الفصل الثامن

الدولة الأموية

تعوَّد الناس أن يقبلوا أحكام التاريخ دون أن يعيدوا النظر فيها، وتعوَّد الكتَّاب والمؤرخون أن ينقلوا ويقتبسوا بعضهم عن بعض، دون أن يحكِّموا العقل فيما ينقلون ويقتبسون. أما هذه النبذة التاريخية فلا حكم فيها لغير العقل والحقيقة.

قامت في الشام على أثر الفتح العربي دولة عربية مجيدة، مجيدة في ثلاثة أمور لا غير؛ أي في فتوحاتها، وفي ترفها، وفي تعزيزها اللغة العربية، وما سوى ذلك فالمؤرخون في الكلام عليها اثنان: متحيِّز ومتحامل. أما كاتب هذه النبذة، فلا ناقة له في الفيحاء ولا جمل في النجف.

إذن، بعد التوكل على الله والحقيقة، أقول: كانت الدولة الأموية بعيدة عن العدل — عن عدل الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم أجمعين — بُعد الشام عن الكوفة، وكانت الدول الأموية بعيدة عن الحكمة في أكثر أعمالها، وعن النظام والإدارة في أكثر أحوالها، بُعد عاصمتها عن السند والأندلس.

لا يسمح نطاق هذه النبذة بالتوسع في البحث، ولكني، إذا ما عرَّفت القارئ إلى الخلفاء الأمويين واحدًا واحدًا بكلمة أو كلمتين، أكون قد أديت البرهان على ما قلت في الفقرة السابقة.

أوَّل الخلفاء الأمويين معاوية، وهو ولا ريب من كبار مَن أسَّسوا مُلكًا في العالم، وهو الأموي الوحيد الذي استطاع أن يعدل في العصبيات، فلم يؤثر واحدة على أخرى، إلا أنَّ له زلَّات، والكبرى فيها هي أنه سمح بذم علي بن أبي طالب على منابر الأمصار، فتأجَّجت النيران في صدور شيعته، وظلَّت تستعر حتى بلغت الشام فالتهمت العرش الأموي. فأين الحلم الذي يصفه به المؤرخون؟ ومِن زلَّاته أنه كان يشتري الأنصار فينصرونه بألسنتهم وبأيديهم لا بقلوبهم، وقد طالما تساهل في أمور إدارية نعُدُّها اليوم خيانة وطنية.١ ومن زلَّاته أنه عيَّن ابنه يزيدًا خلفًا له، وهو عالِم أنه مكسال محبٌّ للَّهو والطرب.

وكان يزيد مولَعًا بتربية القرود والكلاب أكثر من ولعه بتربية المُلك وتوطيد أركانه، بتربيته بالحكمة وتوطيد أركانه بالصالحات. لولا ذلك لما قُتِل الحسين في كربلاء؛ فقد كان في طاقة الجيش الأموي الكبير أن يأسر الحسين وقافلته التي لم يتجاوز عددها الستين نفرًا، ويجيء بهم كلهم أسرى إلى دمشق. وقد كان في طاقة الخليفة يزيد، لو كان على شيءٍ من فضائل أبيه، أن يمنع جنوده عن نهب المدينة بعد فتحها، أو أنه في الأقل لا يبيحها لهم ثلاثة أيام.

أما ثالث الخلفاء، معاوية بن يزيد، فكان خليقًا بأن يكون من الزهاد لا من الملوك.

والرابع مروان بن الحكم أخذ الخلافة بالسيف، وكان يحاول أن ينسج على منوال معاوية الكبير، ولكنه قُتل غدرًا في الشهر التاسع من ولايته.

والخامس عبد العزيز بن مروان، الذي يعدُّه المؤرخون مع معاوية من الطراز الأول، فقد حكم نيفًا وعشرين سنة حكمًا عسكريًّا أوتوقراطيًّا، فكثرت حروبه. ولولا المال الذي كان يبذله لما كان فيها موفَّقًا. هو الذي صالح الروم على مالٍ يؤدِّيه إليهم — ألف دينار كل يوم، وفرس وغلام!

وعبد الملك بن مروان هو أول من قيَّد حرية الكلام في حضرة الخلفاء، فلم يعُد العرب في عهده وبعده يراجعون الخليفة كما كانت عادتهم — وكما هي عادتهم اليوم في نجد وفي اليمن — ويعترضون عليه. لو كان في عهد عبد الملك صحافة لما تمتعت يومًا واحدًا بالحرية، التي هي كنزها وكنز الحقيقة الأكبر.

وعبد الملك بن مروان هو الذي أمر بردم العيون والآبار في البحرين، ليُفقِر أهلها فيَلِينوا للحكام.٢
وعبد الملك بن مروان هو الذي أمَّر الحجَّاج على الحجاز ثم على العراق — الحجَّاج بن يوسف٣ جزَّار ذاك الزمان.
أمَّا الوليد بن عبد الملك الذي تولَّى بعد أبيه، فقد حكم تسع سنوات حُكمًا حسنًا، وكثرت لشغفه بالعَمار الأبنيةُ الكبيرة، خصوصًا المساجد بدمشق، ولكنه لكثرة ما كان يبذله من الخراج — على ما يظهر — في البناء، قلَّت لديه الأموال، ففعل ما فعله في هذا الزمان رئيس وزراء فرنسة. فتَّش الوليد الدواوين وألغى الكثير من الوظائف غير اللازمة. «اضطر إلى إحصاء أهل الديوان» — كلام المؤرِّخ — «وألغى منهم بشرًا كثيرًا بلغ عددهم عشرين ألفًا.»٤
سابع الخلفاء سليمان بن عبد الملك رحمه الله؛ لأنه «أعتق سبعين ألف مملوك ومملوكة،٥ وكساهم، وعزل عمَّال الحجاج، وأخرج مَن كان في سجن العراق.» ومن حسنات سليمان أنه أوصى بالخلافة لابن عمه عمر بن عبد العزيز.
وعمر بن عبد العزيز ثامن الخلفاء، هو أعقل الأمويين وأعدلهم،٦ على أنه لم يكن محبوبًا من أهله، فبعد أن حكم سنتين ونصف سنة، حُكْمَ الخلفاء الراشدين، مات مسمومًا. والذي أصلحه عمر هذا أفسده يزيد بعده.
يزيد بن عبد الملك تاسع الخلفاء، ذاك العاشق الولهان، مجنون حُبابة التي كانت حاكمة في عهده،٧ جلس على فراش الملك أربع سنوات، وما كان حقه أن يجلس أربعة أيام.

العاشر هو هشام بن عبد الملك. وهشام هو آخر من ضفَّر إكليلًا من المجد للدولة الأموية.

أما الحادي عشر، فهو ابن يزيد العاشق الولهان. هو الوليد الخليع، السكِّير، المشهور بالإلحاد. قَبِل البيعة بالخلافة وهو سكران. كان ينبغي أن يُعتقَل لا أن يُقتَل؛ لأن في قتله استيقظت الفتنة واضطرب بعد ذلك أمر بني أمية.

الخليفة الثاني عشر هو يزيد بن الوليد، الذي حكم خمسة أشهر لا غير — خمسة أشهر مشئومة، كانت الفتن أثناءها أشد من الطاعون الذي انتشر في البلاد، وذهب يزيد الثالث فريسة الداءَيْن.

وكان أخوه إبراهيم الخليفة الثالث عشر ضعيفًا خوَّارًا، فقد بايعه فريقٌ من الناس ونازعه فريقٌ آخر، فخلع نفسه.

أما آخر الخلفاء مروان بن محمد بن مروان، فقد كانت الخطوب في عهده أكبر منه. وأكبرها أمرُ أبي مسلم الخراساني الذي أظهر الدعوة علنًا لبني هاشم، وجرَّد في سبيلها جيشًا قاده عمُّه عبد الله بن علي، فزحف على مروان الذي كان قد جاء العراق بجيش من أهل الشام، فالتقى الجيشان في وقعة الزاب قرب الموصل (١٣٢ﻫ/٧٥٠م)، وكانت الغلبة لعبد الله. انكسر مروان لتخاذُل أهل الشام. وما تخاذَل أهل الشام إلا لِمَا نالهم من ظلم الأمويين.

فكم واحد من هؤلاء الخلفاء الأربعة عشرة أحسنَ سياسةَ الملك؟ وكم واحد كان يستحق أن يحكم العباد؟

معاوية في الدرجة الأولى، ثم عمر بن عبد العزيز، ثم الوليد بن عبد الملك، وأخوه هشام. أربعة من أربعة عشر.

أما العشرة الباقون، فقد كان العجز قيد الصالحين منهم، وكان الشر قيد الآخرين. كبيرهم يعطي بغير حساب، وصغيرهم يظلم بغير حساب، وكلهم يصرفون أموال الأمة في مجالس الأُنس والطرب، على القيان والراقصات والندماء والشعراء.

والعجيب في أمر أولئك الأمويين، الموصوفين بالنباهة والدهاء، والحكمة والذكاء، أن الفتن كانت تستمر في حمص ولبنان وفلسطين، وفي الشام نفسها، وهم غافلون أو مشتغلون عنها في محاربة الروم وفي الفتوحات.

وما الفائدة من الفتوحات للدولة، وليس بين العاصمة والبلدان المحتلة صلة عمران أو سيادة؟! ما الذي كان يربط القيروان مثلًا بالشام؟!

من الهند إلى الأندلس! إنه لملك عظيم بعيد الأرجاء. وكيف كان الأمويون يحكمون تلك البلدان الشاسعة القصية يا ترى؟ الجواب أنهم لم يحكموها. فقد كان القائد العربي يفتح البلاد ويتولَّاها باسم الخليفة، دون أن يراجعه في أكثر الأمور. وكثيرًا ما كان أولئك القواد يتصرَّفون بالأموال وبالرجال كيفما شاءوا؛ مثال ذلك عمرو بن العاص في مصر، والحجاج بن يوسف في العراق.

وكان الخليفة بدمشق راضيًا بأن يُذكَر اسمه في الخطبة بالقاهرة أو بالقيروان، وإذا جاءه منها بعض الخراج فنعمةُ كريمٍ.

أجل، قد كان الأمويون يهتمون للبعيد غير المثمر إلا مجدًا، ويهملون القريب وفيه الصالح الأكبر أو الخطر الأشد.

أما العدل في الرعية، العدل الذي هو أساس الملك، فهو ينعكس من الجالس على العرش. وقد عرفتُ أرباب العرش وفيهم العاجز والسفيه والخليع والسكِّير والظالم. وهاكَ شهادة أخرى من واحد من أهل هذا البيت:

سُئِل أحد شيوخ بني أمية بعد زوال الملك عنهم: ما كان سبب زوال ملككم؟ فقال: جارَ عمَّالنا على رعيتنا، فتمنَّوا الراحة منا، وتُحُومِل على أهل خراجنا فتخلَّوا عنا، وخربت ضياعنا فخربت بيوت أموالنا، ووثِقنا بوزرائنا فآثروا مرافقهم على منافعنا، وأَمضوا أمورًا دوننا أخفوا علمها عنا، وتأخَّر عطاء جندنا فزالت طاعتهم لنا، واستدعاهم عدونا فظاهروه على حربنا.

هذي هي الدولة التي تمدحون.

استولى الأمويون على المُلك بخدعتَيْن، في وقعة صفين وبعدها في التحكيم، فملكوا تسعين سنة. واستولى عليه العباسيون بمذبحةٍ تلتها مذابح في سورية وفلسطين والعراق.

وعقبت المذابح الفوضى، وقد اقتدى أربابها بأبي العباس السفاح.

هذا العُمَيْطِر يدعو لنفسه بالشام، فبايعتْهُ اليمانية، وقاومتْهُ القيسية، ففتك بهم ونهب دورهم وأحرقها.

وهذا ابن بَيهس يحارب العُمَيْطِر ثم يستولي على دمشق وينكِّل بأهلها.

وهذا المُبَرقع يدَّعي الخلافة، ويخرج بخمسين ألفًا من أهل اليمن على الخليفة العباسي، فيحاربه ويقع بيده أسيرًا.

واستمرَّت الفتن تضطرم ونار العصبيات تستعر في بلاد الشام في عهد العباسيين، من السفاح إلى المأمون، فلم يستطيعوا إخمادها.

وكانت الدوائر تدور كلها، لا على الباغين — الظالمين السفاحين — بل على الأهالي المساكين، على أولئك الذين يدفعون الضرائب ويلبُّون الدعوة للجهاد!

أنتِ سورية بلادي.

أنتِ عنوان الفخامة!

١  مثال ذلك تنازله عن مصر لعمرو بن العاص لقاءَ الولاء والاعتراف بالسيادة الأموية الاسمية، فقد جاء في صك التعيين أنه — أي معاوية — أعطى عمرو بن العاص مصر وأهلها! هبة يتصرَّف بهما كيف شاء. وقد تصرَّف ابن العاص بخراج مصر في الأقل كما شاء.
٢  راجع «ملوك العرب» الجزء الثاني، صفحة ٢٠٦.
٣  يقال إنه بلغ عددُ مَن قتلهم عشرين ألفًا، ومَن سجنهم من رجالٍ ونساء ثمانين ألفًا. ومهما أسقطنا من هذا العدد تجنُّبًا للمبالغة يظل الحجاج فريدًا في شهرته الفظيعة.
٤  سيدي كرد علي: كم كان في ديوان الوليد من الموظفين إذا كان ألغى منهم عشرين ألف موظف؟!
٥  وكم كان يا أستاذي عدد الأرقاء في البلاد؟
٦  من خطبته حين ولي الخلافة قوله: «مَن يصحبنا فليصحبنا بخمسٍ، وإلا فلا يقربنا. يرفع إلينا حاجة مَن لا يستطيع رفعها، ويعيننا على الخير بجهده، ويدلنا من الخير على ما لا نهتدي إليه، ولا يغتابنَّ أحدًا، ولا يعترض فيما لا يعنيه.»
٧  قال المؤرخ: وعُمِّل ابن هبيرة في ولاية العراق من قِبل حُبابة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤