الدفاع عن الإسلام

قرأت — لثلاث عشرة سنة خلت١— قصة «فولتير» التمثيلية «محمد»، فخجلتُ أن يكون كاتبها معدودًا من أصحاب الفكر الحر، فقد سبَّ فيها النبي العربي سبًّا قبيحًا عجبت له، وما أدركت له علة! … لكن عجبي لم يطُل؛ فقد رأيته يُهديها إلى «البابا بنوا الرابع عشر» بهذه العبارات:

«فلتستغفِر قداستك لعبدٍ خاضع، من أشد الناس إعجابًا بالفضيلة، إذ تجرَّأ فقدَّم إلى رئيس الديانة الحقيقية ما كتبه ضد مؤسسِ ديانة كاذبة بربرية، وإلى من — غير وكيل رب السلام والحقيقة — أستطيع أن أتوجَّه بنقدي قسوة نبي كاذب وأغلاطه؟ فلتأذن لي قداستك في أن أضع عند قدمَيك الكتاب ومؤلفه، وأن أجرؤ على سؤالك الحماية والبركة، وإني مع الإجلال العميق أجثو وأُقبِّل قدمَيك القدسيتَين.»

«فولتير»
١٧ أغسطس سنة ١٧٤٥م

وعلمت في ذلك الحين أن «روسو» كان يتناول بالنقد أعمال «فولتير» التمثيلية، فاطَّلَعت على ما قال في قصة «محمد» علَّني أجد ما يرُد الحق إلى نصابه، فلم أرَ هذا المفكر الحرَّ أيضًا يدفع عن «محمد» ما أُلصِق به كذبًا، وكأن الأمر لا يعنيه، وكأن ما قيل في هذا النبي لا غبار عليه ولا حرج فيه، ولم يتعرض للقصة إلَّا من حيث هي أدب وفن!

ولقد قرأت بعد ذلك رد «البابا بنوا» على «فولتير» فألفيته ردًّا رقيقًا كيِّسًا، لا يشير بكلمة واحدة إلى الدين، وكله حديث في الأدب، فعظم عجبي لأمر «فولتير» وسألت نفسي طويلًا: أيستطيع عقل مثقف، كعقل هذا الكاتب العظيم، أن يعتقد ما يقول؟ … دين تبعه آلاف الملايين من البشر على مدى الأجيال هو في نظره حقًّا دين كاذب؟ … ومبادئ إنسانية كالتي جاء بها الإسلام هي عنده حقًّا مبادئ بربرية، أم أنه التملق والزُّلفى والنفاق! … وأن الزمن والتاريخ يضعان أحيانًا أقنعة زائفة على نفوس تزعم أنها خُلقت للدفاع عن حرية الفكر؟

منذ ذلك اليوم وأنا أُحس كأني فُجعت في شيء عزيز لديَّ؛ الإيمان بنزاهة الفكر الحر … ولقد كنت أحيانًا ألتمس الأعذار ﻟ «فولتير»، وأزعم أنه قال ما قال لا عن مجاملةٍ أو مَلق، بل عن عقيدة وحُسن طويَّة، استنادًا إلى علم خاطئ بأخبار النبي، ولكن كتابه إلى «البابا» كان يتهمه اتهامًا صارخًا، ولا يدع مجالًا للشك في دخيلة أمره!

إني قرأت ﻟ «فولتير» كُتبًا أخرى، كانت تكشف عن آراء حُرة حقًّا في مسائل الأديان، وتنمُّ عن رُوح واسعة الآفاق، تكره التعصب الذميم، فما باله عندما عرض لذكر «محمد» والإسلام كَتبَ شيئًا هو التعصب بعينه، تعصب لدينه، ذهب فيه إلى حدِّ السجود وتقبيل الأقدام، لا لرب العزة والخلق، بل لبشر هو رئيس الكنيسة التي ما أرى أن «فولتير» كان في ذات يوم من خُدَّامها المخلصين؟ … هي الأطماع التي كانت تدفع «فولتير» — فيما أرى — إلى التمسُّح بأعتاب الملوك والبابوات، ولقد يقدِّم ثمنًا لذلك أفكاره الحرة أحيانًا!

منذ ذلك الحين و«فولتير» عندي مُتهم، ولن أُبرئه أبدًا، ولن أَعُده من بين أولئك العظام الذين عاشوا بالفكر وحده وللفكر وحده! … وأحسب أن التاريخ العادل سوف يحكم عليه هذا الحكم … على أن الذي يدعو إلى الدهش أكثر من هذا أن الشرق والإسلام، وقفَا من الأمر موقف النائم الذي لا يعي ولا يشعر بما يحدث حوله، فلم أرَ كاتبًا من كتَّاب الإسلام قام في ذلك الوقت يدفع عن دينه هذا الهراء الذي قاله «فولتير»! … ويقذف في وجه هذا الكاتب بالحقائق الباهرة القاطعة، أو أن مؤلفًا وضع كتابًا يبرز فيه شخصية النبي العظيمة واضحة جلية! … لقد كان الشرق في ليلٍ هادئ بهيم، لم تُثِر فيه حركة «فولتير» يومئذٍ ساكنًا، اليوم قد تَغيَّر الأمر، ولاحت في أفق الشرق خيوط الفجر، وقام في هذا القرن كتَّاب يمجدون عقيدتهم، وهم يعلمون أن في ذلك تمجيدًا للحق وللشرق؛ فإن المسألة ليست مسألة دين فقط، إنما هي أيضًا مسألة جنس وقومية!

وإذ تقول أوروبا: «الإسلام» فإنما تعني غالب الأحيان «الشرق» … والدفاع عن الإسلام لم يكن في كل الأحيان دفاعًا عن عقيدة وديانة، إنما هو دفاع عن حياة تلك الكتلة التي يُسميها الغربيون: «الشرق» … إن الحروب الصليبية في حقيقتها لم تكن إلَّا حرب الغرب على الشرق، وإن الفتح الإسلامي عندما بلغ فرنسا وهدد أوروبا لم يكن إلا حرب الشرق على الغرب!

هذا المدُّ والجزر بين الغرب والشرق يفهمه مفكرو الأوروبيين تمام الفهم، ويحسبون له الحساب، ويعملون دائمًا على أن تكون الغلبة لهم آخر الأمر، أو أن يُطيلوا على الأقل أمدَ غلبتهم إن كان لا بدَّ من تبدُّل الحال، ومن دوران الفلك طبقًا لناموسٍ أعلى لا قِبَل لهم به، فالدفاع عن شخصيتنا وعقيدتنا دفاع عن حياتنا، وإن الكتابات التي تُوجَّه لهذا الغرض النبيل ينبغي أن يكون لها علينا حق المؤازرة والتعضيد، وإني لست بناقدٍ منقطع للنظر في أعمال المؤلفين وتقدير قيمة ما يكتبون، ولكني أريد أن أُشير إشارة سريعة إلى صوت من الشرق ارتفع في العصر الحديث محتجًّا مدافعًا؛ هو صوت الأستاذ الإمام محمد عبده، في ردِّه على «هانوتو»، فلقد نشر «جابريل هانوتو» الكاتب والوزير الفرنسي يومًا مقالة جاء فيها:

«قد أصبحنا اليوم إزاء الإسلام والمسألة الإسلامية! … اخترق المسلمون أبناءُ آسيا القارة الأفريقية بسرعة لا تُجارَى حاملين في حقائبهم بعض بقايا تمدين البيزنطيين «يونان الشرق»، ثم تراءوا بها على أوروبا، ولكنهم وجدوا في نهاية انبعاثهم هذا مدنية يرجع أصلها إلى آسيا، بل أقرب في الصلة إلى المدنية البيزنطية مما حملوه معهم، ألا وهي المدنية الآرية المسيحية؛ ولذلك اضطروا إلى الوقوف عند الحدِّ الذي إليه وصلوا، وأُكرهوا على الرجوع إلى إفريقية؛ حيث ثبتت فيها أقدامهم أحقابًا متعاقبة!»

ثم قال في موضع آخر:

«وقصَر فريق منا بحثه وحكمه على ما شاهده من المناقضات والخلافات بين الدينيَن المسيحي والإسلامي، فرأى في الإسلام العدو الألد والخصم الأشد …»

قال المسيو كيمون في كتابه «باثولوجيا الإسلام»:

«إن الديانة المحمدية جُذام فشا بين الناس، وأخذ يفتِك بهم فتكًا ذريعًا، بل هي مرض مروع وشلل عام. وجنون ذهولي يبعث الإنسان على الخمول والكسل، ولا يوقظه منهما إلَّا لِيسفك الدماء، ويدمن معاقرة الخمور، ويجمَح في القبائح.

وما قبر «محمد» في «مكة» إلَّا عمود كهربائي يبثُّ الجنون في رءوس المسلمين، ويُلجِئهم إلى الإتيان بمظاهر الصرع «الهستيريا» العام والذهول العقلي، وتكرار لفظة «الله» إلى ما لا نهاية، وتعود عادات تنقلب إلى طباعٍ أصلية، ككراهية لحم الخنزير، والنبيذ، والموسيقى، والجنون الرُّوحاني، والليمانيا، والماليخوليا، وترتيب ما يُستنبَط من أفكار القسوة والفجور في اللذات» … إلخ.

أمثال هذا الكاتب يعتقدون أن المسلمين وحوش ضارية، وحيوانات مفترسة كالفهد والضبع، كما يقول المسيو «كيمون»: «وأن الواجب إبادة خُمسهم.» كما يقول أيضًا: «الحكم على الباقين بالأشغال الشاقة، وتدمير الكعبة، ووضع ضريح «محمد» في متحف «اللوفر» …» وهذا أيضًا قوله: «… وهو حل بسيط وفيه مصلحة للجنس البشري … أليس كذلك؟» … ولكن قد برح عن خاطر الكاتب أنه يوجد نحو ١٣٠ مليونًا من المسلمين،٢ وأن من الجائز أن يهبَّ هؤلاء «المجانين»، للدفاع عن أنفسهم، والذَّود عن بيضة دينهم … إلخ … إلخ!

ما كاد يظهر هذا الكلام في صحيفة المؤيد، حتى قام الأستاذ «الإمام الشيخ محمد عبده» لساعته مجرِّدًا قلمه، وكتبَ نحو أربع مقالات هي أقوى ما قرأتُ دفاعًا عن الإسلام، وإظهارًا لحقيقة مبادئه الخافية على أغلب الأوروبيين. وقد ردَّ على «هانوتو» فيما أوردنا صائحًا:

«ما هذا «التمدين الآري» الذي كانت عليه أوروبا عندما أنقص أطرافها المسلمون؟ … هل كانت تلك المدنيَّة هي التسافك في الدماء، وإشهار الحرب بين الدين والعلم، وبين عبادة الله وبين الاعتراف بالعقل؟ نعم، هذا هو الذي كان معروفًا عند الغربيين وقتما ظهر الإسلام!

ماذا حمل الإسلام إلى أوروبا؟ … وما هي المدنيَّة التي زحف عليهم بها فردُّوها؟ … زحف عليهم بما أفاد من صنائع الفُرس وسكان آسيا من الآريين … زحف عليهم بعلوم أهل فارس، والمصريين، والرومانيين، واليونانيين! … نظَّف جميع ذلك، ونقَّاه من الأدران، والأوساخ التي تراكمت عليه، بأيدي الرؤساء في الأمم الغربية لذلك التاريخ، وذهب به أبلجَ ناصعًا، بهَر به أعين أولئك الغافلين المتسكِّعين، الذين كانوا في ظلمات الجهالة لا يدرون أين يذهبون.

إني أكِيل لمسيو «هانوتو» إجمالًا بإجمال، والتفصيل لا يجهله قومُه، وكثيرٌ من منصفيهم لم يستطع إلا الاعتراف به.

إن أول شرارةٍ ألهبت نفوس الغربيين، فطارت بها إلى المدنيَّة الحاضرة، كانت تلك الشعلة الموقدة التي كان يسطع ضوءها من بلاد الأندلس على ما جاورها، وعمل رجال الدين المسيحي على إطفائها عدة قرون، فما استطاعوا إلى ذلك سبيلًا!

واليوم يرعى أهل أوروبا ما نبت في أرضهم، بعدما سُقيت بدماء أسلافهم المسفوكة بأيدي أهل دينهم، في سبيل مطاردة العلم والحرية وطوالع المدنيَّة الحاضرة!»

ثُم ردَّ «الإمام» في موضعٍ آخر:

«يجب على الباحث في الإسلام أن يطلبه في كتابه، كما يجب عليه أن يطلب آثاره، والإسلام إسلام، والمسلمون مسلمون، ولو استشمَّ مسيو «كيمون» الذي استشهد «هانوتو» بكلامه ريح العلم، لما استفرغ ذلك القذر من فِيهِ، فسخافة رأيه وقلَّة أدبه تكفيه!»

«من أين أتى المسلمون، وكيف دخل عليهم في عقائدهم بالتشبيه؟ … وفي عوائدهم بالتمويه؟ … وممن تعلَّموا الافتراس؟ … وعمن أخذوا الضراء بالشهوات؟ … أنا أعلم ذلك وأهل العلم يعلمون، والله من ورائهم محيط!»

«اتَّبع المسلمون سَنن مَن قبلهم شبرًا بشبر، وذراعًا بذراع، حتى سقطوا في مساقطهم، وطارحوا الأوهام حتَّى انجرُّوا إلى مطارحهم، وبادءوا بما كان لهم وما عليهم!»

«حدثَت في الدين بِدعٌ أكلت الفضائل، وحصدت العقائد … وترامت بالناس إلى حيث يُصبُّ عليهم ما استفرغه «كيمون»!»

«أمَّا لو رجع المسلمون إلى كتابهم، واسترجعوا باتِّباعه ما فقدوه من آدابهم، لسلِمت نفوسهم من العيب، وطلبوا من أسباب السعادة ما هداهم الله إليه في تنزيله على لسان نبيِّه، ومهَّده لهم سلفهم، وخطَّه لهم أهل الصلاح منهم، واستجمعت لهم القوة ودبَّت فيهم روح الفتوة، وكان ما يلقاه «هانوتو» و«كيمون» من دين صحيح شرًّا عليهما مما يخشونه من دينٍ شوهته البِدع!»

يرى «كيمون» أن يُخلى وجه الأرض من الإسلام والمسلمين، ويَستحسن رأيه «هانوتو» لولا ما يقف في طريق ذلك من كثرة عدد المسلمين، وبئس ما اختارا لسياسة بلدهما أن يظهر ضعفهما، ويُعلنا خطل رأيهما وضعف حلمهما!

«أمَا فليعلم كل مَن يخادع نفسه بمثل حلمهما أن الإسلام إن طالت به، غيبة، فله أوبة، وإن صدعته النوائب فله نوبة، وقد يقول فيه المنصفون من الإنجليز مثل «إسحق طلير» … وهو قسٌّ شهيرٌ ورئيسٌ في كنيسةٍ: إنه يمتد في أفريقيا، ومعه تسير الفضائل حيث سار؛ فالكرم والعفاف والنجدة من آثاره والشجاعة والإقدام من أنصاره!».

•••

نعم، لقد آن للغرب أن يحترم عقائد الشرق، بل لقد آن للغرب أن يدرك أن «محمدًا» والإسلام هما من منابع الفكر الحر، وطفرة من طفرات البشرية المتحررة! … والدليل على ذلك شخصية النبي ذاتها، وغرضه في الدعوة إلى دين، جوهره إقناع النفس بالحقيقة العُليا، ﻓ «محمدٌ» هو أول نبي مجَّد البشرية بأن أعلن أنه بشر، وأن دينه هو دين الفطرة البشرية، وقاوم أولئك السفهاء الذين كانوا يطلبون إلى الأنبياء أن يثبتوا نبوتهم بالمعجزات، فأثِموا في الفكر البشري، قبل أن يأثموا في حق الدين!

فالمعجزة — أي الإتيان بعملٍ خارقٍ للمعتاد — لا تدل على شيءٍ ولا تثبت نبوة ولا تدحضها؛ فإن من الكهان أو بسطاء الناس مَن يملكون أحيانًا تلك القوى الخارقة في أجسامهم أو عقولهم أو أرواحهم، دون أن يكونوا من أجل ذلك أنبياءَ … إنَّ «النبي» ليس في حاجةٍ إلى معجزة كي يكون نبيًّا … إنما النبي من حُمِّل رسالة علوية لا ينصرف عن الحياة حتى يؤديها … ومن فضل «محمدٍ» أنه لم يشأ أن يُقنع الناس بغير ذلك، فقد بلَّغهم رسالته … واعتمد في إثباتها على الملَكات البشرية المجردة المتحررة!

فلقد جاء في كُتب السيرة: أن المسلمين عطشوا أثناء مسيرهم إلى «غزوة تبوك»، فأمطرتهم السماء فقال بعضهم: إنها معجزة، فصاح «محمدٌ» من فوره: «إنما هي سحابةٌ مارة! … وأن الشمس كسفت يوم مات ابنه «إبراهيم»، فقال الناس: «إن هذا الكسوف معجزةٌ»، فصاح «محمدٌ»: «إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا تخسفان لموت أحدٍ ولا لحياته»! … هذا كلام «محمدٍ» الذي قال الغرب إنه نبيٌّ كاذب! … فهل يمكن أن يكون هذا جواب نبيٍّ كاذب؟

إنَّ «محمدًا» قد فهم حقيقة النبوة، ووعى معنى الحقيقة العليا، وأدرك أن أكبر معجزةٍ في هذا الكون هي ألا يكون في الكون معجزات، وأن كل شيءٍ يسير طبقًا لنظام دقيق، وإذا قيل نظام قيل قانون، وإذا قيل قانون قيل عقلٌ مدبِّر، وهذا العقل واحد أحد، تبدو سِمته في إدارة الأجسام غير المحدودة في العِظم، كما تبدو في إدارة الأجسام غير المحدودة في الصغر، ذات اليد العلوية وعين أثرها في كل شيء، يد واحدة لا تتغير، وقانون واحد لا يتغير!

إن «محمدًا» قد تأمَّل الطبيعة كثيرًا أيام عزلته الطويلة في «غار حراء»، وفكَّر مليًّا في نظامها العجيب فكشف عن بصيرته وبصره، فامتلأ قلبُه بالله الواحد، كما اقتنع عقله بوجوده، فجاء دينه دينًا كاملًا، صادقًا في نظر القلب والعقل معًا!

ولئن كان على الأرض نبيٌّ حرَص على أن يجاهر بمحبة العلم ومصادقته، ولم يخشَ دينُه العلم، ولم يضطهد العلماء، فهو «محمدٌ» الذي قال:

«فضل العلم خيرٌ من فضل العبادة» … «اطلب العلم ولو في الصين» … وكثيرٌ من الأحاديث التي تُثني على العلم وتحضُّ عليه. ذلك أن مصدر إقناع العلم، ومصدر إقناع «محمدٍ» واحدٌ: الكون وملاحظة ما فيه من إبداعٍ ينمُّ عن عقل مُبدع هائل!

في كتابٍ حديثٍ للعالِم «أينشتين» فصلٌ ذَكر فيه رأيه في الدين فقال: «إنه يعتنق ما يُسميه: الديانة الكونية»، تلك الديانة التي تملأ قلب كل عالِمٍ انقطع للتأمل «ذلك التناسق العجيب بين قوانين الطبيعة وما يخفي من عقلٍ جبار، لو اجتمعت كل أفكار البشر إلى جانبه، لما كوَّنت غير شعاع ضئيل، أقرب القول فيه إنه لا شيء!»

لا ريب عندي أن إحساس «أينشتين» نحو الكون والله، هو عين إحساس «محمدٍ» يوم كان يتحنَّث في «غار حراء»، قبل نزول الوحي! … إنما الأنبياء والعلماء قلوبٌ واعيةٌ تشعر بجلال الله، ولا يمكن لنبيٍّ أن يكون نبيًّا إلا أن يشعر من تلقاء نفسه بعظمة الخليقة، ويتحرق شوقًا إلى معرفة سرِّها، ولا يزال الشوق بقلبه حتى يكشف له الصانع الأعظم عن بعض نوره، ويُوحي إليه بنشر هذا النور على الإنسانية!

إني كلما تأمَّلت شخصية «محمد» مجردة، ثبتَ إيماني بأن الخصومة المعروفة بين العلم والدين ليس لها في الحقيقة وجود، وأن الدين الحق لا يتعارض والعلم والحق! … بل إن الدين والعلم شيءٌ واحد، كلاهما يطلب نورَ الله ويريد وجهَه، وكلاهما يعي ويؤمن ويلهج بتناسق الوجود، ووحدة قوانينه، ودلالة وحدة الوجود على وحدة الخالق! … ولم يظهر نبيٌّ حق ولا عالمٌ حق شعر بغير ذلك. إنما الفارق بين العلم والدين هو في السُّبل التي يسلكها كلٌّ في الدُّنو من الله، ومَن قال إن وسائل العلم ينبغي أن تُماثل وسائل الفن أو وسائل الدين؟

إن الطرائق والسُّبل يجب أن تظل مختلفة مميزة لا يختلط بعضها ببعض، إنما المصدر واحدٌ دائمًا، والغاية واحدة، فما الدين والعلم والفن إلا خيوطٌ ثلاثة كُتِب على بشريتنا القاصرة العمياء أن تتمسَّك بها، لتهتدي إلى ذلك النور الذي لا بدايةَ له ولا نهاية: الله!

١  من تاريخ الطبعة الأولى لهذا الكتاب في عام ١٩٣٨م.
٢  عدد المسلمين الحقيقي في العالم يبلغ نحو ٥٠٠ مليون.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤