العرائس

تُرى ونحن على هذه الحال من البراءة والسذاجة، لو حدَّثتنا النفس الملعونة بالنزول من أبراج فِكرنا العاجية، والجلوس تحت قبَّة البرلمان الذهبية، فماذا كنا نخطب قائلين للناخبين؟

أمَّا أنا فإني كنت أقول هكذا:

سادتي الناخبين!

باسم «الديمقراطية» أتقدَّم إليكم ملتمسًا عطفكم! … إني أحبُّ الديمقراطية، ومَن ذا الذي لا يحب الديمقراطية؟ … تسألونني ما معنى هذه الكلمة التي تسمعونها هذه الأيام كثيرًا؟ … تعريفها بسيط: «إن الديمقراطية» هي أن رهطًا من الجياع الحُفاة يَمنحون مرتبًا شهريًا قدره أربعون جنيهًا لرهطٍ آخر من الثراة والعتاة!

لعل هذا المنطق يدهشكم، ولكن تلك هي الحقيقة! … هنالك أعجب من ذلك؛ فإن جوف الحقيقة مملوء دائمًا بالغرائب لمَن أراد الغوص فيها! … إن بيننا — معشرَ المرشحين — وبينكم — معشر الناخبين — سوء تفاهم كبيرًا؛ فإننا نطلب إليكم أن تخدمونا، وأنتم تحسبون أننا وُجدنا كي نخدمكم، أنتم تظنون «البرلمان» هو المكان الذي نتكلم فيه عنكم طول الوقت، وعن جوعكم وفقركم وجهلكم، ونبحث تحت قبَّته كل يوم عن وسائل رخائكم ورُقيكم، ونحن نرى في تلك القبَّة الذهبية شرفًا، لمَن استطاع أن يقتنص له تحتها مقعدًا، ونرى عضوية المجلس لقبًا نُتوِّج به أسماءنا، ونُزين به «بطاقاتنا»!

إن عضوية البرلمان في نظرنا ليست إلا عربة «الرولزرويس» التي نرفع بها مركزنا الاجتماعي في أعين الشعب، ونحن إذ ننفق المال في هذه السبيل إنما ننفقه ونحن معتقدون أننا نشتري به وظيفة أو لقبًا أو مقامًا؛ فإذا ما ظفرنا بما نريد بفضل أصواتكم ووجدنا أيديكم العارية السمراء تحملنا إلى داخل ذلك المكان؛ فإننا نتربَّع فيه كالعرائس في «الفترينات»، ومهما صِحتُم وناديتم وصرختم بعد ذلك؛ فإننا لن نسمع أصواتَكم، لأن بيننا وبينكم حاجزًا من زجاج، ولن تستطيعوا أن تلمسونا أو تقربونا، ولكنكم تستطيعون أن تشيروا بأصبعكم من خلف البِلور، فنحسب ذلك منكم إعجابًا فنزداد صلفًا وتِيهًا!

أيها الناخبون! … عجبًا، إني حقًّا لعلى غاية السذاجة إذ أُفضي إليكم بكل هذا في خطبتي التي على أساسها أُنتخَب … ما العمل الآن؟

أتنتخبونني برغم ذلك؟ … لعلَّ صراحتي على الأقل تشفع!

من مساجلات مع «منصور فهمي» عام ١٩٣٨م

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤