جموح الديمقراطية

ما تقولُ هو الواقع! … إن تفشِّي المادية وجموح الديمقراطية لمِن أظهرِ الأمراض الاجتماعية اليوم! … ولعلَّ الأولى نتيجة الثانية، فقد فهمت الديمقراطية فهمًا غريبًا، فهي اليوم مطيَّة ذَلول لمَن يريد سرعة الوصول! … لقد تزاحم الناس فعلًا على ركوبهم فجمحَت بهم وانطلقت تهدم الأخلاق وتُحطم المُثل العليا! … إنك لن تجد اليوم كثيرًا من طراز أولئك الرجال الذين عاشوا متعففين … لا مطمع لهم غير تلبية نداء الحق والواجب في صوت جهير وخُلوص ضمير!

لقد مضى ذلك الزمن الذي كان يجلس فيه العالِم قابعًا في أطماره، يُلقي الحكمة على سامعيه ويجري عليه الخير ليعيش ثم يموت ولم تعرف يده ثِقَل الجنيهات، فقد كفاها أن عرفت ثِقَل القُبلات، يضعها عليها رجال الحكم والسلطان. مضى ذلك الزمن الذي كنا نرى فيه الجاه والمال عاجزَين عن انتزاع الطبيب من واجبه الإنساني، والقاضي من عدله المنزه، ورجل الفقه من فتاواه المجردة، والأستاذ من بين تلاميذه ودرسه، ورجل الدين من بين تابعيه وزهده! … الآن نستطيع بترقية أو بعلاوة لا تعدُو جنيهات أن نلعب بلُبِّ أكثر من هؤلاء، وأن نصرفهم عن ميادين نشاطهم الطبيعي، وأن نُغريهم بمناصبَ لا صلة لها بعملهم ولا بفضلهم، وهذا ما يحدث كل يوم، فقد ماتت المُثل العليا! … وهذا ما أفقر دُور العلم والفكر، ودُور الدين والزهد، ودُور العدل والفقه، ودُور الفن والأدب من أربابها، وزجَّ بهم إلى التطاحن والتسابق في ميادين المادة والوصول!

هنا أيها الصديق كل الخطر؛ فإن تفشِّي المادية والوصولية في جسم الأمة لا يخيفني بقدر ما يخيفني دنو الداء من رأس الأمة، أي خاصتها وقادة الرأي فيها! … إن هذا الرأس هو المحتاج الآن إلى العلاج، ولكن كيف؟ … ما هي تلك العملية الجراحية التي تخرج من هذا الرأس صديد المادية، وتطهيره بماء القناعة والروحانية؟ … كيف نستطيع أن نُذكِّر الناس اليوم أن أقوى إمبراطورية على الأرض وقفت ذات يومٍ — وخلفها أساطيلُ البحر والجو — مكتوفة اليدين حائرة أمام رجلٍ هنديٍّ خلفه عنزة؟ … ثِق أن في الإمكان صُنع الأعاجيب، لو استطعنا أن نُعيد إلى الخاصة حُسن ظنِّهم ﺑ «الأخلاق»، وصدق تقديرهم «للمُثل العليا»! … ينبغي أن يؤمن الناس بألا أحد أعظم ولا أقوى من الرجل الذي لا يُشترى بمال ولا بجاه. نعم، إن مَن ملَك قلبًا حارًّا ولسانًا حرًّا، ولم يكن له في زينة الحياة مطمع، فهو وحده الذي يستطيع أن يسود العالم! … ألا ترى معي أن «المُثل العليا» المحطمة في حاجة إلى أن توضع من جديدٍ شامخة فوق عروشها الرخامية الجميلة!

من مساجلات مع «منصور فهمي» عام ١٩٣٧م

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤