يتهددها من خطرٍ جسيم، إذا بها تتخاصم وتتقاتل بعضها مع بعض، على نحوٍ قد يكون فريدًا بالقياس إلى كل ما قد شهده تاريخها، فإلى هنا في وسع الشيطان أن يقول صادقًا: انظروا! لقد نجح الفخ فيما أردت له أن ينجح فيه؛ إذ ترى كل جزء من الأجزاء المتنازعة يظن أنه هو الذي التزم «الحق»، وأما سائر الأجزاء المخالفة فهي على باطل!

لكن اقلبِ المنظار لترى الأمر من طرفه الآخر، ترى الشيطان قد أخطأ الرأي؛ وذلك لأنه إذا أقام رأيه ذاك على واقع حياة الناس في منازعاتهم، فاتته الحقيقة التي هي أن الناس لم يتنازعوا على ما أسمَّوه «بالحق»، إلا لأن فكرتهم عن «الحق» قد شابها ضبابٌ كثيف من «الغموض» حجب عنهم وضوحَ الرؤية، فتعثَّرت أفهامهم، كما تتعثر أقدام السائرين في جوف الضباب وهم لا يشعرون، فالعلة كلَّ العلة هي امتناع «الوضوح» عن أفكارنا، ولما كانت الأفكار في الرءوس هي التي توجه أصحابها في مسارهم، تحتم على حملة الأفكار الغامضة أن يتخبطوا على الطريق، تخبُّطًا بمعنى الكلمة الحقيقي وبمعناها المجازي في آنٍ واحد، فهم بالفعل يتصادمون بالأجسام فيخبط بعضهم بعضًا بنيران المدافع وقنابل المقاتلات، فوق ما يتقاذفون به من كلماتٍ مسمومةٍ تُكتب أو تذاع، ذلك هو التخبط بمعناه الحقيقي، وأما التخبط بمعناه المجازي، فهو ما يحدث نتيجة لأفكارٍ غامضة، يأخذها حاملها على أنها واضحة المعاني، فيضلُّ بضلالها وهو يتوهم أنه يسير على هدًى.

ولعل أخطر مصدر للغموض الذي يشوب الفكرة المعينة، فيُغمض بالتالي وسائلَ تطبيقها عند صاحبها، هو الخلط بين واحدية «الاسم» المعين وتعددية «مسمياته». خذ — مثلًا — هذا الاسم الواحد: «العربي» وانظر كم هي الشعوب التي تنضوي تحت هذا الاسم على مدى تاريخٍ طويل، ثم انظر في كل شعبٍ من هذه الشعوب، كم هم الأفراد الذين تألَّفت منهم حقيقة الشعب الواحد، إننا لو أردنا أن نتحدث بعضنا إلى بعضٍ عن «العربي»، والتزمنا أن نذكر قوائم بأفراد الناس الذين يندرجون تحت مسميات لهذا الاسم، لانقضَى الدهر قبل أن يخطوَ المتحدثان في حديثهما خطوة واحدة؛ لذلك قد تواضع الناس، منذ أن كان على وجه الأرض إنسانٌ يتحدث إلى إنسان، على أن يستخدموا لكل أسرة من أفرادٍ أو مفردات، كأسرة الإنسان وأسرة الطير، وأسرة الشجر، وأسرة الحجر، رمزًا واحدًا يدل عليها اختصارًا للزمن، وعند هذه النقطة ذاتها يبدأ انفتاح الزاوية بين «وضوح» و«غموض» في الأفكار التي يتبادلها المتحدثون، فأما مَن شاء له ربُّه وضوحَ الفكر، فلا يفوته هذا الفارق بين «واحدية» الاسم و«تعددية» مسمياته؛ فالمسميات الكثيرة التي تندرج تحت الاسم الواحد، يختلف كلٌّ منها بما يميزه عن بقية أفراد أسرته أو مفرداتها، لكنه كذلك يشترك في أسسٍ واحدة مع بقية أسرته، ولولا تلك المشاركة لما جاز أن يُطلق «اسم» واحد على مجموعة «مسمياته»، لا في يومٍ واحد ولا في قرنٍ واحد، بل إنه يُطلق على تلك المسميات، بكل ما مضى منها، وكل ما حضر، وكل ما سوف يكون، وفي هذا الضوء نعود إلى المثل الذي ضربناه، وهو اسمٌ «عربي»، فقد كان هذا الاسم ليخلوَ من دلالته إذا لم يكن هنالك الأسرة التي يُشير ذلك الاسم إلى أفرادها، وإذا لم يكن كذلك بين هؤلاء الأفراد ما يشتركون فيه، لكنه كذلك يكون مصدرًا للغموض الفكري، إذا ظن المتكلم به، أو السامع أنه ما دامت الأمة العربية عربيةً بجميع أقطارها، وجب أن يكون التطابق كاملًا بين شعبٍ عربي وشعب عربي آخر، أو بين عصر من التاريخ العربي وعصر آخر.

ونزيد الموضوع دقةً علمية فنقول: إننا إذ نقول إن فلانًا هو فلان، وكأن نقول: إن العقاد هو العقاد وهو بالطبع قولٌ صادق صدْقَ اليقين، لا بحكم التجربة، بل بحكم العقل الخالص في محض فطرته، سواء أكانت لصاحبه تجربة مع واقع حياة العقاد أم لم يكن، فإننا برغم هذا اليقين النظري نكون على شيءٍ كثيرٍ من غموض الفكر، إذا لم نتذكر أننا حين أطلقنا على شخص العقاد اسم «العقاد»، فإنما أطلقنا اسمًا واحدًا على سيرةٍ من حياةٍ امتدت خمسة وسبعين عامًا، في كل عامٍ منها كذا يوم، وفي كل يوم منها كذا ساعة، وفي كل ساعة كذا دقيقة، ومحال ألا تكون تلك السيرة «الواحدة» قد اجتازت ألوف الألوف من «حالات» مختلفة، وليس فقط هي مختلفة باختلاف مراحلها، من طفولة إلى شباب فكهولة، بل هي كذلك مختلفة اللحظات، بين صحةٍ ومرض، وصحو ونوم، وعمل وراحة، وانشراح صدر وضيق صدر، وهكذا وهكذا، كل ذلك نجعله مضمرًا في نفوسنا حين نتحدث عن العقاد، وإلا فلو ظن متحدثان أن موضوع حديثهما متجانسٌ تجانسَ ذرة الأوكسجين حين نعزلها وحدها في تجربة علمية، كان ذلك أول الطريق المؤدي حتمًا إلى نتائجَ مختلفٍ عليها، ومن ثَم تنشأ الخلافات والمنازعات.

إننا نعلم كذلك أن بين قوانين العقل بحكم فطرته، أنه إذا كان هناك نقيضان، فلا بد أن يكون أحدهما — دون الآخر — موجودًا؛ فمثلًا اللون «الأبيض» و«غير الأبيض» نقيضان، وإذن فلا بد لأي شيءٍ من الأشياء الملونة بلون ما، أن يكون في حالةٍ من حالتين لا ثالث لهما، فهو إما «أبيض» وإما «غير أبيض»، إلى هنا والكلام واضحٌ، لكن يبدأ الغموض مع صاحب الفكر الغامض، إذا لم يتذكر أن اللون الأبيض ليس دائمًا على «بياض» واحد؛ إذ البياض — كأي لونٍ آخر — كثير الدرجات، ولقد شهد كاتب هذه السطور صورةً فنية من روائع الفن الحديث، في متحف من متاحف هذا الفن، اسمها «اللون الأبيض»، وليس فيها إلا ضغومة متسقة من عشرات الدرجات، وأصل اللون الأبيض (وقد نسيت اسم الفنان)، إذن فلو اكتفينا بقولنا «أبيض» فلا بد أن يكون المتحدث وسامعه معًا، على بيِّنةٍ بأن اتفاقهما على المعنى، هو اتفاقٌ تقريبي، أما إذا نشأ موقفٌ يقتضي دقةً علمية، فيجب الإشارة إلى درجة البياض، ومن هنا نجد علم الضوء، لا يتحدث عن الألوان بأسمائها المعروفة في اللغة، بل يتحدث بأطوال الموجات الضوئية في كل حالةٍ من الحالات، وأما الشق الثاني في قولنا إن الشيء الملون «إما أبيض وإما غير أبيض»، فكثيرًا ما ننسى أن «غير الأبيض» يشتمل على ألوانٍ كثيرة؛ الأحمر والبرتقالي، والأصفر، والأخضر، والأزرق، ومرة أخرى نقول إننا في غير المواقف التي تتطلَّب الدقة العلمية، نتفاهم على المعاني «بالتقريب»، فلا يحدث بيننا اختلاف ولا خلاف، لكننا إذا نسينا تعدُّد التفصيلات في الكائنات الدنيا، ثم إذا نشأ لنا — مع هذا النسيان — موقفٌ يستوجب الدقة، فها هنا يظهر للناس كم هم مختلفون.

لقد قدَّمنا مثلين، هما أوضح ما يكون الوضوح فيما يتبادله المتحدثون من أقوال، ومع ذلك فقد أشرنا إلى بعض مواضع القصور في تحديد ما يريد القائل أن يقوله بأيٍّ منهما، فماذا في حياة الناس الجارية أوضح من أن يقول القائل: إن العقاد هو العقاد، أو أن يقول إن الشيء الملون إما أن يكون أبيض وإما أن يكون غير أبيض؟ لكن هذا الوضوح الشديد فيما يرى الإنسان في حياته اليومية العادية، يراه الفكر العلمي — إذا ما كان الموقف يقتضي من المسئول دقةً علمية — في حاجة إلى مزيد من التحديد، فالعقاد كأيِّ فردٍ من الناس بل كأيِّ كائنٍ من كائنات الدنيا، ليس عنصرًا ثابتًا على صورةٍ واحدة تدوم، بل هو في حقيقته خطٌّ من الأحداث، يجعله «سيرة» أي أنه يجعله «تاريخًا» وليس عنصرًا ثابت الصفات، وإذن فحين يتطلب الموقف دقةً علمية، بحثنا في تلك «السيرة» ماذا كانت طبيعة اللحظة المعينة من سيرته، التي تُثير اهتمامنا به، فافرض — مثلًا — أن جريمة قتل ارتُكبت، فعندئذٍ يهمُّ رجال القضاء أن يعرفوا حالتَي المتهم العقلية والنفسية في لحظة اقتراف الجريمة، ولا يكفي عندئذٍ أن يقال إن المتهم هو فلان، وكذلك قُل في المثل الثاني الذي ضربناه عن الشيء الملون، بأنه يكون إما أبيض وإما ليس أبيض، فها هنا كذلك لا يتطلب إنسان في حياته العادية وضوحًا أشد من هذا الوضوح، لكنه — مع ذلك — درجة الوضوح لا تُقنع مَن أراد دقةً علمية إذا ما تطلَّب الموقف مثل هذه الدقة؛ فاللون «الأبيض» كثير أطياف، فأي طيف منها هو المقصود؟ وقولنا «ليس أبيض» قول يحمل في جرابه ألوانًا أخرى كثيرة.

فإذا كان هذا هو الأمر بالنسبة إلى أمثال هذين القولَين الواضحَين اللذَين قد يقال عنهما إنهما لشدة وضوحهما قد جاءَا صورتين بغير مضمون، أقول: إذا كان هذا هو الأمر بالنسبة إلى هذين القولين، فماذا نقول عن الكثرة الغالبة مما يقوله القائلون أو يكتبه الكاتبون، حين نجدهم يسوقون كلماتٍ هي أبعد ما تكون الكلمات عن وضوح المعنى، ومع ذلك نراهم يسوقونها على زعمٍ منهم بأنها أوضح من أن تحتاج إلى تحديد وتوضيح، وماذا — في رأيهم — يحتاج إلى توضيح في معنى «العدل» أو «المساواة» أو «العلم» أو «الفن» وغيرها وغيرها مما له أهمية كبرى في حياة الناس مما كان يقتضي أن تصبَّ أضواء شديدة على تلك المفاهيم الخطيرة، حتى يعرف المعنيُّون بها عن أيِّ شيءٍ بالضبط يتكلمون أو يكتبون، ومع ذلك نرى أغلب الناس، حتى المثقفين منهم، أقرب إلى أن يسخروا ممن يطالب بضرورة تحديد تلك الأفكار، منهم إلى أن يطالبوا به لخطورته وضرورته.

ومن هنا يجيء موقفُ الشيطان — الذي ترجم العقاد لحياته — حين أراد غواية بني آدم، فلم يجد لذلك حيلة أقوى من أن يُوكل الأمر إلى شيءٍ اسمه «الحق»؛ لأنه من الغموض في معناه، بحيث يكفل أن تقوم بين الناس حوله لجاجات وخصومات لا تنتهي، لكن الذي خلع على فكرة «الحق» هذه الصفة السلبية، هو أن الناس قد استخدموها على «غموضها» بحسبان منهم أنها «واضحة» لا تحتاج إلى مزيد من وضوح، فكان ما كان من أمرها، مما أغرى الشيطان — أو مَن يشبهونه من أفراد الناس — أن يجعل «الحق» فخًّا يُنصب للتضليل، فالذي ينقصنا هو توضيح فكرة «الحق»، وعندئذٍ يصبح محالًا على عاقلٍ أن يضلَّ بسببه.

فما هو «الحق» على سبيل التحديد الواضح؟ إننا سنترك الآن مؤقتًا كون هذه الكلمة اسمًا من أسماء الله الحسنى؛ لأنها بهذا الاعتبار تحتاج إلى النظر إليها من زاويةٍ أخرى غير الزاوية التي نتحدث عنها عن البشر في حياتهم على هذه الأرض، على أن هذه التفرقة بين الاستعمالين، ليست مقصورة على اسم «الحق»، بل تجاوزها لتشمل سائر هذه الأسماء بما تحمله من صفات، فحديثنا عن «علم» الله سبحانه وتعالى، غير حديثنا عن «علم» الإنسان، وكذلك قُل في «الإرادة» و«العدل» و«التصوير» و«الإبداع» وهلمَّ جرًّا؛ ففي حياة البشر يتحدد معنى «الحق» في كل حالةٍ من حالاته، بمطابقة بين طرفين، أحدهما يؤخذ على أنه المعيار، والآخر يكون هو الحالة المعينة، التي يتمُّ فيها انطباق المعيار؛ ففي الرياضة — مثلًا — يكون من «الحق» أن نقول «العشرة أكثر من الثلاثة» (وهو مثلٌ ضربه الإمام الغزالي)، والتطابق هنا هو بين هذه الجملة في طرفٍ، ومبدأٍ منطقيٍّ أوَّلي في طرفٍ آخر، يقول: إن الجزء أصغر من الكل الذي يحتوي عليه، وفي علوم الطبيعة يكون من «الحق» أن شعاع الضوء إذا انعكس على سطحٍ مستوٍ مصقولٍ كالمرآة، فإن زاوية السقوط تساوي زاوية الانعكاس، وعملية التطابق هنا تكون أحد طرفَيها في تجربةٍ عمليةٍ يُجريها العالم الباحث من جهة، وصيغة هذا القانون الطبيعي من جهةٍ أخرى؛ حيث نجد أن في التجربة العملية مصداق القانون المذكور، وهكذا وهكذا في جميع الحالات التي يتبيَّن لنا فيها أن فكرة ما «صحيحة»، وتستحق أن توصف بأنها «حقٌّ».

على أن الإنسان، بحكم تكوينه العقلي، لا يدع متفرقات خبرته متناثرة، كل حالة مفردة منها تقوم وحدها، بل هو يستخلص من المتفرقات التي منها تتكون أسرة متجانسة، الجانب المشترك بينها، ليجعله في ذهنه تصورًا واحدًا، ويُطلق عليه اسمًا، فيضم ذلك التصور العقلي الواحد تحت عباءته جميعَ أفراد الأسرة المتجانسة، ويصبح ذلك الاسم الواحد رمزًا يشير إلى كل حالةٍ من الحالات ذات الطابع الواحد، وعلى هذا الأساس فإنه مع تعدُّد الحالات الواقعية، التي تتوافر فيها صفة «الحق» فإن العقل يستخلص منها تصورًا واحدًا عامًّا وشاملًا، ويطلق عليه اسمًا هو كلمة «الحق» في تجريدها وشمولها.

ومع ذلك فلا بد لنا، كلما أردنا أن نتحقق من مشروعية اسم من تلك الأسماء الكلية المجردة، من أن نردَّه إلى حالة واحدة معينة، على الأقل، من مجموعة الحالات التي كونت أسرة، والتي أنشأنا لها ما أنشأناه من «تصورٍ» عقليٍّ، ثم أطلقنا عليه اسمه الدال عليه، فإذا قيل لنا: هل فكرة «الحق» على إطلاقها، ذات معنًى واضح؟ أجبنا قائلين: تعالوا نبحث عن مفرد من مفردات أسرتها في الحياة الواقعة في خبرات الناس؛ فإذا وجدنا ذلك المفرد — ودع عنك أن نجد عدة مفردات — فقلنا: نعم إنها فكرةٌ واضحة المعنى، ووضوحها راجعٌ إلى قيام الحالات الواقعية التي منها استخلصت تلك الفكرة، ولعل هذا الموضع من الحديث، هو الموضع الذي نذكر فيه بإيجاز، شيئًا عن صفة «الحق» حين تكون اسمًا من الأسماء الحسنى، فلئن كانت هذه الصفة صالحة لوصف مواقف في حياة الناس، منظورًا إليها من زاوية القدرات الإدراكية عند البشر، فهي في هذه المواقف جميعًا صفةٌ «نسبية»، أما «الحق» الذي هو اسم من أسماء الله سبحانه وتعالى، فهو العلم بحقائق الكون علمًا مطلقًا لا يتعرض لبطلان؛ لأنه ليس لعلم الله تعالى مزيدٌ يضاف إليه، فهو علمٌ كان منذ الأزل، وسيبقى إلى الأبد علمًا كاملًا: يكون به «الحق» حقًّا كاملًا.

لقد عدل الشيطان — كما صوره العقاد في قصيدته «ترجمة شيطان» — على فخِّ «الحق» في غوايته وتضليله لبني آدم، افتراضًا منه بأن «الحق» فضفاض المعنى، يختلف حوله الناس باختلاف منافعهم وأهوائهم؛ فلو أن هؤلاء الناس قد تعلَّموا كيف يحددون معنى «الحق»، استنادًا إلى حالاته التطبيقية في واقع حياتهم، منتهين من تلك الحالات الجزئية إلى تصور «الحق» في عموميته وتجريده، لا بادئين بهذا التصور العام المجرد، لخاب رجاء الشيطان في غوايتهم؛ لأنه كلما اختلف اثنان على «حق» جزئي في موقف معين معلوم، لجأ الخصمان إلى الموقف بطرفَيه اللذَين ذكرناهما: الطرف المقيس من جهة وطرف المعيار الذي يُقاس به من جهةٍ أخرى، فلا يلبث ضباب الغموض أن ينقشع، ولا يسَع المخاصمين إلا أن يتفقَا، ويقف الشيطان في هزيمته رجيمًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤