منابع الفن المصري

في عام ١٩٣٣م عَقِب نشرِ كتابي «أهل الكهف» جاءني أديب صحفي يُحادثني في شأنه، ويسألني عما حمَلني على اختيار موضوعه، فأجبته:

حمَلني على ذلك شيء واحد: الرغبة في كتابة مأساة مصرية على أساس مصري … إنك تعلم أن أساس المأساة الإغريقية هو «القَدَر»! هو ذلك النضال الهائل بين الإنسان والقَدَر! … فهل تعلم ما أساس المأساة المصرية كما أتصورها؟ … أساسها «الزمن» … أساسها ذلك النضال الهائل بين الإنسان والزمن … اقرأ «كتاب الموتى» تُحس ذلك للفور! … عند الإغريق هو «القضاء والقَدَر» وعند المصريين هو «الزمان والمكان»، لكلٍّ من الشعبينِ تِنِّين مخيف كُتِب على الإنسان قتاله! … وأنت ترى أن «تِنِّين» المصريين وهو «الزمان والمكان» رأسه في هذه الأرض، وذنَبه في العالم الآخر المجهول! … نعم، إن «مصر» لا يمكن أن تفكِّر في غير الخلوص إلى حياةٍ أخرى … دائمًا ما وراء الطبيعة … دائمًا الفلسفة الدينية … دائمًا ذلك الفزع من الموت، وذلك الأمل في انتصار الروح على الزمان والمكان! … وذلك الانتصار إنما هو في «البعث»! … بعث لا إلى عالم آخر، لا يعرف الزمان والمكان، وإنما بعثٌ إلى عين هذا العالم ونفس هذه الأرض بزمانها ومكانها، ولقد شيدوا الأهرام لتَقوى — على هذا التِّنين — حصون الروح في حربها المخيفة مع عناصر الفناء الآدمي! … التحنيط كذلك اختراعٌ آخر، ولَّدته ضرورة الدفاع في تلك الحرب الضروس! … أين تلك الحروب من حرب طروادة؟ … لم تكن مصر في حاجة إلى «هوميروس» منها يسطِّر أخبارها؛ لأن صليل تلك الحرب لا يوصف من قلمٍ بشري! … إنها صيحات الروح تُدوي طولَ الأبد من بين سطور «كتاب الموتى» … إن أعظم مأساة لم تُدوَّن، ولا يمكن أن تُدوَّن: «المأساة المصرية»! … وبعد هذا تسألني: ما الذي حمَلني على كتابة «أهل الكهف»؟ … إنها صورة ضئيلة وصدًى خافت لتلك المبارزة بين «الزمن والإنسان»، وفي قصتي «شهرزاد» صورة أخرى للمبارزة بين «الإنسان والمكان».

– إذَن أنتم تقولون باستيحاء الفكر المصري القديم؟

– إني أقول باستيحاءٍ كل ما هو مصري!

– كيف نُميز ما هو مصري عما هو دخيل على مصر، وقد دخلت مصر وتداولتها حضارات مختلفة؟

– في مصر أفكار ثابتة لم تتغير إلا قليلًا، منذ عهد الأساطير الأولى حتى اليوم، ذلك لأنها متَّصلة بصميم هذه الأرض ومستوحاة من نفس طين هذا الوادي الخصيب، ومن نفس هذا النيل الخالد! إن أفكار الإنسان وعقائده ودياناته وخرافاته إنما تُولَد من مظاهر الحياة التي حوله! … ما «اليونان» بأساطيرها وفلسفتها بغير البحر المتوسط وجُزر «اليونان»؟ … وما أساطير «النرويج» بغير الغابات وبحر الشمال؟ … وما فلسفة «الهند» بغير نهر «الجانج» المقدَّس وأدغال الهند؟! كذلك هل يتصور تفكير مصري بغير هذه الأرض الخصبة البطحاء التي تلِد الخير في كل عام دون أن يُصيبها العقم أو يبدو عليها الهِرَم؟ … شبابها خالد، هذا الشباب الذي تفهمه مصر حق الفهم، وها هي ذي آثار مصر منذ الأزل من تماثيل وصور على حيطان المعابد، هل شاهدت فيها تمثالًا واحدًا يُمثِّل إنسانًا هَرِمًا؟ … كل تماثيل مصر وصورها تُمثِّل الشباب؛ لأن كل مظاهر الحياة في مصر من أرض وماء وسماء فتيَّة قوية رقيقة، تُجدد وتبعث وتُوحي بالحياة الدائمة!

إن العمر لا وزن له في مصر؛ آلهتهم وملوكهم وكهانهم وعبيدهم حليقون نُحفاء، لا يبدو عليهم عُمر ولا سنٌّ ولا أثر واحد من آثار الزمن! … شباب وفُتوة وقوة كهذه الأرض السوداء البطحاء، التي ما خطَّها قط المشيب! … إن الزمن لا وزن له عند مصر، خوفًا منه، واحتقارًا له، أو حفيظة عليه. كل ذلك جائز! … إنما الواقع أن مصر كانت تؤمن إيمانًا عجيبًا بانتصارها على الزمن رمز «العدم» بالبعث الدائم!

فها هو ذا النيل في انتظام يحيا ويموت مرة في كل عام، موت وبعث، وبعث ثم موت … هكذا دواليك كساقية النيل ذات الجرَّات الحمراء! … من هذا النيل خرجت أساطير البعث، وفي هذه الأرض الجميلة الدائمة الخصب نشأت فكرة الخلود وقتال «العدم» تشبُّثًا بهذه الأرض المحبوبة، لم تخلق الآلهة جنة سواها، فهي المرجع والمآب، يموتون عليها ويعودون إليها، موت ثم حياة ثم موت! … وهكذا إلى أبد الآبدين … لا الموت يفنى ولا الحياة تفنى … شأن هذا النيل في حياته وموته!

تلك فكرة أساسية من أفكار مصر الثابتة … وُلِدت في العهد الفرعوني الوثني الأول، فهل تزايَلَت مع العهد المسيحي أو مع العهد الإسلامي؟ … كلَّا؛ لم تتزايل، ولم تكن مصر تقبل اعتناق المسيحية أو الإسلام دينًا لها، لو لم تجِد في هذين الدينَين فكرة البعث في جوهرها ولُبِّها! … وقد رفضَت مصر دين «إسرائيل» لخلوِّه من تلك الفكرة التي لا تعيش مصر بغيرها … البعث هو نشيد مصر الخالد، يُغنِّيه النيل في كل عام … والنبات والطيور والسماء والشعراء!

– إذَن البعث والزمن من أفكار مصر الثابتة، التي تصلح وَحيًا للأدب المصري الحديث في رأيكم؟

– بلا شك، وفكرة أخرى: قوة القلب … بغير قوة القلب — أي قوة الإيمان والحب — ما كانت مصر تستطيع أن تنشِئ هذا الفن العظيم الذي انتصرت به فعلًا على الزمن، ولا تزال تنتصر به عليه في كل جيلٍ … وقلب الفنان المصري الذي نحت تمثال «شيخ البلد» أو تمثال «نفرتيتي» ما زال ينبض بالحياة، ويُحس حياته روادُ متحف «اللوفر» ومتحف «برلين»!

– ومصر في عهد المسيح والإسلام؟

– مصر في العهد المسيحي، كان فيها أدب قَصصي ديني صوفي رائع، تلمس فيه الشخصية المصرية بأفكارها الثابتة ووسائلها الخاصة، أكثر مما تلمح فيه الطابع الروماني!

ومصر الإسلامية شيَّدت مساجد ضخمة المظهر، قوية البنيان، بسيطة التفصيل، لولا أسلوب البناء الإسلامي لخِلتها معبدًا فرعونيًّا في عظمة الأثر الذي تُحدِثه في النفس! … ذلك أن فن العمارة الإسلامي يسمو بالزُّخرف لا بالبناء!

والفن الفِرعوني المعماري يتفوَّق بالبناء لا بالزُّخرف، لهذا السبب كان الفرق ملحوظًا بين بعض مساجد مصر الشهيرة «قلاوون» و«السلطان حسن» … إلخ. وبين المساجد الأخرى في غير مصر. وكذلك كلما استوحى الفنان المصري تاريخ قلبه وأرضه أنتج فنًّا شخصيًّا لا صلة له بغير هذا القلب وهذه الأرض!

وقِس على ذلك الشِّعر والقصص الذي ظهر في مصر الإسلامية مفعمًا بروح هذه الأرض لا بروح البادية أو وحي أُمة أخرى!

– وما قولكم في الأسلوب الأدبي الذي يميِّز مصر ويطبعها بطابع خاص؟

– الأسلوب هو مِزاج الفنان وطبيعته ووسيلته الخاصة في إظهار مكنون فكره … أو هو الشخص كما قال «بوفون»! … هذا صحيحٌ إلى حدٍّ ما. إن الكاتب إذ يخلو إلى نفسه وقلبه، ويترك التصنُّع والتقليد يستطيع أن يهتدي إلى أسلوبه؛ لكن لا تظن الطريق هينًا. ذلك الطريق الوعر الطويل بين الإنسان وقلبه! … إن القلب البشري لأعمق من أن يُستكشف قراره من أول نظرةٍ … إن قلب الإنسان بئر سحيقة رسَّخت فيها تجاريب جنسه وأمته وآلاف السنين، طبقة فوق طبقة، فعليه إذَن أن ينزل طبقات هذه البئر … وها أنا ذا أعود بك إلى نغمتي الأولى:

حتى الأسلوب ينبغي لنا أن نبحث عنه في أرض مصر وفنِّها على مدى الأزمان! … ولقد سبقتنا إلى ذلك البحث أمم الغرب مع الأسف.

الفن الحديث كلُّه من تصوير ونحت وعمارة، انطلق يبحث عن وسائل جديدة للتعبير، فوجدها في مصر القديمة؛ وجَد طريقة تركيب الأشكال المختلفة على قواعد هندسية «الكوبزم»، وجد وسائل التعبير عن حقائق «الشكل» التي تَخفى على العين العادية … وجَد أساليب الحركة والإضاءة في التماثيل والأعمدة مما لا نظير له في قوة الأداء وبساطته، كل ذلك وجده الغرب، وشيَّد على أساسه فنًّا جديدًا، ونحن نستطيع أن نجد أكثر من ذلك لو بحثنا طويلًا وتأملنا مليًّا! … إن كنوز قلوبنا العميقة لا قاع لها، وهي أدنى إلى أيدينا من الغرباء!

– وأيُّ أسلوبٍ اخترتُموه لأهل الكهف؟

– لست أعرف … على النقد أن يُجيب! إن المؤلف لا يقع في الخطأ إلا عندما يحاول الكلام في عمله … إن الإنسان لا يستطيع أن يرى ملامحه أو يصفها إلا بالمرآة، والنقد هو المرآة!

– وهل ستقدِّمون «أهل الكهف» للتمثيل؟

– إني لم أكتب هذه القصة للتمثيل، ولو كان في مقدوري معالجة الفكرة في قصيدة أو صورة زيتية أو في قطعة موسيقية لفعلت!

لقد كانت وسيلتي في إخراج الفكرة هي الحوار، ذلك القالب الذي أُحبه بين قوالب الأدب، ومع ذلك أليست القصة التمثيلية أحيانًا شكلًا من أشكال الأدب … لها كيان مستقل منسَّق كالقصيدة والصورة والهيكل الهندسي، ذات جمالٍ في التركيب وتَناسُب في الفكرة يوحيان باللذة الفنية لذاتها؟ إن التمثيل أحيانًا إنْ هو إلا مجرد تفسير وليس ضرورة أو غاية أو إتمامًا للقصة التمثيلية! … إن مآسي «سوفوكل»، ودرامات «كاليداسا الهندي» و«فاوست» تأليف «جوته»، لهي كلها أدب صراح، تُدخل على النفس — بمجرد قراءتها — لذة فنية كاملة، بغير حاجة إلى مسرح وممثلين، ولقد أعَدتُ النظر أخيرًا في مأساة «هيبوليت» ﻟ «أيروبيد» ففضَّلتها على «فيدرا» ﻟ «راسين» مع أن «راسين» راعى مقتضيات المسرح في عهده، وحذف «الكورس»؛ فوجدت أنا الجمال في هذا «الكورس» المحذوف، وودتُ لو أستطيع إدخال «الكورس» في قصة أكتبها … نعم، «الكورس» الآن في أواخر القرن العشرين، سأُعيد إليه اعتباره يومًا … إنما في لونٍ آخر، وبروحٍ أخرى مستمدة من «كتاب الموتى» وأوراق البردي!١ … نعم، إن «الكورس» الخفي الذي أسمع همسه الغريب، وآهاته المتقطعة، ونَوحه المخنوق، ثم هدوءه العميق، ثم نهوضه وصياحه وإعلانه الانتصار، لهو شيء بعيد عن المسرح، قريب من المعبد، عسير على الكلام تفسيره، مستطاعٌ للموسيقى وحدها التعبير عنه!
١  أرسَل إليَّ «أتين دريوتون»، مدير مصلحة الآثار المصرية سابقًا، بحثًا خاصًّا بالمأساة في مصر القديمة، ضمَّنه ترجمة دقيقة الأجزاء من حوار أبطال قصة مقدَّسة، وكلام «الكورس» كما وجد حديثًا في بعض أوراق البردي. وقد أدهشني جمال القطعة، كما أنها قد كشفت للعالم «دريوتون» ولبعض زملائه من مشاهير علماء الآثار في العالم عن منبع «المسرح الإغريقي القديم»؛ إذ تبيَّن أن هذه القطعة التمثيلية تشمل قسمين: قسمًا كلاميًّا وقسمًا غنائيًّا، وأنها كانت تُمثَّل في المواسم الدينية؛ فالغناء إذَن والكورس والرقص الديني الذي عزا إليه «نيتشه» أصل التراجيديا الإغريقية إنما يرجع إلى أصل أقدم منه هو التراجيديا المصرية القديمة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤