الفصل الأول

سام وحام ويافث

أنتِ سوريَّة بلادي،١ وهذا تاريخكِ في ستة مجلدات ضخمة،٢ ألَّفه صديقي الأستاذ محمد كرد علي وسماه خطط الشام.٣ والخطط جمع خَط وخِطة؛ أي الأرض التي تنزلها ولا ينزلها نازل قبلك، فتخطُّها بعلامةٍ تشير إلى أنك اخترتها للبناء وحظرتها على غير قومك من الناس. والخَط الطريق الشارع، وهذا أقرب إلى الحقيقة في تاريخ سورية.

الطريق الشارع، طريق الفاتحين.

ولكننا خططناها مرة واحدة بعلاماتٍ احترمتها الأمم، فكان ذلك الحُقب العربي المجيد، وكانت تلك الدولة العربية، العزيزة الجانب، التي استمرت نحو تسعين سنة، وبالتدقيق إحدى وتسعين سنة وعشرة أشهر.

وما سوى ذلك، فالخطط طُرُق شارعة تخضبت بدماء الأمم، والخطط علامات تجمَّدت دموعًا على وجه الزمان. والشاهد على ذلك هذا التاريخ المنقطع النظير في تواريخ الأمم. أجل، إن هذا التاريخ، الذي هو تاريخ الأمم، لَيشهد في كل صفحة من صفحاته على ما أقول.

وهو تاريخ طويل، مملٌّ مفجع، لا يُقدِم على مطالعته غيرُ القليل ممَّن يهمُّهم أخبار الأولين، وفظائع الحكام الغابرين.

إني إذن ملخِّصُه لك في هذه النبذة الواحدة، التي يمكنك أن تقرأها في جلسةٍ واحدة، ثم تُنشِد إذا شئت نشيد فخري البارودي، أو غيره من الأناشيد الوطنية الخيالية العديدة.

سأبدأ بالعلامات الأولى، علامات الحدود، وقد أعانتنا في خَطِّها الطبيعة. أي بلادي، إن الرمال والجبال والأنهر والبحار تحيط بك، فتتعاون في تعزيز حدودك. هو ذا البحر المتوسط يمدُّه البحر الأحمر عند العقبة، وهي ذي الجبال تقوم لحراستك في الشمال، وهناك الفرات وقد استلَّ سيفه في الشرق. ثم البادية، تلك الحليفة الصادقة المنيعة، وقد شُيِّدت في الجنوب حصونُها.

على أن ذلك كله لم يُغنِك شيئًا؛ فقد كنتِ، بلادي، الطريق الشارع، طريق الفاتحين، ومحجَّة الأمم. جاءوك صائلين بحرًا وبرًّا، ومن وراء الجبال، ومن وراء الصحراء، ومما دون الفرات ودجلة وبحر الروم. جاءك الآشوريون، والمصريون، والفرس، واليونان، والرومان، والعرب، والصليبيون.

وجاءكِ هولاكو عدو العمران، وتيمورلنك عدو الإنسان، وابن عثمان كابوس الزمان.

ثم جاءكِ من الغرب فاتحٌ كرسكي وهو ينشد ضالة الإسكندر، وجاءكِ من مصر ابنُ ألبانيٍّ عظيم ينشد ضالة الكرسكي الأعظم بونابرت.

وجاءكِ مع الفاتحين، وقبلهم وبعدهم، طائفةٌ من الآلهة، ورهطٌ من الرسل والأنبياء، لو وزِّع ثلثهم على العالم لبلبلوه، وقد بلبلوا نصفه، والعياذ بالله!

لنعُد إلى تعريف الخطط. فالخَط والخِطة أرض تنزلها، ولم ينزلها نازلٌ قبلك … إلخ.

لا يصحُّ هذا التعريف إذن في غير الشعوب التي سكنت هذه البلاد بعد الطوفان، ولكن المؤرخين مختلفون في ذلك. والأرجح أن أقدم الشعوب في هذه البلاد هم الحِثيون والعبرانيون والفينيقيون.

أما الحِثيون فكانوا يسكنون في الشمال، أو بالحري، في الأرض التي تمتد من جبال طوروس إلى دمشق، وكان مُلْكهم مقسَّمًا إلى خمس دويلات؛ أهمها اثنتان، تلك التي كانت قرقميش (جرابلس) عاصمتها، وتلك التي نشأت في دمشق وحولها.

وكان الفينيقيون يقطنون السواحل من طرطوس إلى صور، والعبرانيون يسرحون ويمرحون في المنطقة الجنوبية التي تُدعى فلسطين.

وهناك من يقول — والقول مثبوت في التوراة — إن الهجرة الكنعانية هي الهجرة الأولى إلى هذه البلاد، التي كانت تُدعَى بأرض كنعان، أحد أبناء حام؛ فالحاميون إذن هم أول مَن توطَّنوا هذه البلاد، بلاد كنعان، التي كانت تشمل لبنان وسورية وجميع أرض الحِثيين حتى النهر الكبير، نهر الفرات.

وقد كان فيها عندما دخلها بنو إسرائيل، بعد خروجهم من مصر، واحد وثلاثون ملكًا (في التوراة — يشوع ١٢:  ٧–٢٤ — أسماؤهم وأسماء ممالكهم كلها).

وجاء موسى إلى أرض كنعان بإلهٍ اسمه يهوه، وكان الكنعانيون يعبدون إلهًا اسمه بعليم، فاحترب الإلهان وغلب اليهوه البعليم.

ثم أُسِّس لرب الأسباط مملكة كبيرة في الجنوب، هي مملكة يهوذا التي شيَّدها شاوول (١٠٣٠ قبل المسيح)، ووسَّع نطاقها داود، وضفر لها سليمان أكاليل المجد.

وكانت مملكة بني حداد٤ قائمة في دمشق، وقد دفعت الجزية، بالرغم عن استقلالها، للملك سليمان.

وبعد موت سليمان (٩٣٣ق.م)، انقسمت مملكة الجنوب إلى مملكتين: يهوذا وإسرائيل.

وكانت عاصمة إسرائيل شكيم (نابلس)، وكان بين إسرائيل ويهوذا من الحروب ما هو مدوَّن في التوراة. أما ملوك دمشق فكانوا يشنُّون الغارات على إسرائيل في أثناء تلك الحروب، وأَبَوْا بعد موت سليمان أن يدفعوا الجزية إلى أورشليم. بيد أنهم على ما يظهر كانوا موالين للفينيقيين، وقد أشركوا مع ربهم «رمَّان» في العبادة ربَّةَ فينيقيَّةَ عشتروت.

أما الفينيقيون، فقد كانوا بعيدين أكثر من سواهم عن الحروب، ومنصرفين كل الانصراف إلى التجارة.

هذي هي الدويلات التي كانت مؤسَّسة قبل الاستيلاء المصري، وأثناءه في سورية. وبعد انقراضها — كما سيجيء في الفصل الثاني — عمَّ اسم آرام هذه الديار، فأصبحت تُسمَّى آرامًا، وسكانها آراميين.

وآرام هو الابن الخامس لسام بن نوح، كان يسكن وبنيه بعد الطوفان في الجزيرة ما بين النهرين، قبل أن ينزح إلى هذه البلاد.

هو إذن جدُّ العرب، كما أن العرب أجداد الفينيقيين، وقد جاءوا من البحرين، على الخليج العجمي، برًّا وبحرًا إلى شواطئ البحر المتوسط.٥

كلهم إذن — الآراميون والعرب والفينيقيون والعبرانيون — ساميُّون، إلا الحِثيين والكنعانيين، فهم من نسل حام.

فهل أنت وأنا وإخواننا القاطنون اليومَ هذه الديار من سلالة الآراميين، التي امتزجت فيها سلالات الحِثي والكنعاني والفينيقي والعبراني؛ أي الحامي والسامي؟٦
ولكن المؤرخين يقولون إن في هذه البلاد شعوبًا من سلالات أبناء نوح الثلاثة؛ أيْ حام وسام ويافث.٧ وقد يختلط في بعضهم الدم القفقاسي بالدم الأفريقي والتركي والعربي.

سام وحام ويافث، رضي الله عن الثلاثة الأجداد.

ومما لا ريب فيه أن في بلادنا، أو بالحري في شخصية أهل البلاد ودمهم، ما لا يزال متوارَثًا من آثار الشعور الغابرة كلها — الكنعانية والإسرائيلية والمصرية والآشورية والحِثية والفينيقية والآرامية والكلدانية والفارسية واليونانية والرومانية والتترية والعربية!

فهل يا تُرى في العالم أجمع بلادٌ أخرى مثل هذه البلاد السورية؟

بلادي موطن العصبيات أنتِ ومدفن الوطنية.

١  من نشيد وطني نظمه فخري البارودي مطلعه:
أنتِ سورية بلادي
أنتِ عنوان الفخامه
كل مَن يأتيكِ يومًا
طامعًا يلقى حِمامه
٢  أيْ ستة أجزاء، ولكني اعتمدتُ في سرد الحوادث وتمحيصها على الأجزاء الثلاثة الأولى، وعلى تواريخ أخرى ستُذكر في محلها.
٣  أطلق العرب بعد الفتح الإسلامي اسم الشام على هذه البلاد. وللمؤرِّخين آراءٌ فيه مختلفة؛ منها أنه من سام بن نوح — واسمه بالعبرانية شام — ومنها أنه أُطلِق على هذه البلاد لبُقَعٍ فيها حمراء وبيضاء وسوداء، تشبيهًا لها بالشامات. وهذا التشبيه الشعري يذكِّرني بالتقسيم السياسي الأخير، وبمناطق أو بقع «سيكس-بيكو» الزرقاء والسمراء والحمراء، ويكرِّهني «الشامات»؛ لذلك أفضِّل الاسم الأول المخفَّف من آشورية، أو المنسوب إلى صور؛ ثَغْر سورية القديم.
٤  ذُكِروا في التوراة باسم بنْهَدَد. ويقول الأستاذ موزيل في كتابه «البادية العربية» صفحة ٤٨٨، إن اسمهم حَراد، وقد تكون الراء العبرانية قُلِبت دالًا، وإنهم قبيلة من العرب الذين كانوا موالين لعرب القِدار.
٥  راجع كتابي «ملوك العرب»، الجزء الثاني، صفحات ١٨٩–١٩٣.
٦  أخذ عيسو (السامي) نساءه من بنات كنعان (الحامي) عدا بنت إيلون الحِثي وأُهو ليبامة بنت عنى … إلخ (تكوين ٣٦:  ٢)، ولكن إسحاق أوصى ابنه الآخر يعقوب بألَّا يأخذ زوجةً من «بنات كنعان الشريرات».
٧  قيل إن الفلسطينيين من نسل يافث بن نوح، جاءوا سورية من جزيرة كريت في عهد الفرعون رعمسيس الثالث، فأنزلهم في غزة وعسقلان وجوارهما، فسُمِّيت تلك البلاد فلسطين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤