الخلق

لا ريب أن العقلية المصرية قد تغيَّرت اليوم بعض التغير! … ولكن كيف تغيرت؟ هذا هو موضوع الكلام. إن شئون الفكر في «مصر» حتى قُبيل ظهور الجيل الموجود كانت مقصورة على المحاكاة والتقليد، محاكاة التفكير العربي وتقليده! … كنا في شبه إغماء، لا شعور لنا بالذات … لا نرى أنفسنا، ولكن نرى العرب الغابرين! … لا نُحس بوجودنا … ولكن نُحس بوجودهم هُم! … لم تكن كلمة «أنا» معروفة للعقل المصري، ولم تكن فكرة الشخصية المصرية قد وُلِدت بعد!

وجاء الجيل الجديد فإذا هو أمام روحٍ جديد، وأمام عملٍ جديد، لم يَعُد الأدب مجرد تقليدٍ أو مجرد استمرارٍ للأدب العربي القديم في روحه وشكله، وإنما هو إبداع وخَلق لم يعرفهما السلف، وبدت الذاتية المصرية واضحة، لا في روح الكتابة وحدها، بل في الأسلوب واللغة أيضًا … لقد بدأنا نعِي ونُحس وجودنا.

وأول مظاهر الوعي شخصية الأسلوب، واستقلال طريقة التعبير، وما يتبعها من ألفاظ وأخيلة … كل هذا أصبح اليوم جليًّا معروفًا، ولم أكتب هذه الصفحات من أجله، فحاجة مصر إلى الاستقلال الفكري أمرٌ لا نزاعَ اليوم فيه، ولقد مضى الكلام في هذا، إنما الأمر الذي يحتاج إلى كلامٍ هو معرفة مميزات الفكر المصري: معرفة أنفسنا حتى تتبيَّن لجيلنا مهمتُه … لقد فهمنا مميزات الأسلوب والشكل، وما فهمنا بعدُ جيدًا مميزات النفس والروح!

ما هي مميزات العقلية المصرية في الماضي والحاضر والمستقبل؟ … وما روح مصر؟ … ما مصر؟ … إن اختلاطنا بالروح العربية هذا الاختلاط كاد يُنسينا أن لنا روحًا خاصة، تنبض نبضاتٍ ضعيفة تحت ثِقَّل تلك الروح الأخرى الغالبة، وأن أول واجبٍ علينا هو استخراج أحد العنصرَين من الآخر حتى إذا ما تم تمييز الرُّوحَين — إحداهما من الأخرى — كان لنا أن نأخذ أحسن ما عندهما، وكان لنا أن نقول للناس: «ها نحن أولاء قد أنرنا لكم الطريق إلى أنفسكم؛ فسيروا!»

لا بدَّ لنا إذَن أن نعرف مَن المصري، ومَن العربي … هذا السؤال ألقيته على نفسي منذ سنوات معدودة؛ إذ كنت أطيل النظر في الفنَّينِ المصري والإغريقي … وأذكر أني أثرت هذه المسألة أمام بعض الباحثين، وأذكر أني لخَّصتُ الفرق بين العقليتَين بمَثل واحد في فن النحت سائلًا: ما بال تماثيل الآدميين عند المصريين مستورة الأجساد، وعند الإغريق عارية الأجساد؟ … هذه الملاحظة الصغيرة تطوي تحتها الفرق كله، كل شيءٍ في مصر خفي، كالروح، وكل شيءٍ عند الإغريق جلي، كالمنطق! … في مصر الروح والنفس، وفي اليونان المادة والعقل! … نظرةٌ أخرى في أسلوب النحت تدعم هذا الكلام … إن المثَّال المصري لا يعنيه جمال الجسد ولا جمال الطبيعة من حيث هي شكل ظاهر، إنما تعنيه الفكرة. إنه يستنطق الحجر كلامًا وأفكارًا وعقائد! … على أنه يشعر مع ذلك بالتناسق الداخلي! … يشعر بالقوانين المستترة التي تسيطر على الأشكال! … يشعر بالهندسة غير المنظورة التي تربط كلَّ شيءٍ بكلِّ شيء! … يشعر بالكل في الجزء وبالجزء في الكل، وتلك أولى علامات الوعي في الخلق والبناء!

هذا كله يُحسه الفنان المصري، لأن له بصيرة غريزية أو مدربة تَنفذ إلى ما وراء الأشكال الظاهرة، لتُحيط بقوانينها المستترة! … فنان عجيب لا يصرفه الجمال الظاهر للأشياء عن الجمال الباطن! … إنه يريد أن يصور رُوح الأشكال لا أجسامها، وما رُوح الشكل إلا القانون العام الأعلى المستتر خلفه! … إن ولَع المصريين بالقوانين الخفية لشيءٌ يبلغ حدَّ المرض، مرضٌ إلهي، لو أن الآلهة تمرض لكان هذا مرضها؛ فرط البحث عن القانون!

كلُّ شيء في مصر إلهي؛ لأن «مصر» التي منحتها الطبيعة الخير واليسر وسهولة العيش، وكفتها مشقة الجهاد في سبيل المادة استقلَّت منذ الأزل تتأمل ما وراء المادة … حظُّها في هذا حظ «الهند»: أُمة كثيرة الخير دانية القطوف، لا حاجة بها إلى الكفاح، ولا عمل لها إلا استمرار ترف الحكمة العليا … انقطعت هي أيضًا من قديمٍ تحت أشجارها المقدسة تبحث عمَّا وراء الحياة.

مصر والهند حضارتان قامتا على الرُّوح؛ لأنهما قد شبعتا من المادة، والإغريق على النقيض، أمةٌ لم تشبع من المادة … أمةٌ نشأت في العُسر والفاقة … أرضها لا تدِرُّ من الخير إلا قليلًا … كان لزامًا عليها الكفاح في سبيل العيش، وكان حتمًا عليها الجري وراء المادة … حربٌ تلو حرب، وفتحٌ بعد الفتح، وضربٌ في مشارق الأرض ومغاربها، على هذا النحو لم يكن للإغريق ذلك الضمير المطمئن، ولا ذلك الإيمان بالأرض الذي يوحي بالتفكير فيما وراء الأرض والحياة! … إن عاطفة الاستقرار والإيمان عند المصريين ممزوجةٌ بالدم؛ لأن المصريين نزلوا من بطن الأزل إلى أرض مصر، لا يُعرف لهم نسبٌ آخر على وجه التحقيق، واختلاف العلماء في أمر أصلهم لم ينتهِ بعد، وفي كل يومٍ يبدو دليلٌ على أن العُمران والاستقرار وُجِدا في مصر قبل التاريخ المعروف. ولقد ظهرت الحضارة المصرية في التاريخ تامة كاملة دفعة واحدة كما يظهر قرص الشمس في الأفق عند الشروق! … ولقد قال «سولون»: إن الكهنة المصريين يعنون العناية كلها بذكريات تلك القارة العظيمة ذات المدنيَّة الزاهرة التي ابتلعها المحيط قبل مبدأ التاريخ؛ «قارة الأتلانتيد»، أتُرى كانت الحضارة المصرية استمرارًا لتلك المدنية المندثرة؟ … لم يقم دليلٌ على كل فرض. «مصر» أمة مستقرة مؤمنة، زهَّدَها عمرها الطويل، وخيرها الكثير، في مباذل الحياة، وهذا الزهد والتفكير فيما وراء الحياة ظهر أثرهما على وجه الفن المصري، ولا شيء يدل على عواطف أمة وعلى عقليتها مثل فنِّها؛ فلقد طالعَ العالم الحديث على وجه الفن المصري الصرامة والجِد والعمق، ولا أكاد أفتح كتابًا في الفن المصري حتى أجد كلمة «الصرامة» نعتًا من نعوت هذا الفن، ولا أفتح كتابًا في الفن الإغريقي إلا وجدت كلمة «الحياة» وكلمة «الإنسانية» من نعوت هذا الفن! … نعم، الحياة هي كل شيءٍ عند الإغريق، قد يدفعهم حب البحث إلى لمس حدود الحياة الأخرى؛ فيلمسونها بالعقل والمنطق لا بالقلب والروح! فلسفتهم فلسفة العشق والمنطق والحياة! … فلسفة الحركة لا فلسفة السكون!

عند «مصر» و«الهند» السكون، وعند «الإغريق» الحركة. قرأتُ حديثًا «المقبرة البحرية» ﻟ «بول فاليري»، وهو المتصل اتصالًا مباشرًا بالفلسفة اليونانية؛ فإذا هو يشير في قصيدةٍ إلى الحركة والسكون، وإذا الحركة عنده من خصائص العدم الخالد غير الواعي، وهو يعارض «زينون» الألياتي في إنكاره للحركة، ويتغنَّى في آخر القصيدة بانتصار الحركة، أي الحياة على قِصَرها وفنائها، فهو في ذلك لم يخرج عن يونانيته المكتسبة، ولم يفهم في رأيي روح «مصر و«الهند»! … ولم يشرف على ذلك العالم الخالد غير الواعي؛ فإن دون هذا الإشراف والاتصال التجرد التام من كل عقلٍ آدميٍّ أو منطقٍ بشري! … هذه هي الصعوبة في فهم مصر و«الهند»، وهذا ما جعل الفن المصري سرًّا مغلقًا حتى أوائل هذا القرن، وما صرف الناس إلى دراسة اليونان وحدها، فهي واضحة المعنى يسيرة المنال؛ لأنها لزمت شاطئ الحياة!

حظُّ «الإغريق» في كل هذا حظُّ العرب أيضًا، أمة نشأت في فقرٍ لم تعرفه أمة غيرها … صحراء قفراء … قليلٌ من الماء يثير الحرب والدماء … جهاد وكفاح لا ينقطعان في سبيل العيش والحياة … أُمة لاقت الحرمان وجهًا لوجه، وما عرفت طيِّب الثمار وجري الأنهار ورغد العيش ومعنى اللذة إلا في السِّيَر والأخبار … كان حتمًا عليها ألَّا تُحس المثل الأعلى في غير الحياة الهنيئة، والجنَّات الخضراء، والماء الجاري، وألوان النعيم واللذائذ التي لا تنضب ولا تنتهي! … أُمة بأَسرها حلمَت بلذة الحياة ولذة الشبع، فأعطاها ربها اللذة ومنحها الشبع! … كل تفكير العرب وكل فن العرب في لذة الحس والمادة، لذة سريعة منهومة مختطفة اختطافًا؛ لأن كل شيءٍ عند العرب سرعة ونهب واختطاف!

عند الإغريق الحركة، أي الحياة، وعند العرب السرعة، اللذة … لم تفتح أُمة العالم بأسرع مما فعلت العرب، ومرَّ العرب بحضاراتٍ مختلفة، فاختطفوا من أطايبها اختطافًا ركضًا على ظهور الجياد … كل شيءٍ قد يحسونه إلا عاطفة الاستقرار … وكيف يعرفون الاستقرار وليس لهم أرضٌ ولا ماضٍ ولا عُمران؟ … دولة أنشأتها الظروف ولم تُنشِئها الأرض، وحيث لا أرض فلا استقرار، وحيث لا استقرار فلا تأمُّل، وحيث لا تأمُّل فلا «ميتولوجيا» ولا خيال واسعًا ولا تفكير عميقًا، ولا إحساس بالبناء! … لهذا السبب لم تعرف العرب البناء، سواء في العمارة أو في الأدب أو في النقد … الأسلوب العربي في العمارة من أوهَى أساليب العمارة التي عرفها تاريخ الفن، وإذا عاش لليوم فإنما يعيش بالزخرف … فن الزخرف العربي هو الذي أنقذَ العمارة العربية … إن العمارة العربية — إلا في مصر — ما هي في رأيي سوى زُخرف لا بناء، فلا أعمدة هائلة، ولا جبهة عريضة، ولا وقفة ولا بساطة عظيمة، ولا روعة عميقة، وإنما هي وَشيٌ كثير وجمال كجمال الحلي المرصع يبهر البصر، ولا فِكر خلفه!

أما فن الزخرف العربي فهو في الحق أجمل وأعجب فنٍّ للزخرف خلده التاريخ … والزخرف عند العرب وليد ذلك الحلم باللذة والترف. كل شيءٍ عند العرب زخرف. الأدب نثرٌ وشِعرٌ لا يُقوم على البناء، فلا ملاحم ولا قصص ولا تمثيل، إنما هو وَشيٌ مرصَّع جميل يلذ الحس: «فسيفساء» اللفظ والمعنى، و«أرابيسك» العبارات والجُمل! … كل مقامة للحريري، كأنها باب الجامع المؤيد؛ تقطيع هندسيٌّ بديع، وتطعيم بالذهب والفضة لا يكاد الإنسان يقف عليه حتى يترنح مأخوذًا بالبهرج الخلاب! … كذلك الغناء العربي «أرابيسك» صوتي، فلا مجموعة أصواتٍ منسقة البناء كما في «الديترامب» أو «الأوركسترا» الإغريقية، أو كما في «الكورس» الجنائزي المصري، ولا حتى مجرد صوتٍ ينطلق حُرًّا بسيطًا مستقيمًا! … وإنما هو صوت محمل بألوان المحسِّنات من تعاريج وانحناءات والتواءات وتقاسيم، كأنها «ستالا كتيتات» غرناطية، لا يكاد يسمعه «القاضي الفاضل» حتى يستخفَّه الطربُ ويضع نعله فوق رأسه. كان هذا في العهد الأول للموسيقى؛ إذ كانت عند جميع الشعوب بسيطة عارية، تخرج من القلب تعبيرًا عمَّا في القلب، أو رمزًا لفكرة من الأفكار! … والموسيقى كالعمارة من الفنون الرمزية لا الفنون الشكلية، ولكن العرب لا يحبون الرموز، ولا طاقة لهم بالفن الرمزي، ولا يريدون إلا التعبير المباشر بغير رموز إلا الصلة المباشرة بالحس، فجعلوا من الموسيقى لذة للأُذن لا أكثر ولا أقل، كما جعلوا العمارة لذة للعين لا أكثر ولا أقل. ولقد حاول «الفارابي» — فيما أذكرُ — التقريب بين الموسيقى العربية والموسيقى الإغريقية، وكان لا بدَّ من الإخفاق لأسباب قد أذكرها بعد!

كذلك التصوير العربي على جماله ودقته ليس إلا مجرد تزيين وزخرف للكتب والمخطوطات، ولم يؤدِّ لغير تلك الغاية «المنياتور الفارسي» … قد يكون للدين دَخلٌ في تأخر النحت والتصوير عند العرب. غير أني أعتقد في براءة الدين؛ فإن العرب كانوا دائمًا ضد الدين كلما وقف الدين دون رغبات طبائعهم، لقد حرَّم الدين الشراب فأحلُّوا هم الشراب في قصور الخلفاء، وما وُصفت الخمر ولا مجالس الخمر في أدب أُمة بأحسن مما وُصفت في الأدب العربي! … لا شيء في الأرض ولا في السماء يستطيع أن يَحُول بينهم وبين اللذة.

أما النحت أو التصوير الكبير فليس في طبيعتهم؛ لأن تلك الفنون تتطلب فيمن يزاولها إحساسًا عميقًا بالتناسق العام مبناه التأمل الطويل، والوعي الداخلي للكل في الجزء، وللجزء في الكل، وليس هذا عند العرب؛ فهم لا يرون إلا الجزء المنفصل، وهم يستمتعون بكل جزءٍ على انفرادٍ … لا حاجة لهم بالبناء الكامل المتسق في الأدب؛ لأنهم لا يحتاجون إلا للذة الجزء واللحظة … قليلٌ من الكتب العربية في الأدب يقوم على موضوع واحد متصل، إنما أكثر الكتب «كشاكيل» في شتى الموضوعات، تأخذ من كل شيء بطرف سريع؛ من حكمة وأخلاق ودين ولهو وشعر ونثر ومأكل ومشرب وفوائدَ طبية ولذة جسدية، وحتى إذ يترجمون عن غيرهم يُسقطون كل أدبٍ قائمٍ على البناء؛ فلم ينقلوا ملحمة واحدة، ولا «تراجيديا» واحدة، ولا قصة واحدة. العقلية العربية لا تشعر بالوحدة الفنية في العمل الفني الكبير؛ لأنها تتعجل اللذة، يكفيها بيت شِعرٍ واحدٌ أو حكمة واحدة أو لفظ واحد أو نغم أو زخرف لتمتلئ طربًا وإعجابًا؛ لهذا كله قصر العرب وظيفة الفن على ما نرى من الترف الدنيوي وإشباع لذات الحس، حتى الحكمة وشعراء الحكمة كانوا يؤدون عين الوظيفة؛ إشباع لذة المنطق والمنطق جمالٌ دنيويٌّ … ولا أستغرب غضب «نيتشه» على «إيروبيد» لإسرافه في هذا المنطق على حساب الموسيقى!

من المستحيل إذَن أن نرى في الحضارة العربية كلها أي ميلٍ لشئون الروح والفكر بالمعنى الذي تفهمه «مصر» و«الهند» من كلمتَي الروح والفكر! … إن العرب أمةٌ عجيبة، تحقق حلمها في هذه الحياة، فتشبثت به تشبث المحروم، وأبَت إلا أن تروي ظمأها من الحياة وأن تعُبَّ من لذاتها عبًّا قبل أن يزول الحلم ويعود شقاء الصحراء، وقد كان … إن موضع الحضارة العربية من «سانفونية» البشرية كموضع اﻟ «سكيرتزو» من سانفونية «بيتهوفن» نغمٌ سريع مُفرح لذيذ!

لا ريبَ عندي أن مصر والعرب طرفَا نقيض؛ مصر هي الرُّوح، هي السكون، هي الاستقرار، هي البناء! … والعرب هي المادة، هي السرعة، هي الظعن، هي الزخرف.

مقابلة عجيبة، مصر والعرب وجهَا الدرهم، وعنصرَا الوجود … أي أدبٍ عظيمٍ يخرج من هذا التلقيح! … إني أومن بما أقول، وأتمنى للأدب المصري الحديث هذا المصير؛ زواج الرُّوح بالمادة، والسكون بالحركة، والاستقرار بالقلق، والبناء بالزخرف … تلك ينابيع فكر كامل، ومدنيَّة متزنة لم تعرف البشرية لها من نظير … إن أكثر المدنيات يميل: إما إلى ناحية الرُّوح، وإما إلى ناحية المادة!

حضارة واحدة قيل إنها استطاعت في وقتٍ ما هذا المزج بين الرُّوح والمادة، وهذا الاتزان بين عنصرَي الوجود، تلك حضارة «الإغريق»! … نعم، أعود فأرُد إلى أُمة «الإغريق» اعتبارها، وأعترف أني عندما وضعتها في كفَّة المادة كنت متأثرًا بعض الشيء بكلام «تين»، و«تين» عقل خلاب، لكنه عقل، والعقل وحده بعيد عن فهم الجانب الروحي للمدنيات … ما هداني إلى الحق إلا القلبُ … إلا طول تأملي في جبهة «الباريتينون» … من دماغ ذلك الجواد الذي خلقته يد «فيدياس»، فوق هذا المعبد خرجت أفكار توحي إليَّ بأن أولئك القوم كانوا أعمقَ مما نظن، وكانوا يشعرون بشيء آخر غير مجرد المادة الظاهرة، وما لبثَت «ميلبومين» أن جاءتني ببيِّنةٍ أخرى، وتأملت قليلًا فرأيت القناع قد كشف، وذكرتُ من فوري أن أصل الإغريق جنسان مختلفان؛ «اليونانيون» القادمون من آسيا، المعروفون عند الهنود باسم «اليافاناس» أي عُبَّاد «يونا»، و«الدوريون» الحربيون البرابرة الهابطون من الشمال، وإله اليونانيين هو «ديونيزوس» وإله الدوريين هو «أبولون» … وها هنا تفسير الإغريق. في هذا الصراع بين «ديونيزوس» رمز الروح والقوى الخفية الشائعة والنشوة … وبين «أبولون» رمز الفردية والشخصية المفروزة والوعي، صراع بين الروح والمادة، وبين القلب والعقل، وبين النشوة والوعي «ديونيزوس» إلهٌ آسيويٌّ فيما يُخيل إليَّ أنه جُلب من «الهند» بلا مراء، فغدا في اليونان ينبوع الموسيقى، لهذا السبب قدرت إخفاق «الفارابي»؛ فإن الموسيقى العربية وليدة عقلٍ واعٍ، لأن العرب أُمة الفردية والوعي والمنطق العقلي والظاهر المحسوس! … إن العرب من عُبَّاد «أبولون» وهم لا يشعرون، إن العرب لا يمكن أن يفهموا «ديونيزوس»، تلك النشوة الدينية الجارفة التي تُخرج صاحبها من «سيطرة العقل والوعي، كي تصله مباشرة بالطبيعة! … إن أغاني عُبَّاد «باكوس» الحماسية في الغابات، ومزامير اﻟ «ساتير»، لشيءٌ بعيد إدراكه على العقلية الفردية، شعور الإنسان في لحظة أنه انقلب مخلوقًا له جسم جواد ورأس رجل، أو رأس رجل أو رِجل ماعزٍ … هذا الاتحاد بين الحيوان والإنسان إحساسٌ ليس له مثيلٌ إلا عند المصريين القدماء … هذا التلاقي بين الأنواع وبين القوى في مخلوق واحد لهو عند الأولِين بقية ذكرى تلك المخلوقات الإلهية البائدة التي كانت تحكم الأرض قبل ظهور الإنسان … مخلوقاتٌ لا هي من الإناث ولا هي من الذكور، لا هي من الحيوان ولا هي من الإنسان؛ لأن الأجناس والفصائل لم تكن قد فُرزت. كذلك «الساتير» في «الميتولوجيا» الإغريقية رمزٌ للإنسان الأول، الإنسان الداني من الحيوان، القريب من الآلهة، يدنو من الحيوان بغريزته الجنسية المتيقظة ينبوع القوة الخالقة عند الإغريق والهنود، كما هي عند المصريين، ويقرب من الآلهة بغريزته الروحية المتصلة بقوى الطبيعة الإلهية؛ فهو ما زال يحتفظ بقبسٍ من الحكمة العليا بدون أن يشعر، وببريقٍ من ذلك النور الروحي والإلهام الذاتي يرى به كتلة الزمن، من ماضٍ وحاضر ومستقبل في شبه لمحة واحدة!

تلك القدرة الخفية هي حاسةٌ بائدةٌ كانت للإنسان الأول، وفقدناها اليوم … نعم، فقدنا كل القوى الروحية التي منحتنا إياها الطبيعة يوم كنا نحبها ونتصل بها، ولم يبقَ لنا اليوم إلا العقل المحدود والمنطق القاصر … وها نحن أولاء اليوم في هذا الكون الهائل مخلوقاتٌ منفردةٌ منبوذةٌ … أين ذهب «ديونيوس»؟ … وهل يُبعث من جديد؟ … وإذا بُعث فهل يجد مَن يعرفه في هذا العصر ذي الحضارة المادية الفردية؟!

رجل واحد ما زال يذكر هذا الإله ويستطيع أن يعرفه إذا ظهر كما عرف «غالياس»١ أصحاب الكهف! … وهو وحده كذلك يستطيع أن يستقبله باسم هذا العصر؛ هذا الغالياس العصري هو «تاجور»! … إنه يتكلم كثيرًا عن ذلك الاتحاد بين الإنسان والطبيعة، وعن ذلك الفاصل المرفوع بين الحياة الخاصة وبين الحياة العظمى التي تخترق الكون، وعن ذلك الحب بين الإنسان والجماد، هذا كلام جميل؛ لكن هل تراه يشعر بحقيقته؟ يُخيل إليَّ أن تلك الحقائق قد انطوت بانقضاء دولة الإغريق، بل لقد انقضت قبل أن تقضي دولة الإغريق! انقضت بطغيان منطق «سقراط» على رُوح «هوميروس»، انقضت بطرد «ديونيزوس» من «تراجيديات إيروبيد» … غضبة «نيتشه» المعروفة … انقضت بغلبة الإحساس الفعلي على الإحساس الروحي … انقضت بانتصار «أبولون» في النهاية على «ديونيزوس».

وهكذا اختل التوازن، ورجحت كفَّة المادة، وانطفأت الحضارة الإغريقية إلى الأبد، ولم ترِث أوروبا منها غير كنوز العقل والمنطق وبقيت في الظلام كنوز «ديونيزوس» الخفية!

لم تنجح اليونان إذَن النجاح المطلوب في تطعيم الروح بالمادة؛ فهل تأمَل مصر بلوغ هذه الغاية يومًا؟

دمنهور في مايو ١٩٣٣م
من رسالة إلى «طه حسين»!
١  أحد أبطال قصتي «أهل الكهف».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤