النقد

نحن متفقانِ ولا خلاف بيننا في الغاية، وهذا هو مطلبنا! … هنالك تفاصيلُ أفترق فيها عنك ولن أعود إليها؛ فأنا أفزع من النظر إلى الوراء خشية أن أتحول إلى تمثالٍ من الملح، أو حتى إلى تمثالٍ من الذهب! … نفسي تصدف أحيانًا عن الفكرة الجامدة مهما تكن خالدة، ويحلو لي أحيانًا أن أنثر الأفكار عابثًا من نافذة قطار!

إن رسائلنا في حقيقتها لا تعني أكثر من إثارة الغبار في أرض نائمة مفروشة بالحصى! … لسنا نُصدر أحكامًا بهذه الكتب السريعة، وإنما نحن نطرح مسائل ونلقي بفروض، سوف يلتقطها ويجمعها الباحثون المنقطعون يوم تستيقظ الأجيال! … اتفقنا إذَن، أو ينبغي لنا أن نتفق على أي حال، حتى ننصرف إلى شيء جديد!

إن البحث عن الجديد هو الخليق عندي بالمجهود! … ولقد فتح لنا اليوم باب الجديد صديقُنا «أحمد أمين»! … قال لي ذات مساء إنه يودُّ لو وضع كتابًا في أصول النقد! … النقد؟ … لفظ رنَّ في أُذني، وذكرت للفور أن رسالتي السابقة إليك كان موضوعها «الخلق»! … وقلت في نفسي: ما يمنع من إتمام الكلام في رسالة ثانية يكون موضوعها «النقد»؟ … وإذا الأمر ينكشف لي عن قضية كبيرة:

أنعُدُّ النقد كالخَلق، خاضعًا لسلطان التيارات الفكرية الثلاثة التي ذكرتها في ردك؛ التيار المصري القديم، والتيار العربي، والتيار الأوروبي … أم نعُدُّ النقد كالعلم لا يخضع لمثل هذه المؤثرات؟ … أما أنا فلن أجيب من فوري عن هذا السؤال؛ فأنا أكتب ولا أدري أين يحطُّ بي القلم! … دعني أولًا أنشئ على هذا النغم بعض «تقاسيم» دون أن أعني الآن بالغاية. إن الغاية أحيانًا رخيصة بجانب الوسيلة، على الأقل في نظر الفن؛ لأن الغاية في الفن لا تبرر الوسيلة! … الحياة كذلك، تلك القطعة الفنية التي أبدعها الخالق، أهي شيء غير وسيلة متينة التكوين … ألَها معنًى غير ذلك الطريق المُبين الذي أوله ضباب وآخره ضباب؟ … خطٌّ هندسيٌّ رُسم على لوح الوجود، كيف ابتدأ، كيف انتهى … لا يعني ذلك علم الهندسة! … إنه خطٌّ بين نقطتين وكفى … ليس لنا أن نسأل عن غاية الحياة، ولا عن غاية الفن، ولا عن غاية العلم! … إن الغاية لا تهمُّ … إنما المعنى كله في الوسيلة … الحياة هي الطريق، العلم هو الطريقة، الفن هو الأسلوب! … أما الغاية فلا غاية! … وهل تُرتجى من العلم أو من الفن أو من الحياة غايةٌ مطلقة يومًا من الأيام؟ … مُحال … ما نحن إلا أسلوب الخالق … ما الكون إلا أسلوب!

الأسلوب كل شيء عند كل خالق، وفي كل خلق … إن الخالق أعظم من أن يحبس إرادته الخالدة في حدود «غاية»: لفظ يدل بذاته على معنى الانتهاء … في اعتقادي أن كلمة «غاية» من صُنع العقل البشري الصغير! … هذا العقل المحدود الذي يضع كل شيء دائمًا داخل حدود، ويأبي إلا أن يكون لكل شيءٍ أول وآخر … إنما الخلود في الأسلوب؛ لأن الأسلوب لا أول له ولا آخر، فهو شيء كائن دائمًا لا علاقة له بالزمن!

إن رجل الفن … وهو المقلِّد الأصغر للمبدع الأكبر … يدرك أن الفن لا يعيش بالغاية؛ لأن الغاية فانية كاسمها، وإنما يعيش الفن بالأسلوب! … لقد انقضت الغاية من تشييد الأهرام، وفنيت الغاية من بناء «البارتينون»! … دفن الموتى أو عبادة الآلهة الغابرين غاية قد ماتت، وبقي أسلوب الفن وحده خالدًا في «الأهرام» و«البارتينون»! … خدمة الإنسانية غاية العلم في نظر البسطاء، ولو سُئل عالِم في ذلك لابتسم: «ما لي وللإنسانية؟! … إنما أنا أبحث عن سرِّ أسلوب الصانع الأعظم! … إنما هي لذة البحث في ذاتها … إنما هي طريقة البحث وأسلوبه … ولولا ذلك السرور الذي يملأ نفسي إذ ينكشف لعيني الباحثة جمال أسلوب الله، لما تجشَّمت جهدًا في سبيل العلم، ولما كان للعلم هذا المعنى الرفيع!»

المخترعات كذلك ليست غاية العلم … هي تطبيقٌ للعلم! … إنما العلم هو البحث والخلاص المجرد عن كل غاية وعن كل استغلال، لقد كان الإغريق يبحثون ولا يطبقون؛ «فيثاغورس» مَثل من أمثلة الأسلوب الخالد للعلم الخالص … الأسلوب إذَن هو محور النقد كما هو عماد الخَلق. وكلمة الأسلوب رحبة عميقة كالبحر، في جوفها كل كنوز المعرفة التي يصبو إليها البشر، ولعل كل ما أوتيه الإنسان — من سليقة سامية منذ أول الأزمان — ليس إلا انعكاسَ أسلوب الخلَّاق في نفس الإنسان … هذا المنطق الذي نشأنا عليه ونرجع إليه في كل حياتنا، هذا الإحساس بالنتيجة والسبب، هذا الشعور بالتناسق والتناسب، هذا الإدراك للصلة التي تربط الشيء بالشيء، من أين جاءنا هذا نحن البشر؟

أهناك مصدرٌ آخر غير أسلوب الخالق، فتحت البشرية عينيها فألِفته حولها، فهو موجودٌ قبلها، وقبل الخليقة، كما يوجد الرسم والتصميم قبل البناء … إن أسلوب المبدع في صنع الحقيقة هو وحده المنبع الأزلي لهذه الصفات كلها!

المنطق، ارتباط السبب النتيجة، الشيء بالشيء، والجزء بالكل. والتناسق والتناسب صفات هي بعينها صفات الأسلوب السليم لكلِّ عمل فنيٍّ عظيم! … أسلوب الله هو المعلم الأول والأخير. وما أول صورة رسمها الإنسان على الأحجار وعظام الحيوان سوى إعلان شعوره الخفي بتلك الصفات! … إن رجل الفن الأول هو أول إنسانٍ عرف «المنطق» صفة فنية بعد أن كان المنطق سليقة سامية، تسبح في أنحاء نفسه ولا يعرف ما هي … إن المنطق الذي شيَّد الأهرام لهو صورة محكمة للمنطق الذي شيَّد الكون … ما المنطق؟ … ما معنى المنطق؟ … سرُّه في تلك المرآة العظيمة الصافية التي تحيط بنا كالجدران.

الوجود، أجمل مثالٍ للمنطق في الأسلوب، ينبغي لرجل الفن والأدب والعلم أن يطيل فيه النظر! … كل شيء في هذا الوجود مصنوع على طريقة واحدة، وعلى قاعدة واحدة … ما القاعدة التي بُني عليها الوجود؟ … هي القاعدة التي بُنيت عليها الأهرام … هي قاعدة كل بناء.

التماسك بين الأجزاء في كلٍّ واحد منسَّق … هذا التماسك ما علته؟ وكيف يكون؟ … قانونٌ أستطيع أن أفرغه كما يفعل الرياضيون في صيغة بسيطة من لفظين: «الأخذ والعطاء»! … كل شيء في هذا الوجود يحيا على نمط واحد! … وكل حياة في هذا الوجود لها مظهر واحد … «أخذ وعطاء» في حركات متصلة متشابهة.١ زفير وشهيق عند الإنسان والأحياء، اكتساب وإشعاع عند النجوم والأشياء. الأخذ والعطاء قانون التماسك والاتصال في حياة الفرد والمجتمع والأمة والأمم، وفي حياة الأخلاق والسياسة والاقتصاد، وفي حياة المادة والروح، وفي حياة الأرض والأجرام والسُّدُم!

ليس في الوجود شيءٌ لا يأخذ ولا يعطي … ليس في الوجود شيءٌ يعطي ولا يأخذ! … كل شيءٍ في هذا الكون يعتمد على كل شيءٍ في هذا الكون؛ بنيان مرصوص يشد بعضه بعضًا، وكل خلق بنيان، ولا بنيان بغير وحدة شاملة، ولا وحدة شاملة بغير تضامنٍ بين الحجر والحجر، وبين الجزء والجزء!

يتساءل «هنري بونكاريه» في كتابه «قيمة العلم»: «أيحق لنا أن نتكلم في سبب ظاهرة من ظواهر الكون، ما دام كل جزء من أجزائه متصلًا بكل جزء برباط التضامن؟ … إن أية ظاهرة من الظواهر لن تكون نتيجة سبب واحد، بل نتيجة أسباب غير متناهية في العدد! … إن أية ظاهرة مهما يكن شأنها ليست في الغالب إلا نتيجة لحالة الكون كله في لحظةٍ سلفت!»

فالكون كله إذَن إن هو إلا إناء واحد صنعته يد واحدة من عناصر متآلفة، وهذا التآلف أو التضامن إنما هو وليد ذلك القانون: «الأخذ والعطاء»!

ليس هذا كل المنطق في صنع الوجود، إنما المنطق تركيب ذلك القانون … ما قِوام الأخذ والعطاء؟ … هل يكون أخذ وعطاء إلا بين كائنات متشابهات؟ … ما الحال لو أن الخالق أبدع وجودًا آخر على أسلوبٍ آخر، فصنع أناسًا يعيشون بالزفير ولا يعرفون الشهيق، ومخلوقات تأكل، ولا تُصرِّف، وأجرامًا تكتسب الحرارة والضوء ولا تشع؟ … أي اتصالٍ يمكن أن يقوم بين كائنات خُلقت على غير أسلوب واحد؟ لا اتصال، وحيث لا اتصال لا بناء … لا خلق ولا بناء في الكون أو في الفن بغير وحدة الأسلوب.

كذلك في مادة الأجزاء، هل يقوم أخذٌ وعطاءٌ بين أجسامٍ لا تتحد في مواد البناء؟ … أي اتصالٍ بيني وبين أخي وابني، لو أن الخالق صنعني من عناصر غير عناصرهما، فجعلني من يابس ورطب وجعلهما من نور ونار وغاز وبخار؟ أيُّ ارتباطٍ لو أنه جعل كل مخلوق منفردًا بمادته وهيئته وعناصره عن كل مخلوق؟ … أي هرمٍ يمكن أن يشيَّد بأحجار، أحدها من صخر، وآخر من عجين، والثالث من ورق، والرابع من طين؟ … لا ارتباط بغير تشابه وتماثل، ولا تضامن بين أجزاء غير متجانسة في التركيب! … إن كلَّ ما نُحس وجوده يتَّحد معنا في بعض العناصر … بغير هذا ما كنا نعترف له بوجود … إنَّا نعرف الأجرام؛ لأن أجسامنا تعرف الحرارة والضوء والحديد!

التشابه إذَن هو شرط الأخذ والعطاء! … الاختلاف كذلك شرطٌ آخر! … وهل يقوم أخذ وعطاء إلا بين كائنات مختلفة؟ … ما الحال لو أن الخالق صنع كل شيء ككل شيء، فجعل كل رجل ككل رجل وكل جِرم ككل جِرم؟ … طبع واحد، ومنظر واحد، وحجم واحد؟ … أليس هذا التشابه المطلق ينفي الشخصية؟ … وحيث لا شخصية فلا أخذ ولا عطاء، ولا تماسك ولا اتصال، وهل من صلة بيني وبين غيري إلا لاختلاف شخصه عن شخصي، وما عنده عما عندي؟ … وهل رابطة الأجرام إلا اختلافها في الأحجام؟ … الجاذبية، الحب؟ هل علتهما إلا اختلاف النسب في القوى والأشكال؟ … إن مثل هذا الكون المتماثل لا يمكن كذلك أن يشيَّد أو يوجَد، مثله مثل قصة تمثيلية أشخاصها لهم عين الاسم والجسم والطبع والحظ، يتكلمون عين الكلام، ويتحركون عين الحركات، ويتصرفون عين التصرفات! … أية علاقة يمكن أن تنشأ بين هذه المخلوقات؟ … وهل يشعر أحدهم بوجود الآخر؟ … وهل يدرك أحد منهم معنى كلمة «أنا»؟ … لا بدَّ من بعض الاختلاف بين الكائنات حتى يمتاز كل كائن عن الآخر، ومتى امتازت الأشخاص والأشياء والأجزاء نشأ بينها الأخذ والعطاء، وهما سرُّ التماسك في كل بناء.

ها هنا إذَن قوام التناسق: «التشابه لا كل التشابه، والاختلاف لا كل الاختلاف»!

«بيتهوفن» هو الذي كشف لي منذ سنوات عن سرِّ التأليف بين صوتين في عين الوقت؛ فقد لحظت أنه جمع بين صوتين متشابهين لا كل التشابه، مختلفين لا كل الاختلاف، وأدركت ألا تناسق بغير هذا! … فلو أنه جعل الصوتَين متشابهَين كل التشابه لفَنيَ أحدهما في الآخر، وما ميزنا غير صوت واحد! … ولو أنه جعلهما مختلفَين كل الاختلاف لاستحال على أُذن أن تصل بينهما وهما متباعدان متنافران، فأساس «التناسق» في الموسيقى والفن، كأساس التناسق في الحياة والكون؛ ائتلاف بين الأجزاء لا كل الائتلاف، واختلاف بينها لا كل الاختلاف!

جملة القول عندي إن أسلوب الله في صُنع الكون هو وحده منبع الفن، هو وحده مصدر ذلك الإدراك الإنساني للجمال منذ مبدأ الأجيال، أما نُقاد القرن التاسع عشر فلا أحبسهم رفعوا أبصارهم إلى هذا الأسلوب مستلهمين … إنما هم قد خرُّوا أمام تمثال العلم ساجدين، أنظارهم خاشعة ترنو في رجاء إلى شُعاعَين من الكهرباء، صادرَين من عدسات عينَيه الجامدتَين … القرن التاسع عشر قرن تألِيه العلم، فلقد بهَر العلم العالم بانتصاراتٍ حواسم متواليات؛ فإذا الأدب والفن والفلسفة كلها تُهرع إليه تُقرُّ له بالغلبة والسلطان، وإذا كل شيء يطلب إلى العلم تفسيرًا، وإذا العلم في نشوة الظافر وبسمة الواثق، لا يأبى أن يقضي فيما يعنيه وفيما لا يعنيه، وإذا العلم — هو علم المادة — يريد أن يتحدث في شئون الروح! … وإذا سُئل عن الروح قال: دونكم هذا الطريق! … وأشار إلى عين الطرائق التي أدت إلى الفوز في شئون المادة: التحليل والتركيب والتجربة والقياس والاستنتاج والاستقراء … إلخ!

بُهِت العالم لنظرية النشوء والارتقاء، وآمن الناس أن أصلنا من ماءٍ وخلايا حيةٍ وحيوان، وظل يسمو في المرتبة على مدى الأزمان، حتى بلغ القرد جَد الإنسان! … نظرية جميلة، خلب جمالها اللب، على الرغم من بشاعة ذلك الجَد الغول! … أما صدقها فجائز من حيث المادة والأجسام … ولكن! … وهنا القضية: أتصدُق هذه على الرُّوح أيضًا وشئون الرُّوح؟ … الإحساس بالجمال، أيخضع أيضًا للنشوء والارتقاء؟ … نعم، نعم، نعم … هكذا قالت المدرسة الإنجليزية: «سبنسر»، «جرانت»، «ألن»، «رسكن»، وكان لا بدَّ لهذه العقول التي فتنَتها نظرية التطور في المادة أن تبرر للناس نظرية التطور في الجمال!

وعجب الناس لنظريات علم «طبقات الأرض» وعلم «الحيوان» وعلم «الحياة» وأبحاث «لامارك» في تأثير البيئة والمناخ وظروف الحياة على طبيعة الأجسام، فقامت المدرسة الفرنسية «هيبوليت تين» تخرج للفكر والأدب نظرية للجمال والفن: الوحي والإلهام ومقاييس الحرارة وموازين الأحجام!

بل إني لأرى إصبع العلم قبل ذلك بقرنٍ تقود المدرسة الألمانية إلى نظريتها في الجمال: «عمانويل كانت»!

ولم يكفِ العلم هذا التوجيه والتأثير، بل تناول بيدَيه في هذا العهد الحديث جسم الجمال، وأعمل فيه المشرط والمسبار «علم النفس الحديث» وقُضي الأمر، وخرج الجمال من حدائق الفلسفة إلى معامل العلم!

لست أُزرِي بطرائق العلم، فهي وسائل البشرية التي لا تملك غيرها! … وأذكر يوم كنتُ أرصد وقتًا للتفكير في هذه المسائل أني بسطتُ أمام نفسي هذا السؤال الساذج: الحيوان … ما عِلمُه بالجَمال؟ … حصان بين مُهرتَين؛ إحداهما جميلة مليئة شهباء، والأخرى قبيحة هزيلة عرجاء، إلى أيتهما يميل؟ … ما ترددت يومئذٍ أن أقول في ثقةٍ واقتناعٍ: «إلى الجميلة يميل» … ما وجه الترجيح؟ … لست أدري، وحبذا التجربة فهي الحكم والفيصل! … لكن يومئذٍ كنت أفكر تفكيرًا صِرفًا في أبراج عاجية، اعتدتُ أن آوِي إليها للتفكير الهادئ، فأين لي بالخيول والأفراس أُجري عليها التجاريب؟

فها أنا ذا أُقرُّ بأن التجربة وسيلة بشرية طبيعية للوصول إلى المعرفة، وأُقرُّ بأني شعرت يومًا بالحاجة إلى ممارستها في شئون الجَمال؛ غير أني على الرغم من هذا لا أحب أن أعتقد ببساطة أن نظريات العلم في شئون المادة تصدُق دائمًا في شئون الرُّوح! … لا شيء يستطيع أن يقنعني بأن إحساس الجمال وليدُ تطور ونشوء! بي رغبة أن أصبح بغير دليل في يدي بأن إدراك الجمال وُلِد كاملًا في قلب الإنسان منذ رفع بصره وبصيرته إلى أسلوب الله فوعاه!

إني أخشى أن نقع في الغلط، إذ نطبق نظريات المادة في مسائل الروح، وهل تستطيع أن تجيز قول «رسكن» و«جرانت ألن» في «الإلياذة»:

«… ما كان يعني الأقدمون بالطبيعة ولا بجمالها إلا حين يتصلان بعيش الإنسان! … ففي «الإلياذة» ما كان يوصف منظرٌ طبيعيٌّ لذاته، بل لمنفعته للإنسان، كأن يكون مكانًا خصيبًا يفيض بالحنطة أو تكثر فيه الجياد! … ما كانت الطبيعة سوى إطار للحوادث والأشخاص، لا أنها لذاتها محل للوصف!

إن الطبيعة لم تحَب لذاتها إلا في العصر الحديث؛ حيث استيقظ الإحساس بها … إحساسٌ صافٍ خالصٌ لا تشوبه شائبة النفع أو المصلحة …»

ماذا أقول في هذا الكلام؟ … أهو جهلٌ بمشاعر الأقدمين … أم تورطٌ في تطبيق نظرية التطور والنشوء؟ … أتصدِّق حقًّا أن الشعور الرفيع بجمال الطبيعة لم يعرفه القدماء خالصًا لدنوهم من الحيوانية؟ … أنصدِّق أن «هومير» لم يحس جمال الطبيعة لذاتها؟ … أهذا «رسكن» يقول هذا الكلام؟ … أما أنا فقد مضى كلامي في الطبيعة والقدماء، ورأيي الذي أبديته في رسالتي الأولى أن الأقدمين كانوا أقرب منا إلى الطبيعة وإلى فهمها … لقد كان الأقدمون يحسون أنهم جزء من الطبيعة ونغم من أنغامها، أما «رسكن» و«ألن» أو الإنسان الحديث فلا يُحس إلا ذاته الآدمية منفصلة عن الطبيعة، وعن كل شيء!

ودليلي فن القدماء من مصريين وإغريق؛ أهذا فن قومٍ لا يحسون الطبيعة لذاتها، ولا يدركون قوانينها وأساليبها؟ … إلى هذا الحد يصل الانقياد إلى النظريات؟ … من أجل هذا لا أريد التمكين للعلم حتى يجلس على عرش النقد دون شريك … أحب طرائق العلم … لكني أخشى نتائج العلم … فلنترفع بالرُّوح قليلًا، لست أريد أن أضع الروح تحت مِبضع العلم، رهبة مني أن يشقها فيجدها غلافًا أجوف … وإني لا أنسى يوم شاهدتُ تشريح جثة آدمي للمرة الأولى، أي قلق يومئذٍ مزق إيماني بقيمة الإنسان؟! … كلَّا — إني كرجلٍ من رجال الرُّوح لا أريد أن أفجع في خير ما أعيش به وله … يريح نفسي دائمًا أن أقول إن عقل العلم لا يكفي … ولا بدَّ — دون إدراك الجمال والروح — من العودة إلى القلب! … أريد ألا يخرجني العلم من ذلك الإيمان الذي كان يضيء في قلوب المصريين القدماء، إيمان قُربهم من الخلاق؛ فإذا هم ببصائرهم العميقة العجيبة أول آدميين استطاعوا فهم أسلوب الله، والنفوذ إلى قوانين إبداعه. إن أقصى العلم الإيمان! … أحبُّ ذلك العلم المؤمن الشاعر، الذي عرفه أيضًا الفلكيون العظام في القرنين السادس عشر والسابع عشر: «كوبرنيك» و«جاليليه» و«كيلر». إلى آخر قطرةٍ من ذلك العلم الممزوج بالإيمان! … كانوا ينظرون إلى الكواكب كما نظر إليها من قبل المصريون الأقدمون، لا بعين العقل وحده بل بعين القلب أيضًا … كانت السماء والنجوم في نظرهم مخلوقاتٍ حية! كانوا أيضًا يحسون — في كتلة النجوم وفي هذا الكون بأكمله — الروح الخالق ويد المبدع الأعظم … ما أروع هذه العبارة من «كيلر»! … فيها تلخيص جميل لكل ما يملأ نفسي: «… كل الخليقة ليست سيمفونية عجيبة في مجال الرُّوح والأفكار. كما هي في مجال الأجسام والأحياء … كل شيء متماسك مرتبط بعرًى متبادلة لا تنفصم … كل شيء يكوِّن كلًّا متناسقًا … إن الله قد خلقنا على صورته، وأعطانا الإحساس بالتناسق … كل ما يوجد حي متحرك؛ لأن كل شيء متتابع متصل، كل كوكب وكل نجم إن هو إلا حيوان ذو نفس! … إن روح النجوم هو سر حركتها، وسبب ذلك الحب الذي يربط بعضها إلى بعض، وتعليل ذلك النظام الذي تسير عليه الظواهر الطبيعية … أولئك رجال ساروا في بيداء العقل دون أن ينسوا دليل القلب، أولئك هم العلماء العظام!

أرى أنك قد استشفقت رأيي بعد هذا التمهيد! … نعم، ولا أخشى أن أجيب الآن عن السؤال فأقول: إن التيارات الثلاثة التي ذكرتُها تصدق أيضًا في النقد، كما تصدق في الخلق … أما التيار الأوروبي في النقد فهو المرتكز على العلم. ولقد وصل إلينا هذا التيار بالفعل وتأثرنا به، وإن بعض كتب النقد التي ظهرت أخيرًا في مصر الحديثة تنُم عن هذا الاتجاه العلمي. وهو أمر لا بأس به، بل هو واجب محتوم، على شريطة أن نقرن به ونضيف إليه عناصر جديدة، ووسائل أخرى مستخرجة من أرضنا وتراثنا، إذا أردنا أن نُنشئ لآدابنا طريقة شخصية كاملة في النقد!

فأما التيار المصري القديم فهو النقد المعتمد على الذوق؛ أي سليقة المنطق والتناسق، وهو عند المصريين القدماء سليقة المنطق الداخلي للأشياء والتناسق الباطن؛ أي القانون الذي يربط الشيء بالشيء! … أي جمال للأهرام غير ذلك التناسق الهندسي الخفي وتلك القوانين المستنيرة التي قامت عليها تلك الكتلة من الأحجار؟ جمال عقلي داخلي، كذلك أسلوب الخالق لا يُعنى دائمًا بالجمال الظاهر وحده في خلق الطبيعة! فأي جمالٍ لجبل المقطم؟ … إن الجمال الظاهر نسبي لا يُقدره غير الإنسان. إنما المنطق الداخلي للأشياء هو كل جمالها الحقيقي، هذا الإدراك للجمال الخفي فطَن إليه المصريون القدماء يوم صنعوا «الأهرام»: لم يرموا إلى الجمال الظاهر الذي يسُر العين، إنما أرادوا أن يصنعوا بأيديهم البشرية ظاهرة من ظواهر الطبيعة في روعتها وضخامتها وتأثيرها.

وقد تمَّت المعجزة، وإذا الأجيال على مدى آلاف السنين تعبُر الأهرام عبورها جبل المقطم سواءً بسواء، وكأنما اختلط الأمر في ضمير الزمن وضمير البشرية؛ فارتفع هذا «الخلق الآدمي» إلى «مقام الظواهر الطبيعية»! … أولئك قوم أرادوا أن يُقلدوا أسلوب الله في عظمته ودقة قوانينه، فأعانهم الله على ما التمسوا، وكشف لهم عن بعض أسراره وطرائقه! … هذا المقياس المصري القديم للجمال ما أحسبه قد أثر بعد في حياتنا الفكرية، أو في أحكامنا الفنية … أما التيار العربي القديم فهو النقد الذي قوامه ذوق الحس؛ أي سليقة المنطق الظاهر والتناسق الخارجي! … الجَمال عند العرب هو الجَمال الظاهر الذي يسُر العين ويلِذُّ الأُذن … أنستطيع أن نتخيل العرب تبني الأهرام أو تقدِّر فيها جمالًا؟ … لقد جاء العرب مصر، وتحدثوا بجمال نيلها وأرضها وسمائها ولم يرَوا في الأهرام إلا شيئًا قد يحوي نقودًا مخبوءة، أما بناؤها فشيء لا يُحسب في الفن، إنما الحُسن عند العرب حُسن الهيئة قبل كل شيء. المساجد كالعرائس تكاد تخطُر حسنًا بزخارفها، زينة للناظرين … بغير هذا فلا عمارة ولا فن، الشِّعر رنين لذيذ، وخيال جميل، ومعانٍ لطيفة، وألفاظ مختارة ظريفة، بغير هذا فلا شِعر ولا فن! … الجمال عند العرب جمال إنساني، والفن عندهم شيءٌ صنعه الإنسان لنفسه وللذته … الفن العربي القديم فن إنسان دنيوي، والفن المصري القديم فن إلهي ديني؛ لهذا اختلفت المقاييس في الجمال بين الفنين؛ أحدهما يعني بالتناسق الشكلي الذي يروق الإنسان، والثاني يعني بالتناسق الخفي بغير التفاتٍ إلى الإنسان! … ولعل المقياس العربي القديم هو في مصر المنفرد حتى اليوم بالحكم في قضايا الشِّعر والأدب!

هذا المقياس العربي ذو الإبرة الدقيقة عجيب في تسجيل كل انحراف عن منطق الألفاظ! … إنما هنالك في اعتقادي منطقٌ آخر مستترٌ أمرُه، يعني المقياس المصري!

إني — يوم قلتُ بمزج الرُّوح بالمادة في آدابنا — كان يجب عليَّ أيضًا أن أقول بوضع المقياس المصري في النقد، بجانب المقياس العربي.

«كوم حمادة» في سبتمبر عام ١٩٣٣م
من رسالة إلى «طه حسين»
١  تعريف شخصي للحياة، أدبي الصيغة بالقياس إلى تعريف «كلود برنارد» العلمي للصيغة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤