لولا اخترقنا هذا الجدار

فحَص الطبيبُ مريضه، ممعنًا على مهلٍ ومدققًا، ثم تمتم لنفسه وقد ابتعد بضع خطواتٍ عن مرقد المريض قائلًا: العلة عسيرةٌ، وقد تستعصي على الشفاء، إلا إذا نهض المريض بعزيمةٍ من إرادته، فربما اخترق جدارَ علَّتِه إلى حيث الهواء المشمس النقي الطلق المكشوف، فما إن سمعتُه من موقفي في ركن الغرفة، تخالط همومي عن مريضنا همومٌ أخرى، لا تبرحني لحظةً إلا لكي تعود لتقيم لحظات، وأعني بها تلك الهموم التي ما تنفك حائرةً تلتمس طريقها نحو جوابٍ مقنع مقبول عن سؤالٍ تفرضه حياتُنا الثقافية علينا فرضًا، وهو: لماذا نبذل كلَّ هذا الذي نبذله من جهود، نحو تثقيف الشعب بالثقافة الصحيحة، ونحو تنويره لعله يرى النور، دون أن نحقق مما أردناه له إلا قليلًا بل وأقل من القليل! ولقد كانت تراودني علةٌ في جسم الثقافة العربية، تحس حيالها أنها قد أزمنت حتى استعصت على الزوال، فأتركها إلى حين. فلما سمعتُ تمتمة الطبيب عن حالة مريضنا، بأنها علة قد ضربت بجذورها إلى مجرى الدم، ولن تزول عن العليل بها إلا إذا نهض ذلك العليلُ بعزمةٍ قوية من إرادته، همست لنفسي: وكذلك الأمر بالنسبة إلى ذلك الموضع من مواضع الضعف في ثقافتنا العربية، الذي حدثتك عنه منذ حين، وكنت أعني به ذلك الغبار اللفظي الكثيف، الذي نلتفُّ به فيحتوينا في جوفه احتواء يسدُّ علينا مصادر الضوء، لكننا ونحن في غمرته، لا يطوف بخواطرنا قط أن وراء ذلك الخماسين الفكري نورًا يصلح أن يُستضاء به، بل يغلب علينا وهمٌ بأن عتامة الغبار اللفظي الذي احتوانا، هي هي نفسها عين الشمس لمن شاء أن يستضيء!

والتشخيص الصحيح لهذه الحالة المرضية، هو — ببساطة — أن اللغة «وأعني كلَّ لغة من لغات الناس» بقدر ما هي لأصحابها دالةٌ وهادية إلى الصواب، تكون كذلك مضللةً وموجهة إلى الخطأ، دون أن يشعر المخطئ بأنه أخطأ بل قد يصعب عليه أن يتصور كيف وقع له الخطأ، وإذا استخدمنا تشبيهًا يوضح لنا الفرق بين الحالتين، قلنا: إن اللغة في الحالة الأولى، التي تكون فيها دالة وهادية، يقرؤها القارئ، أو يسمعها السامع، وكأنه ينظر خلال لوحٍ زجاجيٍّ شفاف، إلى ما هو واقع وحادث في دنيا الأشياء، مما جاءت العبارات المقروءة أو المسموعة لتتحدث عنه، فاقرأ — مثلًا — هذه الجملة الآتية: كانت نافذة مكتبي مفتوحة، عندما هبَّت الريح القوية، فبعثرت الأوراق على أرض الغرفة. ألم تشعر أثناء قراءتك أن صورةً ترتسم في ذهنك جزءًا جزءًا حتى اكتملت؟ إنها صورةٌ تستطيع وأنت على يقين بأن تعلم عما حدث في غرفة مكتبي. إذا اقتنعت بأني صادقٌ فيما قلته، وحتى إذا شككت في صدقي، فالصورة قد أمدَّتْك بمادة تحتمل الحدوث، وإذا كنت وكيلًا للنائب العام، وجئت لتحقق في الحادثة، لعرفت — مهتديًا — بتلك الصورة: عن أي الوقائع تُوجه الأسئلة، لمن تحاسبه. لكن اقرأ هذه العبارة السابقة، وهذه العبارة الأخرى هي: إن روحانية الشرق هي سبيله إلى الخلاص من أدران المدنية «الغربية وشرورها»، ألست ترى أنه إذا كانت العبارة الأولى قد شابهت لوح الزجاج الشفاف، الذي نفذت ببصرك خلاله فرأيت ما وراءه، فإن هذه العبارة الثانية هي أشبه بلوحٍ من زجاج معتم، يردُّ بصرك إليك، لتجد نفسك حبيس كلماتها، تُردِّدها وتُردِّدها دون أن ترى خلالها شيئًا من حقائق الواقع الفعلي، وإذا لم توافقني في ذلك، ظانًّا أن العبارة الثانية هي كالعبارة الأولى، تُرشد قارئها أو سامعها إلى حقائق عن الإنسان وحياته، بل ربما بدتِ العبارة الثانية هذه وكأنها «أعمق» أبعادًا، و«أغزر» معنًى، فراجع نفسك متسائلًا في نزاهة العلماء: عن أي الشواهد أبحث لكي أتحقق من صدْق هذه العبارة أو عدم صدقها؟ فأولًا: هي عبارة تُحدثني عن «روحانية الشرق» وما تنفع به بلدان الشرق، فأين حدود هذا «الشرق» يا ترى؟ وهل تُطلق كلمة «الشرق» هذه بمعناها الجغرافي، أم يُطلقونها على تقسيمات حضارية وثقافية؟ أما إن كانت الأولى فهي — إذن — اسمٌ على غير مسمًّى معلوم؛ لأن المعنى الجغرافي لكلمة «شرق»، يجب أن يؤسس على خطوط الطول في الكرة الأرضية. ولما كانت بعض الأقطار التي يُدرجونها في «الشرق» تقع مع أقطار «الغرب» في خطوط الطول، ويكفيك أن تنظر إلى البحر الأبيض المتوسط، لترى أن شواطئه الشمالية التي هي من أوروبا، وأن شواطئه الجنوبية التي هي من أفريقيا، متساوية من حيث المعنى الجغرافي «للشرق» أو «الغرب»، فهما إما أن تكونَا شرقًا معًا، وإما أن تكونَا غربًا معًا، لكن العرف قد جرى واستقر على أن تكون الشواطئ الشمالية محسوبة على الغرب، وأن تكون الشواطئ الجنوبية محسوبة على «الشرق»، فلا يبقى — إذن — إلا أن يكون المقصود بالشرق في العبارة الثانية، هو إشارة إلى حضارات وثقافات، تختلف عن حضارات أوروبا (ومعها أمريكا) وثقافاتها، فهل ترى شيئًا من وضوح المعنى، إذا ضممتَ الوطن العربي إلى الوسط الأفريقي إلى الصين واليابان والهند وغيرها من أقطار الشرق الأقصى؟

وإنك لتغوص في غياهب الغامض والمجهول، حين تضيف إلى ذلك «الشرق» الذي لم نعرف كيف نُحدِّده لنفهمه كلمة «الروحانية»، فما هي الصفات التي إذا اجتمعت في إنسانٍ، قيل عنه إنه «روحاني» بتلك الصفات؟ وحتى إذا وقعت على شيء من تلك الصفات، فهل تعقل أن تكون قد توافرت لأفراد شعوب امتدَّت من اليابان شرقًا إلى الساحل الغربي من أفريقيا، وهي شعوبٌ قد يبلغ عدد سكانها ثلاثة أرباع أهل الأرض جميعًا؟

وقد نفرض جدلًا، أنك قد بلغتَ بفضل الله سعةً من العلم، ونفاذًا في البصيرة، بحيث يمكنك التصور الواضح لما تعنيه كلمتَا «روحانية الشرق»، فماذا أنت صانعٌ فيما أوردتْه العبارة التي هي مدار حديثنا الآن، عن أدران المدنية الغربية وشرورها؟ أفي مستطاعك حقًّا أن تكون على علمٍ وافٍ كافٍ شافٍ، بما تعنيه «المدنية الغربية»؟ وإنك لتعرف — بالطبع — أن في تلك «المدنية» علومًا كثيرة ومنوعة، وفنونًا منها التشكيلي في التصوير والنحت والعمارة، ومنها التعبيري في الموسيقى والمسرح، وآدابًا، ونظمًا، ومؤسسات خيرية تضطلع بسدِّ حاجة المحتاج، كما لا بد أنك تعرف أن في ذلك الغرب أُسْرات عرفت كيف تربي أبناءها وبناتها، وماذا عسى أن أذكره لك من مقومات «المدنية الغربية»، التي جاءت روحانية الشرق فخلَّصت الشرق من أدرانها وشرورها، لكنني سأفرض جدلًا أن علمك بكل هذا واسع وعميق، مما استطعت به أن تنسب إلى تلك المدنية أدرانًا وشرورًا، هي في رأيك، فوق المعروف المألوف عن شعوب الشرق من أدران وشرور، فهل تحققت يا صاحبي من «الشر» ماذا يكون معناه، لتكتسب الثقة في نفسك، وفي صحة أحكامك، إذا أنت رميت بالشر شعوبًا بأكملها تبلغ عدة ملايين في عدد سكانها، ثم هي هي الشعوب التي أحسبها قد أمدتك بكثير جدًّا مما حولك الآن وأنت تقرأ هذه الكلمات؟ وهكذا ترى أن العبارة الثانية التي قالت: «إن روحانية الشرق هي سبيله إلى الخلاص من أدران المدنية الغربية وشرورها»، لم تكن لها الشفافية المبصرة التي وجدناها في العبارة الأولى، التي قالت: «كانت نافذة مكتبي مفتوحةً عندما هبَّت الريح قويةً، فبعثرت أوراقي على أرض الغرفة». فهذه قد مكَّنتك من النفاذ خلال كلماتها إلى ما هو خارج حدودها، بينما تلك قد أوقفتك عند ألفاظها هي تمسي فيها، وتصبح فيها دون أن تنفذ خلاله كلماتها إلى «صورة» و«تصور»، وإنني لعلى اعتقاد لا أظنه بعيدًا عن الصواب، بأنك إذا أخذت ما استطعت أخذه من الناتج الفكري في الثقافة العربية الحديثة، وجدت الغالب عليها هو ذلك النموذج الذي مثَّلناه بالعبارة الخاصة بروحانية الشرق في مواجهة شرور المدنية الغربية، مما جعلني أتصوَّرنا كأننا ندور في لفظ غير واضح ولا مفهوم، يُشبه أن يكون جدارًا أُقيم بيننا وبين حقائق الواقع الخارجي، ولستُ أرى مخرجًا لنا من سجن كلماتنا إلا بعزيمة من إرادة قوية، تغير من بنائنا العقلي كله، لنُعيد إقامته على أساس جديد، يُتيح لنا ربطَ حياتنا الفكرية بوقائع دنيانا ودنيا الناس في هذا الزمان.

•••

وبمناسبة ما ذكرناه عن «الشر» الذي يسهل علينا أن نصف به حضارة عصر بأكمله — هو عصرنا — وغير ذلك من ألفاظ ضخمة نقذف بها قذفًا، حتى على أقلامنا المسئولة، وكأنها محدودة المعنى وواضحة الدلالة، في حين أنها أبعد ما تكون عن التحديد والوضوح، مما نتج عنه مناخ ثقافي مكثف الضباب مسدود النوافذ، هو الذي نعيش في ظلامه فنتخبط، نُثبت اليوم ما ننفيه غدًا، وننفي اليوم ما نُثبته غدًا، حتى في أهم المجالات وألصقها بضرورات الحياة اليومية لمعظم أفراد الشعب، كالتعليم والاقتصاد ولا أقول شيئًا عن عالم الفكر، والفن والأدب. أقول إنه بمناسبة هذا الذي ذكرناه في هذا الشأن، أريد أن أستأذن القارئ في وقفة قد تطول به بعض الشيء، أقدم فيها لمحةً عن مرحلةٍ فكرية مرَّت في حياة اليونان الأقدمين، عاشت فيها جماعة من أصحاب الفكر الفلسفي، هي جماعة السوفسطائيين، الذين اشتقت من اسمهم هذا كلمة «سفسطة»، التي شاعت على ألسنة المتحدثين، كلما أرادوا أن يصفوا كلامًا يغالط الناس ولا ينتهي بهم إلى نتيجة نافعة، ولقد عُرف عن تلك الجماعة براعتهم في الدفاع عن الفكرة المعينة وعن ضدها في آنٍ واحدٍ، ويُقال إن براعتهم تلك قد جاءتهم نتيجة تدريب على الخوض في ميدان الحياة السياسية، وفي ميدان القضاء كذلك على زعمٍ مضمرٍ بأن السياسي والقانوني إنما ينجحان بمقدار قدرتهما على الدفاع عن أية قضيةٍ فكرية يعرضان لها، مما أصاب الحياة الثقافية كلها في اليونان، بموجةٍ من الشك والتشكيك في إمكان أن يستند الإنسان على حقائقَ ثابتةٍ لا سبيل إلى إنكارها، حتى ظهر سقراط العظيم، فجعل رسالته الفكرية أن يتصدَّى لتلك الموجة، وأن يردَّ للمعرفة الإنسانية الصحيحة يقينَها؛ وذلك بأن يطالبَ ويُلحَّ في المطالبة بأن تحدد معاني الألفاظ الهامة، التي يوردها المسئولون في أحاديثهم، كلما أريد بتلك الأحاديث أن تؤخذ مأخذ الجد، وبغير هذه الدقة الصارمة، يشيع العبث ولا تستقيم للناس حياة.

والذي أريد أن أستأذن القارئ فيه، هو أنني سأنتهز سياق هذا الحديث؛ لأنشر وثيقةً مأخوذة بنصها، عن سوفسطاني مجهول الاسم، تدور حول لفظَي «الخير» و«الشر»، وهل يكون لأيٍّ منهما معنًى مطلق، أو أنهما نسبيان في معناهما، أي أن ما هو خيرٌ قد يكون شرًّا من بعض وجوهه، وما هو شرٌّ قد يكون في الوقت نفسه خيرًا من بعض وجوهه.

وكنت قد نقلت هذا النصَّ إلى العربية، ترجمةً عن الترجمة الإنجليزية له، التي قام بها أستاذ بريطاني، ونشرها في عدد أبريل سنة ١٩٦٨م من مجلة «مايند» الإنجليزية، ومعناها «عقل» وهو الأستاذ «راموند كنت اسبريج»، وأودُّ أن أُضيفَ هنا بأن مجلة مايند هي في أعلى مستوى من المجلات الفلسفية، التي منها وحدها يستطيع المتتبع أن يرى في أيِّ الاتجاهات الفكرية تتجه الدراسة والاهتمامات الفلسفية، مرحلة زمنية بعد مرحلةٍ. وهاك النص المذكور الذي نُشِر بالإنجليزية لأول مرة في ترجمة الأستاذ اسبريج، ويُنشر هنا الآن بالعربية لأول مرة كذلك.

عنوان الموضوع «عن الخير والشر».

  • (١)

    كان المتفلسفون في اليونان، هم الذين قاموا بالمحاجات ذات الوجهين الخاصة بالخير والشر، فكان بعضهم يقول إن الخير شيءٌ والشر شيءٌ آخر، على أن آخرين منهم يقولون إن الخير والشر شيءٌ واحد؛ إذ قد يكون شيء ما خيرًا لبعض، وشرًّا لبعضٍ آخر، أو قد يكون بالنسبة إلى شخصٍ معين واحد، خيرًا حينًا، وشرًّا حينًا آخر.

  • (٢)

    إني لممن يؤيدون أصحاب الرأي الثاني، وسأجعل تمحيصي لهذا الرأي منصبًّا على مثَلٍ أسوقه من الطعام والشراب ولذائذ الجنس، فهذه أشياء تكون شرًّا بالنسبة إلى مريض، ولكنها خيرٌ لمن كان صحيح البدن، وفي حاجة إليها.

  • (٣)

    أضف إلى ذلك أن الإفراط في هذه الأمور، شرٌّ بالنسبة إلى المفرط، لكنها خير لمن يجعلها تجارةً وموردًا لكسبه، وكذلك المرض شرٌّ للمريض، لكنه خيرٌ للأطباء.

    والموت شرٌّ لمن يدركهم، خير للحانوتي، وحفَّار القبور.

  • (٤)

    كذلك فلاحة الأرض التي تُنتج محصولًا طيبًا، فهي خيرٌ لمن يفلحون الأرض، شرٌّ على التجار، وكذلك السفن التجارية إذا أصابها عطبٌ، أو تحطمت، فذلك شرٌّ لأصحاب تلك السفن ومالكيها لكنه خيرٌ لبناة السفن.

  • (٥)

    أضف إلى ذلك الآلات إذا تآكلت أو انثلمت أو انكسرت، فهو خيرٌ للحداد، لكنه شرٌّ عند سائر الناس، وإذا تحطمت قِدْرٌ، فلا شك أن ذلك خيرٌ لصانع القدور لكنه شرٌّ لسائر الناس، وإذا بُليت الأحذية أو تمزقت، فإن ذلك خيرٌ للإسكاف، لكنه شرٌّ لسائر الناس.

  • (٦)

    خُذ مثلًا آخر، مختلف المباريات، رياضية أو موسيقية، أو حربية؛ ففي حلبة السباق — مثلًا — يكون السبق خيرًا للسابقين، لكنه شرٌّ لمن خسروا السباق.

  • (٧)

    يصدق الشيء نفسه على المصارعين والملاكمين، وكذلك الأمر في جميع المباريات الموسيقية؛ كالعزف على القيثارة — مثلًا — فهنا يكون الأمر خيرًا للكاسب، شرًّا للخاسر.

  • (٨)

    في الحرب بين أهل إسبرطة وأهل أثينا، كان النصر الذي ظفر به الإسبرطيُّون خيرًا لهم، شرًّا لأهل أثينا وحلفائهم. وفي الحرب بين الأثينيِّين والميديين، كان نصر الأولين خيرًا لهم، كما كان شرًّا على أولئك البرابرة.

  • (٩)

    كان الاستيلاء على «اليوم» خيرًا للآخيين شرًّا للطرواديين، ويصدق هذا أيضًا على الكوارث التي حلَّت بأهل طيبة وأرجيف.

  • (١٠)

    ثم ما هو أكثر من ذلك، وأعني المعركة التي دارت بين الآلهة والمردة (جمع مارد)، فلقد كانت خيرًا للآلهة شرًّا للمردة.

  • (١١)

    لكن هناك حاجة أخرى تقول إن الخير شيء والشر شيء آخر، فكما أن هذين اللفظين اسمان مختلفان، فكذلك يختلف الشيئان المسميان بهما، وإني لآخذ بهذا التمييز، إلا أنني أرى أن اللبس يظل قائمًا، فأي الأشياء هو الخير، وأيهما هو الشر؟ وذلك إذا ما جعلنا الاسمين يُشيران إلى مسمًّى واحدٍ، وإذا لم يختلف أحدهما عن الآخر. الواقع أن زعمًا كهذا إنما يخرج بنا على المألوف.

  • (١٢)

    فإذا ما زعم زاعم مثل هذا الرأي، فإنه في ظنِّي يعجز عن الجواب، إذا ما سأله سائلٌ، قائلًا: خبِّرني، هل حدث أن قدَّم إليك والداك الخير ولو مرة واحدة؟ فيُجيب عندئذٍ بقوله: نعم قد قدَّمَا لي خيرًا كثيرًا. وهنا يردُّ عليه بقولٍ كهذا: إذن فأنت مدينٌ لهما بشرور كثيرة، ما دام الخير والشر معًا يشيران إلى مسمًّى واحد.

  • (١٣)

    هل قدمت مرة لأقربائك خيرًا؟ نعم قدمتُ إليهم خيرًا كثيرًا. إذن، فقد كنت تلحق بهم الضرر (ما دام الخير هو نفسه الشر)، ثم هل أنزلت الضرَّ مرةً بأعدائك؟ نعم إني كثيرًا ما فعلت ذلك. إذن فقد صنعت لهم أعظم الخيرات.

  • (١٤)

    هيا أجبني عن هذا السؤال إذا مررت بالسائلين إحسانًا، ألستَ في الوقت الواحد تُشفق عليهم لما لديهم من شرٍّ كثيرٍ، وتحسبهم ذوي حظٍّ حسن لما لديهم من خيرٍ كثير؟ وذلك لأنك قد رأيت الخير والشر اسمَين على شيءٍ واحد.

  • (١٥)

    إنه لا تناقض (إذا أخذنا برأيك) في أن يقال عن ملكٍ عظيم: إنه في الحالة نفسها التي ذكرناها عن السائل، فما لديه من خيرات كثيرة وعظيمة، هي في الوقت نفسه شرورٌ كثيرة وعظيمة، إنه إذا كان الخير والشر يُشيران إلى شيء واحد، كان لنا أن نُجيزَ أقوالًا كالتي ذكرناها في جميع الحالات.

  • (١٦)

    سأنتقل الآن إلى حالات جزئية معينة، بادئًا بالطعام والشراب ولذائذ الجنس، فإذا كان الخير والشر حقًّا شيئًا واحدًا، جاز القول بأن تلك الأشياء كلها مضرةٌ بالمريض، ولكنها في الوقت نفسه خيرٌ له، بل إنه إذا كان الخير والشر حقًّا اسمين على مسمًّى واحد، كان المرض خيرًا للمريض وشرًّا له في آنٍ واحد.

  • (١٧)

    يصدق هذا على جميع الحالات التي أسلفنا ذكرها في المحاجة السابقة، ولست أريد أن أقول ما هو الخير، وإنما أردت أن أوضِّح بأن الخير والشر ليسَا شيئًا واحدًا، فالخير شيءٌ والشر شيءٌ آخر.

ومعذرةً إلى القارئ إذا كنت قد أتعبتُه بهذا النص الطويل، والواقع أنِّي أردت بنشره توضيحًا للفكرة الأساسية التي أُقدِّمها في هذا الحديث، فها هو كاتب ذلك النص قد أقام الدليل على قدرته في أن يتبنَّى قضيةً وضدها في آنٍ واحد، فبعد أن دحض الزعم بأن الخير والشر شيئان مختلفان، وساق أمثلةً كثيرة على أن الخير هو هو نفسه الشر، وكل ما هو في الأمر هو أنه خيرٌ بالنسبة إلى إنسانٍ معين وشرٌّ بالنسبة إلى إنسانٍ آخر، أو كما نقول نحن في ذلك: مصائب قومٍ عند قوم فوائد، عاد فتبنَّى الرأي المضاد، وهو استحالة أن يتَّحد الخير والشر في شيءٍ واحد. فكيف استطاع البرهنة على الضدَّين؟ إنه استطاع ذلك لأنه استخدم كلمتَي الخير والشر دون أن يورط نفسه في تعريف علمي دقيق لكلٍّ منهما، ولو فعل ذلك لزال اللبس، وتعذر عليه أن يدافع عن الضدَّين، وإلا فهل كان يستطيع — مثلًا — أن يُبرهن على أن «المربع» و«المثلث» اسمان على شكلٍ هندسي واحد، إنه بالطبع لم يكن ليستطيع ذلك؛ لأنه عندئذٍ يواجه حدودًا محددة بتعريفاتها الرياضية الدقيقة، وتلك هي الرسالة التي اضطلع بها سقراط في تاريخ الفكر، وهي ضرورة التحديد بتعريفات حاسمة وفاصلة للأفكار الهامة، التي نتعامل على أساسها في حياتنا المشتركة.

لقد أسلفت لك موازنةً بين عبارتين، إحداهما شفافةٌ تنقل قارئها مباشرةً إلى الأمر الواقع، الذي جاءت تلك العبارةُ للتحدث عنه، والأخرى معتمة بمعنى أنها تعجز بألفاظها أن تنقلك إلى أمر واقع معين ومحدد، وبالتالي فإن قارئها — شعر أو لم يشعر — يجد نفسه وقد حُبس في ألفاظها، يُردِّدها حتى ليتوهم من كثرة ترديدها أنها حقًّا تعني شيئًا في دنيا الأشياء والأحداث، على أن تلكما الحالتَين: أعني حالة الكلام الذي تنفذ خلاله إلى ما يعنيه في عالم الأشياء، وحالة الكلام الذي يحبسك في حبائله اللفظية، أقول: إن تلكما الحالتين: إنما يقابلان في الحياة الثقافية نوعَين من الإنتاج الفكري والأدبي: أولهما هو «العلوم» وثانيهما هو «الأدب»؛ فالجملة العلمية لا بد لها من تلك الشفافية التي تنقلنا إلى عالم التطبيق، وأما الجملة الأدبية فمن حقها أن تُوقفك عند تركيبها اللفظي، وحتى إن كانت تتضمن آخر الأمر ما يُشير إلى جانبٍ من جوانب الحياة التي يعيشها الناس، فذلك يكون عن طريقٍ غير مباشرٍ.

إلى هنا ولا ضيرَ علينا في أن يكون للعلم لغتُه الدالة على ما هو واقع خارج حدودها، وأن يكون للأدب لغتُه كذلك، التي تنكفئ على نفسها، لكنَّ هنالك نوعًا ثالثًا هو مصدر الخطر كله، إذا ما شاع في ثقافة معينة عند شعبٍ معين في عصرٍ معين، فقُل إن على الحياة في تلك الظروف ألف سلام؛ لأن الأقلام عندئذٍ تكتب، والألسنة تتكلم، ولكن دون أن يتغير من دنيا الواقع شيء! لماذا؟ لأنه كلامٌ يُساق على صورةٍ تُوهم بأنه يُشبه الأقوال العلمية في إشارتها إلى عالم التطبيق، ولكنه في حقيقته كلام ينكفئ على نفسه فيردِّدُ الناس ألفاظه، ثم لا يتغير من حياتهم شيء، ولا يفوتنا هنا أن نُفرِّق بينه وبين «الأدب»؛ لأنه إذا كان يُشبه العبارة الأدبية في انطوائها على ألفاظها، فالفرق هو أن للأدب معاييره، التي إذا ما روعيت كان للأدب شكله الأدبي من جهة، ثم كان له الإشارة إلى الحياة الفعلية بطريق غير مباشر من جهةٍ أخرى، وأما ذلك الكلام الممسوخ الذي أعنيه والذي هو مصدر الخطر كله، فهو — كما قلت — يوهم بأنه يحمل فكرًا، ولكن الفاحص لن يجد في ثنايا لفظه شيئًا اللهمَّ إلا التركيب اللفظي ذاته، وكان الله يحب المحسنين.

إنه لا خطورة في «علم» يُقدِّم إليك ما تنفذ به إلى عالم التطبيقات العملية كلما أردت ذلك، ثم لا خطورة في أدبٍ يُقدِّم إليك من التشكيلات اللفظية، ما يتركك وفي نفسك أثرٌ من الخبرات البشرية التي إن لم تكن مأخوذةً من الواقع المباشر، فهي موازيةٌ لذلك الواقع، كما يحدث لمن يقرأ من الأدب الجيد شعرًا أو روايةً أو مسرحية أو مقالة، لكن الخطورة كل الخطورة هي في ذلك الصنف الثالث اللعين، الذي قد يُشبه كلام العلم وهو ليس من العلم في شيءٍ، وقد يُشبه كلام الأدب والأدب الحق منه بريءٌ، وإنني لزعيم لك، راجيًا أن أكون مخطئًا فيما أزعمه، بأن مناخنا الثقافي في معظمه، هو من ذلك الصنف الثالث، وكذلك من هذا الصنف نفسه كان النص الذي نقلتُه إليك عن السوفسطائي اليوناني المجهول، ولعلك تُدرك الآن لماذا قدمته؟ والذي هو وأشباهه من ضروب القول، قد حفز سقراط إلى أن يرفع للناس قوائم الميزان.

إلا أننا ونحن غرقَى في مثل هذا الضباب الذي تنطمس به معالمُ الطريق، لأشبه بمَن أحاطت به الجدران فحالت بينه وبين الواقع ليتعامل معه، فهلا اخترقنا تلك الجدران بضروبٍ من القول الذي يهدي وينفع؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤