المرأة والفن

إنِّي — إذ أتكلم عن الفنِّ — لا يسعني إلا أن أعترف مرغمًا أنَّ المرأة هي روح الفن، ولو لم توجد المرأة على هذه الأرض فربما وُجد العلم، لكن المحقَّق أنه ما كان يوجد الفن. ذلك أن الإلهام الفني هو نفسه قد خُلق على صورة امرأة، وأن لكل لونٍ من ألوان الفن عروسًا هي التي تنثُر أزهاره على الناس … ما من فنانٍ على هذه الأرض أبدع شيئًا إلا في ظل امرأة، وهذا القول مني غريب، ولأُبادر بتوضيح قصدي حتى لا يُقال إني رجعت إلى فضيلة الحق، وأعني الحق الذي تراه المرأة! … كلَّا … إني لم أرجع إلى هذه الفضيلة بعدُ … وكل ما في المسألة أني دائمًا أُفرِّق بين المرأة كشيءٍ يوحي بالجمال، وبين المرأة كمخلوقٍ يريد أن يستأثر بكل شيءٍ في حياتنا!

إن عداوتي لهذا المخلوق لن تنقطع ما دُمت أخشى منه … إن عداوتي ليست إلا دفاعًا عن نفسي، فلو أن المرأة تمثالٌ من الفضة فوق مكتبي، أو باقةٌ من الزهر في حجرتي، أو أسطوانةٌ موسيقيةٌ أنطقها وأسكنها بإرادتي! لما كان لها عندي غير تقديسٍ وإكبارٍ لا يحدُّهما حد، ولكنها للأسف شيءٌ يتكلم ويتحرك، وهي أحيانًا كالطفل يلقي من النافذة كل شيءٍ ثمين، ويجلس على حافتها يضحك ضحكة الانتصار … على أن الإنصاف يقتضيني أن أقول: إن المرأة إذ تُحطِّم من جانبٍ فهي تبني من جانبٍ … إنَّها كالطبيعة، في يدَيها العبقريتَين؛ عبقرية الفَناء وعبقرية البناء، وإنَّه لمن المستحيل أن نرى في التاريخ حضارة قامت بدونها، ولا انحطت بدونها، وإن عرشها في مملكة الفنِّ أظهر العروش! … إنني أستطيع أن أقول على سبيل المثال إن أجمل «الفن الرومانتيكي» الفرنسي إنَّما نبع تحت أقدام «مدام ريكامييه»، وإنَّ صالونات السيدات في أوروبا، ومجالس الشِّعر والغناء في الشرق عند العرب، هي التي أخرجت أجمل ما في الغرب والشرق من شِعرٍ وآدابٍ وفنون!

ولا أستطيع أن أضرب هنا الأمثلة، ولكن مَن يفتح أي كتابٍ من كتب العرب القديمة يرى وصف تلك المجالس التي كانت تتصدرها نساءٌ كالشموس، وتضمُّ فحول الشعراء والمُغنين، ويقرأ تلك الأخبار التي لا تنتهي عن ذِكر الجواري المثقفات والنساء الشريفات، اللائي كن ينظمن — في السر والعلن — تلك المجالس التي فيها نُظم أجمل الشِّعر، وتفتحت أزاهير أنبغ القرائح، وﻟ «علية» أخت «هارون الرشيد» ذوقٌ في فنون الشِّعر والغناء، أثَّر فيمن حولها من كبار الفنانين والشعراء.

و«مدام دي بومبادور» أبرز يدٍ في حركة الفكر والفن في عصرها. ففي الغرب هي المرأة وفي الشرق هي المرأة، وحيثما وُجدت المرأة صاحبة الذوق وُجد في الحال الفن، ونهض الفكر، وقامت الحضارة!

إذا قيل: إن مصر الحديثة لم ترَ بعدُ فنًّا ناهضًا، ومن ثم لم تبدُ أمام العالم بعدُ في ثوب الأمة المتحضرة؛ فإن السبب الوحيد أن المرأة المصرية ذات الذوق والروح ما زالت في مصر نادرةَ الوجود!

إن اليوم الذي تُعنى فيه المصرية باقتناء «لوحةٍ زيتيةٍ» صغيرة، أو «إسكيس» بسيط، ينمُّ عن ذوق، تُزين به جدار منزلها هو اليوم الذي يزهو فيه عندنا التصوير، واليوم الذي تهتم فيه المصرية بشراء نسخةٍ من كل كتابٍ جديدٍ للمؤلف الذي تفضِّله، وتجلد هذه النسخة وتعرضها عرضًا جميلًا، وتتحدث عما فيها من كلامٍ وأفكارٍ في مجالسها، لهو اليوم الذي يرقى فيه عندنا الفكرُ والأدب!

وإن اليوم الذي توجد فيه المرأة العظيمة التي تُكرِّس بعض همِّها، لإيقاظ همم الفنانين، وتنشيط الحركة الفكرية؛ لهو اليوم الذي نقترب فيه من المدنية الحقيقية … نحن في حاجة إلى «البيت المصري» الذي تنمو فيه كل ملَكات الطفل الجميلة!

إن الطفل الأوروبي منذ اليوم الأول الذي يستقبل النور فيه، لا ينام إلا على غناءٍ جميل، وما يمضي قليلٌ حتى تقوده أمُّه في عربةٍ صغيرةٍ إلى الحدائق، فلا يقع نظره الهادئ اللاهي، في غير وعيٍ ولا إدراك، إلا على الطبيعة الجميلة، بسمائها وجنانها، وجداولها، وما يكاد يعي ويدرك بعض الإدراك حتى توضع في يديه كتبٌ لا كتابة فيها ولا كلام، بل صور جميلة ملونة للحيوانات والطيور والمخلوقات، وللطبيعة في مظاهرها الوضاءة الساحرة، فيحسُّ جمال الرسم قبل أن يفقه معنى كلمة «الرسم»، ويطرب لتناسق النغم قبل أن يعرف ما هو الغناء، ويشعر بتناسب الأوضاع وتجاوب الألوان فيما يحيط به من مظاهر الخليقة، ولما يعلم الكلمات والألفاظ التي يُعبر بها عن كل هذه المشاعر، فهو قد أدرك وجود الجمال عن طريق الإحساس، فلا ينقصه بعدئذٍ إلا إدراكه عن طريق العقل والمنطق، وهو عمل المدرسة والكتب … على أن مجرد الشعور بوجود الجمال في المخلوقات والأشياء طفرةٌ كبرى في التكوين الروحي للطفل.

فما الجمال إلا المظهر الخارجي والثوب البادي للنواميس العليا، ففي إدراكِ وجوده إدراكٌ خفيٌّ مُبهمٌ لعظمة تلك القوانين التي تُنظم الوجود، وهذا الإدراك هو كل شرف الإنسان وفضله، وهو وحده الذي يميز الإنسان عن سائر الحيوان، فلو شعرت الحيوانات يومًا بالجمال لما لبثت حيوانات دقيقة واحدة. إن أظهرَ عيبٍ في المصرية الآن هو افتقارها إلى الذوق، أي الإحساس بالجمال في الأشياء … كم من المصريات تعتبر الأزهار في بيتها كضرورة الطعام والشراب؟ … إذا وصلت المصرية إلى هذه الدرجة من الحس المرهف، وبلغت في دقة مشاعرها حدًّا لا تستطيع معه أن تستغني في حياتها اليومية عن الجمال في الألوان والأصوات والأفكار، فلقد حقَّ لنا أن نصيح فرحين مهللين بحقٍّ: «إن مصر لا تقلُّ رُقيًّا عن أرقى الدول حضارة.» وهذه المرأة المصرية ذات الذوق الرفيع والروح المهذب، الدقيقة الإحساس بكل ما هو جميل، هي نفسها التي تخلق الفنان وتوحي إليه؛ لأنها لا تستطيع أن تكون بمعزل عن أولئك الذين يصنعون الجمال! إنها ستهتم بأمره وتواليه بالتشجيع ولا تتركه حتى تستثير خياله، فالمرأة يجب أن تعلم أن «الفنان» ليس إلا قيثارة، وأن أناملها الرقيقة وحدها هي التي تستطيع أن تُخرج منه أجمل الأنغام.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤