الفن والإصلاح

لم يزل موضوع الأدب العربي ومستقبله في حاجة إلى كلام، على الرغم من الأدلة القوية التي ساقها «أحمد أمين» في ردِّه على كلمتي السابقة — وأخشى أن يتبادر إلى الذهن أننا نتجادل في قضية لنا فيها مصلحة — فالواقع المعروف أن أكثر مؤلفات «أحمد أمين»، مثل «فجر الإسلام»، و«ضُحى الإسلام» و«قصة الفلسفة» … إلخ. بعيدة عن الاتجاه القومي أو الاجتماعي الذي يرجوه لأدبنا العربي، كما أن بعض كُتبي، مثل: «عودة الروح» و«يوميات نائب في الأرياف» قد رمَت بالفعل إلى هذا الهدف منذ زمن. فالقصة الأولى (عندما نُشرت بالفرنسية في باريس عام ١٩٣٧م) كَتب عنها ناقدٌ يقول: لو كان «… بريس BARRES»١ حيًّا، واطَّلع عليه لنعتها بقصة النشاط القومي …» كما أن الكتاب الآخر يرمي كما هو معلومٌ إلى نقد المجتمع الريفي بحكَّامه ومحكوميه؛ فأنا إذَن أقرب إلى تلك الدعوة ولي في نجاحها مصلحة أكثر مما لصديقي «أحمد أمين»؛ ولكن العقيدة الأدبية والإيمان الفني أقوى فيما يبدو عند كلٍّ منا، وأرفع من المصالح الخاصة والغايات الشخصية؛ فمناقشتنا اليوم تقوم في جوهرها إذَن على الرغبة المجردة في الوصول إلى غرضٍ واحد؛ هو كيف نبلُغ بأدبنا العربي قمة الكمال؟ … الغاية واحدةٌ ولا ريب ولكن السُّبل مختلفة، «أحمد أمين» يرى أن أدبنا لن يصل إلى مرتبة الآداب الأوروبية إلا إذا خاض مثلها في طريق الحياة العامة؛ فنقدَ الفاسد من أوضاع المجتمع، وقوَّم المعوَّج، واقترح وسائل الإصلاح، ونادى بالنافع من العلاج، والمستحدَّث من النُّظم، وكان له من أعلامه قادة للرأي العام، يُبصِّرونه بمواقع خطاه في طريق التقدم الاجتماعي، واتخذ من «أناتول فرانس» و«برناردشو» و«تولستوي» مثلًا يُحتذى.

وهنا يجدر بنا أن نسأل: هل من الحق أن الأدب الأوروبي بلغ مبلغه هذا بفضل نزوله مُعترَك الحركات الإصلاحية، أو بفضل قيمته الفنية ومزاياه الأدبية؟ … وهل نزعات الإصلاح الاجتماعي هي اللون الغالب في الآثار الأوروبية، أو أنها لونٌ ليس بالغالب حتى في آثار المؤلف الواحد؟

الذي أعلمُه هو أن «أناتول فرانس» أديب، وأن «برنارد شو» مؤلفٌ مسرحي، وأن «تولستوي» قَصصيٌّ … وتلك هي صفاتهم التي تؤخذ على سبيل الجِد! … أما ميول «فرانس» و«شو» الاشتراكية، ونزعات «تولستوي» الإصلاحية، فهي نَواحٍ يُنظر إليها تارةٍ بغير احتفال، وتارة أخرى على أنها توابع أو ظواهر أو دلائل قد تُفسِّر على ضوئها بعض أعمالهم الأدبية وآثارهم الفنية!

إن الآداب الأوروبية لم تحترم يومًا فنانًا أو أديبًا لأنه مُصلح، ولكنها قد تحترم المصلح إذا كان أديبًا أو فنانًا، ولعل أبرز مَثل لذلك هو «إبسن»؛ فقد هزَّته أحداث بلاده السياسية والاجتماعية فكتبَ تمثيليات بروح الإصلاح، مثل «براند» و«عدو الشعب» و«بيت العروس» … إلخ. ومات «إبسن» وتغيَّر مجتمعه، ونظر الناس في أعماله … وكاد يهزَأ النقد به وبآرائه في السياسة والمجتمع، لولا فنُّه. وهكذا مات المُصلح في «إبسن» وبقيَ الفنان!

نحن الشرقيين تُبهِر عيوننا دائمًا كلمة «مُصلح» بقدر ما نستهين بكلمة «فنان» وإني لا أنسى دهشتي يومَ رأيت في مجلة «ماريان» الباريسية نقدًا للطبعة الفرنسية من «يوميات نائب في الأرياف»، للناقد المعروف «رامون فرنانديز» يقول فيه: إن القارئ لهذا الكتاب ينسى في أغلب الأحيان المقاصد الإصلاحية التي حرَّكت المؤلف لوضع كتابه، بل إن القارئ يتمنى ألا يتغير شيء في عالم هذه المخلوقات الإنسانية!

صدمني هذا القول؛ لأني كنت أعتقد أن مقاصد الإصلاح لها الاعتبار الأول في مثل هذا النوع من الكتب، وأن صفة المصلح هي التي يجب أن تُوضع موضع التقدير!

لقد تحدَّث الدكتور «أحمد أمين» في أكثر من موضعٍ عن الروايات الغرامية، وعرامة الحب، بما ينمُّ عن الازدراء؛ فذكَّرني ذلك من فوري برواية «شكسبير»، «روميو وجولييت»، وقلتُ في نفسي: ها هي ذي قصةٌ ليس فيها إصلاحٌ لمجتمعٍ ولا نهوض بشعب، وكل ما فيها عرامة الحب، ومع ذلك خلَّدتها الإنسانية؛ حيث طرحت ومزقت كثيرًا من صفحات المصلحين وكتابات الهادين والمرشدين … إن الإنسانية لأدرَى بما يسُرها وأعلم بما يُسعدها مني وأنا ومن أخي «أحمد أمين» … كم من المؤلفات المملوءة بالإرشاد والإصلاح قد نُشرت وظهرت، ولم تحتفظ بها ذاكرة الزمان … ولكنها احتفظت بقصة غرام، وقصيدة غَزَل، ورواية حبٍّ عارم!

وإذا كان حقًّا أن الزَّبَد يذهب جُفاء، وما ينفع الناس يمكث في الأرض، فماذا نقول في بقاء «روميو وجولييت» وفناء الكثير من القصص الإنجليزي الذي قُصد به إصلاح المجتمع؟ بل ماذا نقول في خلود قصة «غادة الكاميليا» ﻟ «دوماس الصغير» وموت أكثر رواياته الأخرى التي عالج فيها موضوعات اجتماعية كلها جِد وحسنُ قصد؟

كلَّا … لا ينبغي أن نُملي على الفن اتجاهًا بعينه، ولا يجوز لنا أن نوصيه بارتداء لباس الحكمة الرزينة، أو رداء الإصلاح الوقور! … إلا أن يشاء هو ويرضى؛ لأننا إذا أرغمناه سخِر منا، وجعل من أردية رزانتنا ووقارنا أثواب مساخر، وقلَب بسحره أثواب الهزل خلودًا تنحني أمامه الجِباه على الرغم منا … لقد أصاب «أندريه جيد» إذ قال: إن الفن لا ينبغي له أن يثبِت شيئًا، ولا أن ينفي شيئًا … إن الفن العالي ليس أداة للجدل … إنما هو شيء كالسحر ينفذ إلى النفوس فيُحدِث فيها أشياء … إن الفنان ليس مُصلحًا، ولكنه هو صانع المُصلح! … كل أولئك المصلحين من ملوك وزعماء وساسة، ما كوَّنهم وهيأهم لرسالات الإصلاح غير أدب الأدباء، وشِعر الشعراء، وفن الفنانين!

إن الفنان هو المصلح ولا شيء غير ذلك، أما أن ينزل الفنان بفنِّه إلى الميدان يناقش ويدافع ويهاجم وينافح؛ فهذا ما لم نرَه حتى الآن في فنٍّ استحق البقاء في أي أُمة من الأمم، أو حضارة من الحضارات … من الحق أن بعض أهل الفكر والفن قادوا الرأي العام في بلادهم وبلاد العالم، ولكنهم كانوا في الواقع يفعلون ذلك باعتبارهم شخصيات عظيمة مفكرة، من واجبها أن تُبدي آراءها في المسائل الكبرى، لا باعتبارهم فنانين يُقحمون فنَّهم في ميادين الشئون اليومية. لطالما تحدث الشاعر «فاليري» عن المشكلات الإنسانية التي تمسُّ المجتمع العالمي الحاضر، ولكن هل رأيناه وضع ذلك في قصيدة واحدة من قصائده؟

إن قيادة الرأي العام واجبةٌ على الأديب، ولا ينسى «أحمد أمين» ندائي إلى الأدباء أن يتسلَّموا القيادة الروحية والفكرية في أول هذه الحرب، وما قام حول هذا النداء من جدل، ولكن الذي أراه خطرًا على الأدب هو قهر الأديب على أن يتجه اتجاهًا يُعينه في صميم فنِّه … وحسبُنا أن نتأمل حال الأدب في البلاد الدكتاتورية التي كبَّلت وحي الأدباء بالقيود؛ فلم تُخرِج من قلوبهم إلا كتابات مفتعلة، تفوح برائحة واحدة، كأنها خارجة من مطبخ واحد … إن الفن هو الحرية، حرية الفكر والشعور … ولا منبع له إلا فكر الفنان وقلبه، هما وحدهما الهاديان له … إن الوعي الفردي هو روح الفن؛ فإذا أردنا إبادة الفن واستئصاله من الأرض، فلنقتل فيه ذلك الوعي الفردي.

ولقد أصاب صديق الطرفَين الكاتب الكبير «العقاد» إذ قال في تعليقه على مناقشاتنا هذه: «إن اتجاه التاريخ الإنساني متقدم من الاجتماعية إلى الفردية.» وهذا حقٌّ إذ الفردية هي عنوان الكرامة الإنسانية … هي شعور الإنسان بقيمة فكره وإحساسه لا بفكر الجماعة وإحساسها! … إن الحيوان لا يفكِّر بفكره، ولا يحسُّ بإحساسه … إنما هو يفكِّر ويُحس بغريزة الجماعة كلها والنوع كله! … ولن يرقى الحيوان إلى مرتبة الإنسان إلا إذا استقلَّ في تفكيره وإحساسه … إن الوعي الاجتماعي في الحيوان هو الذي جعل الحيوان حيوانًا، والفردية؛ أي الحرية هي التي جعلت الإنسان إنسانًا.

على أنه لا ينبغي الخلط بين الفردية والأنانية؛ فإني حينما قلتُ: «إن الفنان الذي لا يقول «أنا» ليس بفنان، كما أن العالِم إذا قال «أنا» ليس بعالِم.» إنما قصدت المعنى الفني لا المعنى الخُلقي! … قصدت أن الفنان هو الذي يقول: «إن الطبيعة جميلة.» لأني أراها جميلة، أما العالِم فلا ينبغي له أن يقول ذلك، ولكن عليه أن يقول: «الطبيعة جميلة أو قبيحة، ساكنة أو متحركة؛ لأن البحث والتحليل والبرهان والدليل تؤدي إلى هذه النتيجة!».

الفنان هو الذي يكشف عن الطبيعة من خلال نفسه، والعالم هو الذي كشف عن الطبيعة من خلال المجهر، وكلاهما يُكمل الآخر في بناء المعارف الإنسانية، ولا ينبغي لأحدهما أن يلجأ إلى وسائل الآخر في استجلاء الحقائق، واستكناه الطبائع!

إن الفن مصدره الشخص، والعلم مصدره الموضوع … الفن شخصي، والعلم موضوعي … الفن يقول: «أنا» أي «نفسي» والعلم يقول: «هو» أي «الشيء»!

أما أن يخدم الفنان والعالِم أمته وقومه فهذا واقع بالبداهة والضرورة؛ لأن آثار الفن والعلم لا تبقى، ولا يمكن أن تبقى إلا إذا رأى الناس في بقائها منفعة؛ فلا ينبغي أن نقول للفنان والعالِم: «اصنعا شيئًا نافعًا للناس»، بل يجب أن نقول لهما فقط: «اصنعا فنًّا وعلمًا»!

١  الكاتب والسياسي المشهور صاحب المؤلفات القومية النزعة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤