جوهر الدين

كان «عمر بن الخطاب» شديدًا في مراعاة أحكام الله، حريصًا على إقرار الأمن والأمانة بين الناس؛ فبينما هو يسير يومًا في أحد الأسواق إذ به يرى رجلًا يلتقط من الأرض لوزة، ويرفعها في يده، ويجري بها في الطريق صائحًا: مَن ضاعت له لوزة؟!

فما كان من عمر إلا أن انتهره قائلًا: كُلْها يا صاحب الورع الكاذب!

•••

في الناس أيضًا مَن يلتقط لفظة في كلام كاتب، فيرفعها منعزلة عن نواياه، مستقلة عن مراميه، ليندب ويولول صائحًا: «ضاع الدين! … ضاع الدين! …»

مثل هذا المتظاهر بالورع لا يفهم من الدين إلا ألفاظًا، ولا يدرك بأُفقه المحدود أن الدين لا يُخشى عليه من لفظة، كما أن الأمانة لا يُخشى عليها من لوزة! … وأن الكتَّاب والشعراء في كل العصور ينتفعون بكل ما في الكتب القديمة من صور، دون أن يرتاب في عقائدهم القارئ الحصيف!

ومَن ذا الذي يستطيع أن يرمي بالوثنية شاعرًا، يُناجي آلهة الشِّعر أو يُرى في هتافه — بإله الحرب، أو إله البحر — شِركًا بالله الواحد الأحد الذي لا شريك له … وإنما وهي صورٌ من الآداب القديمة يستعيرها الشعراء والكتَّاب في أساليبهم، دون أن يخطر في بالهم أن من الناس مَن يضيق عقله فيخلط بين الصورة الشعرية والعقيدة الدينية!

•••

ولكني مع ذلك أحيي كل مَن يعنيه جوهر الدين، وأحثُّ الناس على أن يفخروا بالدين؛ فإني دائمًا أومن أن الدين هو الذي رفع الإنسان فوق مرتبة الكائنات جميعًا!

فالذكاء ليس بالمزية التي اختص بها الإنسان وحده، والنظام الإداري المحكم أو الاقتصادي الكامل ليس وقفًا على المجتمع البشري؛ فإن مجتمع النحل لأدقُّ منا نظامًا في الإدارة، وإن مجتمع النمل لأتمُّ منا إحكامًا في الاقتصاد! … ولكن الذي يميزنا — نحن معاشرَ البشر — هو «الإيمان»! … ما من مجتمعٍ غير مجتمعنا البشري اهتدى إلى ذلك الإيمان الديني؛ لأن حياة الروح لم يلِج بعدُ بابها غيرُ الإنسان!

إذا أهدرت دينك أيها الإنسان؛ فاعلم أنك قد أهدرت آدميتك، وإذا خلعتَ رداءك الديني فقد خلعت رداءك البشري، وانقلبتَ دابة تسعى إلى رزقها في الأرض، ولا تقوى على التطلع إلى السماء! … الدين هو الذي يرفع بصرك إلى أعلى أيها الإنسان! … إلى أعلى من أقدامك وأرضك وطعامك وشرابك! … وإذا استطعت أن ترفع بصرك إلى أعلى من فمك فأنت أرقى من الحيوان! … وإذا ارتفعتَ إلى حيث تدرك وجود «الله» فأنت سيد الكائنات!

•••

كلُّ شيءٍ قد يعرفه الحيوان إلا «الدين» … لو عرفَت جماعةٌ من الحيوان يومًا معنى الدين لأصبحت في الحال بشرًا ساجدين … ما من شيء نفخر به نحن الآدميين إلا أننا نسجُد من أجل فكرةٍ عليا! … ونتحمس من أجل معنًى مقدسٍ … وتعرف قلوبنا ما هو «الإيمان»!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤