كرامة الفكر

القوة الحقيقية للقلم هي أن يستطيع أن «يقول ما يريد، وقتما يريد أن يقول!»، والرجولة الحقيقية هي أن يبذل المرء دمه وماله، وراحته وهناءه، ودعته واطمئنانه، وأهله وعياله، وكل أثيرٍ عنده وعزيز عليه، في سبيل شيء واحد: «الكرامة»، والكرامة الحقيقية هي أن يضع الإنسان نفَسه الأخير في كفَّة، وفكرته ورأيه في كفَّة، حتى إذا ما أرادت الظروف وزنَ ما في الكفتين رجحت في الحال كفَّة رأيه وفكره! … كل عظماء التاريخ كانوا كذلك، بل إن مصر الفقيرة اليوم في العظماء قد عرفت ذات يومٍ رجالًا كثيرين من هذا الطراز! … رجالًا لم يترددوا في تضحية كل شيء من أجل فكرةٍ … والنزول عن كل متاع من أجل رأي … بمثل هؤلاء الرجال ربحت مصر كثيرًا في حياتها المعنوية والفكرية، بل إني لا أبالغ إذا قلت إن الأمم لا تُبنى ولا تقوم إلا على أكتاف هؤلاء! … وإن الخطأ المخيف هو يوم تخلو أمة من أمثال هؤلاء! … نعم، وإنه ليُخالِجني الآن شيء من القلق؛ فناموس اليوم هو وَطء الفكرة بالأقدام ركضًا خلف الجاه الزائف والمال الزائل!

لقد حُقَّ لنا جميعًا أن نسأل هذا السؤال: هل يطول غضب الله علينا فلا يظفرنا بهؤلاء العظماء الذين يستطيعون أن يردوا الاعتبار إلى قيمة الرأي. ويُطهروا النفوس من درن المادة، ويعيدوا المُثل العليا النبيلة إلى مجدها القديم؟

•••

هذا قول قلتُه منذ أعوام، وأقوله اليوم أيضًا … وأنا واثقٌ أن في مصر عددًا كبيرًا من العقلاء الذين يستطيعون تمحيص المسائل، وبحث المشكلات، وإبداء الرأي الذي ينفع البلاد … ولكنهم يطوُون الرأي في الصدور، أو يهمسون به في الآذان … ولا يعرضونه بجرأة، أو ينادون به في إيمان، خشية أن يتعرضوا لهجوم، أو يلحق مصالحهم ضرر موهوم … هذا التنحي من الناضجين والأكفاء عن المشاركة في توجيه الرأي العام، هو الذي يوجد في مجال الآراء حالة تشبه الحكم المطلق أو الدكتاتوري؛ إذ تَستبد فكرةٌ واحدةٌ بعقول الناس، ويطغى رأيٌ واحد على تفكير الجماهير … فتؤمن دون مناقشة بالقول الغالب، وتنساق دون وعيٍ بالرأي الجارف … فنحن — في حقيقة الأمر — الذين نفرض بأنفسنا على أنفسنا الحكم المطلق! … لا دستورنا، ولا نظام الحكم لدينا … نظامنا الديمقراطي لا يمنعننا من الحرية … ولكننا نحن الذين ننزل عنها راضين؛ لأننا لا نريد أن ندافع عنها أو ندفع عنها … إننا نُفضِّل دائمًا أن نقبل رأي غيرنا الذي لا نؤمن به، على أن ندفع في سبيل رأينا بعض الجهد أو بعض الغُرم … ما من نظامٍ في الوجود يكفُل الحرية لإنسانٍ يخشى أو يكسل أو يهمل في إبداء رأيه الحر!

•••

إذا أردتم الحرية والكرامة الآدمية فافحصوا كل رأي بعقولكم. ولا تقبلوا جزافًا وبغير تفكيرٍ آراء غيركم، حتى ولو كان أصدقَ أصدقائكم!

إن الكلب على مروءته مُحتقَر … لا لشيء إلا لأنه قبِل بلا صعوبة أن يضع أصدقاؤه في عنقه قيدًا وإن كان من ذهب!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤