غاية الأدب والفن

«هذا هو الأدب الأمريكي يحمل لواءه اليوم رجالٌ مارسوا الحياة العملية في شتى شئونها، ثم لم يكتبوا في خيال وأوهام وأحلام، إنما يكتبون أكثر ما يكتبون في مشكلاتهم الحالية، ومسائلهم اليومية، وحياتهم الاجتماعية! … وأكثر هؤلاء لا يستوحون أساطير اليونان والرومان، وإنما يستوحون مجتمعهم وما فيه وما يصبو إليه؛ فللأديب العربي أن يستوحي «امرأ القيس» أو «شهرزاد»! … ولكن يجب أن يكون ذلك نوعًا من الأدب، لا كل نوع، ولا هو النوع الغالب، ولا هو الأرقى …»١

مع الأسف أراني مضطرًّا أن أقول للصديق المبجَّل: إن استِيحاء أساطير اليونان والرومان و«امرئ القيس» وشهرزاد؛ هو النوع الأرقى في الأدب … في كل أدبٍ … لا في الماضي وحده ولا في الحاضر … بل في الغد أيضًا وبعد آلاف السنين، ما دام الإنسان إنسانًا، وما دام رُقيه الذهني بخير لم يصِبه نُكاس؛ فالإنسان الأعلى هو الذي يصون «الجمال الفني» عن الاشتغال الأرضي في أي صورة، ويحتفظ فيه بمتعته الذهنية وثقافته الروحية! … وإن اليوم الذي نرى فيه «الأدب» قد استُخدم للدعاية الاجتماعية، و«التصوير» استغل في معارض الإعلان عن السلع التجارية، و«الشِّعر» جُعل أداة لإثارة الجماهير في الانتخابات السياسية؛ لهو اليوم الذي نوقن فيه بأن الإنسان قد كرَّ فانقلب طفلًا، يضع في فمه تُحَف الذهن وطُرَف الفكر، لأنه لا يدرك لها نفعًا غير ذلك النفع المادي المباشر!

والأدب الأمريكي الذي يُعجب به الدكتور «أحمد أمين» هو في أغلبه صحافة راقية أكثر مما هو أدب حقيقي! … والأدب الحقيقي فيه هو ما استند إلى أساطير اليونان والرومان، أي مخلوقات الإنسانية التي أبدعتها أحلامها الجميلة وخيالها الرائع … فالخلاف بيني وبين صديقي «أحمد أمين» هو على معنى «الرقي»؛ فأنا لا أُسلِّم أبدًا بأن رقي الإنسان هو في تَقدُّم أسباب معاشه المادية … هذا حقًّا هو الرقي بالمعنى الأمريكي، ولكن الرقي بالمعنى الإنساني المثالي شيءٌ غير ذلك … إن الإنسان الأعلى ليس ذلك الذي يضع كل شيءٍ في فمه، ولكنه ذلك الذي يشعر بحاجته إلى مُتعٍ معنويةٍ وأغذية روحية وأطعمة ذهنية، لا علاقة لها من قُرب أو بُعد بضرورات حياته المادية أو الجُسمانية!

هذا هو الفرق الوحيد بين الإنسان والحيوان؛ فالحيوان لا يحتاج إلى أن يُطرب لبيت من الشِّعر أو لصوت من الغناء أو لتمثال من الرخام، ولا يمكن أن يخطر له على بالٍ وجود عالم آخر غير عالم الأكل والشرب والمأوى. ولو نشأ أدب بين فصيلة من الحيوان لكان هذا الأدب في رأيي قائمًا في جملته على مشكلات العراك على صيد الفريسة، ولاقتصر خياله على الحلم بأن في بطن كل سبعٍ غزالًا سمينًا، وفي فم كل حيوانٍ في الغاب — صغُر أو عظُم — غذاءً موفورًا بغير وثبٍ ولا بحثٍ ولا تربص.

بل فلنأخذ مثلًا جماعة النحل أو النمل، وقد بلغَت من الدقة والتناسق وروح التضامن في نظامها الاجتماعي ما أثار الدهشة، هذا المجتمع الذي شيَّده النحل على هذا الأساس من «الوعي الاجتماعي» لا «الوعي الفردي» لو قامت فيه نحلة شاعرة أو أديبة، أو ظهر فيه أدب وشِعر؛ فما يكون نوعه واتجاهه ومراميه؟ … لا شكَّ عندي أن هذا الأدب أو الشِّعر سيكون له عين المرامي التي ينزل إليها «الأمريكان» ويتمناها لنا «أحمد أمين» … سيتحدث أدب النَّحل وشِعره عن الأزهار من حيث كمية عسلها، ونصيب كل عامل من عُمال النحل في نقله وإعداده والانتفاع به في الخلية، عن حقوق الطوائف العاملة وواجباتها، ومشكلاتها اليومية وشئونها الحيوية … أما الذي لن يحدث أبدًا فهو التفات النحل في أدبه أو شِعره إلى حُسن الأزهار في ذاتها، وإلى بهائها في ألوانها، وإلى تمايلها اللطيف مع النسيم، كأنها تُراقصه، وإلى تفتُّحها ابتسامًا للفجر وهي تُعانقه، وإلى نداها بدموع الليل وهي تُفارقه! … لن يَفطَن النحل إلى هذا أبدًا … ولو فعل لانقلب إنسانًا في لحظة واحدة. كل فضلِ الإنسان على غيره من المخلوقات أنه ارتفع إلى العناية بأشياءَ معنويةٍ لا تتصل مباشرة بطعامه وشرابه ومقومات حياته المادية. وهذه سماها فيما سماه: «الفن والأدب»، وحرص على أن تبقى — على قدر المستطاع — بعيدة عن تفاهاته الأرضية، لتذكره من حين إلى حين أنه ليس حيوانًا … وهنا عظمة الفن والأدب، ولكن مطامع الناس شاءت أن تمدَّ أيديها الفانية إلى هذا الجوهر السامي لتسخره في شئون الأرض، فرأينا الشِّعر والأدب يتجهان إلى غايات نفعية، فاستخدم الشِّعر أحيانًا لمدح الملوك والأمراء من أجل المال والثراء، أو لنشر الدعوة في الدين أو السياسة من أجل الثواب أو الجزاء!

ولكن كلمة الفن هي العليا دائمًا، وحكمه هو النافذ وحده، وها هو ذا قد حكم ﻟ «امرئ القيس» الجاهلي، فرفعه وقدَّمه على داعية الإسلام «حسان»، وفي هذا الدليل على أن الفن الخالص لوجه الجمال الفني هو الأرقى والأبقى … وذلك ما لا يُسلِّم به «أحمد أمين»؛ فهو يعتقد أن الفن المسخَّر لخدمة الضرورات اليومية في المجتمع هو الفن الأرقى، متأثرًا ولا ريب بتلك النظريات الحديثة في السياسة والاقتصاد التي ترمي كلها إلى تملُّق الجماهير، ومداهنة الدهماء، ومصانعة الجماعات والنقابات والهيئات، ومسايرة الكتَل والسواد من الناس والشعوب، مُوهِمة إياهم بجعل كل شيءٍ في خدمتهم … وخدمة الجموع معناها خدمة مصالحهم الأرضية المادية من مأكل ومشرب ومأوًى، لأن السواد والكل لن يطلبوا أبدًا، ولن يعرفوا غير هذا النوع المادي من المطالب. فإذا أردنا تسخير الفن في هذه الأغراض فمعنى ذلك الهبوط به إلى ذلك اللون من أدب النحل … أو على الأقل إلى ضرب من أدب الدعاية والوعظ والهِداية!

أما إذا كان في الإمكان وجود فنٍّ يخدم المجتمع دون أن يفقد ذرة من قيمته الفنية العليا فإني أُرحِّب به، وأُسلِّم من الفور بأنه الأرقى! … ولكن هذا لا يتهيأ إلا للأفذاذ الذين لا يظهرون في كل زمان! … فمِن أين لنا في شِعرنا بأمثال «المتنبي»؟ لقد أعدتُ قراءة ديوانه منذ أسابيع لأنظر كيف بقِي ذلك الشِّعر الذي خرج من وحي الدنانير. الحق أن المال كان باعثَه، ولكن الفن كان غايتَه … ذلك الذهن الذي أبدع صورًا يرى لها أحيانًا حركة ويبصر لها بريقًا، ويسمع لها رنينًا، كما في قوله:

وأمواهٌ تَصِلُّ بها حَصَاها
صَليلَ الحَلْيِ في أيدِي الغَوانِي

ماذا يعنينا منه أن يكون حافزه استجداء مال، أو مدح ذي سلطان، أو خدمة مجتمع، أو تملق شعب؟ … المهم أن يكون هنالك فنٌّ قبل كل شيء. بغير هذا ما عاش لنا «المتنبي» حتى اليوم؛ فالسلطان يذهب، والدولة تزول، والشعوب تتغير، لكن الفن باقٍ!

أما بعد، فليتجه الأدب العربي حيث شاء له «أحمد أمين» وليخدم الجماعات ومشكلاتها الحالية، ومسائلها اليومية، ومطالبها المادية، وليبتعد عن «الفردية» التي هي أساس كل فن، والتي بغيرها لا يقوم فن، وليتجنب «تراجم الأفراد» أو ترجمة الكاتب لنفسه، أو تحليل الأدب لبعض الشخصيات أو روايات الغرام، أو نحو ذلك مما يراه صديقي من قبيل النزعات الفردية، ولننكر الحقيقة القائلة: إن «الفنان» إذا لم يقُل: «أنا» فهو ليس بفنان، كما أن العالم الذي يقول: «أنا» ليس بعالم! … لننكر ذلك مؤقتًا ولننتظر … عسى أن يخرج لنا أثر فيه الفن، وفيه منفعة السواد!

١  مقال ﻟ «أحمد أمين» نُشر في مجلة الثقافة عام ١٩٤٤م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤